مقــدّمة :
إذا كان إنشاء الكون في نصوص العقيدة والديانات قد ارتبط بالعناصر الأربعة (الماء- الهواء – النار- الشراب)، فإنّ إنشائية الشعر لدى آمال موسى قد تولّدت من تفاعل الماء والأضواء. فالنّاظر في ما أصدرته من دواوين(1) تبرز أمامه علامات عديدة دالة على تردّد الماء والأضواء في قصائد الشاعرة، وفي عناوين الدواوين.
إنّ تخيّرها «أنثى الماء» عنوانا واسما للديوان الأول، وتفضيلها «خجل الياقوت» عنوانا لديوانها الثاني ممّا يؤكّد جريان كلامها الشعري في جداول الماء وعالم الأضواء. فالتّسمية الواسمة لباكورة ما فاضت به قريحتها شعرا تؤكّد الجوهر المائي للشاعرة المتكلمة في قصائد الديوان، وتحوّل المعدن الأنثوي كينونة مائية انسيابية.
وأما عنوان الديوان الثاني فهو اشتقاق من صفات الأنوثة صفة لها اتصال بالألوان وعدول بها من تورّد البشرة حشمة وحياء لدى الإنسان إلى توقّد المعدن الثمين في عالم الأحجار الكريمة. وإذا كان عنوان الديّوان الثّالث لا يشي بالماء والأضواء وبمتعلقاتهما، فإن تضاعيف قصائده تنطوي على ما في الماء والأضواء من سيلان ولمعان.
لكن بماذا نفسّر تخيّر الشاعرة آمال موسى إجراء كلامها في سياقات الماء وجداول الأضواء؟ وكيف يتحوّل هذان العنصران وما دار في حوزتهما من عنصرين مألوفين في عالم الطبيعة إلى علامتين مؤسستين كيان القصيدة وتجربة الشاعرة في الكتابة؟
تخيّرنا إجابة عن هذين السؤالين واستجلاء لإنشائية الماء والأضواء في مدونة الشاعرة عددا من النصوص والمقاطع التي بدا فيها كلّ عنصر منهما محور الكلام الشعري وقطب الرحّى في عملية الإبداع اللفظي. فإذا كان ما جاء في تصدير محمود المسعدي(2) لديوان «أنثى الماء» مما يؤكد انبثاق قصائده من أسطورة نرسيس ومن عجيب عرائس البحر، فإنّ تدفّق الماء- بما هو مكوّن شعري في ديوانين لاحقين بالأول- أمارة قوية وعلامة ثابتة على نهل الشعر في هذه المدوّنة التونسية المعاصرة من حبات الماء.
وإذا كان الماء دائم التدفّق بالشعر في أعمال آمال موسى، فإنّ عديد القصائد لديها تُشرق بالنار والضياء، وتمزج بين عنصرين يشتركان جوهرا ويختلفان صفات وهيئات.
1- تجليات الماء والحالات الشعرية المتولّدة عن حضوره:
تجلّى لنا عنصر الماء الذي تماهت به الأنثى الشاعرة تجليا بارزا في أول الدواوين. إنّ قصائده حافلة بدوران هذا الدال الأكبر وجريانه في عناوين النصوص وفي تضاعيفها(3). وإنّ هذا الدال كثيف الحضور في هذا العمل الشعري الأول، وهو منتشر في العمل الثاني لكن بنسبة تقل عن نسبة تواتره في «أنثى الماء». إنّ بعض قصائده ترشح ماء مثلما هي الحال في قصائد «المدللة»، «فرحة»، «الأنبياء في الخارج ينتظرون»، «عزف منفرد»(4).
ويبدو تراجع هذا الدال في «ثالث الدواوين» أمرا يسير الملاحظة إذ لم نجد فيه غير نصوص قليلة ومقاطع متباعدة جمعها لفظ الماء ومتعلقاته وذلك في قصائد: «العيش بثلاثة عناصر»، «سكارى الصحو»، بيت الاستحمام المفضّل(5).
و إذا ما بدا الماء عنصرا غالبا في تكوين شعرية القصائد في الديوان الأول وأقلّ حضورا في العملين اللاحقين به. فلأنّ «الاشتغال» على هذا الدال الطبيعي يؤشّر على تنويع في الاستخدام، وعلى توسيع الدائرة التي يتحرك داخلها الكلام الشعري.
