مفيد نجم*
يواصل الشاعر نوري الجراح تطوير جماليات مشروعه الشعري وتأصيلها بنية وأدوات تعبير ودلالة في قصائد ديوانه الجديد لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة الصادر حديثا عن دار المتوسط. في هذا الديوان ومنذ العنوان الرئيسي لا حرب طروادة تتضح علاقة الشاعر الوطيدة بالمورث الأسطوري والتاريخي الإغريقي من خلال استدعاء العديد من هذه الرموز وشحنها بدلالات جديدة تجعلها قادرة على التعبير عن قضايا الواقع الراهنة. وإذا كانت هذه الرموز والدلالات الإغريقية تحضر بكثافة في نصوص أعماله الأخيرة، فإنها تأتي في سياق مجموعة من الرموز الدينية المسيحية والإسلامية والتاريخية القديمة، التي تحضر أيضا مشكلة فضاء التجربة الثقافي انطلاقا من رؤية يمثل فيها الفضاء المكاني الدمشقي بؤرة مركزية يمكن أن نعثر عليها في ثنايا قصائده سواء بأسمائه الصريحة (دمشق/ شارع المستقيم/باب الفراديس) أو برموزه الدالة عليه( الكهف/ النهر/ جبل/ زقاق..)، حيث تتداخل فيها الأزمنة والأسماء مشكلة الفضاء الحضاري والثقافي لهذا المكان الذي كان يشكل قلب العالم.
ثمة مسألتان مهمتان في قصائد هذا الديوان تتجلى القضية الأولى باستراتيجية العنونة التي يشتغل عليها الشاعر كثيرا ويكاد ينفرد بها بين تجارب جيله. تتجلى أهمية العنونة باعتبارها العتبة التي يطل منها القارئ على فضاء النصوص، إضافة إلى الدور الذي تلعبه في خلق أفق التوقع وتوجيه القراءة. وتظهر هذه الاستراتيجية في توزيع الديوان على مجموعة من العناوين المحورية، تتوزع هي الأخرى على عدد آخر من العناوين الفرعية التي تتجلى وظيفتها الشعرية في علاقة الاتصال التي تقيمها مع نصوص الديوان، وتشكل من خلالها علامة دالة عليها. أما المسألة الثانية فتتلخص في مسألة التناص المكثف مع مرجعيات أسطورية وتاريخية ودينية كثيرة تبرز أهميتها في الدور الذي تلعبه في توسيع فضاء النص وإثرائه دلاليا ورمزيا من خلال إعادة تخييل هذه المرجعيات والرموز وشحنها بدلالات جديدة تعبر من خلالها عن قضايا الواقع الراهن، التي يريد الشاعر التعبير عنها في هذه التجربة.
إن استدعاء الشاعر لهذه الرموز والشخصيات يخلق داخل القصيدة شبكة من العلاقات الرمزية تتصل بالبنية الكلية للقصيدة، في سياق الوظيفة الإيحائية الجديدة التي تولدها داخل القصيدة إلى جانب المعاني والصفات العامة التي تحملها في الأساس، وتكتسب من خلالها أهميتها التعبيرية. إن ظهور هذه الرموز القديمة إلى جانب الرموز الحديثة يدل على وحدة التجربتين والتداخل القائم بينهما على المستوى الإنساني والوجودي والتاريخي. لذلك يظهر قلق الذات الشعرية المفتوح في هذه القصائد على أسئلته الوجودية والإنسانية، كما يظهر ذلك من خلال استخدامه المكثف لصيغة السؤال بهدف إشراك القارئ في البحث عن إجابات تظل معلقة في أفق القصيدة. من هنا يمكن للقارئ أن يدرك البؤرة التي تتكثف فيها شواغل التجربة على المستويين الذاتي والعام، حيث يستخدم الشاعر في أكثر من قصيدة تقنية القناع أو انقسام الذات على ذاتها للتعبير عن مأزق الذات وجوديا كما تتجلى في الماضي والطفولة والذكريات والأمكنة التي تحولت بفعل الجريمة التي ترتكب الآن بحق السوريين إلى وطن للقتل والتشرد والخراب:
يوم كنت أخرج إلى المدرسة/ في صقيع دمشق/ بحقيبة خفيفة/ وقلم رصاص/ ودفتر/ في غلافه بيرق ملون/ خرقة حمراء يتكدس تحتها الآن آلاف القتلى.
في هذه القصائد يحافظ الشاعر على سمات بنيوية وأسلوبية شكلت علامات وملامح مميزة في تجربة الشاعر مثل التكرار والانزياح البلاغي والشعري وتشظي الذات أو انقسامها على نفسها وتقنية القناع وصيغة السؤال مع تعميق لبنية الانزياح البلاغي والشعري وتكثيف واضح للغته الشعرية واستخدام تقنية الحلم وتخييل التاريخ والأسطورة وتعدد الأصوات أو الأناشيد في المسرح، ما منح هذه القصائد ثراء في نظم التعبير والقول. ويظهر استخدام الشاعر للصورة المشهدية التي تتجاوز الوصف غالبا وتتسم بالحركة والتشكيل، من حيث بناء عناصرها المكانية، كما في هذا المشهد الذي يحاول فيه الشاعر أن يكثف صورة المأساة السورية والواقع الجحيمي الذي يعيشونه بين الموت هناك، والموت هنا في مغامرة العبور التراجيدية إلى غرب المتوسط بحثا عن نجاة متخيلة:
مررت بشبان طافوا على حقائب طافت على حطام زوارق في نهر/ مضطرب وفي إثرهم فتيات طائشات على الماء ولهن أجنحة فراشات/ تحترق/ رأيت الجبال تتهدم/ ورائي/ والظلمات/ تلتهم الهاوية.
