مدخل
في أحايين كثيرة يصنع الإنسان تفكيره من معارف قادمة إليه من دون أن يعرف مصدرها، أو يحاول أن يتأكد من أصولها، والخطاب الإسلامي المعاصر في كثير من أطروحاته الفكرية انبنى على البُعد التأريخي، يقترب في جوانب ويبتعد في أخرى، إلا أنه في الحالين للتأريخ أثر كبير عليه.
من أهم وأكبر المدارس التي تركت أثرها على خطابنا الإسلامي المعاصر المدرسة الاعتزالية والمدرسة الأشعرية، وهما مدرستان كثيراً ما قرأت على اعتبار «الخصومة الفكرية»، وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة نظر، فلربما أن الحضور المتآخي بين المدرستين في الطرح والأفكار هو الأقرب، بعكس ما هو رائج في قراءاتنا المدرسية.
يكاد يجمع كتّاب المقالات على مختلف مراحلهم التأريخية على أن التفكير الأشعري خرج من رحم الاعتزال، كما أن الاعتزال قبل ذلك خرج من رحم مدرسة أهل السنة، بيد أن هذه الرؤية التأريخية قابلة للتأكيد أو النقض في ظل المراجعات المعاصرة التي يشهدها تفكيرنا الديني.
لكون كل من العقلين، الأشعري والاعتزالي، جزءاً من المعارف العتيدة التي شكّلت رؤيتنا، والتي من حقها علينا أن نفككها ونعيد قراءتها وتركيبها، تأتي هذه القراءة لتسلط الضوء على لحظة الاحتكاك الأولى بين هذين التفكيرين، وأقصد بذلك لحظة انفصال التفكير الأشعري عن الاعتزال، هل حدث فعلاً؟ وهل التفكير الأشعري مجرد ردة فعل على الاعتزال؟ أو أنه أصيل في النشأة والانطلاق؟ كما أنه مستقل في المسير والتحرك الزمني؟ وأقصد هنا الاستقلال الذي ينظر في محدداته الخاصة دون إكراه ردات الفعل، وليس الاستقلال البعيد عن التثاقف المعرفي الذي يستحيل وجوده في أي منظومة فكرية.
القراءة في لحظة الاحتكاك من أجمل اللحظات المعرفية التي يتوخى الإنسان فيها سبر الحقيقة واختبار المسلمات، وهذا ما حاول المقال هنا أن يسلكه بعيداً عن الحكم لأي طرف من الأطراف.
حياة الأشعري
أبو الحسن علي بن الحسن بن إسماعيل الأشعري الذي ينتسب إليه عقدياً جماهير كبيرة من المسلمين لا تمدّنا المصادر بالكثير عن حياته الشخصية والعلمية، وكل ما يوجد فيها هو نتف متناثرة في كتب من جاء بعده ممن يُحسب على فكره، ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:
– اسمه:
(أبو الـحسن علـي بن إسماعيـل بن أبـي بِشر إسحاق بن سالـمِ بن إسماعيـل بن عبدالله بن موسى بن أمير البصرة بلال بن أبـي بُرْدَة بن صاحب رسول الله أبـي موسى عبدالله بن قَـيْس بن حَضَّار الأشعري الـيـمانـي البصري)(1)، ومهما قيل في حقيقة اتصال نسبه بالصحابي أبي موسى الأشعري، فذلك لا يهمنا كثيراً، فالرجل بنفسه لا بأبيه، على أنه لا يمكن أن تقبل الرواية التي تنسب إلى النبي محمد المبشرة بمجيء أبي الحسن، فالنبي حاله كغيره لا يعلم الغيب.
– ولادته:
(تجمع المصادر على أنه ولد في البصرة)(2)، وبشهادة (بعض البصريين: ولد أبو الحسن الأشعري في سنة ستين ومائتين للهجرة)(3)، (وقـيـل: بل وُلدَ سنة سبعين ومائتين)(4).
