جمال القصاص
الوثوق واليقين والإرادة، ثلاثة أحجار صغيرة بنى عليها رفعت سلام شعريّته، وتعبر بجلاء عن موقفه من العالم والواقع والأشياء، كما تشكّل فيما بينها ما يشبه المتوالية النصيّة الشعرية، وهي متوالية تتمتع بالصلابة والوضوح؛ فليس ثمّة يقين من دون الوثوق به، ومن دون إرادة تدلّ عليه وتتشبث بلحظات وعيه ولا وعيه، لحظات حضوره وغيابه.
انحاز رفعت مبكّرًا لمفهوم الوعي، وربطه بهذه الأحجار الثلاثة، باعتباره نافذة العقل لإدراك الوجود، وحقائق الأشياء والعالم الخارجي، متحاشيًا حقيقة الوعي في ذاته ولذاته، ربما لأنّه ينطوي على مساحة ما يبرز فيها اللاوعي، كصنوٍ وشريكٍ أساسيٍّ في صناعة هذه النافذة، بما ينتجه من علاقات مباغتة ومفاجئة، قد تشارف الجنون والمغامرة والفوضى التي تهدد بنسف النافذة نفسها، فظلت القصيدة لديه ابنة الوعي الواضح الثاقب، وهو ما انعكس على همّ التجريب الذي انصبّ في جوهره على إخراج النص الشعري في شكل طباعي خاص، وإبرازه وكأنه محض فضاء سيمائي، تتراكب فيه العلامات والرموز والإشارات، في أنساق لغويّة وأسلوبيّة محدّدة، ابنة حقول دلالية ومعرفيّة يمكن القبض عليها وتأويلها بوضوح، واقتفاء أثرها من أقصر نقطة يمتد إليها النظر.
هاجس التجاوز
في هذه الرؤية من الطبيعي أن يبدو فعل الإرادة مسكونًا بهاجس التجاوز والتخطّي، وحتى يخلص لذاته ينأى عن الوقوع في شَرَك الثنائيّات الضديّة المعقدة، وفي الوقت نفسه يلوح بالقدرة على التعايش تحت سقفها بالقوة، وهو المنطق نفسه الذي يحكم علاقة الأنا بالآخر كمثال يُحتذى، لكن يجب تخطّيه وتجاوزه، ولو بالهروب منه، وفي أحسن الأحوال التعامُل معه كمجرد علامة في الطريق، تبقى دائما في الخلف وعلى سطح الذاكرة.. هكذا يمكن أن نفسّر وشائج من التناصّ مع شعراء وفلاسفة ومبدعين، وصانعي أفكار، ومحاولة خلق موازاة شعرية معهم، لكن هذه الموازاة لم تذهب أبعد من كونها مجرّد إشارة عابرة فوق سطح النص، لا تشكل امتدادًا من الوعي المشترك بينه وبين هؤلاء الشخوص، أو تشتبك مع ما يطرحونه من أفكار ورؤى شكّلت علامات فارقة في الخبرة والمعرفة الإنسانية. ومن ثم تتسع المسافة بين ” إشراقات رامبو ” بروحانيتها الطافرة التي تسمو فوق الجمال والمعنى، وبين “إشراقات رفعت سلام”، كذلك “هكذا “تكلم زرادشت” لنيتشه، الذي تسرّبت أفكاره إلى أعمال مهمّة في الأدب والموسيقى والفنّ والسينما، وبين ديوان “هكذا تكلم الكركدن” حيث لعبة الإسقاط الفنيّ على وقائع وأحداث ورموز سياسية معينة بالواقع المصري.
إن الوعي الثاقب بالشيء لا يصنع منه مثالا أو صنما، إنما يحفز على المعرفة به، حتى يمكن تجاوزه، وفي الشعر تبرز الإرادة مدارًا للرؤية وحقلًا لها، وليس فعلا مجردا يسعى لامتلاك يقين ناتئ، ابن صدفة عابرة، قد يصبح هشًّا في لحظة ما.
تتجلى هذه المراوحة فيما يمكن تسميته، آلية الذهاب والإياب من يقين الإرادة إلى إرادة اليقين. وهي مراوحة – في الغالب- تعيد إنتاج ما أثمرته سابقا، ما يجعل القدرة على النفي والإثبات في المحصلة النهائية، مجرد هَمٍّ شكلي، أقرب إلى طرقة مرتجفة على باب واحد، مهما تعدّدت صور الذات وحيلها في الدخول والخروج منه.