ويظهر استخدام الشاعر المكثف لهذه الصورة المشهدية التي يحل فيها الخطاب البصري مكان الخطاب اللغوي في قصائده، حيث يشكل المكان في هذه الصورة الفضاء الذي تتشكل فيه العناصر الموحية للصورة إلى جانب الزمن الناظم لجميع هذه العناصر، في حين تتجلى البنية الدرامية من خلال الإحالة على زمن التجربة الراهن، ما يخلق شعورا حسيا مكثفا بملامح واقعية في هذه المشهدية تشي بصورة التراجيديا السورية الواسعة والمفتوحة على مآسيها:
وفي دخان الحرائق/ ورماد الأشجار/ على ضفاف تناهشتها ضباع مرقطة/ تاه مرشدي/ ورأيت داريوس الهارب من المعركة يطيل السلسلة الفارسية للفرغل/ السوري الأعمى/ تحت سماوات ادلهمت كصفيح نابح/ وطافت بها طيور بأنياب زاعقة/ طيور/ تنقضّ/ وتنهش الأسفلت.
وتأخذ هذا المشهدية دلالاتها الأكثر مأساوية عندما يستخدم الشاعر الحشد الترابي لمجموعة من الصورة الموحية بهول ما يحدث، حيث تشترك العناصر الطبيعية التي تكسب صفات إنسانية من خلال استخدام التشخيص والتجسيد مع الكائنات الإنسانية في تجسيد وتعميق أبعاد صور هذه المأساة وحالاتها الموحية، سواء على مستوى الذات الشعرية أو على مستوى الذات الجمعية، أو الاثنين معا عندما تتداخل صورة الذات الشعرية مع الذات الجمعية في هذه الرؤية التي يحاول الشاعر من خلالها يكثف صور المأساة السورية والآلام العظيمة لشعبها الجريح:
فتيان يتمددون الآن صرعى على صراط يتلألأ بدمائهم/ وآباء يتفحصون الجراح في الأبدان/ ومنشدات على أطلال محترقة/ وبكاء أشجار صغيرة/ ونحيب سواقي.
وإذا كانت المعينات المكانية من أسماء وضمائر وأسماء إشارة وأسماء أعلام هي التي تمنح الخطاب في هذه القصائد مرجعية لها في إطار علاقة التواصل مع القارئ( الرعدة تدب في أوصال الصخور/ الرعدة تقصم ظهر الجبل/ والحجارة العمياء تساقط على البيوت والأسواق، أهذه إرم/ وهذا الجبا أو قاسيون)، فإن هذا الاستخدام المكثف لها إلى جانب استخدام حشد التوصيف عبر استخدام أفعال المضارع هو الذي يضفي على المشاهد والصور طابعا حركيا يجعل المتلقي مشدودا إليها كأنه يعيش الحالة التي يجري التعبير عنها( تتباطأ/ تتوارى/ يتواريان/ يخفق/ تتفرج/ يعرج./ تقصم/ تساقط/ تدب…) ويمنح القصيدة مرجعية مكانية يجتهد الشاعر في تحديد فضائها الدمشقي، الذي تتقاطع فيه هذه الرموز والشخصيات والوقائع ماضيا وحاضرا.
إن استخدام الشاعر بكثافة للتشخيص والتجسيم في رؤيته إلى عناصر الطبيعة هو الذي يجعلها جزء من الوجود الإنساني يسهم في إنتاج الدلالة والإيحاءات عبر حضور عناصرها في تشكيل الصورة والمشهد الشعري، الذي يغلب عليه عنصر الحركة والفعل كما في الشاهد السابق، وفي الكثير من النصوص الأخرى، الأمر الذي يحقق لها الوحدة على مستوى الوجود بينها وبين الإنسان ويحقق للمشهد دلالته الكلية وقدرته على خلق شبكة إيحاءاته الواسعة. إن ما تتسم به لغة الشاعر من انزياحات وكذلك بنية الصورة الشعرية يدل على الدور الذي تلعبه مخيلة الشاعر في بناء علاقات جديدة للأشياء والعالم بما يحقق دلالاتها الموحية التي يراد منها أن تتحرر من مرجعيتها وخلخلة لبنيتها لأجل إضفاء الحيوية والدهشة والجمال على هذه اللغة، خاصة مع الاستخدام المكثف للتنوع الأسلوبي وتكرار الأفعال وتنوعها الذي يحقق نموا لفضاء القصيدة وبناء علاقات جديدة بين الزمان والمكان فيها:
لا ضوء يجري في القنوات/ ولا خطى حتى في جنبات الصيحة/ لكأن الهواء مرّ على الوجوه/ ومحا/ ومرّ على النبوة/ وتخبط في دم العارف/ صعود يشبهني/ يشبه صعودي ويشبه سؤالي/ هو يبكر/ وأنا أتأخر). في ظل هذا الغياب المفتوح على قلق الذات وأسئلتها الوجودية يبرز سؤال الوجود والشعور بقسوته عاريا وموجعا أمام محنة الذات ببعديها الخاص والعام أمام محنة الواقع السوري الممزق وحريته المغدورة وأرضه المستباحة.