1- ماء التولّه والاشتهاء :
للماء في الطقوس والممارسات الرمزية التعبدية. شأن عظيم ومنزلة جلّى، وهو في الديانات السماوية وسيلة التطهر والطهارة. وفي التقاليد المسيحية واليهودية علاقة مباركة ربانية وتأييد إلهي، وهو عند المسلمين مرتبطّ بالطهارة التي يستلزمُها أداء الفرائض الشرعية وبغسل الكعبة المشرفة التي يوليها المصلون والحجّاج وجوههم وقلوبهم(6).
لكن كيف استدعت آمال موسى في شعرها هذا العنصر الذي حظي بالتقديس في الثقافات والديانات؟
لعل قصيدة «أنثى الماء» التي جاءت واسمة لديوانها الأول تمثّل المفتاح الذي يساعد القارئ على ولوج عالم نصوصها واستدراج كلامها الشعري حتى يبوح بمكنوناته، وعلى اسكناه طبيعة الإبداع اللفظي والتخيلي في شعرها.
ترد هذه القصيدة جملا شعرية أربعا تتصدرها جملة استفهامية وجيزة: لِمَ يأتينا الماء/ يجري متلظيا من شدة العطش.
و تتزع بقية الجمل الشعرية في القصيدة إلى التمدّد محافظة على اللازمة الابتدائية فيتعدد الاستفهام البلاغي وتقوم بين وحدات القصيدة ظواهر التوازي النحوي- التركيبي، ويغدو الملفوظ دائرا على ذات المتلفظ فينساب الكلام الشعري انسياب الماء رقراقا بمثل قولها :
لم لا أصبح سرّ الماء ؟ / لم لا أكون أنثاه ؟
أنتظره في الجرّة/ حتى قدوم الصيف
إنّ البنية المقطعية المتعاودة بوجوه من التشابه حينا والتماثل حينا آخر تمنح القصيدة خصائص إنشائية تميزها عما سواها. وأمّا الاستفهام بخصوص الماء والتدرج بالسؤال المخصوص به من صيغة الجمع في أولى الجمل الشعرية إلى صيغة المفرد في بقية الجمل فمؤشر على أن الماء هو الدال الأكبر في هذه القصيدة وعلى أنه الكلمة الموضوع فيها (Le mot thème du poème). لكن ماهي الصّور التي تتشكّل بها صلة الماء بالشاعرة؟
إذا تجاورنا الصورة الأولى المصوغة في أولى الجمل الشعرية ونبّهنا إلى طبيعتها المفارقة بسبب «جريان الماء متلظيا من شدة العطش»، وانقلاب العنصر على حقيقته بما هو عنصر إرواء للظّمأ، بدت لنا بقية الصّور مجسّمة لقاء عجيبا بين الماء والأنثى واشتهاء متبادلا بينهما. إنّ اقتفاء الماء لخطوات المتكلمة في الجملة الشعرية الثـانية
و نسيانه مجرى السواقي ومسقط المطر ممّا يقلب العلاقة المألوفة بين الإنسان والماء. غير أنّ اشتهاء الماء لأنثاه سريعا ما يصير تشهيا تعبّر عنه هذه الأنثى بصورتين تودّ من خلالهما النفاذ إلى حقيقة هذا العنصر والكشف عن سبب احتجابه، مثلما توّد الحلول فيه لتكون سرّه وأنثاه، تنتظر موعد مجيئه وتسرّ بلقياه.
هكذا يحلّ الماء في القصيدة مكوّنا إنشائيا مهيمنا على معجمها، وبنية النحو والتركيب والتصوير فيها، وهكذا يتبادل الماء وأنثاه الأدوار والمواقع وتنغلق القصيدة على فعل الانتظار صيفا.
من إنشائية التصوير إلى إنشائية التخييل والتأويل
إذا تجاورنا التحليل الإنشائي الذي يقصر النّظر في الأشعار على الأنساق البنائية دون كبير عناية بأبعاد الكلام الشعري من شاعر إلى شاعر ومن قصيدة إلى أخرى، وتعمّقنا أبعاد «أنثى الماء» وجوّدنا النّظر في مرموزات هذا الدال الذي يحتوي النصّ، أمكننا العبور من التحليل إلى التأويل.
