تايجيرو – أماساوا، واحد من الأسماء الشعرية المعروفة جيدا في الوسط الشعري الياباني المعنى بالحداثة. وهو معروف أيضا لدى القراء اليابانيين بشكل جيد. شاعر ومثقف، حصل على أهم الجوائر الشعرية اليابانية. له أكثر من عشرين عملا شعريا، إضافة إلى أعمال الترجمة والتأليف التي تفوق هذا العدد. من بين أعماله الشعرية التي تذكر عادة بصفتها الأهم والأكثر تميزا مجموعتان "في بلاد الجحيم" و "اللامرئيون" وهو عضو في لجنة تحكيم جائزة "هاكيوارا – ساكتارو" الشعرية السنوية، يتسم حديثه حول الشعر الياباني بكثير من الحذر والتردد، ولا يريد ان يرى في هذا الشعر ما قد يرده مراقب خارجي، مثلي أنا كاتب هذه السطور على أنه شعر متأثر بالشعر الأوروبي والأمريكي إلى حد بعيد، ولا سيما مع الأجيال الجديدة التي تعرف غالبيتها لغة أجنبية أو لغتين. مع الحرص الشديد على إبقاء الطبيعة ومظاهرها موضوعة اساسية من موضوعاته، هذا إذا أمكن الحديث حول موضوعة واضحة ومحددة في هذا الشعر. لأن معظم شعرائه يحدثونك عن ضرورة تجاوز الموضوعات، ولا سيما التي عولجت وعولجت الى درجة الملل لاي شعراء قدامى يابانيين وغير يابانيين. مع بداية الألفية الثالثة، يكون الشعر الياباني الحديث قد أكمل مائة سنة تماما.لأنه، وبحسب اتفاق الجميع، رأى النور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، يعني أعمر من شعرنا العربي الحديث بخمسين عاما، وحول هذه المائة سنة من الحداثة الشعرية في اليابان، أردت أن يكون هذا الحوار مع شاعر شاهد على نفسه وعلى الآخرين، انه الشاعر تايجيرو- أماساوا الذي ولد في طوكيو بتاريخ 31-7-1938، وكنت قد أجريت حوارات مشابهة مع خمسة شعراء يابانيين آخرين نشرت كمقدمة لـ "ديوان الشعر الياباني الحديث" الذي طبع سنة 1994 بسوريا.
* لنعد إلى بدايات الشعر الياباني الحديث أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كيف توضحت تلك البدايات وهل لها علاقة بالغرب وبالثقافة الغربية؟
– كانت لدينا قبل وأثناء عصر ميجي (1870) صيغة أدبية واحدة لكتابة الشعر ولكتابة غيره، وهي الارتكاز على بنية بلاغية بيانية تقليدية، يعني صيغة اللغة كما هي متوارثة بقواعدها منذ مئات السنين. وإلى جانب ذلك كانت توجد اللغة المحكية، اللغة اليومية التي كانت الأغاني الشعبية التعبير الفني عنها، باختصار، كانت هناك لغة "البلاط الأدبي" ولغة الناس العاديين. ومع الانفتاح على العالم، أخذ عدد من الشعراء "المثقفين" بكتابة قصائد باللغة المحكية، لكن أحدا لم يكن يحترف بقيمتها الفنية، ولم تصنف داخل الدائرة الأدبية،.ثم جادت خلال العقد الأول من القرن العشرين 1900- 1910 نصوص الشعراء ميازاوا- كانجي، هاكيوارا- ساكتارو، يامامورا – بوشو، لتشهد على ولادة تقنية جديدة في الكتابة الشعرية أساسها اللغة المحكية. لقد استطاع هؤلاء الشعراء أن يطوروا، وانطلاقا من أسلوب الأغاني الشعبية، لغة تختلف في أدواتها وميزاتها عن اللغة اليابانية التقليدية ذات الجذور المعقدة والمحصورة في طبقة معينة، طبعا، كان هناك وقبل هؤلاء الشعراء، أخر ون أنتجوا نصوصا انطلاقا من الأغاني الشعبية واللغة المحكية، لكنهم لم يتوصلوا الى تقنية واضحة ومحددة.
