أشياء كثيرة جعلتني أتوقف عند شخصية الشاعر «أبو علي الكافي ابزون العُماني» المتوفى سنة430هـ لعل أبرزها هذه القدرة العالية على السبك الشعري وهذا الإختزال فلا نجد في شعره ثرثرة ولا تزويقات ولا تصنعا، إنه يضع المعنى بين يديك مقشرا من كل ما يثقله يذكرنا نسجه بجمل المتصوفة الشعرية القصيرة واتسمت به نصوصهم من سمات فنية كتكرار الألفاظ وتقابلها كما في قوله :
الحر أدنى ما يكون اذا نأى
والوغد أنأى ما يكون اذا دنا
كما إن مسحة الزهد كانت واضحة على شخصه, ولم يكن يتباهى بشعره، وربما تعود قلة ماتركه من نصوص إلى عدم تفرغه لصناعة الشعر، بل كان منصرفا إلى الأعمال الديوانية الموكلة اليه يقول محمد بن أحمد المعروف بأبي الحاجب الذي جمع له العديد من القصائد والأبيات واصفا لقاءه به حين قصد مقامه في جبل من جبال عُمان «لما اجتمعت معه لم أتمكن من مجالسته إلا لمعا، ولا من مفاوضته لاشتغاله بالأعمال السلطانية الا خلسا، ثم إني استنبطته، فوجدته غير معجب بشعر نفسه، على عادة أبناء جنسه» وكأن هذا التواضع وعدم الاعتداد بالذات اللتين وجدهما أبو الحاجب في أبي علي الكافي صفة متجذرة في الشعراء العُمانيين «من أبناء جنسه»منذ القرون الأولى !!
وله ديوان كان في خزانة الكتب النظامية بنيسابور كما يقول إسماعيل بن حمد السالمي الذي جمع له ديوانا بـ37 قصيدة صدر عن مطبعة إبراء عام2009م
حول علاقته بشعر أبي علي الكافي يقول السالمي في مقدمة الديوان قبل أن يصدر كتاب «المذكرة في الأدب العُماني» بفترة تتجاوز السنوات كنت قد تعرفت على شعر أبي علي الكافي، وقد توفرت لدي في ذلك الوقت مختارات من أشعاره فأضفتها في كتاب المذكرة الذي صدر عام1997 م ومنذ ذلك الوقت وأنا أتلقف ما أحصل عليه من شعره آملا أن أستطيع إصدار ديوان شعر له ويضيف السالمي «كم كنت سعيدا عندما اطلعت أن له ديوان شعر مخطوطا في القاهرة، ولكن إلى حد الآن لم أطلع عليه».
وبذلك فقد جمع النصوص الواردة في الكتاب من خلال كتب التراث وكذلك موسوعة الشعر العربي التي أصدرها المجمع الثقافي بأبوظبي مرجعا سبب الإستعجال بالاصدار إنه كان يرغب في صدوره بمناسبة مرور ألف عام هجرية على وفاته حيث رأى «من الحسن أن يكون للألفية بادرة جميلة».
وهي حقا كذلك ولكن لو استكمل بحثه واطلع على ديوانه المخطوط لأثرى جهده بنصوص أخرى تتوازى مع مكانة هذا الشاعر الذي احتل منزلة رفيعة بين شعراء عصره عن تلك المنزلة يقول أبو الحاجب « كنت قبل وصولي لعُمان أسمع بأشعار الكافي أبي علي وتمر بي القصيدة بعد القصيدة وكنت لفرط إعجابي بها أود لو ظفرت بمن يرويها عن مؤلفها فتكون النفس لحفظها أنشط والفكر على ضبطها أحرص لسلامتها…واذا ديباجة شعره مع بهائها ورونقها متناسبة الألفاظ متناصرة المعاني واذا هو يتجنب إيراد مايمجه السجع وتأباه النفس فلم أزل أنتسخ من حافظيها والتقط من منشديها إلى أن حصل لي ما قيدتها ورويتها عنه».
ويقول أبو الحسن الباخرزي «كنت أسمع له بالفقرة فالفقرة فأفتقر إلى أخواتها ويلتهب حرصي على إثباتها، ثم ظفرت بديوان شعره في خزانة الكتب النظامية بنيسابور».