إنّ الماء المشتهى، والرّغبة الملحة في التخويض فيه بحثا عن سرّه وقصد الالتحام به لتكوين زوج من ذكر وأنثى يُشرع كلام الشاعرة على فضاءات عديدة ويفتحُه على مجازات متنوّعة.
– أول مجاز في هذه القصيدة هو مجاز الجسد والمقصود بهذا المجاز هو ماء الأنوثة وجريان صفاتها وقيام حالاتها واستواء هيآتها. فإذا اقتصرنا من الماء على قريب صفاته مجسّمة في صفاء اللون ولمعان السطح وعُذوبة المذاق حين ينهمر مطرا ويترقرق جداول وأنهارا، بان لنا أنّ تشهّي المتكلّمة حلولا في الماء وذوبانا فيه يُصيّرانها سرّا له، تشهٍّ يعيد إلى الأنوثة منزلتها ويقرّها قيمة جديرة بالتجسّد في عالم نزعت فيه الحياة الحديثة إلى تشيئ الموجودات والذوات وإلى امتهان الأنوثة بدعوى تحريرها.
إنّ تعشّق الأنثى أنوثتها يبرز في عيّنات أخرى من مدوّنة الشاعرة من قبيل «صلاة الجمر»
و «نافورتي». فهي حين تصدّر القصيدة الأولى بقولها: مُتيّمـة/ أغتسل بأنوثتي / جمرة مبلّلة/ صابئة تعبد كوكبها (7)
تُصيّر الأنوثة مدار الكلام الشعري وتصوّر تولّهها بذاتها فتستدعي النقيضين موصوفا وصفة في تركيب غير مألوف بين النار والماء، وتلتقط إشارة تومئ إلى تاريخ عقيدة آمن أصحابها بالتطهير والتعميد(8). إنّ صورة التولّه بالجسد الأنثوي وقد آلفت فيها الشاعرة بين عنصرين من عناصر التكوين توحي بما لهذا البعد المحسوس من أبعاد الأنثى من تقديم واعتبار، ومن حرص على إشراع عوالم التخيل فسيحة يصير بها المرجع في القصيدة إلماعا وتصير الذات المتكلمة مقدودة من مجاز ومن إيحاء قريب وبعيد.
وهذا شأن الكلام الشعري الأنثوي في قصيدة «نافورتي»(9) التي تنبني بهذا الدال المسيطر في الديوان وترتبط بهذا الحيّز الهندسي الذي يتدفّق منه الماء غزيرا. والشّاعرة المتكلّمة في هذا النص الوجيز المتكوّن من جمل شعرية أربع تنتقل من زمان بعيد إلى حاضر قائم، وتوظّف المشيرات الزمانية (Les déictiques) ( كنت- لا أزال- والآن). وتعقد الصّلة بين جنس المؤنث وجنس المذكّر، وتكثف التعبير عن حركة الصراع التاريخي بين الجنسين من خلال ما دار بينها وبين ضدّها الذي تركته يَخُطها وأورثته رياض الكلام فاكتمل.
إنّ الجملة الثانية «تركت ضدّي يخّطني فاكتمل» تصوغ شعرا طبيعة الصّراع التاريخي المديد الذي أدّى إلى تحكم الضدّ في ضدّه وإلى انقلاب وضع الأنثى بعد أن كانت «وحيا مسترسلا ونافورة أبدية». هكذا تنشئ الشاعرة بمجاز الكلام رؤيتها لتاريخ الأنثى وتستعيد بإشارات خاطفة وعبارات فيها إلماع، عديد الكتابات المندرجة في إطار «الأدبيات النسائية» تنظيرا وإبداعا وذلك من قبيل ما يوجد في تآليف سيمون دي بوفوار ونوال السعداوي وفاطمة المرنيسي من تأكيد لمنزلة الأنثى عبر التاريخ وسبقها الرجل إلى تأمين المعاش للعائلة في المجتمعات الأمومية.