لذلك بدا التشبث باليقين في هذه الشعرية أقصر الطرق المخادعة للوصول إلى الحقيقة سواء في عيانها الماديّ المباشر القابع فوق السطح، أو في ملامسة أوجهها الأخرى المتخفية والمخبوءة في طوايا العمق والنفس الإنسانية، ولا تتم هذه الملامسة بمعزل عن الحفر والنبش والهدم في العمق، وتحويله إلى طاقة مفتوحة على براح التأويل، وجدل الحواسّ والحضور والغياب. وإلا سيظلّ الزمن يراوح في مكانه، ابن لحظته المباشرة كنقطة ثابتة، متحققة بالقوة، بعيدًا عن سيولته الدافقة بالفعل في مسامّ الوجود والأشياء. ومن ثم، يبدو كل ما يرجوه الشاعر من الزمن هو مراوغته وخداعه، وأن يعود إلى لحظة الصفر بلعبها الطفولي الشقيّ البريء، حينئذ يصبح من العبث أن نتساءل عن زمن الشعر والشاعر، وأيّهما يسبق الآخر في صراع لا ينتهي، حول كينونة النص، وكينونة الذات الشاعرة نفسها، وكيف تشرق في ثوب مغاير وزمن خاص بها، يتجاوز علائقه وفواصله النمطية في العناصر والأشياء التي تبدو وكأنها بمعزل عن هذا السباق، … يقول من ديوان (” كأنها نهاية الأرض”/ ديوان رفعت سلام / الجزء الثاني/ الهيئة المصرية للكتاب 2014):
” كل خطوة أغنية
إليكَ إليكَ، أيها القادم من وجعي الطويل، هل أعددت الشاي بالحليب، من الهروب صنعت تاريخًا إليك من المراوغة الغريزيّة، أعددتُ لك البيضَ والجبنَ وفاكهتي الجائعة.
كل قضمة واقعة
تخضُّ التواريخ في جسدي، تعيدها إلى الصفر بيضاءَ، تعيده إلى بكارته، تهزُّني أسّاقط فيكَ، تنفرط عناقيدي، شهيَّةً ملمومةً في حجركَ الدافئ، لا سواي، لا غيري، أنتَ الموكل بي بعد فراغي من أبي الراحل وأمي وزوجي وابني وشقيقيَّ وأطفالهما، والخَالات والعمَّات، والأخوال والأعمام، وأبنائهما فردا فردا، وأبناء السبيل والصحفيين والأدباء والأفاقين واحدًا واحدًا، والخزعبلات الزاهرة والأوهام الباهرة، أجيء بها إليكَ، واحدة واحدة، وغير المغضوب عليهم ولا الضالين، إلى الفراش الأرضي يندسون بيننا في الدفء: قبيلتي البائدة،
أضغاث أحلام شاردة.”
فجوة الزمن
في هذا التداعي الحرّ الممسوس بالمراهقة الذهنيّة والنفسيّة يبرز الزمن كفجوة، اللافت أن الذات لا تسعى إلى ردمها أو توسيعها بالتأمّل وسبر أغوار النفس والأشياء، وإنما تدفعها لأن تتحوّل تحت رذاذ الهذيان إلى سوطٍ من التهكّم والسخرية المرة من كل شيء.
