هل الشعر..هو رفع الحجاب , عن الجمال الكامن في الدنيا.. وذلك على حد تعبير "شيلي" شاعر الرومانسية الانجليزي؟
أم هو شيء يتصل بالهزة النفسية , أو الذهنية , وبالتالي بالدهشة والعجب، كما يقول جبرا ؟ أجزم.. انه كل ما ورد ذكره آنفا, فللجمال سطوة بالغة على النفس , والذهن،كما ان اكتشافه , ونفض الغبار عنه , أو رفع حجابه..ليس بالسهل، واعتقد أنه يحتاج لمقدرة عالية, وبراعة لا تتأتى إلا لمن زودوا بحدس خاص، وموهبة فذة .
بعد هذا الاستطراد,المتفق عليه او المختلف , حول معنى الشعر هل ندلف للبحث عن وجه للشبه بين هذا المعنى "الشعر" ومفردة "الذبيحة "..؟
قد يبدو – للوهلة الأولى- بأنه ضرب من العبث، طرح هذا السؤال، غير المتجانس / لغة ومعنى/.. ولكن ربما تنسحب الدهشة قليلا، فيما لو حاولنا الاشاحة عن الوجه الخارجي، للمفردتين، وتسللنا ببطء من النافذة المعتمة، للغة، مسلطين عليها بعضا، من حزم الضوء، أندخل بعد هذا السؤال المجازي، الى الشعر، لنفتح معناه على مشرحة الضوء.
يا الله.. كم في هذا السؤال من مغامرة، لا تخلو من "الجنون"، وكأني أدعو الكون، بكل خرائطه، الى هذا الرقعة الصغيرة من الورق، الأبيض، فهل تتسع..؟!
ربما تنخرط الدهشة، على نصل بلوري، فتقطع عصب الرؤيا، وأوردة القلب، لكن ليس بقصد الخراب، وإنما " الخراب الجميل".. حيث يدخلنا الى حالة، من التماهي، او المتعة الصوفية، التيمن شأنها اطلاق العنان، لفضاء بلا حدود.
إذن .. هل استطعنا بعد كل ما سبق , أن نقبض على جمرة المشترك ما بين المفردتين "الشعر والذبيحة" بالمعنى التجريدي، الدلالي؟
قد يكون ذلك .. ولكنها محاولة لرسم فضاء حول المفردتين اللتين تشكلان جملة قاسية في عنوان الديوان , ولكن الشاعر المبدع أحمد دحبور أفلح في تقديم اجابات، أكثر يقينية، عن سؤالنا هذا.. من خلال تنامي أسئلته الشعرية , الجمالية، والانسانية، والتي تشكل – برأيي- في هذا الديوان حالة فريدة ومتميزة، في رصيد الشاعر، المتواصل، منذ ارهاصاته الأولى، في البحث: تحت جلد اللغة والايقاع والتجربة، نحو المزيد من تأكيد بصمته الخاصة، في بانوراما المشهد الشعري، على المستويين: الفلسطيني والعربي.. فهل ندخل الأن الى أحمد..؟!
إن أية محاولة للكتابة – أيا كان شكلها- بخصوص الشعر، لا بد لها من الدخول بداية ..العوالم المعيشة، بمعنى الى التجربة الإنسانية بكل ما فيها من جزئيات، تلامس الشاعر ذاته، فهي تساهم بشكل أو بآخر، في عملية الكشف عن فضاءات النص، وبالتالي فهي تمنح القارئ قسطا من المقدرة، على فتح وتاج الدلالات .
وشاعرنا بلا شك، هو صاحب تجربة إنسانية غنية، لا نستطيع القفز عليها, في أية محاولة لقراءة نصه الشعري، المضمخ بها فهو ابن المخيم، الذي فض بكارة الرؤية، على آلام التشرد، وقسوة الحرمان .. وهو ابن جيل شهد بأم عينه، ولمس بكفيه جمرة التغيرات "الدراماتيكية " التي عصفت، بالمنطقة العربية، في تلك الحقبة، فخرج من سطوة الألم هذا، ممسكا بخيوط الأمل.. "المد الناصري، الثورة الفلسطينية …الخ " باحثا في خضم الموجة عن لؤلؤته المفقودة، وعلى الرغم من حساب الكلفة الباهظ، والذي سيدفع من رصيد اليفاعة والشباب، فانه يستمر في دفع ذلك، وعن نفس راضية، بقدرها وخيارها، بغية الإبقاء على جمرة الحلم، التي لونت حبر وصية الأم، تلك التي بنت عليه آمالها العظام .