والشاعرة حين تورد تاريخ الجنسين تركّز كلامها الختامي في ما تُبشّر به من استعادة لوضعية أنثوية بديعة تخيّرت لتشكيلها صورة الوحي يهبط على أنبياء الله وصورة النافورة بما ترمز إليه من ارتفاع البناء ومن حسن التّشييد وأناقة التّزويق لتجميل الساحات العامّة وإشاعة البهجة في نفوس البشر.
إنّ التولة بالذات وتعشّق الأنا يكاد ينظمُ قصائد الشاعرة في أعمالها ويوجد بينها لحمة متينة. وحين لا تورد آمال موسى لفظ الماء ومتعلّقاته في عناوين النّصوص، يجرى هذا الدال في شرايين قصائدها ويكون دمّ الحياة فيها. وتشهد بهذا التشكّل المائي لشعرها نصوص من قبيل «المدللة»(10)، و» الأنبياء في الخارج ينتظرون»(11) و«العيش بثلاثة عناصر»(12).
يحدّد عنوان القصيدة الأولى طبيعة في الإنسان عامّة وفي المرأة تحديدا. وإذا كان الماء هو العنصر الأوحد في عدد من قصائد الشاعرة فهو في هذه النصوص يلتقي بعناصر أخرى من أبرزها اللؤلؤ فيجتمع بذلك بريق الماء ولمعان الضياء.
تُحدّد المتكلمة في قصيدة «المدلّلة» أناها بهذا الكلام الشعري:
لُـؤْلـُوَةٌ / خَولي أدورُ/ و يطوفُ بشعابي المريدونَ / مائي اللؤلؤُ / حبةُ الرّمل نطفتي / تشكّـلتُ / في قَطرَةِ النَّدى ! (13)
وهي تجمع في تشكيل أنوثتها بين الماء والرمل والنّدى والحجارة الكريمة، وتحوّل الأنوثة محور دوران ومركز حركة صوفية ونقطة انجذاب. إنّ هذا الانزراع في الكون من خلال التشكّل في قطرة الندى،و توحّد ماء الأنوثة باللؤلؤ، ودوران الذّات حول ذاتها دوران الفراش حول الأجسام المضيئة تُمثّل استعارات شعريّة يحتجب بسببها مرجعُ الكلام فلا تتحدّد هويّة المتكلّمة رغم أسلوب الإثبات، واعتماد الجملة الإسمية المتكرّرة.
هكذا ينقلب «التدلّل» الذي أوهم به عنوان القصيدة وعُدّ من الصفات الأنثوية الحميدة في عالم العشق وفي قصائد التغزّل والنّسيب استكشافًا للذّات الأنثوية، لا بما هي تعداد لصفاتها البادية على محيّا النّساء وهيآتها الظاهرة في حركات الجسد، وإنّما بما هي جواهر وأسرار مخفيّة في عمق هذه الذات.
و تنحو قصيدة «العيش بثلاثة عناصر» هذا المنحى إلى استكشاف الأنوثة العميقة بإبراز مواد التشكّل. إنّ المقطع الذي تخيّرناه من هذه القصيدة(14) يتكوّن من ثلاث جمل شعرية ينتظمها الفعل المضارع المنسوب إلى ضمير المتكلم والمعبّر عن الاسترسال والمعاودة (أسمع صورتي تردّدني- أتحسّس رخامي- أنادي الأصداف).
وما تقيمه الذّات الشاعرة من تجاوب بين أناها وصورتها من تجاوب في أولى الجمل ومن تمثيل له بصورة أهازيج القبيلة التي تناطح خيامُها السّحب والغمام المكتنز، وما تُثنّى به من تصوير لهذا التّجاوب في الجملة الثانية حين تتحسّس رخامّها تكنية عن نعومة الجسد وصفاء البشرة، ولمّا تشِفُ مادة الجسد بهذا التحسّس فتتحوّل فجأة من سكون التّراب إلى رفرفته، وما تُثلّث به من تصوير الفعل المجازي في الجملة الموالية حين تنادي العناصر البحريّة من أصداف وحيتان وسفن «صيّرتها العرائس غرقا في البحر»، كلّ هذا التلوين في التصوير يحمل القارئ إلى أجواء شعرية فسيحة فيصير الماء منشط ولذاكرته الأدبيّة والأسطورية وموسعا دائرة تخيله.