*تريد القول إن الشعر الياباني الحديث ولد من اللغة اليابانية المحكية؟
– نعم. هوذا، وباكورة شعرنا الحديث هو الشاعر كيتاهارا- هاكشو. لقد كتب باللغة الأدبية التقليدية وباللغة المحكية، لكنه لم يتوصل إلى أسلوب يقف على قدميه إزاء اللغة الأدبية السائدة. وتبقى أهميته في كونه حاول الكتابة باللغة المحكية، أو باللغة الحديثة كما نسميها اليوم.
*لكن الم يكن للغرب وللاحتكاك بحضارة أخرى حقا مختلفة دور في ولادة الحداثة الشعرية اليابانية، كما هو الحال بالنسبة الى جوانب ومجالات أخرى متعددة؟
– ينبغي التمييز بين تاريخ الأدب وتاريخ اللغة، فللأدب تاريخه وسيرورته، وللغة تاريخها وسيرورتها، ولحس ضروريا أن يسيرا بشكل متواز دوما، التاريخ الأدبي، أو اللغة الأدبية تتأخر دوما في التطور عن التاريخ اللغوي، أو عن اللغة التي تشهد يوميا حركة، إضافة، شيئا ما ينضاف اليها، ينحذف منها، والشعر الجديد في جوهره ينطق باستمرار من هذه اللغة، صحيح أننا ترجمنا بودلير في نهاية القرن التاسع عشر، لكن هذه الترجمة لن يكون لها صدى وفاعلية وتأثير إلا بعد عدة عقود وتحديدا بعد الحرب الكونية الثانية. وصحيح أيضا أن بودلير يعني الحداثة الشعرية، لكن "هذه الحداثة" لم تتوضح في شعرنا بسرعة؟ لم نستطع فهم بودلير بهذه السرعة التي نتصور. أضف إلى أن الترجمة جاءت بلغة يابانية غير حديثة نهائيا، أي جاءت بتلك اللغة الأدبية التقليدية، لغة البلاط الأدبي. والترجمة، أية ترجمة، لا تأتي ثمارها في سنة النشر، كما قلت، بل بعد سنوات أو بعد عقود، تلك هي آلية فعل الترجمة.
*يبدو أنك تعيد الحداثة الشعرية اليابانية إلى اللغة المحكية واعادة صياغة هذه اللغة بأسلوب يختلف عن اللغة اليابانية التقليدية وينافسها ليحل محلها.. هل تبحثون، أنتم شعراء الحداثة اليابانية، عن جذور لشعركم داخل تراثكم الأدبي أيضا؟
– (صمت ثم همهمة ثم هز رأس)… بالنسبة إلي، بدأت الكتابة الشعرية، بعد الحرب الكونية الثانية. وتبدو لي الآن بداية القرن العشرين بعيدة وأبعد منها عصر مجيء ونهاية القرن التاسع عشر، لكن ما أريد قوله هو أن شعرنا الحديث بدأ في العقد الأول من القرن العشرين ومع الشعراء الذين ذكرتهم سابقا. وقد تأثرت أنا بهؤلاء.
*هل تعتبر حقا أن مياراوا- كانحي شاعر حديث
– نعم.
* ماذا كان يوحد قبله؟
– الأشياء التقليدية فقط. ومعه بدأ شيء جديد تماما شيء مختلف حقا.
*هل كتب الشعر بالصيغة التقليدية، هايكو أو تانكا؟
– نعم، لكن بطريقة جديدة، صحيح أن قصائده تعتمد الشكل التقليدي، لكنها ليست تقليدية بالمعنى الكامل للكلمة. كان يحب الطبيعة وكان يذهب الى الجبل ليقضي أياما عديدة، يعني كان يعتمد على تجربته الذاتية كمنبع أساسي لكتابته.