هكذا أحبّ رفعت سلام قصيدته، والتصق بها إلى حدّ الوثوق واليقين، فهي ابنة إرادة الشاعر، لا الشعر، ابنة تلك اللحظة العارضة، حيث الوجود في عيانه الماديّ الماثل، وما يوحي به من ثباتٍ مُخاتل، وليس الوجود فيما هو متخفٍّ، ومتخيّل وكامن، وراء الظواهر والعاصر. أيضا اللافت أن كلّ هذا لا ينفصل عن الطبيعة الشخصية الواثقة للشاعر، التي تعطي انطباعًا بالصلابة والخشونة أحيانًا لمن لا يعرفه جيّدا، كما لا تنفصل عن تكوينه، وانحيازه المبكّر لمشاع الأيديولوجيا؛ خاصّة في نزوعها الماركسي، حيث التاريخ تحكمه جدليّة ماديّة أشبه بالحتميّة المطلقة، يتطور الواقع في ظلها وفق صيرورة داخلية، تتناحر فيها موازين القوة والضعف، ويصل الصراع إلى ذروته الطبقية بالقدرة على امتلاك اليقين، والتلويح به كحقيقة نهائية لا تقبل المناورة والشك، فيما تظلّ أنساقُ الصراع نفسه اجتماعيّا واقتصاديّا وإنسانيّا معلّقة بين خطّين لا ثالثَ لهما، أحدهما فوقيّ والآخر تحتي. ويمكن مناظرة هذين الخطين شعريًّا بلعبة المتن والهامش، التي ولع بها رفعت سلام في أغلب دواوينه، يضاف إلى ذلك تعامله مع الزمن في عيانه الآني اللحظي، والوقوف أحيانا في المنطقة النصفيّة واتخاذها نقطة انطلاق شعريّة في النص، وهي منطقة رماديّة كثيرًا ما تغيّم فيها الفروق بين المع والضد، فمنتصف الوقت، بل منتصف الحب والعشق دوائر شائكة وملتبسة، لا تكتمل بالفعل الذاتي النابع من رشح الخارج وما يحمله من رسائل ممزقة ومفتتة، تلتصق بالشعر كأشياء عابرة؛ لذلك تبقى الدائرة مفتوحة على الوجود في بداهته الطبيعية وانسجامه الكوني بين الفعل والقوة معا.. نعم الوجود حرٌّ بإرادة الشاعر الحرّة، لكنها تبقى حرية مجازية، مؤقتة وطارئة، فهي ابنة نسق، مستعدّ للاكتمال والنقص دوما. من دون هذا الوعي؛ لا يهدم الشعر ولا يبني؛ إنما يراكم دائما حالة من اللاجدوى والعبث. فكأن الحريّة، ننتظر حريّة أخرى تحررها من نفسها، وتحصنها من لحظات الهشاشة والضعف الإنساني، ابن الزمن الرخو. هنا تبرز الأنا دائما في نسق أعلى، أو بمعنى أدق نسقٍ متعالٍ، فوق سطح الذات والموضوع، يتوهّم بأنّه المفرد المتفرد الذي يمتلك بداهة المعرفة واليقين؛ لكن هذا التعالي يظلّ محكوما بالحضور بالجسد غالبا، متجنّبا مغامرة الوقوع في مغامرة ما تحت اللاوعي بنزقها البكر الخام، ابن حدس المفاجأة، وما تحمله من فوران الرؤى واشتعال المشاعر والأحاسيس والوجدان، التي تكسر- ضمن ما تكسر – أقانيم المع والضد، وتفتت مركزيّة الوعي بهوامشه ومتنه المنطقي الصّلد، وتحيله إلى جمالية خلّاقة، يتضافر فيها الخيال والحلم، الجسد والروح، وبفيضان عن لغة أخرى وإيقاع آخر، يمنح الذاكرة عمقًا وسطحًا مغايرين للنمط السائد المألوف، بعيدًا عن ما يلمع فوق السطح من أشكال صوريّة أقرب إلى الزخرف والزينة، بينما الجوهر كامن في الأعماق، أكثر هدوءا وصخبًا وصيرورة.
