حكمت النوايسة
لا نستطيع أن نقف على نتاج غالب هلسا القرائي إلا في كتابه الذي تركه شذراتٍ مفرّقة بصورة مقالات، جُمعن بعد وفاته تحت عنوان “أدباء علّموني، أدباء عرفتُهم”، فهذا الكتاب من أهم الكتب العربية التي جسّرت بين الثقافتين العربية والعالمية في مجال الرواية، وعاينت أثر الرواية الغربية في الرواية العربية إن وُجد هذا الأثر بصورة تثاقف أو بصورة نسجٍ على منوال.
وقفة مع العنوان
لعلّ هذا العنوان (أدباء علّموني، أدباء عرفتهم) ليس من صنع صاحبه، غالب هلسا، ولكنّه عنوان لسلسلة حلقات ثقافية كان ينشرها في صحيفة “الثورة” السورية، وقام المحقق (ناهض حتّر) بنشرها وتبويبها فيما بعد في العنوان نفسه، استشعارًا منه بأن هلسا كان ينوي نشر تلك الحلقات في كتاب يحمل هذا العنوان، ولعلّه كان مصيبا في ذلك، ففي طيّات الكتاب الكثير مما يشير إلى نص غالب صراحةً على تأثره بأدباء بعينهم كـ”فوكنر”.
ما الجديد؟
يمثل الكتاب نوعا جديدا في الأدب العربي، ربما، هو بين السيرة الذاتية والسيرة الثقافية، فضلا عن المكانة التي وضع الكاتب نفسه وثقافته فيها في عصره، والأطر التي أثْرت تجربته الأدبية، واللمحات النقدية الجريئة التي قدمها للثقافة العربية.
يمثل هذا الكتاب مفتاحا ضروريا لقراءة عالم غالب هلسا الروائي، والقصصي، والنقدي، والسياسي، متعدّد المواهب، وتاليا الوقوف على وعي الكتابة عنده، وهو الأمر الذي تجاهله النقاد في تناول الشخصيات الثقافية الأدبية المؤثرة في الوطن العربي، لأن الكتابة تصدر عن وعي خاص، ولا بد من سبر عوالم هذا الوعي لتستوفي الكتابة عن المبدعين شروطها.
حكاية الزير السالم وأثرها في شخصية غالب هلسا ثمّ أدبه ضرورية لدراسة رواياته، فمنها نستطيع الولوج إلى عوالمه الروائية والأدبية، فقسوة الشيخ في “زنوج وبدو وفلاحون” لا تتأتى من مجتمع غالب هلسا الذي نعرفه، وإنما تأتي من أجواء أسطورية قادمة من القراءة، وتعامُل هلسا الذي أشار إليه مع الغجر في غير موضع تحت عنوان “الزير سالم” متأتٍّ من تشرّب الحكاية الشعبية عن أصل الغجر، وأنّهم أحفاد جسّاس، قاتل كليب.
شخصية “الجليلة” التي سكتت الروايةُ الشعبية عن تفاصيل كثيرة فيها، رسم لها غالب ملامحه التي يريدها، وهنا تفتُّح وعي آخر؛ إذ بدأ الروائي يكمل الفراغ فيما يقرأ، ويحاول عدم ترك فراغ فيما يكتب عندما يجد ملء الفراغ ضروريا.
حتى إنّه سحب شخصية “الجليلة” على شخصية امرأة من القرية حدثت معركة بين أهل زوجها وأهلها، فانقسم ولاؤها، ولم تدرِ أين تذهب؛ هنا كان الفراغ جاهزا ليملأه القارئ/ غالب هلسا.
“ستيفنسن”
مع “ستيفنسن” نجد القارئ غالب هلسا، في قراءته، ونجد الروائي غالب هلسا في تشكّل وعيه، حيث يربط بين جماليات الخوف، أو الخوف الناعم، وجماليات الكتابة والتلقّي معا في أدب “ستيفنسن” في رواية “السهم الأسود”، وقبلها، وفق قراءته، “جزيرة الكنز”.
لا يذهب هلسا إلى مغالبة أفكار الرواية مباشرة، وإنما يرسم لنا مشهد القارئ الفتى في القرية الصغيرة التي لم تعرف الكهرباء بعد، حيث يضع الفانوس بجانبه، متمددا على فرشته على الأرض، في ليالي القرية الموحشة، ويقرأ رواية موحشة!
