حاوره : خضير الزيدي
كاتب عراقي
لا يدخل القارئ لمنجز القاص محمد خضير إلا وهو مشدود إليه ولا يخرج إلا وفي نفسه هاجس الترقب والبحث، ترقبٌ من قبيل ما الجديد الذي سيثيره محمد خضير بعد منجزه القصصي، والبحث يكمن عن نقطة تحول يراهن عليها القارئ … سارِدُ أثرٍ في الكثير وقاصٌ لم يستوعبه بعض كتاب الرواية والقصة، آخرون لم يفهموا خطابه وتنظيراته. أتمنى أن يجد القارئ لمجلة نزوى إجابة تجعل من محمد خضير أكثر قربا إليه من خلال نص هذا الحوار.
قدمت منجزًا مهمًّا في التجريب، لكن الجميع يرى أن ذلك التجريب يفتقد إلى التنظير، ما الذي يدعوك لتجربة تقدمها دون تنظير؟
ألّفتُ كتابين لمراجعة مفاهيمي عن النصّ السردي، غدوا بعد نشرهما كتابين تنظيريّين يُذكران كلّما وردَ الحديث عن قصصي، خاصة كتاب «الحكاية الجديدة» الصادر عن دار «أزمنة» في عمّان العام ١٩٩٥، فقد اعتُبِرت فصول هذا الكتاب -وهو في الأصل محاضرات متفرقة في اتحاد الأدباء وجامعة البصرة- بيانات نظرية أساسية في اقتحام عالم القصة القصيرة، ومَسرد سِيرويّ لتجربة الكاتب الذاتية. أما الكتاب الثاني «السَّرد والكِتاب» الصادر في دبيّ العام ٢٠٠٩ فقد مَفْهَمَ لاشتغالاتِ السرد العامة (القصة والرواية) وتحوّلها من النصّ إلى «الكتاب» باعتباره الصيغة المثلى لجامع النصّ حسب تسمية جيرار جينيت.
دعني أتساءل هنا بعد هذه المكانة التي حظيت بها في العراق والعالم العربي، كيف تفهم التجريب في كتابة النصوص السردية ؟
ليس التجريب بحثًا مستقلًا عن كتابة النصّ الأدبي كما هي الحداثة التاريخية، فهو، أي التجريب، جزء من بنية النصّ الأساسية، وإشكالية من إشكاليات التجنيس الأدبي والصيرورة في الزمان والمكان واللغة والتخييل. لقد وَسَمَ النقد التاريخي مرحلةً كاملة -الحقبة الستّينية من القرن الماضي- بإشكالية التجريب، خاصة في مصر (جماعة مجلة جاليري) والعراق (جماعة مجلة الكلمة) لكن مجتمعات أخرى من وطننا العربي، توصَف بالمجتمعات الزراعية والتجارية كاليمن ودول الخليج، ضمَّت محاولات إشكالية/ تجريبية في الكتابة القصصية والشعرية أيضًا. ومن الناحية الأخرى في المغرب العربي، نشأت إشكالية تجريبية من نوع آخر، تلك هي إشكالية الكتابة الفرانكفونية. وكانت مجلة رائدة كمجلة (الآداب) فضاءً يضم أنواعًا متفاوتة من محاولات التجريب تلك في المجتمعات الحديثة وشبه الحديثة. وهنا يجب التمييز بين التجريب كبنية داخلية في النصّ، والحداثة المجتمعية التي تؤثِّر في نشر النصوص الأدبية وتفريقها تجاريًا وحضاريًا؛ فقد تؤثِّر الحداثة في تحديد هويّة الكاتب الاجتماعية والفكرية، بينما التجريب حدّ يتخطى إشكالية الهوية، مثلما تجنيس النصّ تاريخيًا وبنيويًا.