2- ماء الاغتسال:
لئن كان ماء التولّه والاشتهاء ماء مترقرقا في عديد القصائد «لآمال موسى» مُشّكلا لعديد التّصاوير في كلامها الشّعري، فإنّ ماء عن ماء يفرق. لقد تفرّد الماء في «عزف منفرد3»(15) بلون آخر وطعم مغاير لما ألفناه من طبيعة له في سائر القصائد.
يندرج هذا النص الوجيز في «تشكيلة شعرية» كونّتها نصوص خمسة مرقّمة عدّتها آمال موسى «جملة موسيقية» وفيها عزف على أنغام تبدو متباعدة ينفرد داخلها كلّ عزف بنغم مخصوص به. والعزف المنفرد الثّالث يستقلّ عن سائر «المعزوفات» في هذه الجملة الموسيقية ويدور -خلافا لها- على ضمير المتكلم الجمع بهذه الصياغة:
كلّنا موعودون بالاغتسال الأخير/ بالأثواب المزركشة بالبياض / كلّ ما فيها غرفة نوم / في حجم الجسد.(16)
يبدو اللحن المعزوف في هذه القصيدة لحنا حزينا خاصّة لأنّ الوعد يكون عادة مما يُفرح الإنسان ويبهجه بينما كان وعدُ الاغتسال متعلّقا بالمصير الأخير مجسّما في حادثة الموت. إنّ إنشائية التأليف في هذا العزف تبدو مخالفة لما وجدناه في العيّنات التي اعتمدناها في تناول ما وسمناه بـ» ماء التولّه والاشتهاء»، كما تبدو حركة التّصوير في هذا النص الوجيز هادئة لا تمور بالكنايات المغلقة أو بالاستعارات البعيدة. إن الاغتسال الأخير تعبير قريب عن الموت والفناء، والأثواب المزركشة بالبياض صياغة يُدرك بعدُها من أقصر سبيل، وغرفة النّوم الضيقة كناية قريبة عن القبر.
و يقترب هذا البعد الجنائزي للماء في قصيدة «عزف منفرد3» من شبيهه في قصيدة «مرايا الغياب» في ديوان» «يؤنثني مرتين». فإذا كان الماء هو العنصر المولّد لفكرة الانشغال بالموت واللّحد، فإن المرآة بما هي جسم صقيل تولّد في القصيدة الثّانية الفكرة ذاتها لمّا يتشخّص الغيابُ ويتشكّل في أكثر من هيئة ويستحيل على حدّ عبارة الشاعرة «لاعبا ماهرا، لا يسجّل في مرمانا سوى هدف الموت» (17).
إنّ شعريةَ الغياب والموت التي يكون الماء أحد عناصرها شعريّةٌ متواترة في أعمال الأدباء عامّة والشعراء تحديدا لكنّ صياغتها لديهم تختلف من تجربة إلى أخرى، فمحمود درويش حين كتب «جداريّته» سنة 1999 بعد أن واجه بياض الموت في غرفة المستشفى أحس بأنه «وحيد في نواحي هذه الأبدية البيضاء»(18)، وكانت هذه المواجهة العجيبة مما فجّر مطوّلة شعرية مليئة بالبوح والتذكّر. وكان الشّاعرو القاص «إدغار ألان بو» من الأدباء الذين تأمّلوا طويلا مسألة الموت في صلته بالماء فشكّل من ذلك التأمّل لوحات تصور أفكارا فلسفية ومشاعر وجودية.
لقد تولّى غاستون باشلار في كتابه «الماء والأحلام» تحليل شعريّة الحلم عند هذا الأديب استنادا إلى عنصر الماء وأورد جملة من الآراء لعلّ من أهمّها أنّ «قدر الصّور الخاصّة بالماء- لدى يو- تساير- تدقيقا شعرية الحلم الرئيسية التي هي شعرية حلم الموت» وأنّ «كلّ ماء أصله في البداية نقي هو – عند يو- ماء لا بد أن يصير داكنا، وأن يمتصّ المعاناة السوداء، وأنّ كلّ ماء حي هو ماء مصيرُه أن يغدو ثقيلا، بطيء الجريان»(19).