ماهيّة الأنا
يتعدّد حضور الأنا في هذه الشعريّة، ولا يفارقها، ويتّسم غالبا بنبرة عالية وخشنة، تبدو كأنها صدى لصوت يأتي من المجهول، أو من أزمنة سحيقة، وأحيانا تبدو متألّهة، كأن الوجود فيض من صدورها.. لكن مشكل الأنا ليس في هذا الحضور الباذخ، ولا في العناصر التي يلمُّها النص، ويتعامل معها كشظايا وجود، ومنها التراث في اتساعه الإنساني، النصوص الدينية، القرآن على وجه التحديد، واستخدام مفردات بعينها على طريقة قلب المعنى، من مثل الآية الكريمة “في كل سنبلة مائة حبة”، فتصبح في القصيدة ” في كل طعنة مائة قتلة”. مشكل الأنا هنا في كونها تبدو متعالية على النص، تحاصره بهذا التعالي، فهي “الما فوق”، والنص هو “الما تحت” ، أو “الما دون”… يقول الشاعر ( من ديوان ” هكذا قلت للهاوية” / الهيئة المصرية للكتاب 1993):
” أنا القاتل البريء
أجيئكم بطيئا خاطفا أطعن النعاسَ في عيونكم (طعنةٌ واحدةٌ لا تكفي)
فيرفرف مجهضا إلى شاطئ غامض يحمِّم منقاره وبرميه إلى الرمل
يخلع ريشه ويرمي جرحه إلى القاع المضيء
أنا الخائف الجريء
وأطعنكم واحدا واحدا (طعنةٌ واحدة لا تكفي) في كل طعنة مائةُ قتلةٍ
(والله – بالطبع- يضاعف لمن يشاء) وفي كل قتلة ينهض حقلٌ من
بيارقَ خضراءَ وأبواقٌ جرداءُ وصلصلةٌ وصهيل خبيء
أنا القاتل الدنيء
وأرمي لكم قافية طريّة سهلة الهضم وأستلُّ سينية سُمًا وسيفا
وسوطا وسهما لأسومكم سوئي وسيئاتي أوسوِّس لكم وأسوسكم
بسخطي فتستسلمون لي سَنة من سهاد أو نعاس
أنا وردة النحاس
أزهرُ مصلصِلا على جثثكم الطعينة تغطيها شهواتُ الذباب اللامعة وأصفو
كَدِرا رقراقا أفيض عليكم بلعناتي وطيبتي أقول أنتم ذاكرتي المهجورةُ
أطلالي الطائلة شربت دموعي في القرن الماضي (لا أذكر الآن السبب والمناسبة) أشرب نخب سقوطكم عن كاهلي الكهل إلى الوحل شراراتٍ بائدة وأسمالا حانية
أنا الأبدية الفانية
لي الخزعبلاتُ الباقية
أنطوي عليها وأطعمها بصيرتي
ألاعبها وأمنحها جنوني
فتمنحني فجيعة صافية
إنها أرضي، وأرملتي
وطفلتي الضارية.
ويقول من ديوان ( “أرعى الشياه على المياه” / دار مومنت – لندن 2020):
” أنا الغزالة الحائرة،
انتظرت الشّفق فجاء الغسق.
انتظرت الحبق، فجاء الأرق.
أنا الغزالة الغائرة.
أتخبط مترنحةً في طوب العالم، ومصائده المنورة في الطرقات، المفترقات، الحارات، الأسواق، الصرخات، إلى أن يلحق بي من ينتشلني من نفسي، فيرممني شلوا، شلوا، يغسلني في أمطار الصيف، يداوي جرحي النازف أبدا، فأعود امرأة من نعناع، وقطيفة، من يلحق بي، يدركني، قبل فوات الوقت؛ أنا امرأة آسنة، فوق أسِنَّة أخيلتي، أمشي حافية والخيط انقطع، ولا ظل يظللني في شمس جهنّم، لا ماءَ يبلل شفتي وريقي؛ يا لي؛ من مات؟ فبماذا تزدهر الجنازات بقلبي، في الربيع، لماذا تنبت الأشجارُ أوراقا جافّة، وثمارًا من مُرّ، لماذا تهطل السماءُ السوادَ عصافيرَ ميتة؟ من مات؟ من يحتضر الآن؟ من أين تأتي الحشرجات، والأنات الذاوية، ابتعدوا قليلا عن جسدي لينقِّطَ أنفاسَهَ المقطوعة، المتهالكة
أيتها اللحظة الشائكة
أيتها اللحظة الحالكة ”
صوتان للأنا، تتداعى فيهما بقوة إلى حد النزف. في المقطع الأول يبرز الوجود على محمل الصفة، فالخوف تقابله الجرأة كصفة له، والقتل أيضا تقابله البراءة في قوس الدلالة نفسها، بينما تتوارى حركة الثنائيات، وتتلاشى بين الشيء ونقيضه؛ فيما ينحصر دور الصفة بوصفه سياجًا لحفظ الكينونة، لتبقى مركزيّة الأنا المتفردة مهيمنة على ما يترجرج فوق السطح، الذي يتحوّل بدوره إلى مجرّد قشرة وغطاء خارجي، لا يعمل على التضافر بين الوجود بالفعل والوجود بالقوة، أو الوعي واللاوعي؛ وإنما يعمل على إبراز صورة الأنا دائما في النسق الأعلى، فوق كل المعايير والرؤى. كأنها شرفة الإله والشاعر معا.