ولم يخل يوما بأن هذه الجمرة، لن تدفيء غده، ولأنه كذلك، فقد ظل ممسكا بخيوطها، يفور وهجها، ليس فوق بحر حيفاه، الذي كان يجيء في حنطور أمه، وإنما فوقه تماما .
«سنرفع جرحنا وطنا.. ونسكنه سنلغم دمعنا بالصبر, بالبارود, نشحنه ولسنا نرهب التاريخ لكلنا نكونه"
نعم .. هو هكذا أحمد دحبور، منذ حكاياته الأولى، مع الولد الفلسطيني وعبر الغنائية العالية، المشحونة ببلاغة الرسم، ويستمر في رسم الفضاء الأتي.. « الوطن "، وفي أجراس لا يعيبها رنين القهر والتحدي، فهو ابن الفقر، المنتصرللفقراء، يطلق صرخاته، وأسئلته الشعرية، المعجونة ليس بلحم "الجرجاني" وحسب، وإنما بلحم البيت المجازي أيضا "المخيم " وبهواء البيت المستلب , منذ نعومة الرؤية:
"لماذا يسكر الفقراء يا وطني؟
لماذا ينشج الفقراء لو سكروا؟
لماذا، فيك يا وطني
يباع ويسرق المطر" ص 182 "اعترافات حزيران"
هو ذات السياق الذي، يحشد فيه شاعرنا، كل ما استطاع من طاقة التعبير ووسائلها، بغية اظهار اللوحة "البانورامية " لحياة وأحلام شعب، يعيش مرارة الخذلان، وبين جوانحه التماعة التحدي، والإصرار على الإبحار نحو مرافئ الحلم، الوعد.. كما بين يدي الشاعر التماعة اللغة والمقدرة الواضحة، في تطويع كوامنها، نحو مسارب الدلالة، فها هو يستخدم الفعل المضارع في المقطوعة السابقة "يسكر" عبر صيغة استنكارية لاستغراق الفقراء في فعل السكر، لكن سرعان ما ينكر هذا السكر، ليعطيه انزياحا دلاليا، مغايرا من خلال الفعل المضارع اللاحق له أيضا "ينشج "
وحرف الامتناع "لو" الذي يلحق بالجملة، ليفجر حدود معناها… ويشيح بوجهنا تماما، عن دخان المعنى الأول ..
وهكذا تبدو اللغة دائما في معظم ما كتبه أحمد دحبور، تمتلك ميكانيكية سريعة في التحول والتجدد.
وبين طياتها تفيض المعرفة .. متكئة على أساليب متعددة، منها التناص مع الموروث الديني "القرآن والحديث " أو الموروث المعرفي والشعري بعمومه عربيا وإنسانيا، بما يساهم في المزيد من كشط أفق المعنى، راميا سهام مفرداته الى ثغور اللغة:
"أقول، وقد بدلت لساني العاري بلحم الرعد:
ألا لا يجهلن أحد علينا بعد
حرقنا منذ هل الضوء ثوب المهد
والقمنا وحوش الغاب مما تنبت الصحراء" "ص 201" "حكاية الولد الفلسطيني"
أعتقد بأنني لست بصدد، كتابة شاملة، عن أعمال الشاعر أحمد دحبور حيث أن هذه , العجالة، في الكتابة، ليس بوسعها ذلك , ولكن محاولتي في الكتابة عن الديوان , الأخير "جيل الذبيحة " وضعتني أمام خيار العودة قليلا، إلى بعض الأشعار في ,الدواوين الأولى، والحياة الأولى للشاعر ووضعها في بؤرة الضوء، حيث أنها كما أرى، تساهم في تعزيز الرؤيا الشاملة لنص الشاعر، وللتأكيد على حيوية اللغة عنده، ونزوعه الإبداعي فيها، كما أنها، تساهم في الكشف عن تجربته الإنسانية المحمولة فيها، بما يخدم تنامي الدلالة، في عموم النص الشعري وتفيد في الاطلاع، على حجم الأمل والألم اللذين رافقا الشاعر، نحو البيت، الحلم، وما يحمله الديوان الأخير، الذي بين أيدينا، من مرارة التفجع على ذلك الحلم، الذي انسل من بين يديه، في انكسار مروع، على عتبة المتاح من الوطن على حد تعبير شاعرنا. .