هكذا يكون الماء عنصرا من العناصر البانية لشعرية القصائد ومولّدا لإنشائية «الكلام السامي» (Le Haut Langage) هكذا ينشأ ضرب من التوازي والتآلف بين أنوثة الطبيعة وأنوثة الجسد وقد يؤول التعلق بالجسد وتملي مباهجه إلى الإقرار بنرجسية غالبة في هذا الشعر مثلما ذهب إلى ذلك المسعدي.
لعلّ القراءة الأولى التي أنجزها محمود المسعدي وضمّنها تصدير هذا الديوان. ومتابعة عدد من القصائد في العملين اللاحقين به تؤكّدان هذا المنزع في تقبّل هذا الشعر، ولعلّ ما ختم به المسعدي تصديره «أنثى الماء» حين قال: «وهيهات أن يسلم من عجبه الطاووس الكامن فيك وفيها وفي جميع الناس على السواء»(20) يُسيّج قراءة هذا الشّعر ويوجّه فعلّها وجهة بينة.
قد يكتفي النّظر السريع في مدوّنة آمال موسى وفي ديوانها الأول على وجه أخصّ بردّ هذا الشّعر إلى أسطورة نرسيس وإلى عُجْب الأنثى بأنوثتها وتعشّقها لأناها، وقد يبدو أن الشاعرة المتكلمة بصوتها الفردي في جلّ نصوصها قد تخيّرت الماء والمرآة والقمر عناصر تتملى في ضوء صفائها صورتها التي تراها بهيّة، محاكية في ذلك نرسيس الأسطورة الذي وقع في المياه التي كان يديم النظر في سطحها المتلألئ ويُعجب لمرأى صورته منعكسة على هذا السطح تعبيرا عن الخيلاء والتولّه بالذات(21) غير أن التمعّن في قصائد الشّاعرة التي تُظهر فيها احتفاء بأناها، وتُجري فيها كلامها الشّعري على ماء الأنوثة الذي يحتويها من كل الجهات، وفي جداول الافتتان بالجسد المزدهي، تمعّن آيل إلى اكتشاف أبعاد أخرى لهذا الشّعر.
إنّ قراءة عديد القصائد في ضوء أسطورة نرسيس التي عوّل عليها علماء التحليل النفسي ( فرويد – لاكان) ووصلوها بمسألة اللببيدو وباللاوعي وبحالات الحلم والهذيان والبارانويا (paranoïa) (22) تغيّب أبعادا إنشائية مهمّة لشعر آمال موسى وذلك من قبيل:
1- البوح والمكاشفة
والمقصود بهذا البعد أن يتحوّل الصّوت الشّعري صوتا متوغّلا في الذات لاستجلاء باطنها وتصوير غورها. فحين يدور الكلام الشعري في نصوص الشّاعرة على أناها دوما بمثل هذه المحاورة المغالية في الحميميّة:
أناي الجملية / الروايةَ المستفيضَة / أريدكِ هناك / في أعالي الزرقة / تسرقين البحر وفيه تختفين(23)
تنكشف حجبّ الذّات وتتراءى هواجسها فتصيرُ القصيدة مرآة صقيلة عاكسة لجوهر تنشُد الشاعرة تملّكه والتفرّد به. وهي إذ تُبدي تعلّقا بهذا الجوهر المائي ورغبة دائمة في أن يكون الماء عالم حلّها وترحالها، وأن تكون قرينة الموجة وشبيهة عروس البحر، لا تنفكّ عن تقليب الصّور التي تعبّر بها عن هذا الجوهر المنشود.
إنّ المكاشفة والبوح البارزين في شعر آمال موسى يرتبطان بما اعتبرته جوهر الكتابة، وهو في تقديرها «تعريةُ للذات وللنفس وللوعي الفردي والجماعي المطلق»(24) بما عدّته كتابة الذات. وليست هذه الكتابة ترومُ تعرية الذات لمجرّد التعرية وكشف المستور من الجسد والسلوك. فالمشروع الإنشائي الذي وضعت الشاعرة معالمه الكبرى بتحويل الماء من عنصر طبيعي إلى مكوّن شعري مهيمن في عالم قصائدها، مشروع أساسه «الشّغف العاصف لابتكار كينونة أنثوية أساسيّة ومركزّية في عالم الشعر بدلا عن كينونة فرعية، تشغل موقع الموضوع الشعري في نسق قصيدة الرجل العربي»(25).