ولكن الذي شدني إلى هذا الشاعر أكثر كونه عاش في العراق سنوات من عمره ثم عاد لعُمان ليسكن أحد جبال المنطقة الداخلية وظل ينتقل بينهما حسب تقلبات الأحوال فهو القائل :
واذا الأماني لم تنلها معرقا
فاثن العنان وسر تنلها معمنا
لذا عاش «معرقا» و«معمنا» ولم يكن بالهين عليه ترك بلده عُمان ويقرن مفارقته لها بمفارقته الشباب ويسر الحال والاهل والأصدقاء فهو يقول:
فارقت أربعة لها يهوى
المنية من يفارق
شرخ الشبيبة والغنى
وعُمان والإلف الموافق
ولكن ما الذي دعاه للتغرب ومفارقة كل ذاك ؟ الأخبار المذكورة عنه قليلة ولكننا نستنبط الجواب من شعره, فهو يقول:
ما جر هذا الخطب غير تغربي
ومن التغرب ما أذل وأهونا
أزكى بقاع الأرض وهي فسيحة
ما كان سرب العيش فيها آمنا
وتعصره اللوعة ويصل به القنوط أعلى مراتبه حين يقول:
تأبى قبولي كل أرض زرتها
قدمي رجائي وافتقاري سائقي
فكأنما الدنيا يدا متحرز
وكأنني فيها: وديعة سارق
فما كان عليه بعد أن ساءت حاله إلا التوجه إلى العراق الذي كان في القرن الرابع الهجري حاضنة فكرية وثقافية:
وإذا أحبتني العراق فهين
عندي إذا نشزت علي عُمان
لكنه يعود اليها ليقول :
ها أن أرض عُمان أنفس بقعة
ومؤيد السلطان أكرم صاحب
مازال إما في صدور مجالس
يبني العلا أو قلوب مواكب
وإلى أياديه صرفت مطامعي
وعلى معاليه وقفت مطالبي
وتنوعت أغراضه الشعرية فكتب في العديد منها وله شعر رقيق في الغزل كقوله:
بأبي حبيب كلما عانقته
عادت الي ّشبيبتي بعناقه
كالراح يجمع بين طيب نسيمه
وبهاء منظره وطيب مذاقه
أخلاقه نزه القلوب وبالحري
أن يستعير الروض من أخلاقه
أيقنت أن لا عيش غير لقائه
أبدا وأن لاموت غير فراقه
وزادت من جمال شعره رقة ألفاظه وانسيابية جمله الشعرية وثراؤها الموسيقي :
أفدي الذي زارني والليل معتكر
والأفق مما اكتسى من عرفه عطر
فلم نزل نتجارى في العتاب معا
أشكو اليه جفاه، وهو يعتذر
حتى إذا ما اعتنقنا، واستتب لنا
على إرادتنا عيش له خطر
ناديت ياليل :دم ليلا بلا سحر
فقال :ليلك هذا كله سحر
أما ديانته فتثير لغطا أيضا وقد تطرق إلى هذا الباحث إسماعيل السالمي في محاضرة له قدمها في مقر الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء الذي عرفه قائلا « هو أبزون بن مهرذ المجوسي العُماني المتوفى سنة 430هـ ولكن في مخطوطة المختار من شعره ورد اسمه كما يلي (الكافي أبي علي أقرون بن مهرذ الكراني أولا ثم العُماني).. وأكد إن «جميع المصادر تقول إنه مجوسي مقيم بنزوى» وهذا أثار جدلا بين الحضور فكما هو معروف أن مدينة نزوى في ذلك الوقت كانت مركزا دينيا فكيف ترك عُمان كلها وأقام في هذه المدينة؟ وهو بذلك إما الا يكون مجوسيا وإما أنه لم يقم بنزوى.
أما عن ديانته المجوسية فهناك الكثير من المصادر التاريخية تؤكد ذلك الباخرزي معرفا بأبي علي الكافي «هو أبزون المجوسي من أهل عُمان» هذا الجدل حول حياته جاء ليعزز جدل الأسئلة والشفرات التي تبثها نصوص هذا الشاعر الذي يستحق أن يلتفت الباحثون إلى نتاجه لقلة ماكتب عنه، فباستثناء دراسة للدكتور محمد المحروقي نشرت في العدد التاسع من مجلة نزوى عام 1997 م لا نجد اهتماما بشعره لذا يظل الجهد الذي بذله الباحث إسماعيل بن حمد السالمي على العجالة الواضحة في إنجاز كتابه يستحق التقدير .
شاعر وصحفي من العراق يقيم في عُمان