مشهد السهم القادم من الغابة الذي قتل رجُلا، ومشهد البحّارة في “جزيرة الكنز”، المشهد الموحش المرعب، هذان المشهدان ليسا ابتداعا لعالم روائي مخيف، وإنما هما مدخلان لقراءة “ستيفنسن”، وربطه بالتطهير الأرسطي إن أراد القارئ، وربطه بالطفولة الإنسانية العامة إن أراد، والبحث عن مفاتيح عميقة بطفولته الخاصة إن أراد؛ ففي قراءة غالب هلسا لا شيء يأتي مجانا، وإنما نقرأ الأدب بنا، نحن الأداة الأولى لقراءة الأدب، هكذا كان ما يمكن تلخيصه من العنوان الذي جعله “روبرت لوي ستيفنسن”.
القراءة النقدية لغالب هلسا تأتي من قراءة بنية الرواية، ومفتاح البنية الروائية عنده هو الشخصية الروائية، هكذا نراه يلخّص المدخل إلى قراءة الشخصية الروائية من خلال “التوصيف”، ثم ما وراء هذا التوصيف، فهو يرى شخصية “لونغ جون سيلفر” قد بُنيت من مستويين: ملحميّ وتفاصيليّ، الملحمي هو المرتبط بالرعب المزروع بالشخصية من خلال تخويف صاحب الفندق له من “الرجل بساق واحدة”، وهذا البناء منتشر في الملاحم كلها تقريبا، وقد يكون تشويقيّا، وهذا نادر، وقد يكون تخويفيّا، وقد يكون لُحمةً تنبني عليها الرواية، ولكن أثره سيمتدّ رعبًا في أنفس الأطفال إلى ما لا نهاية، وكم خفنا نحن أبناء القرى من “أبو عيون قزاز” مثلا.
يلفت نظرنا هلسا إلى أمر مهمّ: إن أردنا أن نسقط الأساطير والملاحم وشخصياتها على الواقع ونكرّسها في هذا الواقع، فإنها تفقد هذه الأسطورية، وتعود شيئا فشيئا إلى واقعيتها. ويحدّثنا عن أمر حدث معه تجاه امرأة اتخذت بُعدًا شبه أسطوري ويتسابق الرجال في كسب مودتها، فيجدها عادية، ووفق إجابة والدته، يجد أن جمالها عادي أيضا.
المدخل الذي يلمحه غالب في بناء “ستيفنسن” للشخصية، أن الشخصيات الأشد شراسة هي التي يكون أصحابها مصابين بالعاهات (الأعمى، ومدمن الخمر، وذو الساق الواحدة).
“همنغجواي”
يمهّد غالب لدراسة “همنجواي” بأثره في الثقافة/ الرواية العربية التي كانت تراوح بين الرومانسية المنسوخة من الغرب والواقعية الاشتراكية، وبين “همنجواي” صاحب المدرسة الخاصة والتأثير الخاص؛ فهو الذي استطاع أن يرسم معالم الشخصية اليهوديّة مثلا بالأوصاف، ويلخّص هذه الشخصية بأنّها لا تستطيع العيش دون حدود، الإحساس بالعالم المعادي في المستويات كافة: الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحربية… ثم ينقلنا إلى أسلوب “همنجواي” في بناء الفن القصصي، والأسلوب الذي يشرك فيه القارئ عنوةً في استكمال التلقي أو إكمال الثغرات في النص من خلال تقديم النصوص المتوترة القائمة على التكثيف الذي يترك مجالا للقارئ ليتساءل ثمّ يستكمل بثقافته الخاصة النصّ. وكذا يتحدث عن المكان عند “همنجواي”، فهو ليس مجرّد إطار، وإنما جزء من رسم معالم الشخصية، ولا يمكن استيعاب الشخصية دون المكان في العمل القصصي أو الروائي.
“جون دوس باسوس”
من خلال تعريفه بحياة “باسوس” يقف غالب هلسا عند مشكلة الهوية لديه، ويقتطف مقولته “لولا الكتب لكانت حياتي غرفة عارية، مترامية الأطراف”.
