عبدالحميد القائد
خَبرٌ جَديد
رحلَ الذهبُ الفَريد
السَماءُ تَساقطت على الغُيوم
صَارَ البَصرُ حَديدْ
نبأٌ كالفجأةِ رجّ الزوايا
كسكينٍ مشتاقةٍ لدمِ القلب
دم أم صديدْ
قلتُ: تَمهَّل صَديقي
أيا أيقونةَ الدَهشة المستبدّة
لم تكتبكَ كل الوُرودِ بَعد
لم يكمل قَلمكَ ألوانَ الوجدِ بَعد
وحدكَ تَمضي دونَ أحدْ
تأخذكَ النُجومُ إلى أوكَارِها
لتحمل عنكَ وجعَ السَاعات
إنهم يَمضونَ…
زرافاتٌ ترحلُ الأقمارْ
يَتركونَ المَكانَ بلا مُوسِيقى
وَحِيد ………….
كان من المفترض أن يزورني في مكتبي بشارع المعارض لكي نتحدث عن وضع سيناريو لروايتي الثانية (طريق العنكبوت). كان ذلك منذ أكثر من شهر تقريبًا قبل رحيله، لكنّه اعتذر ووعدني بأنه سوف يأتي بعد أن تتحسّن صحته، وكنت أتوقُ لزيارته لأننا لم نلتقِ منذ فترة، ولكن القدر كان بالمرصاد، أغلق الأبواب.. أنزل الستائر ولم يأتِ أبدًا، ولن يأتيَ سوى في الذاكرة وفي الحنين.
ماذا يمكن أن يُقال عن الراحل، كيف نودّع أصحاب الحرف الحقيقيّ غير المُداهن، ماذا يُمكن أن نقول عن الذي غادرنا في لحظة عبثٍ عظيمة، عن رجل كان دائمًا واقفًا، شاهقًا كالنخلة. أشياء كثيرة يمكن أن تقال، ولكن كلها لن تفي هذا الرجل حقّه.
قبل خمس وعشرين سنةً كان لنا لقاء في عمل مشترك، عبارة عن عمل جرافيك اسمه “نوران”، كان عملًا فنيًّا ضخمًا مبدعًا يشتمل على لوحات أو اسكتشات جميلة بالحفر على النحاس للفنان الجميل جمال عبدالرحيم. اعتمد العمل أو استضاء برواية “نوران” لفريد رمضان، وكان دوري ترجمة النص إلى اللغة الإنجليزية، وانتهى العمل وأنجز على أكمل وجه، وخرج للنور وما زال معي نسخة منه أحتفظ به في مكتبي، موقعة من الفنان جمال عبدالرحيم، الذي عمل منه خمسين نسخة فقط.
في مكالمة هاتفيّة لي مع صديقه المقرّب الفنان البحريني الصديق جمال عبدالرحيم بعد الانتهاء من دفن الفقيد، أخبرني بأنه كان قد قرّر مع الراحل قبل عدة أشهر تنفيذ عمل جديدٍ بعد مرور ربع قرن على “نوران”، والدخول في تجربة أخرى بعد أن تطوّرت الرؤى وتغيّرت أحوال الدنيا، وانصهرت الروح في بوتقة مختلفة. كان العمل المفترض هو إنجاز مشروع جرافيك مع الراحل اسمه “طريق الحج” وهو عبارة عن عمل صوفيّ دنيويّ أو وجوديّ حسب قول جمال عبدالرحيم. فالحج موجودٌ في جميع الأديان والمذاهب إلى أماكن مقدسة. وفي هذا الصدد أنهى جمال حوالي 81 اسكتشًا حول الموضوع، وسلّمها للفقيد لكي يقوم بالكتابة على ضوئها، انطلاقًا من رؤية جمال بأن اللوحة هي التي تخلق النص، وليس العكس، وبأنّ اللوحة تُخرج النص من التابوت وتمنحه الحياة. الغريب في الموضوع أنّ فريد قال لجمال أثناء بلورة فكرة العمل، “ربما يكون هذا آخر عمل لي وبعده سأموت”. قلب المبدع (أحيانًا) دليله. يعتقد جمال بأن الراحل قد بدأ بالكتابة بالفعل مسترشدًا باللوحات أو مستلهمًا بها، ولكنّه لا يعلم إلى أين وصل بالضبط. كان الموت أسرع مما توقعه الفقيد، ولم يكمل العمل، لكنّ جمال يخطط لإصدار العمل بالقدر الذي انتهى منه الفقيد عرفانًا وتقديرًا لمسيرة الصداقة التي جمعتهما معًا سنواتٍ طوالًا.