*هل كان يوجد آنذاك تقليديون يحاربون هدا التجديد داخل الأدب الياباني، وما هي التهم التي كانوا يوجهونها؟
-طبعا، طبعا. كان هناك تيار نقدي قاده ياسودا – يوجيرو- هذا الايديولوجي الوطني المعروف – فهو يهاجم حركة الشعر الحديث بلا تردد وبوضوح، ويتهم ميازاوا – كانجي بأنه ليس شاعرا ولا علاقة لما يكتب بالأدب الياباني، باستثناء الايقاع، أي ما هو جزء من التقاليد. ويصف الشعر الحديث بأنه بلا شكل ولا مضمون ولا معنى ولا ايديولوجية، وليست له أية جذور في التقاليد الشعرية اليابانية القديمة. يريد هذا الناقد إحياء الماضي البعيد إحياء لا لبس فيه ولا غموض.
*هل ترك تلامذة يتابعون خطاه؟
– نعم، ترك كثيرا، أذكر على سبيل المثال لا الحصر، صديقنا الشاعر أووكا- ماكوتو الذي تأثر بمقولاته جيدا أيام الشباب. لقد قرأه وعمل على مقولاته بجدية، مع أن اووكا- ماكوتو واحد من شعرائنا الحديثين المرموقين والذين يدافعون عن الحداثة الشعرية وينظرون لها. أذكر أيضا الروائي المعروف ميشيما، فهو الأخر قد تأثر كثيرا بمقولات ياسودا- يوجيرو النقدية. ومن الجدير بالذكر ان ياسودا- يوجيرو منظر ايديولوجي عام جدا على الصعيد الياباني.
*عندما تقول ايديولوجي، ماذا تعني؟
– أعني انه وطني متطرف، وفي الاربعينات، أي في سنوات الحرب الكونية الثانية، لعب دور المحرض على الحرب، كان يجيش التقليديين ويثيرهم ضد جميع من ليس في جهة. أراد من الأدب دورا سياسيا صارخا، وكان مع الحرب ضد الامريكان بشكل واضح، وحتى بعد الهزيمة، لم يتوقف عن النقد والهجوم، وعاش حتى منتصف الخمسينات.
*لنعد الى الشعر الياباني الحديث. بأي معنى هو حديث، وماذا غير داخل نسيج الحساسية الجمالية اليابانية، كي يخاف إلى هذا الحد التقليديون، وهل الكتابة باللغة المحكمة بدل اللغة الأدبية التقليدية يعني الانتقال الى الحداثة؟
– لا أفكر بهذه الطريقة، لكن أعني أقول لك شيئا: إن شعرنا الحديث حرر تماما فضاء الكتابة الشعرية، وحرر الشعر التقليدي تحريرا واضحا ولا عودة الى الوراء قطعا، حرره من ضرورات كثيرة.
*من أي شيء مثلا، من بنية قديمة، من ايقاع، من مفردات؟
– أولا من الايقاع والوزن، مع أن الشعراء الأوائل، أو الرواد، استمروا في استغلال مزايد الإيقاع بشكل أو بأخر، ومع الأجيال التالية انتهى الموضوع، ولم يعد هناك لا وزن ولا غيره من القديم.
* يعني على صعيد الشكل، صار الشعر حديثا، لكن ماذا تغير على أصعدة أخرى مختلفة، لأنك تعرف هذا الترابط بين الشكل والمضمون، فالشكل وحده لا يولد حديثا. هل يمكن القول أن الشعر الياباني الحديث حرر قديمه من هذا الموقف الحيادي تجاه الحياة الاجتماعية والحياة الفردية حالة الهايكو والتانكا- فصار سياسيا واجتماعيا، أي صارت له علاقة بحياة البشر وليست فقط بحياة الظواهر الطبيعية.
– حقا، لا أعرف، وأتساءل.، هل شعرنا الحديث هكذا فقط. لأن فيه – إضافة لما تقول – جوانب أخرى متعددة. شعرنا الحديث، إذا جاز القول، مشهدي، ذو نزعة رواقية، ذو نزعة ملازمة للعصر، ذو نزعة إيديولوجية… الخ هناك ظواهر أخرى عتم عليها.