وإنه ليبدأ بإيصال ذلك لنا من عنوان الديوان، كما أسلفت ويدخل مزيدا في تأكيد ذلك، من خلال الكلمات الأولى في صفحة الإهداء تلك الكلمات التي تمزق نياط القلب، لما فيها من شعور عال بقسوة الغربة وهو في الوطن ..!!
فأي وطن هذا، الذي لا يزال عاجزا، على أن يكون حاضنة للأهل والأحباء؟ّ! ويذهب موغلا، في تأكيد الإنكسار. في الصفحة التالية للإهداء، حيث يورد مجموعة من المختارات، سواء من النص القرآني أو من أقوال " نيتشه " واشعار محمود درويش، وهو بذلك يستنفر من اللغة شعرها ونثرها، وكل ما من شأنه فتح عيني القارئ، منذ الصفحات الأولى- وبلا لبس – على الدهشة المؤلمة ليسحبك الى ظلال مفرداته، داخل النص، الذي يضج بالاغتراب، ومرارته، فها هو في قصيدة "أجنبي" يضعنا وجها لوجه، أمام مرآة يتعاظم فيها ذلك الشبح:
لماذا أحنبي أيها الوقت ؟
قصاص يا أولي الألباب هذا الصيف
والقرصان يغزو موجة كنا معا فيها"
"ص 113" "جيل الذبيحة "
وفي نفس الصفحة، ومن نفس القصيدة يقول:
"من يسترد الريح ؟
أم أن الصدى يرتد قملا؟"
وكأني به يريد القول بأن دورة القهر لما تزل، وامتصاص دمنا، وأحلامنا لم ينته بعد, وإنما يمارس شكل أخر من أشكاله، الأكثر إيلاما وفي أسطر أخرى من ذات القصيدة، الممتلئة بمعان كثيرة، نراه يستنكر على الوقت دورته، أو ادعاءه بالتحرك، فهو برأيه متجمد- وإن مشى- فهو لا يأتي بالجديد، وكأني به يصور بعين الفنان الحياة العربية بكل تفاصيلها التي تقول: بأن التاريخ ودورة الحياة هنا، تعيدان ذاتهما من قبل:
"هذه الساعات لا تمشي فكيف احتازني الوقت ؟"
مستهجنا على الموت، كيف لا يمضي بهذا الجسد، وقد أصبح جاهزا تماما، فالى أي مدى قد أوغل شاعرنا في اليأس، حتى تساوت الحياة بالموت ؟ هل هو العجز المحيط بنا .. أم انه الشاعر الذي أدرك في أطراف الرحلة، الأخيرة أن الزمان لم يعد يسعفه برؤية أجمل للحلم والأشياء؟ أم أنه بحدسه يخشى ما هو أقسى، وأكثر تشويها للأشياء الجميلة، فأدرك أنه من الأجدر بالفارس، أن يترجل عن صهوة الحياة؟
"وهذا الجسد الحاسر لا يحيا فهل يدري به الموت"
نفس الصفحة وفي هذه المساحة الإشكالية، ما بين الموت والحياة، بمعناهما التجريدي عند الشاعر, يستمر بحثه عن الذات، التي طافت بلادا شتى، بحثا عن الطرق المؤدية، إلى لؤلؤته "الوطن" وحين تصدم الذات بالمتحقق , المنافي لشكل اللؤلؤة، الحلم، يصرخ الشاعر مستنكرا، متسائلا عن جدوى التجوال، أو التغريبة – كما يحلو له – والتي مضت صعدا في صورها الأقسى نحو البحث عن الذات – مطلق الذات – من خلال جيل بأكمله، ولكن سرعان ما ترتد الصرخات الى الصدر بقسوة جارفة، وأراني أستطيع القول بأن الشاعر أحمد دحبور: يستدعي جيله – الذي حرقته المراحل السابقة – للحضور كشاهد، على فجيعة ما رتبوه في صفحة الحلم، وصورته الحاضرة التي تبدو أكثر تعبيرا عن العبث، الذي يحيق بالأخيلة المهشمة، وبالمقابل يبدو استدعاؤه أيضا، كتأريخ لعمر الأحلام ونبضات الزمان على إطارها الأيل للسقوط:
"سقطت من روحي لؤلؤة، منذ الميلاد،
وأسأل عنها.. فتراءت لي ورقا وزجاجا
وحزنت لها، وفرحت بها،
وهممت، فلم أر برهانا يثنيني
فانكسرت وتراءت، في المرآة، مزاجا" ص 10 "جيل الذبيحة "
وإذ.. يذهب الشاعر موغلا، في هتك الدلالات السابقة للألم، فإنه يحاول أن يصور لنا، الوجه الأخر من الرحلة "التغريبة " مهما كانت المساحة ضيقة في المرأة، وبذلك إقرار منه بأن ليست الآلام وحدها التي رافقته، بل هناك ما هو جميل في الصورة الأخرى، ولكن عندما يبزغ تساؤلنا عن مساحة الجمال هذا.. لا نقف طويلا على باب القصيدة بانتظار الإجابة، التي.يصنعها الشاعر في هذا الموقف الشعري الجارح:
" لنقل إنا وصلنا مرة،
لم تكن الرحلة شوكا ومطبات فقط
لنقل إن غزالا مر في النوم " ص 28 "جيل الذبيحة".
إن هذه الساحة الجميلة هي..الحلم.. وكأني به يشهرها في وجه الواقع، دفاعا عما بناه الصبا، من فضاء كان ثمنه باهظا حتى على المستوى الذاتي- وهو بذلك يمني النفس، بالمفتقد، ويستقوي بجماله على ضحالة الحاضر وهشاشته، وعلى الرغم من محاولة المقاومة هذه، التي يبديها، لكنه يعبر في مواقع أخرى من الديوان عن اختناقه، وضيقه بالمكان والزمان اللذين يحاصران روحه، حلمه، فلؤلؤة الروح المنتقدة، قريبة منه، ويوسعه الذهاب اليها، يتفقد خطوات الهواء، الذي عشقه، ولكن غربة قاسية تطوق روحها وروحه، فيضج صدر الشاعر بالأنات التي ترتد اليه من جدران تحجب الهواء والكهرباء والرؤية:
لا تزال الجدران واقفة على الحياد/ والستارة لا تسفر عن مزيد من السماء" ص 15
أمام هذه القتامة،، يذهب الشاعر الى فضاءات، موغلة في البعد أي بعد هذا الذي سيختاره انه الزمان الأول للبلاغة، والحياة والتجربة الإنسانية، فلعله يستطيع الحوار مع تلك الطزاجة الإنسانية، ولكن بساط الأحلام (المتخيل ) يصطدم ببساط شاعر أخر، من ذلك الزمان «طرفة ابن العبد" وهنا يقلب ما ذهبنا اليه.ان الوعي يبدو حاضرا، فاستدعاء "طرفة" لساحة الحوار، ليس هروبا بقدر ما هو استدعاء، وحشد لتاريخ الألم في طزاجة التجربة الإنسانية وتماثلها مع تجربة الشاعر، النكران المتماثل الذي لقيه "طرفة " من أهله والشاعر وشعبه معه من أمته:
"وحيد أنا ومفرد/ لا كبعير طرفة المعبد/ بل كإسفلت معبد
ورصيف تونسي/ وحيد ولا أصدقاء من جيلي/
ولا ألعاب لي/ ولا قهوة ساخنة " ص 18"جيل الذبيحة "
وعندما يذهب الشاعر بهذه القصيدة، إلى زمن "طرفة " يذهب بعقل الواعي باختلاف وتمايز التجربة، وإن تشابهتا في كثير من الجوانب فهو يذهب، متحللا من أجراس «طرفة " على سحاب اللغة المنثورة وهو صاحب الوله للإيقاع، وإنما بذهابه هذا، كان مصحوبا ببرق البلاغة السلسة، الموافقة لمقتضى الحال، المحول، المحمول على انزياحات شتى تنتشر في حقول النص كالألغام .
لا ينتهي الحديث والتفصيل عن الشاعر أحمد، ولكن هذا ما فعلت الأن .
فهل نجحت؟
سليم النفار(كاتب من فلسطين )