يجول في ذهني تساؤل تمنيت أن أطرحه عليك منذ زمن بعيد، صدرت مجموعتك القصصية (المملكة السوداء) عام 73 غير أنها لم تحتوِ في متنها قصتك (البطات البحرية) علمًا بأنها فازت بجائزة الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية سنة 66، وأيضا استبعدت قصة (النداء) المنشورة في مجلة «الفكر الحي»، سؤالي هنا هل القصتان خارج التوصيف الفني الذي دعوت إليه فيما بعد، ألم تحملا ملامح تجربتك الجديدة؟
لا أجمع قصصي على أساس زمنيّ -كرونولوجي- فأستثني عامدًا ضمَّ بعضها في مجموعة وأؤجِّل البعض الآخر إلى حين آخر. وفي هذه الصيرورة غير المنتظمة، أي النشر غير الظرفي والمرحلي، قد تخرج بعض القصص عن مدارها لتنضمّ إلى مدار بعيد لاحق. مثلا: استثنيتُ القصتين المشار إليهما في السؤال: البطّات البحرية والنداء، وكذلك قصصًا مكتوبة في مرحلة كتابة المجموعة الأولى «المملكة السوداء» الصادرة في بغداد العام ١٩٧٢، لتظهر أخيرًا في مجموعة «كتاب العقود» الصادرة عن دار الجمل العام ٢٠٢٠، فكأنّما لا إرادة لي في تفريق هذا الكون السردي إلى مدارات عشوائية متلاحقة. أليست القصص تولد دُفعة واحدة مع ولادة الكاتب العقلية والأنطولوجية، ثم تتوزع في دُفعات بعد غيابه عن وجوده الاسميّ الذي يمهر كتابتَه بالتتابع والحضور أمام القارئ؟ هذا ما أعتقده: مصادفة التأليف/ النشر اتفاقٌ مؤقت بحت إزاء الوجود الفعلي للنصوص خارج كينونة المؤلف/ الناشر الاسمية. هذا لا يحدث إلا في نشر القصص القصيرة في مجموعات ولا يحدث مع الروايات إلا نادرًا (روايات كافكا مثلًا التي لا نستطيع تقديم إحداها على الأخرى). ولأجل البرهنة على هذا المُعتقَد الأنطولوجي في الجمع والتفريق نشرتُ مجموعتي «كتاب العقود» مصنِّفًا قصصَها على أساس أنطولوجي/ موضوعي بدلًا من الأساس الزمني – المصادفاتي.
هل لنا الحق في أن نقول إن محمد خضير وقع تحت تأثير الواقعية السحرية قبل غيره من كتاب القصة العراقية، وهل يصح أن يكون الملهم الأول لهذا التوجه هو ماركيز؟
البناء الفني في قصصي استعاريّ، تعويضيّ عن الواقع المفقود، لكنّ بحثي عنه غير سحريّ – حيث تشير هذه الكلمة إلى بُعدٍ خرافي أو ميثولوجي بحت. ولا وجود للتناقض في الهروب من الصورة النمطية للواقع، الذي فَقَدَ «واقعيته» وصارت شخصياته تفكر في ما وراءه. إنّ مرور مائة عام على أوّل قصة واقعية كتبها رائد القصة العراقية محمود أحمد السيد، تدعوني لأن أبجِّل ذلك الكفاح من أجل خدمة الحقيقة الواقعية. لكن هذا الكفاح أصبح اليوم من فضائل الماضي التي لا تُعوَّض بسهولة. الكفاح من أجل الواقع المعيش والملموس أصبح اليوم قضية تأخذ أبعادًا واتجاهات غير مرئية وغير ملموسة، حسب تعبير ناتالي ساروت، لكنّنا لا نعتبر هذا البحث السردي الأساسي في النهاية سحريًا أو ميثولوجيًا بأيّ معنى من المعاني.
هيمنت فكرة المكان في الغالب من كتاباتك، ما الذي يدعوك للتعامل مع المكان وكأنه استدعاء ومغامرة وتوظيف لا بد منه؟
المكان أحد الأبعاد الرئيسة في المعمار القصصي، إضافة إلى الزمان. لكنّ مفهومي عن المكان ودوره التقني والوظيفي يتغير من نصّ إلى آخر. فهو يتدخل أحيانًا ليصنع مناخًا بيئيًا خاصًا، معزولًا أو سرّيًا، كالمعتقلات والمعسكرات والملاجئ والمستشفيات، وكلّها تحيط بوجود الشخصيات لتحقيق استجابات قصوى من الأفعال والحوارات والتداعيات النفسية. لا بدّ من تكييف هذا العنصر لمتطلبات الفعل الإنساني، إدانته أو إفراغه من رهبته وسلطته المهيمنة، إذا ما كان معاديًا وسالبًا للحرية. من ناحية ثانية فهناك نوع من الأمكنة الأليفة تفتقدها الشخصيات، في حالات الحصر والإقصاء، كالبيت والمدرسة والمقهى، فتبقى حلمًا يراودها وتسعى بقوة لاسترجاعه، وقد يؤدي ذلك إلى هلاكها. أمّا المكان المفقود بين النوعين الحقيقيين، المعادي والأليف، فهو مكان المؤلِّف المتوسّط بين هذين النوعين، وقد يعوّضه المؤلفُ بمكان متخيّل، لا وجود له في الواقع؛ إنه «المكان الآخر» غير المسمّى، بتعبير ميلان كونديرا. من هذا الاستعراض لنوع المكان وحدوده في النصّ القصصي، قد نفهم نزعة الوصف الحسّية والهندسية والجمالية في رسم المشاهد المكانية والاستغراق في استقصائها حدَّ التطرّف.