ويقرأ غالب بين السطور سطوة الثقافة الأمريكية الحديثة وتصفيتها للماضي الذي يمثل له الهوية، ليصل إلى أنّ “الوعظ” هو أداة الكاتب الحقيقية لمواجهة تضييع الهوية، ويختار منه عبارة يمدح بها الواعظ: “إن كل من يستطيع أن يواجه الآخرين بما لا يحبون سماعه هو في حقيقة الأمر واعظ”.
إن دفاع “باسوس” عن الماضي -كما يرى هلسا- هو دفاع عن الروح، وعن الحياة الروحية، وإبعاد الوحش الاقتصادي والتسارعي في الحياة الأمريكية.
وبعد استعراضه أسلوبَ “باسوس” يصل إلى نتيجة: “إن بنية روايات (باسوس) بنية عقلية تستمد حياتها من التاريخ بصفته قوة معاصرة تعيش بيننا، أو تراثا مجيدا أهملناه، أو خزيا علينا أن نتفاداه… إن ما يتوجب على القارئ أن يخرج به من روايات (دوس باسوس) هو القيم الروحية والاجتماعية الكامنة وراءها”.
التعلم من الرواية
“قوانينها ليست سابقة عليها”، “الحرية منها لا من خارجها”، “الرواية يمكن أن تكون عقلية وذهنية”.. بهذه المقولات يعلن غالب هلسا أنّه يخالف النقاد الذين أطلقوا هذه الصفة على روايات “باسوس” العقلية، ويحتجّ بأنه قد رأى مثل هذه العقلية عند أفضل الروائيين مثل “دستويفسكي” و”بريخت” و”غراهام غرين” و”كامو” من قِبل نقاد بارزين.
توقُّف الإبداع
وعن توقف الإبداع لدى “باسوس” في سن مبكرة، يرى هلسا أنّه مرتبط بالموضوع نفسه لا في طاقة المبدع النفسية، فعندما لا يعود المبدع واجدًا موضوعا فإنه سيكتب عن اللاشيء، و”باسوس” استنفد الموضوع. وهو يضرب أمثلة كقول الطاغية للشعب: “أعطيكم الحرية الكاملة في أن تؤيدوني”، وهذا ما يجده كاتب مثل “باسوس” في الموضوعات التي طرحها، وهو كاتب روحاني أصلا، وكتب كل ما يريد تقريبا، مع بقاء شعلة الإبداع تبحث عن موضوع جديد. ويتمثل هلسا بثلاثية “باسوس” الروائية الضخمة (الولايات المتحدة الأمريكية) التي بلغت ألفا وخمسمئة صفحة.
إننا نرى في قراءة غالب الناقد لـ “باسوس” غير ما نراه في غالب هلسا العارض الذي يقلب الكتاب بين أيدينا ليدلّنا على مفرداته. إنه ينفذ إلى أعماق “باسوس”، تلك الأعماق التي تتأتى من مقتطفات الحوار التي يناولنا إياها هلسا للدلالة على تقنيات جديدة في الرواية، هي:
تقنية الراحة بعد التعب/ المجتمع الرأسمالي، وتقنية خيبة الأمل التي يمنحها تأمل “باسوس” في مخرجات/ معطيات الوجود المتوحش للرأسمالية، مع كونه ليس معنيا بهذه المعاني الفضفاضة. إن هلسا هنا الناقد الحصيف الذي يشجعنا على قراءة “باسوس” دون أن يفرض علينا طريقا للقراءة، وذلك بفصله بين “باسوس” كما هو، وبين رؤيته له.
“فوكنر”
ينظر غالب هلسا في قراءته لـ”فوكنر” فيما يقوله هذا الكاتب عن كتابته وعن دوافعه لها، ويقف على أهم ما في هذا، وهو متعة الكتابة نفسها. كما أنه يقرأ قراءة الآخرين له، وينظر في خلوّ هذه القراءة من الروح لأنها لا تدرك المجتمع الجنوبي الروحاني لـ”فوكنر”، والحياة الاجتماعية لأهل الجنوب. كما يقرأ أثر “فوكنر” في الكتّاب الذين تأثروا به، حتى لو لم يعترفوا بذلك.
أما رأيه بـ”فوكنر”، فيتمثل في أن هذا الكاتب يعيدنا إلى ذكريات طازجة، بعيدا عن “تزويقها”، متخلصين من قدرتها على التخفّي، أو الخضوع لما تحكمه الظروف المحيطة بتلك الذكريات.