إنّ مشروعها الانشائي يقوم ضدّا لمشروع شاعر جماهيري سارت قصائده على ألسنة الناس وتمكّنت من واسع الانتشار بفضل التلحين والغناء. فإذا عدّ نزار قباني شاعر المرأة ومحرّرها من وضعية الحريم، فإنّ آمال موسى تروم بشعرها إنطاق الأنثى بصوتها الشّخصي وبشعرها السرّي.
وإذا كان الجسد هو المركزُ الذي عليه دوران هذا الشّعر فيما يشبه الطقس والشعيرة، فليس القصد من ذلك أن يصير الجسد مصدر إغواء وإغراء وإنّما باعتباره معبرا إلى» روح الأنوثة» الخالصة.
لقد تحدّث علي حسن الفواز عن «الكتابة بشروط الجسد» باعتبارها «مغامرة في استجلاء هيولى الجسد والوجود وفطرة اللغة وسرّانيتها وباعتبارها أيضا كتابة في نص الخصب والإرتقاء»(26)
وهو يعتبر هذه الكتابة بابا إلى ناسوت الجسد وإلى أسطورة خطيئته القديمة وحلوله في البحث عن طهرانية مضادة.
إنّ تركيز الكلام الشعري في الجسد وتجلّياته الظاهرة والمخفية يؤسّس لبناء نص الحرية التي تعلقت بها الشاعرة وداومت التعبير عنها في صياغات تتعدّد لكنها تتآلف وتتنادى في تجاوب مستديم.
والشاعرة حين تتماهى بالماء المترقرق وبالموجة المتدفّقة وتغتسل بأنوثتها(27) إنّما ترسم صورا موحية لمشروعها الشّعري الذي تُشيّده على مهل، وهي تسند هذا المعمار بركيزة فكرية حداثية تعدّ نقيضا لرؤية تمتهن الجسد والأنوثة وتعمل على حجبهما توقّيا من الفتنة والإغواء والوقوع في الدّنس. فحين تخاطب آمال موسى ابنة آدم الكامنة فيها وفي كل أنثى من البشر بهذه النّبرة المعاتبة:
طال تملمُلك يا ابنة آدم/ تَعُدّين ذخائر التفاح: خطيئة/ خطيئة / خطايا (28)
وتستعيدُ أمشاجا من القصّة الدّينية على سبيل التّضمين أو التناص تحوّل مجرى الكلام وتشحنّه برؤاها رافضة أن تكون ابنة آدم «أنثى يخبّئ فيها [آدم الذكر] الماء»، وأن يكون مصيرُ الإناث موتهنّ غرقي(29).
إنّ ماء عن ماء يفرق. فالماء الذي تتغنّى به الشاعرة وتروم أن «تُصبح سرّه» و«تكون أنثاه» هو ماء الأنوثة الحية، المتوثّبة. أما الماء الذي تُنبّه إلى خطره وعقيم جريانه بين النساء فهو ماء الفحولة الذكورية، وهو ماء الجسد البيولوجي الذي يُحقّق الإنجاب ويكون شرطا لتكرار الجنس البشري.
قد يُؤوّل فكر الشّاعرة على غير مقاصدها فتكون دعواها إفناء للسّلالة وإبطالا لوظائف الجسد. غير أنّ إمعان النّظر في ما تقترحه من بدائل للتعايش بين الجنسين ينفي هذا التأويل المغالي ويستشرف أفقا تتجاوز فيه الأنثى وضعية «الوعاء» الذي يخبّئ فيه «الذكر» ماء فحولته، وتتخلّص من واقع تموت فيه الإناث غرقى.
على هذا النحو من بناء اللقطة الشعرية والومضة الفكرية يتجلّى الماءُ مولّدا إنشائيا يشحّن الكلام الشعري في قصائد آمال موسى تصويرا وتفكيرا، ويكون عنصرا ذا وجه وقفا. فوجه الماء وجريانه الخصيب هما مأمول الشاعرة ونشدانها منزلة أرقى للأنثى، وأمّا قفا الماء وسيلانه الرتيب فممّا تعايُنه الشاعرة وتعانيه معاناة شديدة.