أغلب من يقرؤك نقديًا يشير إلى رصدك لملامح وتفاصيل دقيقة مما يشير إلى رصد لِعينٍ سينمائية ترافقك، السؤال هنا: هل العين السينمائية ترصد أدقّ التفاصيل التي تبحث عنها في استنطاق المحلية والتنقيب في المكان ورصد محتوى ما مغيّب من زمن مضى؟
بالرغم من أنّ «عين الكاميرا» وسيلةٌ فنية سادت بكثرة في فترة الصعود القصصي التجريبي خلال العقد الستّيني من القرن الماضي، إلا أنّي أعتقد بأهمية الرؤية السينمائية للواقع من خلال التصوير الفوتوغرافي واستعمالاته السيميائية. فالصورة تشكّل في سيمياء البناء القصصي وجهةَ نظر أساسية تختلف عمّا كان يُسمّى في النقد التقليدي نظرة الراوي العليم التفصيلية للأحداث. الصورة القصصية -كالفيلم السينمائي- يتحدّدان بكمّية الإشارات اللغوية الاستعارية المكافئة للأحداث/ المرئيات البصرية التي يتدخّل المؤلِّف ضمنيًا لتوجيه تأثيرها في المتلقّي بوساطة ما كان يُسمى «الأسلوب». وليست السيمياء البصَرية في القصة -الصورة واللوحة والعمارة- سوى وسائل لنقْض الأسلوب بمفهومه القديم، وتقليص كمّية الانفعال العاطفي والأيديولوجي والميثولوجي، الذي أغرقَ القصصَ بتفاهته زمنًا غير قصير منذ بداية مئوية السرد في الربع الأول من القرن العشرين.
وأنت تكتب نصًا مثل «بصرياثا» هل تفكر بقارئ معين يعي ما تذهب إليه رؤيتك؟ هل فكرت إلى أي مدى يمكن أن يتأثر القارئ بالمكان وسحره التراثي والشعبي؟
أنشأتُ كتاب «بصرياثا» المنشور عام 1993 ليكون مرجعًا رئيسًا لقصصي كلّها، وسيرة للأمكنة التي احتضنَت سيرةَ المؤلّف منذ الصِّغر حتى الشيخوخة. كانت «بصرياثا» الحلقة الأولى من ثلاثة كتُب سِيرية، والحلقتان الأخريان هما: «أحلام باصورا» 2014، و«العشّار» 2021. وفي الكتُب الثلاثة اهتمام مشترك مع قراء أكاد أعرفهم بالأسماء والجيرة والرفقة الطويلة، ما يجعلها أقرب المؤلفات منهم، وأحبّها لنفسي أيضًا. لكن هذا الاهتمام بقارئ مجاور وشريك لا ينطبق كليًا على مؤلفاتي الأخرى، ففي كتاب «رؤيا خريف» 1995 ابتعاد عن الواقع المشترك، واقتراب من السيرة العقلية البعيدة المنال لقارئ معلوم. وقد استكملتُ هذه السيرة العقلية بكتاب «حدائق الوجوه» 2008 الذي اهتمّت نصوصه بسِيَر كتّابٍ عالميّين علّموني حكمة القصّ ومزايا المكان غير المحدود -حديقة العالم- وكما قلت في جواب سابق فإني لا أسلك خطًّا تصاعديًا في إرسال كتبي، تبعًا لاختلاف الأمكنة وتداخل الأفكار.