بديهيا ترتبط هذه الأنا بالأحاسيس والمشاعر المطمورة في أعماق الذات؛ لكن حين تطفو هذه المشاعر على السطح، لا تحتفي بها بل تحولها إلى مادة للسخرية والتوجّع، والشكوى، ما يضمر شكلا من أشكال الرثاء الخفيّ للذات، مسكونا دائما بمشاعر من الحيطة والحذر، والخوف من أن تسقط الأنا ويتهاوى عرشها المتعالي، في عالم كل شيء فيه يتحطم وينهار.
إلى الماضي
تشطح بي الذاكرة وأنا بين هذه السطور إلى الماضي وتفاصيل واقعية، أحسب أنها تصب في هذا السياق من تطوّحات الأنا؛ وللأسف كثيرا ما يتم تناولها في المراجع واللقاءات الأدبية بشكل خاطئ يشوبه التعسّف والشطط أحيانا، لتبرئة طرف على حساب طرف آخر. تتعلق الواقعة بخروج رفعت سلام من “جماعة إضاءة 77 ” الشعريّة مع العدد الثالث من مجلتها ” إضاءة 77″، وكأنه ضحية الدفاع عن رأي خاص، لم تستطع الجماعة تحمله، ورفضته بشكل مهين. ومن منطلق كوني أحد الشعراء المؤسسين لهذه الجماعة، أوضح الآتي وللتاريخ: لم يُخرج أحدٌ من أعضاء الجماعة، حلمي سالم وحسن طلب وأنا، رفعت سلام منها، ولم يتم التآمر عليه، وإنما هو الذي أخرج نفسه بمحض إرادته. كتب منشورا سياسيا، وأصر على أن يكون مقدمة العدد الثالث. رفضاه جميعًا لأنّنا مجلة شعرية، قلنا في مقدمة العدد السابق إن “الشعار السياسي الصحيح لا يتضمن بالضرورة الشعر الصحيح”، وكان هدفنا أن نراكم نظرتنا الجمالية للشعر، ونمحصه نقديًّا وفق رؤيتنا، وطموحنا بضخ دماء جديدة في شرايين القصيدة. ثم إننا غير منفصلين عن نبض الشارع، شعرنا مغروس في غباره وشوقه للعدل والحرية.. كان الجوّ السياسيّ صعبا وخانقا في عام 1977 ولا تزال أصداء انتفاضة الخبز ومظاهرات الطلبة في الجامعات تتردد في مسامعنا. أصر رفعت على موقفه واشتدّ الخلاف على نحو خاص، بين صديقه، زميل الراية الماركسية والدراسة الجامعية الشاعر حلمي سالم: قال حلمي له: هذا منشور سياسيّ، أنا مستعد أن أطبعه وأوزعه في الأتوبيسات وعلى المقاهي العامة، لكن لن يكون مقدمة المجلة.
تعقّد الموقف مع إصرار رفعت على موقفه، ما حدا بحلمي أن يهدّد بالانسحاب من المجلة إذا لم يعدل رفعت عن موقفه. وانتهى الأمر بالاحتكام إلى الديمقراطية، والتصويت على: إما أن يعدل رفعت عن موقفه أو يخرج من المجلة. رفضت خروج رفعت من المجلة أمام شهود، وانتهى التصويت بالتعادل، صوتان ضد صوتين، رفعت وأنا، وحلمي وحسن. ورأينا أن نجمد الموقف لفترة قصيرة.. لكن رفعت وبشكل فرديّ بادر بالإعلان عن خروجه من جماعة إضاءة 77، وتأسيسه لمجلة جديدة أسماها “كتابات”.
ما أريده من ذكر هذه الواقعة هنا دون الخوض في غبارها، أمران مهمان: أولهما رغبة رفعت في أن يكون هو رب السفينة المطلق. الأمر الثاني: أن العمل الجماعي الناجح ينبني على احترام الذات الأخرى، ويعتدّ بالخطأ طالما هو محاولة ومغامرة لبلوغ الصواب. لقد ساعدت رفعت في تحرير بعض أعداد مجلة “كتابات” وذلك عن طيب خاطر، ولإيماني باحتياج الواقع الثقافي إلى مثل هذه المجلات بوصفها نوافذ مستقلة للتعبير، وكان يصرّ على الإشارة إلى ذلك في ترويسة المجلة، رغم علمه أنني لا أحب ذلك. انضم ثلاثة من الشعراء المتميزين على فترات متفاوتة للعمل مع رفعت في المجلة، لكنّهم سرعان ما انفضوا عنها، فانضم محمود نسيم، ووليد منير إلى جماعة إضاءة، واستمرا معها حتى آخر الشوط. وبقي شعبان يوسف خارج السرب.