الهوامش
(1) أصدرت الشاعرة : – أنثى الماء، سراس للنشر- تونس 1997
– خجل الياقوت، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 1999.
– يؤنثني مرّتين، سراس للنشر- تونس- 2005.
(2) يقول محمود المسعدي: «وقد يُخيل إليك حين تقرؤها أنّ نفحة من الروح اليونانية التي ولدت من الماء عرائس البحر المغريات هي التي حدت بالشاعرة هنا إلى مغامرة الغوص على طوايا نفسها وأسرار ذاتها والولوج في جدلية ما بين الأنوثة والجسد والماء من نسب سحري قد لا ينكشف سرّه إلا بشبه التجلّى الصوفي» «أنثى الماء» ص 3.
(3) من القصائد التي تتأسس بهذا الدال نذكر: أنثى الصيف ص 15 – أعالي الزرقة ص 19 – وردة الخريف ص 21- صلاة الجمر ص 47- أنثى الماء ص 59- نهر اليدين 81.
(4) خجل الياقوت، الصفحات: 21، 39، 48، 77.
(5) يؤنثني مرتين، الصفحات : 24-28 -118.
(6) Dictionnaire des symboles, p 374
(7) أنثى الماء ص47.
(8) أنثى الماص ص 46- الصائب
(9) الصابئة: اللفظة آرامية الأصل تطلق على فرقتين : 1 جماعة المنوائيين أتباع يوحنا المعمدان 2- صابئة حران الذين عاشوا زمنا في كنف الإسلام. ورد ذكرهم في القرآن ثلاث مرات بجانب اليهود والنصارى، وذكرهم الشهر ستاني في كتابه «الملل والنحل» والدمشقى في «نخبة الدهر في عجائب البحر» يحرص الصابئة على تطهير أنفسهم من دنس الشهوات والارتقاء بها إلى عالم الروحانيات، من طقوسهم التطهر بالماء إذا لمسوا جسدا، الموسوعة العربية الميسّرة، دار نهضة لبنان للطباعة والنشر، بيروت 1986 مج 2 ص 1112.
(10) خجل الياقوت ص 21.
(11) خجل الياقوت ص 48.
(12) يؤثــّثـني مرتين ص 21.
(13) خجل الياقوت ص 21.
(14) «يؤنّـثني مرتين» الصفحتان 24، 25. والمقطع يبدأ بقول الشاعرة : أسمع صورتي تردّدني ويقف عند قولها «غرقا في البحر»
(15) «خجل الياقوت» ص 77.
(16) يؤنثني مرتين ص 124.
(17) يؤنثني مرتين ص 124.
(18) «جدارية محمود درويش» رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2000 ص 10.
(19) Gaston Bachelard, l’eau et les rêves, Essai sur l’imagination de la matière. Librairie Jose Corti 1942, p.p.58-59.
(20) «أنثى الماء» التصدير ص4.
(21) Dictionnaire des symboles p.659.
(22) Encyclopaedia Universalis, France SA,1985 Corpus p.921.
(23) أنثى الماء ص 19 ( من قصيدة أعالي الزرقة).
(24) من شهادة قدّمتها الشاعرة في مدينة تورينو الإيطالية، انظر موقع الشاعرة على الانترنيت amel moussa@yahoo.fr.
(25) نفسه.
(26) علي حسن الفوّاز، آمال موسى، الكتابة بشروط الجسد
. Ali fwaaz@yahoo.com.
(27) العبارة واردة في قصيدة «صلاة الجمر»، ديوان أنثى الماء ص 47.
(28) من قصيدة «أنثى يُخبّئ فيها الماء» ديوان يؤنّثني مرّتين ص 39.
(29) تقول الشاعرة: «فأدركت لماذا كل الإناث يمتن غرقى» نفسه ص 40.
vv جزء من دراسة طويلة .. انظر موقع المجلة نفس العدد.
أحمـــد الجــــوّة
كاتب وأكاديمي من تونس