هل تهيمن الشهرة التاريخية لمحمد خضير على إمكانيات قراءته الواقعية، وهل يوجد متلقّ مباشر له من دون التأثر بسطوته التاريخية؟
الشهرة التاريخية استحقاقٌ لم يَنَلْه إلا كتّاب قلائل في العالم، من أولئك الذي عبّروا عن «روح العصر وفكرة العالمية» – لا من إقامتهم الظرفية أو سلطتهم الأيديولوجية، وإنما من قراءتهم الصحيحة للوقائع والمقولات الفكرية التأسيسية للعالم الجديد، عالم الحداثة وما بعدها. قليلون من كتّابنا العرب يأبَهون لالتحاقهم بروح العصر وعالمية الأفكار؛ وبكلمة واحدة فإنهم محلّيون وعابرون من غير احتفال بوجودهم القلِق في عالم الكتابة؛ ولستُ استثناءً منهم طبعًا. فما يُقلِقني يكاد يتبخّر تحت شمس تشوي الجلود ولا تُنضِج الأفكار. إنّي ثاوٍ مثلهم في مكاني لأنّ تاريخي المنكسِر لا يُحرِّك حمارَ عجلتي السردية، الغاطسة في نظام من الهيمنة والسقوط المتكرّر في الهزيمة والتراجع للوراء. لا شهرة تاريخية لي، حيث لا حلَّ قريبًا لأزمات واقعي المتعثّر بين القطائع التاريخية المميتة. لا فرصة لإعادة كآبة كافكا الدافعة للرفض الواقعي، أو نقل عبثية الجيل الأوسط – جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ضد الأخلاق الاجتماعية الزائفة، أو ادعاء ثوروية أندريه مالرو الآفلة. لا شهرة غير شهرة الوحل. إنّي بهذا لا أرثي نفسي فقط؛ إنّي أرثي جيلي السائر بعربته تحت تأثير النَّوَام التاريخي والنفسي. إنّي ساخط فحسب، وأكافئ سخطي بثيمات لا تاريخية أحيانًا.. فأيّ معنى خاص للشهرة يا ترى؟
ممكن القول بأنك تشعر بالتزام أبوي تجاه القصة؟
لا إمكان للأبويّة أيضًا هنا. مرّةً نقدْتُ في مقال لي أبويّة القاصّ الخمسيني عبد الملك نوري لشخصياته المقيَّدة لمنحدره الأرستقراطي. كانت قصصه مفارقة طبقية مفضوحة، وشبّهتُ قصصَ أولئك الآباء بعرائض كتّاب (العرض حال) الذين ينقلون شكاوى الناس بإخلاص شديد من دون الانفعال بها. الأحداث تمرّ من خلالهم ليتعذّب بها قراءُ ذلك الزمان الباحثون عن أبويّة مقابِلة تداوي حرمانهم وسقوطهم الأخلاقي – وكان فؤاد التكرلي يشارك عبد الملك نوري في تصوير الانحراف الاجتماعي والتحلّل الخُلقي للعائلات الارستقراطية من موقعه كقاضي تحقيق. كانت الرفوف في بناية المجتمع العالية -ولنتذكّر قصر كافكا- ترتفع حتى السقوف الشاهقة، بناية بناها العثمانيون، وجدّدَها أخلافهم البريطانيّون، والملكيّون، قبل سقوطها في ثورة ١٩٥٨. كان سقوطًا مدوّيًا للأبويّة الاجتماعية -الطبقية- لم يُقَم بعده بنيان يعوّضها شعور الخروج بنماذج القصص المسحوقة إلى هواء الحرية وسنّ الرشد. استمرّت الأبويّة تتلوّن بأقنعة أيديولوجية استَبدلَت الجموعَ الغاضبة بالفرد المخذول. لكنّ شخصيةً واحدة لم ترتفع إلى مستوى الرفّ العثماني العالي والبناء الاستعماري السابق. لم تستردّ الأبويّة سلطتَها القديمة، لكنّها استولت على متحف السرد التاريخي بهيمنة الرمز والأسطورة. تلك هي باختصار مأساة التراث الأبويّ للقصة.