– نشأته:
تتركز المعلومات الشخصية عن أبي الحسن في كونه قد نشأ ربيباً لأبي علي محمد بن عبدالوهاب الجبّائي رأس المعتزلة في زمانه، وأنه لازمه طويلاً متتلمذاً على يديه، يراها البعض بأنها قد تصل إلى أربعين عاماً(5)، وهذه العلاقة بين أبي الحسن وأبي علي في نظري مكتنفة بالشكوك، حيث لم أظفر بما يؤيدها عند أي أحد منهما، ولا عند أبي هاشم الجبّائي، ابن أبي علي وتلميذه المتميّز، ورأس المعتزلة بعد أبيه، ومن المفترض على حسب هذه المعلومات أنه زميل دراسة لأبي الحسن الأشعري، و«أخوه» في العائلة، وإنما الرواية بذلك ظهرت متأخرة.
ومما يزيد في الشكوك ما ذكره (أبو بكر بن فورك أن أباه هو أبو بشر إسماعيل بن إسحاق، وأنه كان سنياً جماعياً [= نسبة لأهل السنة والجماعة] حديثياً، أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي رحمه الله، وهو إمام في الفقه والحديث، وله كتب منها كتاب اختلاف الفقهاء، وكان يذهب مذهب الشافعي، وقد روى عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة، يعني الساجي)(6)، وبذلك يبعد أن تكون امرأة تشبّعت بفكر زوجها السني الحديثي –حسب التّقاليد العربية السائدة حينذاك– أن تتزوج من بعده رجلاً على الطرف النقيض منه في المذهب، وأيضاً الوصية التي وكّلها والدُ أبي الحسن للساجيّ السنيّ الحديثيّ تشمل وصايته على ابنه علي، قد تؤكد ما أذهب إليه من عدم وجود هذه العلاقة العائلية، وخاصة أن أبا الحسن يروي عن الساجي (أحاديث كثيرة) في مقابل أنه يشنّ حملة شعواء على أبي علي الجبّائي، فمما قاله في حق الجبّائي: (وإنَّما على ما وسوس به صدره وشيطانه)(7)، ويجب أيضاً أن يُستحضر في كل ذلك الصراع الفكري بين الحنابلة والمعتزلة، فلا يُظن في الحنابلة بما عرف عنهم آنذاك من حدّة أنَّهم يتركون زوجة «سني حديثي» تتزوج معتزلياً، ولا أن يفرّطوا في ابن هذا الرجل لصالح «خصومهم».
أكتفي هنا من نشأة أبي الحسن بتحليل هذا الموقف، فهو ما يتعلق بالمقام.
– مؤلفاته:
ترك أبو الحسن الأشعري العشرات من الكتب، بل هناك من أوصلها إلى الثّلاثمائة، وأغلبها تصبّ في الفِرَق والرد على «خصوم العقيدة»، ولكن لم يبق منها إلا كتب خمسة، وقيل: سبعة، جميعها تأتي في الجدل العقدي ومذاهبه، وهي:
1. مقالات الإسلاميين، مطبوع.
2. الإبانة عن أصول الديانة، مطبوع.
3. استحسان الخوض في الكلام، مطبوع.
4. اللُّمَع في الرد على أهل الزيغ والبدع، مطبوع.
5. رسالة في الإيمان، مخطوط(8).
ويشكّك محمد إبراهيم الفيومي في الكثير من كتبه، ويرى أن أسماءها اخترعت من قِبَل أتباعه، ليُعلوا من شأنه في مقابل خصومه العقديين المعتزلة(9).
– عصره:
يمكن تلخيص طبيعة عصره بما قاله (أبو بكر الصَّيْرَفـي: كانت الـمعتزلة قد رفعوا رؤوسهم، حتـى نشأ الأشعري فحجرهم فـي أقماع السِّمْسِم)(10)، وعلى هذا فهو عصر صراع فكري بلغ أوجه زمن أبي الحسن الأشعري، كادت المعتزلة أن تطيح بأهل السنة، لولا أن الأشعري انبرى للدفاع عن «عقيدة السلف» صلب الإيمان السني.
– وفاته:
اختلف في تحديد وفاة الأشعري على أكثر من وجه، وذكر أبو القاسم الأسدي أنه مات ببغداد بعد سنة عشرين وثلاثمائة وقبل: سنة ثلاثين وثلاثمائة(11).
