من أي زاويةٍ أستعيدكَ
يا صديقي البهيّ
من زاوية الحلم، من زاوية الشِّعر
من زاوية النزيف
أم من فوق سطح لعبةٍ اسمها الموتُ .. اسمها الحياة ؟!
قلتَ لي في وداعنا القصيرِ :
لا أصدِّقُ أنني عِشتُ ستين عاما فوق ظهر هذا الكوكب
كم أنا محظوظٌ
غرستُ البذرةَ وقطفتُ الثمرةَ
لكن يبدو أن لحظة قطفي أصبحَتْ يسيرة.
كان المساءُ طفلا
والمقهى يستعيد سَمْتَهُ الشعبيَّ
في الصيدلية اصطفَّتْ الملائكةُ
في انتظار أن يكشفَ عن خُضْرَة الوريدِ
ابتسم َوأنا أداعِبَهُ:
هل يَصْلحُ الغرامُ المسلحُ في ترميم الشقوق
وهل يمكن أن تذهب الكرةُ أبعدَ من ظلِّها المعلومِ
تسنَّدَ على حشرجة رئتيه
وهو يتمتمُ:» الشهيقُ رسالةُ الأنبياء
والزفيرُ معجزة الرب «.
خُصْلات شَعره تقلِّبُ دفترَ الهواءِ
فرَدَ جناحيهِ على ظلال التحاليلِ والأشعّة
غرفةُ العمليات تتسعُ وتضيقُ
أنسجةُ الصباح تستفتي حصى الكليتين:
« قالت بنتهُ الصغيرةُ : لا تكن سييء الظِّن بالحياة
وقالت بنتهُ الكبيرةُ : رحمةُ الله واسعة»
وعلى شاشة التلفاز
المذيعةُ تلفلفُ بلاهتَهَا
في تقاطعاتِ الأبيضِ والأسود
أنا الشاعرُ..
من دمي يبدأ الكونُ النشيدَ
وفوق صدري تحطُّ النجماتُ
سأعيش في ألفِ زهرةٍ
لا تحفظوا أشيائي الصغيرة فوق الرَّف
لا تمنحوها قلادةً أو نيشانًا
انثروها في الجهات كلِّها
ربما يعرف العازفون
كيف يستوي الّلحنُ
كيف ترتجلُ القصيدةُ غيمتَهَا .
مطرٌ على النافذة ِ
مطرٌ في الطرقات
كيف ستكتبُ وصيّتكَ للعشب والخبز والنّهر
يا فتي القَطف
المريماتُ مررنَ من هنا
وضعن القلبَ في الإبريق وصببنَ الشاي
والحواةُ في عتمة الميدان يستبدلون الأقنعةَ والأضرحةَ
اسنِدْ حكمتكَ القديمةَ
خبِّئها تحت لسانكَ
أو اغرسها في شرفة ليلى مراد
ربما يسألُ عابرٌ عن صخرة اسمها الحريّةُ
عن شجرةٍ اسمها الوطن .
لم أصدق وأنتَ تشعُّ في غبشة النّور
وأنت مسجًّى فوق السرير
أنني قبلتكَ
أنني مسّدتُ شَعرك
هل ابتسمتَ
أم كنت تقطِّعُ الكعكةَ وتوزِّعُهَا على الكائنات
لوهلةٍ تخيلتُ أنك حيٌّ
أننا قربَ مقبرة النُّبلاء
ندفعُ العربةَ ونرفعُ الكأسَ باتجاه السماء
هنا إرثُ الآباء
حقيقةُ أن تكون مصريًّا
نشوةُ أن ترى المرئيَّ لا مرئيًّا
أن تشبكَ الروحَ في جسد التمثال وتنتظر معجزةَ الخلق
أن تلمسَ الأشياءَ
وكأنها انتفضَتْ للتو
أن تصرخً من فرط تأملكَ: يا الله أنا ثمرة هذا البدن.
رفعتُ المِلاءةَ فوق وجههِ :
نَمْ يا صغيري نَم
أمامنا عملٌ كثيرٌ
في الصُّبح سنذهبُ إلى الإسكندرية
سنجلس في مقهى البورصةِ
ستروي لي كيف اكتوَتْ كليوباترا بمائِها
كيف كانت تكشطُ الحنينَ من صَدف السُّرةِ
وينتحر عشاقٌ وشعراءُ ومحاربون
لم يحسنوا وضع البوصلة في الدّولاب
أو يتأملوا البحرَ وهو ينعسُ في هياكل الغرقى.
نَمْ يا صغيري نَم
لسنا في محيط مجلس الوزراء
والعسكرُ لا يعرفون همزةَ الوصلِ
ولا كم ضلع في قفص الروح
ولا كم عصفورة سوف تجدلُ العشَّ
ذهب الشهداءُ إلى الحدائق والراياتِ
تعِبَتْ أعراسُ الصمتِ
انتحرتْ في سقف الكلام
ضاعت القصيدةُ والأغنيةُ
هاهو ارنبكَ الصغيرُ يمرقُ في أحراشِ الخرائطِ
فوق ظهره ستون شمعةً وصباحٌ وحيدٌ
وأنت تحبسُ المساءَ في قبضة المخدرِ
تصرخُ خدعتني حكمةُ المرايا.