تجربة خاصة
لقد أخلص رفعت سلام للشعر، وترك الكثير الذي يبقى في الذاكرة، وكان وعيه مبكّرا بالشكل، لعب عليه وسعى إلى أن يكون ابن تجربة خاصة، لا ينفصل عمّا يحمله من محتوى ومضمون. فاعتمد ما يمكن تسمية بـ ” كتلة النص” المحمّلة بما هو ممكن وما هو مستحيل، ومشرّبة بومضات إيقاعية تفعيلية خاطفة. كتلة تومض فيها شتى حدوسات الخبرة والمعرفة الإنسانية، كما تحوّلَ النص في الكثير من أعماله إلى مصفاة، تصفي ما يعلق بهذه الكتل، خلوصًا إلى النواة الأساس التي تضيف للنص وتأخذ منه؛ لكن تفاقم حضور الأنا وإيقاعها المتعالي، واعتماد النص على الحيل الجرافيكية الطباعية فوق السطح كثيرا ما أفقد الكتلة حيويتها وتوازنها داخل النص، فبدا مُفرطا في نثريّته، ومشاعًا للعبث المفتوح على أي شيء، كما تشتتت حركة الضمائر، وتناثرت تراسلاتها الصوتية والدلالية كأنها رجع صدى لأزمنة لا تحضر بكليتها أو روحها أو روائحها الخاصة، فالزمن هو اللا زمن، والصورة البصرية الشعرية، لا تترك ذبذبة على العين، بقدر ما هي تشوش الرؤية …. يقول في (ديوان” حجر يطفو على الماء” / ديوان رفعت سلام / الجزء الثاني/ الهيئة المصرية للكتاب 2014):
” سأعرف بعد فوات الأوان أني القتيل الأبدي، وأن أشلائي توزعتها الرياح،
ودمي ضاع بين القبائل المتناحرة
أنا الجملة الشاعرة
بين فاصلتين داميتين،
خارج على السياق
دونما سياق، أو
ضغينةٍ، منسيا في
المفترقات، جَمَلا
أجْرَبَ، أو كلبًا أعور،
يتحاماه الناسُ،
فأتمشَّى وسط الجثث
المبقورة والمفقوءةِ
مَرِحًا أتقافز فوق
دماء متخثرةٍ تنفثُ
حشرجة ًودخانا يتصادم
بالأطلال اللامعة، فيهطل صرخاتٍ ثكلى تتعلَّق متأرجحةً فوق القتلى
المنسيين، كأسراب البوم، تسدُّ الأفق الكابي دون نهار أو شمس تعوي في
الليل كأرملة عرجاء
أنا الجملة البكماء
أمضي إلى الوراء، عكس السياق، أغني أنشودةً همجيَّةً تعشش فيها الخفافيش البشوشة والصقور المسعورة، … إلخ”.
وعلى عكس نفوره من الدائرة المتصلة الجامدة في استداراتها، أحب شاعر الفوضى الجميلة، النهايات المكتملة المجروحة بقوتها وضعفها، إنها التجلّي الأمثل لفكرة المراوحة والزمن الهارب في طوايا مثلث أحجاره الصغيرة (الوثوق واليقين والإرادة)، كما أنّه يستطيع أن يقلبه رأسًا على عقب، فتتغير زواياه ومجال النظر إليه، على عكس الدائرة.. ربما لذلك انشغل بالترجمة، ووجد فيها الصنوَ الذي يمنح شعريّته هذه النهاية، فانصبّت ترجمته في معظمها على ترجمة الشعر لدى طبقة من أمهر شعرائه في العالم فترجم مختارات من شعر: بوشكين، ماياكوفسكي، ليرمنتوف، ريتسوس، وترجم الأعمال الشعرية الكاملة لكفافيس، ورامبو، وبودلير، وولت ويتمان.
هكذا، عاش رفعت سلام مغامرة ترجمة الشعر، وأضاف لحركة الوعي مفتاحًا معياريا، يتعرف من خلاله على حيوات الآخر وتصوراته ورغباته في العالم؛ كأنها حجر يطفو أيضا على الماء، أو كأنها الزمن الذي يضع اللطشة الأخيرة في قوس النهاية لتصل إلى اكتمالها المنشود.