الأشهر الأخيرة عانى الفقيد كثيرًا مع مرض “السكلر” الذي يكابده منذ طفولته، هذا المرض الذي كان يضطرّه إلى ملازمة المستشفى لتغيير دمه كل شهرين أو ثلاثة، ويحتاج بعدها إلى أسبوع آخر لكي يتأقلم مع الدم الجديد. يتذكّر الفقيد أيامه الأولى، ويقول في إحدى مقابلاته التلفزيونية أن والدته كانت تحمله في طفولته إلى المستشفى مشيًا على الأقدام مسافة تبلغ حوالي خمسًا وعشرين كيلومترًا. لنتخيل معاناة هذه الأم العظيمة التي ضحّت بحياتها من أجل أطفالها الذين بدأوا يتساقطون واحدًا تلوَ الآخر، راحلين إلى الحياة الأخرى، وابنتها التي تعرّضت لحادث مأساوي مؤلم وموجع لتتحول إلى شبه معوقة أو شبه إنسان، وهذه قصة أخرى ليس هناك مجال للتحدث عنها. كان فريد شاهدًا على هذه المسيرة المؤلمة من الفقد والثكل، وعلى رحيل والدته الحنونة صاحبة التضحيات الكبيرة. ضمن إحدى مقاطع روايته “نوران” يتحدث عن الموت الذي يتكرّر كثيرًا في كتاباته: “ستذهب لتبقى. كم كانت حدائق الموت تراوغ قلبك، تهدهد جراحك البيضاء، وأنت ذاهب للمرة الأولى، تاركًا خلفك آثار قبلاتي، وجحيم أشواقي لتؤلمني. أيها الرجل يا عليل الوقت، لا تترك خلفك امرأةً في ركن الحرائق تقطف قلائد الموت، وتتبع خطاك، تزّين أجراس قميصك برائحة الصلاة. ستذهب أيها الرجل لتبقى في الهدأة. فلا تبقى في التراب، الحفرة الرائعة ليست للجسد، لاحتمالات العودة هي” وفي رواية البرزخ يقول على لسان شخصيته: “أبدأ بالعدّ من جديد، أغمض عينيّ على أفقٍ كل ما فيه رخيم وغامض، يرتفع الجسد ببطء، فتتضح لي بصعوبة بالغة أرض يابسة وسط مياه غامرة… أنسى نفسي قليلاً، فأعرف بأنني ما زلت ميّتة… ظللت هكذا في سكون موحش لزمن طويل ولم تتحرك أطرافي فأيقنت بأنني قد مت. وأنني هناك، مع أبي”.
هكذا كانت حياة الراحل، فصولٌ من المآسي لا تتوقف، والموت المجاور المتجاور، القريب. لم يكن فريد يشكو أو يعبّر عن وجعه المستديم، بل كان مبتسمًا دائمًا، وكأنّ الدنيا بخير، ولكنّها لم تكن كذلك فعليًا، واستمر في تجربته الروائية ومشروعه السينمائي الطموح، بالرغم من كل الألم، حريصًا على تكملة تجربته الإبداعية. لم يكن ضالعًا أبدًا خلال حياته ورحلته الإبداعية في أية شلة من الشلل التي تتكاثر كالعشب الخبيث لتهميش الآخرين أو حسد الآخرين؛ بل ظلّ يُبدع ككاتب وأديب ملتزم ذي مبادئ إنسانية راقية تاركًا خلفه كل الترّهات؛ لأنّه كان مُبدعًا حقيقيًّا يحمل لواء المحبّة في كل مكان.
أطلق عليه النقّاد “كاتب الهويّات” لأنّه تناول في رواياته هويّات مختلفة. ففي البحرين بصفتها جزيرة صغيرة، وأرض دلمون المقدسة، التي كان يُعتقد بأن من يأتي إليها يُكتب له الخلود حسب أسطورة جلجامش، كان الكثيرون يحلمون بأن يُدفنوا في هذه الجزيرة الساحرة التي أصبحت من كبريات المقابر عبر التاريخ. فقد وفد إليها عبر تاريخها أناسٌ من هويّات مُختلفة من العرب بقبائلهم المختلفة والفرس والأفارقة والبلوش والهنود وغيرهم لتتحول البحرين إلى هوية فسيفسائية متناغمة.
كانت رواية “المحيط الإنجليزي” الصادرة عام 2018 آخر رواية مطبوعة له حسب علمي، ولا علم لي إذا كان قد بدأ برواية أخرى أم لا، فهو رجل لا يتوقف إبداعه. وعن الرواية يقول الكاتب فريد رمضان” إنها حقل ألغام كبير، ومخزون من الأسئلة المشبعة بكل أشكال الحياة من القتل والتنكيل والبطش في حق الإنسان ونفسه (الآخر والأنا)”. وحول عنوان الراوية أشار الكاتب إلى أنه اختار عنوانها قبل نهاية عملية الكتابة، موضّحاً أن فكرته جاءت من أحد الوثائق التاريخيّة المتعلقة بفترة السيطرة الإنجليزية على المنطقة.