آراء الأشعري العقدية
تتلخّص آراء أبي الحسن الأشعري في تبنّيه عقائد «السلفية الحنبلية»، ولم تحفظ نصوصُه غيرَ ذلك، وقد جاء ذلك واضحاً في كلٍ من كتابيه «الإبانة» و«ومقالات الإسلاميين»، واختلف نوعاً ما كتابه «اللُّمَع»، ولكنه –حسب رأيي– اختلاف لا يعدو أن يكون في الطّرح لا في المضمون، فهو لم يتعرض لتنزيه الله عن الصفات الموهمة للتجسيم كالعين والوجه واليد والقدم ونحوها، وإنما جادل فيه المعتزلة الذين ينكرون كون الصفات شيئاً زائداً على ذات الله، فأثبت أن الله عليم بعلم هو غيره، وسميع بسمع هو غيره، وبصير ببصر هو غيره، وهكذا في بقية الصفات، فلم يزد عن الاستفادة من أسلوب المعتزلة الجدلي.
ولذلك لا أجد أي أثر في كتب الأشعري لانتقاله من رأي إلى آخر، بل على العكس أجده راسخ القدم في معتقده، فهو تارة يدلل عليه بمنهج المحدِّثين، وأخرى بطريقة المتكلمين، ولم يكن يوماً دامجاً بين معتقدين متضادين، الاعتزال والسلف، فيراه بذلك خصومه منقصة فيه، بينما يراه محبوه ميزة له.
فهو ينص على أنه تبع في عقيدته لأحمد بن حنبل فيقول: (وبما كان يقول به أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل نضّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون)(12).
وهذه أهمّ آرائه العقدية التي تكشف توجهه «السلفي الحنبلي» كما طرحها في كتابه سالف الذّكر:
(وأن الله استوى على عرشه.. وأن له وجهاً بلا كيف.. وأن له يدين بلا كيف.. وأن له عيناً بلا كيف.. ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج.. ونثبت أن لله قوّة.. وأن كلام الله غير مخلوق.. وأن لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله.. وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره.. وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر.. وندين بأن الله يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة القدر.. ونصدّق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عزَّ وجلَّ يقول: هل من سائل، هل من مستغفر.. ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة)(13).
هذه هي أهم الآراء التي تُميّز فكرَ الأشعري وهي عين المعتقدات التي تُميّز الإيمانَ «السلفي الحنبلي»، ولم ينقضها في أيٍّ من كتبه، كما أنه لم يتحول عنها.
الأشعري وصلته بالمعتزلة
إذا كنتُ أرى ثبات الأشعري فكرياً، وعدمَ تغيّره من مدرسة إلى أخرى، فما حقيقة أنه كان معتزلياً؟.
يكاد يجمع الأشاعرة على أن أبا الحسن كان معتزلياً بحكم كونه ربيباً لأبي علي الجبّائي، ولكن هذا ما لم أجد له سنداً معتبراً من التأريخ الكاشف عن قربٍ لحياة أبي الحسن، وقد دللتُ على عكس ذلك، ولكن ألا يمكن أن يكون معتزليّاً ولو لم يكن ربيباً للجبّائي، وذلك بحكم أن بغداد كانت تعجّ بالمذاهب الإسلامية ومنها المعتزلة، وخاصة أنه اشتهر بين القاصي والداني بأنه كان من المعتزلة ثم رجع عنهم، ترجع هذه الشهرة في أصلها إلى خمس روايات، ومفادها:
1. أن هذه الروايات ظهرت متأخرة جداً عن وفاة الأشعري، فأقدم راوتها هم:
– علي بن الحسن ابن عساكر (ت:571هـ)، بفارق زمني مقداره 241 سنة تقريباً بين وفاته ووفاة أبي الحسن الأشعري.
– أحمد بن محمد ابن خلّكان (ت:681هـ)، بفارق مقداره 351 سنة تقريباً بين وفاتيهما.
– عبدالوهاب بن علي السبكي (ت:771هـ)، بفارق مقداره 441 سنة تقريباً بين وفاتي الرجلين(14).
فمن الغريب أن يسكت التاريخ طوال قرنين ونصف لا يذكر شيئاً عن هذه الروايات.