نَم .. يا صغيري.. نم
خٌذ نفسا عميقا .. ابتسم وأنت تحاذي ظلَّكَ
ليس مطلوبا أن ترفع صوتك بالدعاء أو الغفران
الشَّعر مغفرةُ الحياةِ
تخيَّل أننا في فينا أو بغدادَ
برقّةٍ سوف يجرحكَ المشهدُ
وتكتب « فضة من أجل فينيا وقبران»
يا فتى القَطفِ
أنا الذي سرقت لك النَّبيذَ من السوبر ماركت
أطعمتكَ مكعبَ الشيكولاتة في شارع موزار
أشعلتُ لكَ الشَّمعةَ في كعكة الميلاد.
« جيمي» يا حبيبي يا صنوي
خذلتكَ في فينا وبكيتُ في حِضنكَ
لم أحتملْ أناقةَ الحداثةِ
ولا كيف يفيضُ الغرامُ على مقعدٍ في الحديقة.
كنا مغامرين
نتسلَّقُ قبّة الحلمِ
نلوِّنه برسم القلب
ونعرف كيف نفكِّكُ أحبولةَ النّدى.
أصداءُ ضحكتهِ تتكسَّرُ فوق الجدار
( يأتي عوادون من جلطة المخِ
ويأتي عازفو بيانو من عَجز كليتين
ويأتي لاعبو كمنجةٍ من ارتفاع الضّغط )
هل تنوي احتلال الأوبرا
همسَ وهو يتحسّسُ مجرى الشُّريان
أردتُ تنظيفَ النّبع
كي يتّسعَ الشطُّ لنجوى عاشقين
لبحّة نايٍّ أرهقتهُ الدُّموع
لطفلٍ قال للشجرة أنتِ أمِّي.
الوقتُ رمادٌ
طائِرهُ الخرافيُّ يرفٌّ في عنقهِ
ودمعتي ساحَتْ
من دلَّني عليّ .. أيوجد هنا عميانٌ
فتح الكراسَ
كان هنا ثورةٌ
كان ثمة حلمٌ يمنح الغصنَ حريّةَ الطيران
ليقول فتي لفتاة: شكرًا غسلتِ عباءةَ جسمي
كانت ثمة معنى حتى للصمت..
تكاثر الذئابُ وبائعو الشعارات
وتجارُ العملةِ
من يشتري مَن
صدِئ القناعُ
الفراشةُ لم تحتمل مرثيّةَ الذّئب
انْهَضْ ..
سأسرقُ لك البنتَ من عين الكمان
ستكتحلُ بعبارتكَ المعصومةِ في لحظة الوداع
انهض ..
الوقتُ رمادٌ والمعزون خلف ساعاتِهم
يستعجلون الميزانَ
طوَّحَ منظارَهُ السحريَّ وهو يتمتمُ
أشهدُ أنني عشت
أنني ضحكتُ.. بكيت
أن قصيدتي لم تغرق في إناء الّلوز
ما أغربَ أن تفتش في الشر عن عقلانيّة الرّوحِ
ما أغربَ أن تكون حيًّا وتجهل كيف تتنفس البئر.
سأسميكَ المنفلتَ أبدًا.
يلوذ بنسمةٍ تتلكّأ في حواف السرير
صحراءُ شاسعةٌ تخلع بُرْنسَهَا
تتكوّر بين ذراعيه
تذكّرَ لوحة المستحمات وتفاحةَ العشاء الأخير
تذكّر ميدان الدقي
وجوهَ أصدقاءٍ خطفتهم عربةُ النسيان
لماذا كلُّ الأشياءِ جامدةٌ
انتهى وجعي مازلتُ أرغب في الإصغاء.
جيمي .. ناولنَي القدحَ
اجعل الكاسيتَ في منطقة وسطى بين الهسيس والرنيم..
سأصعدُ
بقوة الشِّعر
بقوة الغرابةِ
سأكون خفيفًا
حين يباغتني المَلاكُ
هنا.. كلُّ وضوحٍ خفاءٌ
كل خفاءٍ وضوح .
انكشف الغطاءُ
غضَّ الليلُ البصرَ
مطرٌ على النافذة
مطرٌ في الطرقات
هيا .. خذ الكتابَ بقوةٍ
امنحهُ رقّة الذوبانِ
هذا مديحُ الجلطةِ
قمرٌ لم نكتشف كيف نبتتْ له أثداءٌ وريش
كيف نشعلهُ بالليل فتختلط الألوانُ بالأشجارِ
تشفُّ الُّلوحةُ عن جرحٍ سوف يشبهنا بعد قليلٍ
هيا..رتِّل حكمتكَ
انثرها فوق الصُّراطِ
ستعبرُ..
ليس مهمًّا أن تلمسَ قرونَ المشهدِ
انتهتْ حِيلُ الشعراءِ
الوقت رمادٌ وأغنيتي سوف تذهب ..
عيناه تبتسمان
أربِّتُ على كتفيهِ
افتحُ الكراسَ..
حلمي .. هل رحلتَ أم نجوتَ يا حبيبي ؟!
جمال القصاص *