يقول هلسا: “همنغواي يخاطب ذكاءنا، يقودنا إلى عالم الآخرين وهم يواجهون الخطر، ودوس باسوس يكشف لنا سياقات الخطاب المبتذل المقنّع بأقنعة لغة رسميّة فخمة وميتة، أما فوكنر، فإنه يخاطب تجاربنا الأشد عمقا، والأكثر لبسا”.
استفاد هلسا من “فوكنر” في فهم التاريخ من خلال حامله، وفهم حامل التاريخ من خلال التاريخ، ولم يفصل بين الأسطورة وصاحبها بنظرة عابرة.
وقلّما يستفيض روائي كما استفاض هلسا بالحديث عن أثر “فوكنر” في رواياته، حتى إنه يقف على الكثير من المفاصل التي يشعر أنّه أخذها من “فوكنر” في روايات “الضحك”، و”السؤال”، و”سلطانة”، و”زنوج وبدو وفلاحون”.
ثمة ثيمة أساسية يقف عليها هلسا عند فوكنر وهي: “أنّ الوقائع والشخصيات يعاد إنتاجها في الثقافة الجماعية للبشر:
أيْ أن الحدث في الواقع لا ينتهي بمجرّد وقوعه، بل بعد أن يتسرّب عبر مصفاة الجماعة التي تحوّر فيه، وتضيف إليه، وتحذف منه، وتلقي عليه آمالها ومخاوفها وأشكال رؤيتها… عند ذلك فقط يصبح تاريخا ذا وظيفة مزدوجة: يحكي الواقعة، ويحوّلها، في الوقت ذاته، إلى تاريخ للبشر”.
الحياة الروحية لمجتمع أيّ رواية لا بدّ أن تأخذ نصيبها من الرواية، وهذا ما يراه غالب في “الصخب والعنف”، وهذا ما يفسر به رواياته هو، ابن القرية ومعطياتها في أدبه، وهو الذي عاش معظم حياته في الحواضر العربية، وربما في أعمق هذه الحواضر تأثيرا في الأدب العربي الحديث: القاهرة.
تيسير السبول
في قراءته لحياة تيسير السبول، يتوقف غالب عند روايته “أنت منذ اليوم” وينظر إليه من خلالها، ويرى أنّها رواية التشظي والتداعي والتأثر ربما بالقصيدة الجاهلية واكتشاف فشل الحلم العربي الكبير في تحقيق شيء، فكان أن أصبح نموذج تيسير السبول نموذجًا على الشباب العربي كله.
إنه يقف على الوعي الحاد عند تيسير السبول، وقد تجلّى هذا الوعي بالكتابة، وهذا من نادر الأمور، فالكتابة فيها مسافة للتأمل والمعاودة، ولكن تيسير ترك روايته كما هي، بتشظّيها وتشتُّتها، وربما في عدم تماسكها إلّا في البنية العميقة، وهي البنية الكامنة في نفس البطل (عربي) الذي انهارت أحلامه جميعها أمامه.
تكاد هذه المقالة تنهي نفسها بخجل أمام العنوان الذي اختارته: (غالب هلسا قارئا). فقد وقفنا عند بعض الملامح في تناول غالب لما قرأ، وربما تحتاج الوقفة المطولة بحثلا مطولا لدراسة أثر هذه القراءة في أدبه. ومَن لم يقرأ هذا الكتاب قبل قراءة غالب هلسا نقديا، تبقى قراءته ناقصة النصف، فغالب الروائي هو غالب المتثاقف مع الأدب العالمي، والصادر عن أصالة، ولا يشير إلى أثر الأدب العالمي في رواياته إلا من خلال إشارته إلى المواطن التي التقى فيها مع روائي قرأ له، فاكتشف أنّ ما كتبه هو يتوافق مع رؤيا ذلك الروائي.
إنّ قراءة ما كتبه هلسا غالب عمّا قرأ، تكاد تلخّص ما قرأ، وتعطي انطباعا عامّا كافيا عن العمل الذي قرأه، مع رؤيته الشخصية تجاه ما قرأ، وهي رؤية عميقة تستبطن الأعمال الإبداعية خاصة، وأما الأعمال الفكرية، فإنّه يمارس الجدل الخاص، وينطلق من الإيديولوجيا التي يعتنقها.