2. تقول إحدى الروايات: إن الأدلة عند الأشعري (قد تكافأت ولم يترجّح لديه شيء، أي أنه لم يتوصل إلى ما توصل إليه نتيجة إعادة نظره في تلك المسائل، بل قام بعمل عرفاني إذ قال: فاستهديت الله فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت اعتقده، كما انخلع من ثوبي هذا)(15)، إن إسناد هذه الرواية إلى الأشعري تمثل –في نظري– ازدراءً بتفكير هذا الإمام الكبير الذي أثّل كتباً مهمة في الجدل العقلي، لا تليق بالبحث الجادّ أن يعتمد عليها.
3. روايتان تنصان على مناظرتين وقعت بين الأشعري وشيخه الجبّائي على أثرهما ترك أبو الحسن الاعتزال(16)، ويقال فيهما ما قيل سابقاً من عدم ذكرهما في المصادر الأولى، الأشعرية والمعتزلية، وأيضاً لا يُقبل أن يتمّ التحوّل المذهبيّ بسبب مناظرة عابرة، وكذلك هذه الشهادة لا تقبل حتى يعترف بها الطرف المقابل، أو يسجلها طرف ثالث محايد، وهذا ما لم أجد إليه سبيلاً.
4. تبني بعض الروايات تحوّل الأشعريّ على الرُّؤى المنامية التي تنصّ على أن النبي محمداً جاءه في المنام وأمره بالتحوّل، وهذه لا يمكن قبولها لأنها تهمّش العقل جانباً، ولا يتناسب مع رجل ذي جدل عقليّ بحجم الأشعري(17)، والظاهر أن هذه المثيولوجيا يلجأ إليها الأتباع في تبرير تحول رموزهم الكبيرة لإضفاء نوع من القدسية عليهم كما حصل عندما تحول أكبر رمز في النصرانية –بعد المسيح عيسى– بولس من اليهودية إلى النصرانية، عزي ذلك إلى رؤيا سماوية للمسيح أمرته بالتحوّل(18).
5. هناك متحوّلون كبار من الاعتزال إلى غيره ذكرهم المعتزلة وغيرهم كابن الراوندي وضرار بن عمرو(19)، فلماذا يسكت التاريخان المعتزلي والأشعري المتقدمان، بما في ذلك أبو الحسن نفسه، عن ذكر هذا التحوّل الضخم.
أدلة فكرية على عدم التحول الأشعري
ذكرتُ آنفاً الأدلة التأريخية على استبعاد تحول إبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري من المذهب المعتزلي إلى المذهب السني، وهنا أقف عند الدلالات الفكرية التي تؤكد عدم حصول هذا التحوّل المفترض.
1. نسب أبو الحسن الأشعري صراحة إلى المعتزلة بأنهم قد (جحدوا عذاب القبر)(20)، بينما هم يثبتونه، حتى حكى في ذلك القاضي عبدالجبار الهمذاني المعتزلي (أنه لا خلاف بين الأمة إلا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو)(21)، فكيف يسوغ لرجل يقال: إنه تربى في بيت رأس المعتزلة الجبّائي، ودرس عليه مدّة طويلة، أن لا يعرف عن المعتزلة أنهم يثبتون عذاب القبر ولا ينكرونه.
2. وقال عنهم أيضاً: (وأنكرت المعتزلة الحوض)(22) مع أن الزمخشري في «كشّافه» يستدل برواية تثبت الحوض(23)، ولا يُعترض على ذلك بأن الزمخشري جاء متأخراً عن الأشعري، لأن العقائد يتوالى صداها عبر حلقات الأتباع، وعلى أقل تقدير لم يحفظ عنهم إنكارهم الحوض، وهذا دليل آخر يضاف إلى الأدلة السابقة.
3. ذكر الأشعري كذلك أن المعتزلة تنكر صفات السمع والبصر ونحوها(24)، وإثباتها بالأصالة ناطقة به كتبهم قاطبة.
لكلِ هذا أرى أن الأشعري لم يكن يوماً معتزليّاً ولم يكن أيضاً ربيباً لأبي علي الجبّائي.