أود أن أتساءل معك هل تكتب أحيانا للفيس بوك بتقنيات مختلفة تنسجم معه؟
إنّي أتساءل بالمقابل، هل يقدّم الموقعُ الاتصاليّ -الفيس بوك- نمطًا أبويًّا أكثر حداثة من صحافة البناية الأبويّة الاستعمارية؟ أظنّه كذلك؛ إذ بانتشاره وهيمنته البديلة لا يسمح لكاتب حداثيّ بالإفلات من فخّ الأبوية الإشهارية الجديدة. لكن رغم هذا الانجذاب السريع، فقد حدثَ تغيّر طفيف في استعمالات الشعور بالتدنّي والتبعية لوسيلة اتصالية لم تتوفر في السابق. كان الاتصال سابقًا بين الكاتب ونماذجه الاجتماعية المحرومة من التعليم مباشرًا وساخنًا؛ إنّه لقاء الحاجة لأبٍ راع مسؤول عن رعيته، وكان هذا العقد الاجتماعي مفهومًا ومتفقًا عليه من دون مراجعة أو تبخيس. أما الاتصال الافتراضي الجديد بين الطرفين، فقد سَحَبَ هذا العقد من الآباء المزيّفين وأبطلَه عبر شبكة اجتماعية غير ممركزة. وبذلك صارت الكتابة الفيسبوكية بديلًا عن صحافة الآباء الأوّلين، المنتفعين من جهل النماذج بآبائها. أصبحت العلاقة الأبوية أسرع اتصالًا، لكنها في الوقت نفسه أكثر تزييفًا وافتضاحًا. أصبح الطرفان -الأب ونماذجه- في موقع الراعي والمسؤول عن تبعية الفرد والمجتمع معًا. إنّه تبادل مواقع شامل، تنعكس تأثيراته على الكتابة الافتراضية بدرجات متفاوتة، لكنّها حاسمة وخطيرة.
ما مصير القصة في عالم تغرقه الروايات خاصة بعد الانفتاح على كتابتها من قبل شعراء ؟
القصة القصيرة فنّ عابر للأزمنة والأمكنة؛ ربّما هي «لُكْنة» هاربة من مركزية القول السرديّ. وربّما لهذا الاعتبار أتحدّث عن الرواية باعتبارها وهمًا من أوهام التغيير الاجتماعي والسياسي الحديث. كانت القصة القصيرة صوت الآباء المهيمنين -حتى سنوات القرن الماضي الوسطى- لكن ما أن فتحَت الأيديولوجيا الشعبوية -خلال سنوات الحرب الثمانينية في العراق- البابَ لاستعمالاتٍ خيالية جديدة، حتى صار الانقلاب الأجناسي وباءً غير مُسيطَر عليه. كانت الترجمة النظرية لمفاهيم الأدب، والرواية خاصة، أواخر القرن الماضي، إغراءً – شبه جسدي، مقابل الحرمان الأبوي السابق، وشهوةً مدمِّرة لأساليب التعامل مع واقع جديد يتّصف بالجماعية والحشْدية والأغنية الحماسية. لم يستطع الشكل الكلاسيكي الزاهد -القصة القصيرة- مجابهة الهوَس الجمعي باستعمال الشكل الجديد، الرواية، وانخراط الأدباء فيما سُمّي بالفيلق الرابع، يومَ لم يضمّ الجيش العراقي غير ثلاث فِرَق. أكانت عسكرة المجتمع تتطلب شكلًا تعبويًا يكتسح سلطةَ الآباء الارستقراطية القديمة؟ ربما صدمة الحرب تسمح بهذا التفسير الأوليّ، لكن ما تفسير اندياح الموجة الروائية إلى ما وراء السقوط الكبير لأيديولوجيا الحرب؟ هل اكتسحت الروح الجماعية المندفعة كسيلٍ عرِم آخرَ السدود الأبوية الرومانسية البالية؟ هل يمثّل انتشار ثيماتٍ خيالية وأسطورية من ماضٍ كهنوتيّ بعيد سيطرةً لا واعية على مدوّنة المتحف السردي -اللا أبويّة- المئوية؟
هناك من يقول إن القاص محمد خضير كان يضمّن قصصه شفرات ورسائل، بعد كل هذا الوقت هل وصلت للقارئ وهل كانت تقنية مجدية؟
أجل. كلُّ نصّ هو شفرة أو رسالة لمستقبل قرائيّ متعدّد الصِلات والافتراضات. وتحوي مجاميعي الأخيرة (رؤيا خريف، حدائق الوجوه، أحلام باصورا، كِتاب العقود) ما اعتبرُه لغات شفريّة مرسَلة بحذر شديد؛ إذ تكتظّ المدوّنات السردية القصيرة والطويلة باستعمالاتٍ غير مفهومة لقارئ متلهِّف لاجتياز الألفيّات المتحفيّة. إنّي أشير هنا إلى خاتمة المئوية الأولى من عمر المدوّنة السردية، ومثيلتِها الدولة العراقية، التي يلتقي عندها ملايين القراء، على اختلاف ثقافاتهم الأدبية والفكرية. ففي يوم من العام ١٩٢١ -بعد سبع سنوات من الاحتلال البريطاني الأول- استيقظ القارئُ الصحفيّ على نوع من الخطاب الأبوي العاطفي، في نصّ يقرؤه أوّل مرة بعنوان (في سبيل الزواج) لكاتب اسمه محمود أحمد السيد. كان ذاك خطابًا متحوّلًا من السردية التاريخية إلى السردية الفردية لرجل الشارع. وليس هذا التحوّل ببسيط، إذ إنّه أنشأ نوعًا من الحوار الثنائي الطليق بين مُرسِلٍ راعٍ ومُرسَل إليه يقبع وراء جدار من المفاهيم البالية والمواقف الذليلة. آنذاك، استطاعت نخبة من المسافرين وراء الحدود نقل «المرض الثوري» من الهند -عبر الطريق البحري التجاري المعهود- ثم لما هبّت المؤثرات السردية التركية والروسية والمصرية -عبر الترجمة والتجارة والدراسة- انهدَّت سدودٌ وقامت مطابعُ وصحف ودور نشر صغيرة. ذلك التحوّل كان معجزة القرن التي تكافح فئةٌ من الكتّاب «الشفريّين» حتى اليوم لإقامة صلتها بحقلها الأول عبر متاهات جديدة. إنهم يتكاثرون -القراء الفضوليّون- إزاء الحركة الخفية للشفرات الطليعية.