كانت الخطة بعد إصدار ثلاث روايات (التنور – غيمة لباب البحرين، البرزخ- نجمة في سفر، السوافح – ماء النعيم) – كما يقول فريد رمضان – تتناول هويات مختلفة من الهجرة والاستيطان في البحرين وجذورها القادمة من البصرة وساحل فارس والأحساء والقطيف وعمان هو البحث في تاريخ وهجرات أخرى، وكانت الفكرة هي استكشاف تاريخ السود، وهذا ليس له علاقة عنصرية بتاتًا، الألوان لا نختارها بل نرثها في جيناتنا. وهو هنا إكمالًا لتاريخ البحث في فهم الهويّة في ظل غياب الديمقراطية وفشل الأنظمة في تحقيق مفهوم المواطنة والعدالة الاجتماعيّة، وفي ظل تكريس مفهوم الأرض وما عليها. وهكذا انطلق البحث في زنجبار ثم ممباسا، وتجارة الرق النشطة جدًا على هذا الساحل الشرقي من أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية، والامتداد التاريخيّ للمملكة النورانية الزرادشتية في فارس ووصولها إلى هذا الساحل أيضا. وممارستها البطش في حق الإنسان الإفريقي. ويستطرد الرّاحل بأنه على الجانب الآخر، تكشّفت له تجارة أخرى وهجرة قسريّة تُعيد له ذاكرة سقوط الأندلس، وهي هنا سقوط المملكة البلوشية وتفككها وتقسيمها وحجم الهجرات التي ترتبت عليها إلى الساحل الغربي، بعد تقسيمها بين باكستان وأفغانستان، وأخيرًا انتزاع الدولة البهلوية الجزء الأخير المتبقي منها، مما أحدث أكبر هجرة للسكّان من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية حيث دول الخليج العربية، وساعد على ذلك التواصل التاريخيّ العميق للنفوذ السياسيّ والتجاريّ العمانيّ على مكران وغوادر سهولة الانتقال والتحوّل!
بين أفريقيا الشرقية ومكران، بسطت شركة الهند الشرقيّة سيطرتها على البحر والأرض والإنسان والحيوان. وصار كلّ شيءٍ يُدار ويُصرف بأوامر إنجليزيّة تقرّ في بوشهر والهند حتى أضحى هذا المحيط إنجليزيًّا. وكان عليه أن يبحث في خضمّ كل هذه الأفكار عن القصّة، عن السرد بعيدًا عن كل ما سبق! وشكّلت له حادثة حقيقيّة تمثّلت في غرق سفينة عربيّة وقعت في المحيط الهندي وهي تحمل عبيدًا، منطلقًا أول للبناء السرديّ لتكشف له حجم أحلام التبشير والتنصير بالمسيحيّة في شبه الجزيرة العربية وارتباطها بشكل عميقٍ مع الرقّ والعبوديّة. وشكّلت الحروب القبليّة وتجارة الرقّ في مكران مسارًا زمنيًّا آخر عبر اختطاف شاب بلوشيّ وبيعه في مطرح. تسير الحكايتان بشكل متوازٍ حتى يلتقيان في مسلكٍ واحدٍ يجمع من تبقى من شخصيات العمل الروائي في الفصل الأخير، بعد تحوّلات وإقامات وهجرات البعض، وتبدل أديان البعض الآخر من الهند ومكران وغوادر والمنامة ومطرح ومسقط وجدة ومكة وصولًا إلى أرض القرنفل؛ زنجبار.
كان قبل وفاته يجري الاستعدادات لإعادة طباعة كتابه “عطرٌ أخير للعائلة” في الكويت لدى دار الفراشة للصحافة والنشر لصاحبها الأستاذ فهد الهندال. هذا الكتاب كُتب ما بين الأعوام 2000 و2002، جاء في خلفيته أعمال فنية بريشة وقلم الكاتب نفسه. في هذا الكتاب يدخل فريد في النص السردي الممزوج بشاعرية ساحرة جعلته يوشم على غلافه كلمة: نص، وهو عبارة عن سيرة ذاتية للمؤلف من خلال العبور غير المباشر على أحداث جرت في العائلة خصوصا ما جرى لأخيه “محمد” الذي كان له نصيبه الأكبر من سرديّات الكتاب. ينقسم العطر إلى ثمانية أبواب رتبها الكاتب كالآتي: باب العطر، أيقونات العائلة(1)، باب الألم، باب اللقاءات، أيقونات العائلة (2)، باب التواريخ، باب المسيرة الأخيرة وأخيرًا: ألبوم صور.
هذا الكتاب في طبعته الجديدة – ربما المنقّحة – يمثل نوعًا من الوداع وعطر أخير فعلًا لأحبائه، وهو كان عطرًا أينما حل بسبب نقائه العميق ووهج قلبه الذي لا يذبل. في هذا الكتاب يتحدّث فريد عن تجربته وعلاقته بالعائلة ومعاناته الطويلة والمريرة مع المرض. ربما كان يحسّ بدنوّ نهايته وقرب النجاة من عذاباته التي كان يخفيها في قلبه الصغير/الكبير.. قلب بحجم هذا الوطن الذي كان يعشقه. إنني أشعر بأن كل الأحداث المذكورة كانت تنبؤات برحيله، كان يشعر بأنه بحاجة إلى مخدةٍ يضع رأسه عليها ليستريح الى الأبد، ليبقى في الهدأة، ولا يبقى في التّراب، الحفرة الرائعة ليست للجسد، لاحتمالات العودة هي كما قال الفقيد يومًا.
تباً لكَ أيها المَوت
تَماديتَ كثيرًا
في كل يومٍ تَختطف عزيزًا
تقتلع نجمةً ساطعةً في القلب