بقي عليّ أن لا أتخطى نصّاً مهمّاً أورده ابن عساكر –المتوفى بعد ما يقرب من قرنين ونصف بعد وفاة الأشعري، القائل الأول بنظرية تحوّل الأشعري– في «تبيين كذب المفتري» نقلاً عن أبي الحسن الأشعري من كتابه «العُمَد» الذي لم يصل إلينا، وبالإضافة إلى تشكيك الفيّومي في نسبة بعض الكتب إلى الأشعري، وخاصة فيما يتعلق بقضية التحوّل هذه، أرى أن هذا النصّ هو الذي جعل أتباعه –بعد ابن عساكر– يتبنّون نظرية التحوّل غير المسلّمة، يقول النصّ المنسوب إلى الأشعري: (وألّفنا كتاباً كبيراً في الصفات سمّيناه كتاب «الجوابات في الصفات عن مسائل أهل الزيغ والشبهات»، نقضنا فيه كتاباً ألّفناه قديماً على تصحيح مذهب المعتزلة لم يؤلّف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله لنا الحق فرجعنا عنه، فنقضناه وأوضحنا بطلانه)(25).
وهذا النصّ –بالإضافة إلى علّة الشك في نسبته إلى الأشعري– لا يمكن قراءته على أن الأشعري كان معتزلياً لما تم إيضاحه سابقاً، وكلمة «تصحيح» لا تعني هنا إلا طريقة أو منهجاً، والمقصود أن أبا الحسن قد ألّف كتاباً في الصفات على الأسلوب الذي سار عليه المعتزلة لم يصلوا هم أنفسهم إلى قوته أو حجمه، وعلى حدِّ تعبيره (لم يؤلّف لهم كتاب مثله).
الأشعرية قبل الأشعري وبعده
إن الطرح الذي تبناه بعد ذلك المنتسبون إلى الأشعري ونسبوه إليه لم يكن جديداً فهو مذهب كان رائجاً في سوق الجدل من قبل، فقد تبنّته كافة مذاهب أهل الإسلام وتبنّاه غير المسلمين أيضاً، فهو منهج جدلي، يختلف في النسبة والصبغة بحسب توجه أهل المذاهب، وحتى لو نظرنا إلى الخلاف الذي يعدّه الأشاعرة الذين جاءوا من بعد أبي الحسن أنه مفارق «للسلفية الحنبلية» وهو أن الصفات لا يحملونها على حقيقتها، بل يأوِّلونها إلى مدلولاتها، كالعين بالحفظ واليد بالقدرة والرجل بالبطش، وهذا ما لم يثبت –بحسب اطلاعي– عن أبي الحسن الأشعري في شيء من كتبه، حتى هذه القضيّة بـ«طريقة الأشاعرة» لم تكن جديدة على ساحة الجدل، فقد سلكها بعينها بعض المتقدمين من غير أهل الإسلام فضلاً عن المسلمين كعمار البصري النصراني (ق3هـ) في إثباته صفة الأب والابن والروح القدس، بجعل الصفات زائدة عن الذات، وهو سابق على أبي الحسن بحوالي قرن من الزمن(26).
ومهما قيل من جدل حول نسبة «المذهب الأشعري» إلى الأشعري أو عدم نسبته فإنه قد تُبنّي من بعده، وفتق قِربتَه علمياً أبو حامد الغزالي، وفتحت السياسة له أبوابها على يد نظام الملك، فأصبحت الجماهير العظمى من المسلمين تنتسب إليه، بل دخل أتباع «المذهب الأشعري» في جدال مع «السلفية الحنبلية» مذهب الأشعري نفسه.
وكل هذا الذي ذهبت إليه لا يقلل من الأدوار التأريخية التي لعبتها الأشعرية، سواء على المستوى السياسي، فقد تبنّته دول عديدة مذهباً رسمياً لها منذ القرن السادس الهجري تقريباً وحتى الآن، أو على المستوى العلمي، فقد اعتمدته المعاهد والجامعات في كثير من الدول الإسلامية، أو على المستوى الفكري وخاصة في معترك الجدل بين المذاهب الإسلامية.
المصادر والمراجع
1. ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي، تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، الطبعة الثالثة، بيروت، دار الكتاب العربي، 1404-1984.
2. ابن المرتضى، أحمد بن يحيى، كتاب طبقات المعتزلة، لا طبعة، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، لا تأريخ.
3. الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل:
– الإبانة عن أصول الديانة، لا طبعة، المدينة المنورة، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مركز شؤون الدعوة، 1409.
– كتاب اللُّمَع في الرد على أهل الزيغ والبدع، لا طبعة، بيروت، دار لبنان للطباعة والنشر، لا تأريخ.
– مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، الطبعة الثالثة، فيسبادن، دار النشر فرانز شتايز، 1400-1980.
4. بدوي، عبد الرحمن، مذاهب الإسلاميين، الطبعة الأولى، بيروت، دار العلم للملايين، 1997.
5. البغدادي، الخطيب، تأريخ بغداد، الإصدار الثّاني، المكتبة الشاملة، موقع الورّاق على شبكة الإنترنت:
http://www. alwarraq. com.
6. الخيّون، رشيد، معتزلة البصرة وبغداد، الطّبعة الأولى، لندن، دار الحكمة، 1997.
7. الذّهبي، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، سِيَر أعلام النبلاء، دار الفكر، موسوعة الجامع الأكبر للتراث الإسلامي، شركة العريس للكمبيوتر وقناة المجد الفضائية.
8. الزمخشري، محمود بن عمر الخوارزمي، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لا طبعة، بيروت، دار المعرفة، لا تأريخ.
9. الفيومي، محمد إبراهيم، تأريخ الفرق الإسلامية السياسي والديني، الطبعة الأولى، القاهرة، دار الفكر العربي، 1423-2002.
10. موسى الشريف، محمد بن حسن بن عقيل، نزهة الفضلاء تهذيب سِيَر أعلام النبلاء للذهبي، الطّبعة الخامسة، جدة، دار الأندلس الخضراء، 1421- 2000.
11. نايف، أمين، جدل الأفكار، موقع المعتزلة على شبكة الإنترنت:
www. mutazela. cjb. net.
12. الهمذاني، عبدالجبار بن أحمد الأسدآبادي، شرح الأصول الخمسة، الطّبعة الأولى، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1422-2001.
13. العهد الجديد، أعمال الرسل، Onlin Bible Edetion 2. 00.
1) الذهبي، أعلام النبلاء، ج12 ص503، الشريف، نزهة الفضلاء، ج2 ص1184.
2) بدوي، مذاهب الإسلاميين، ص490.
3) البغدادي، تاريخ بغداد، ج5، ص178.
4) الذّهبي، أعلام النبلاء، ج12 ص490، الشريف، نزهة الفضلاء، ج2 ص1184.
5) انظر، الفيّومي، تاريخ الفرق، ج5، 114، يوجد ببلوغرافيا بالمصادر التي تحدثت عن الأشعري.
6) ابن عساكر، تبيين كذب المفتري، ص35.
7) ابن عساكر، تبيين كذب المفتري، ص138-139.
8) نايف، جدل الأفكار، بدون صفحة.
9) انظر، الفيّومي، تأريخ الفرق، ج5، ص123-163، تجد أوسع دراسة قدمت لمؤلفات الأشعري.
10) الذهبي، أعلام النبلاء، ج12، ص503، الشريف، نزهة الفضلاء، ج2 ص1184.
11) البغدادي، تأريخ بغداد، ج5، ص178.
12) الأشعري، الإبانة، ص52.
13) م ن، ص52-64.
14) نايف، جدل الأفكار، بدون صفحة.
15) م ن، بدون صفحة.
16) م ن، بدون صفحة.
17) بدوي، مذاهب الإسلاميين، ص495.
18) العهد الجديد، أعمال الرسل، 19: 26.
19) الخيّون، معتزلة، ص302-328، ابن المرتضى، طبقات المعتزلة، ص92.
20) الأشعري، الإبانة، ص46.
21) الهمذاني، شرح الأصول، ص493، ابن المرتضى، طبقات المعتزلة، ص72.
22) الأشعري، الإبانة، ص213.
23) الزمخشري، الكشاف، ج3، ص295.
24) الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص483.
25) ابن عساكر، تبيين كذب المفتري، ص131.
26) نايف، جدل الأفكار، بدون صفحة، عن مخطوط كتاب عمار البصري النصراني.
خميس بن راشد العدوي
باحث وكاتب من عُمان