الهوامش
1. ينظر: الدكتور سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، شركة بابل، الرباط-المغرب، 1989، ص 6-10.
2. ينظر: م.ن، 10.
3. ينظر: تزفيتان تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة: الصديق بو علام، دار الكلام، الرباط، 1993، ص 125.
4. ينظر: م.ن، 134.
5. ينظر: الدكتور سعيد علوش، سابق، 8.
6. ينظر: د. محمد تنفو، المرأة المتجردة “عجائب مائة ليلة وليلة”، دار رؤية، القاهرة، 2012، 38 ينقل عن جان بيار ريشارد، أحد أعلام النقد الموضوعاتي، توصيفه لهذا النوع من النقد وطبيعته.
7. ينظر: تودوروف، سابق.
8. محمد خضير، المملكة السوداء، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 2/1986، ص 78.
9. م.ن.
10. م.ن، 78-79.
11. م.ن، 88.
12. م.ن، 28.
13. م.ن، 21.
14. م.ن، 60.
15. م.ن، 83.
16. محمد خضير، في درجة 45 مئوي، منشورات الجمل، ألمانيا-بغداد، 2006، ص 113.
17. محمد خضير، رؤيا خريف، دار الرافدين، بيروت-لبنان، 2020، 38.
18. محمد خضير، المملكة السوداء، سابق، 88.
19. م.ن، 34.
20. م.ن. 93.
21. م.ن.
22. ينظر: م.ن، 18.
23. ينظر: م.ن، 19.
24. م.ن، 18-19.
25. م.ن، 20.
26. م.ن، 21.
27. محمد خضير، في درجة 45 مئوي، سابق، 40.
28. م.ن، 43.
29.م.ن، 48.
30. ينظر: الدكتور سعيد علوش، سابق، 11.
31. محمد خضير، في درجة 45 مئوي، سابق، 22.
32. م.ن، 24.
33. م.ن، 82.
34. م.ن، 84.
35. محمد خضير، رؤيا خريف، 65.
36. م.ن، 64.
37. م.ن، 97-98.
38. م.ن، 91.
39. م،ن، 105.
40. م.ن، 41.
41. محمد خضير، المملكة السوداء، سابق، 27.
42. م.ن، 40.
43. محمد خضير، رؤيا خريف، السابق، 42.
44. محمد خضير، المملكة السوداء، السابق، 130.
45. محمد خضير، المحجر، دار شهريار، البصرة، 2021، ص24.
46. م.ن، 62.
مصادر ومراجع:
تنفو: د. محمد، المرأة المتجردة “عجائب مائة ليلة وليلة”، دار رؤية، القاهرة، 2012.
تودوروف: تزفيتان، مدخل إلى الأدب العجائبي، ترجمة: الصديق بو علام، دار الكلام، الرباط، 1993.
خضير: محمد ،
رؤيا خريف، دار الرافدين، بيروت-لبنان، 2020، في درجة 45 مئوي، منشورات الجمل، ألمانيا-بغداد، 2006.
المحجر، دار شهريار، البصرة، 2021.
المملكة السوداء، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 2/1986.
علوش: الدكتور سعيد، النقد الموضوعاتي، شركة بابل، الرباط/المغرب، 1989.