*ما هي مثلا؟
– مثلا، على صعيد الحياة اليومية، هناك أشياء يومية تتموضع قوق "اليومية"، هذا الجانب، تم اخفاؤه، بسبب تأثير السياسي وطغيانه، وهناك أيضا التأثر بالسوريالية، لقد حررت هذه الأخيرة شعرنا من سطحية الوعي. قبل السوريالية، لم نكن نعرف كيف نستغل لا وعينا، لكن بفضل تأثيرنا، استطعنا الوصول إلى هامش كبير من الحرية، هناك شعراء تأثروا مباشرة بالسوريالية، أي احتكوا مباشرة بأعمالها ونتاجاتها، وقد تأثر بهؤلاء الشعراء جيل أخر، والواقع لا نستطيع أن نقول إننا سورياليون تماما.
*هذا ما يدور في ذهني الآن، هل يمكن للياباني أن يكون سورياليا، وكيف وبأي معنى، بعبارة أخرى هل يمكن أن يكون ميتافيريقيا وهو المعروف بحسيته المفرطة وارتباطه المفرط بالواقع وبالأشياء المحيطة به..؟
– لذلك أقول لسنا سورياليين تماما، يمكن وصف هذا الشاعر أو ذاك من بين "السورياليين" اليابانيين، بأنه فوق – طبيعي، أي سورناتيوريل، وليس "سورياليا"، أي فوق – واقعي. لم نفهم السوريالية بكامل أبعادها، وغالبية شعرائنا "السورياليين" هم داخل إطار الحساسية اليابانية التقليدية.
* ماذا تعني بالحساسية اليابانية التقليدية، وما هي الحساسية اليابانية الحديثة أو غير التقليدية؟
– يتعلق الأمر بنوع من المطابقة بين الشاعر الياباني والطبيعة، وليست الحالة كذلك بالنسبة إلى شاعر غربي حيث نجد انسانية ما تدخل في العلاقة مع الطبيعة، ليست هناك اية مطابقة حقيقية على طريقة الياباني. في الشعر الغربي، عموما، لا نجد طبيعة بالمعنى الياباني للكلمة، بل نجد انسانية وعلاقات إنسانية مع الطبيعة.
* لكن الشاعر الياباني الحديث، وعلى الرغم من التقدم التكنولوحي الحاصل في اليابان، لا يزال يحافظ على علاقة طيبة حدا مع الطبيعة، ويتحلى ذلك من حلال مفرداته وقاموسه اللغوي داخل نتاجه الشعري، على هذا الصعيد لا تزال الحساسية التقليدية هي السائدة والغالبة، ويبدو لي أن ما تغير فقط هو التخلي عن الايقاع والايجاز لصالح قصيدة غير موقعة وطويلة…؟
– صحيح أن الإيجاز هو الغالب في تراثنا، لكن لدينا قصائد طويلة أيضا، وموقعة تدعى "تشوكا" أي "نشيد طويل"، مورست فترة من الزمن، ثم توقفنا عن كتابتها منذ القرن الحادي عشر، واكتفينا بعد ذلك بصيغة الهايكو وصيغة التانكا، إلى أن بدأنا الشعر الحديث. واستغرب لماذا توقفنا عن كتابة ذلك النوع التقليدي كل هذه الفترة وحتى الآن مع أنه هو أصل الهايكو والتانكا، أي منه تم اجتزاء هاتين الصيغتين.
ف "التانكا" تعني "نشيدا قصيرا"، و "الهايكو" يعني "قصيدة مطلعية" وهو أقصر من التانكا، أعتقد أن الحساسية اليابانية تميل الى الايجاز أكثر، هكذا هجرنا "النشيد الطويل" إلى "نشيد قصير" إلى "نشيد مطلع" وأقصر…
*ما طبيعة هذه "الأناشيد الطويلة"، وما موضوعاتها الأساسية؟
– قصائد غنائية في غالبيتها، تتناول موضوعات مختلفة، تروى قصصا غرامية، فراق الدمار والأحبة… الخ.
* للياباني، ولا سيما الشعراء، ولع شديد بالخمرة الوطنية تحديدا، أي بالساكي، خمرة الرز، هل لديكم شعر خمريات كما لدينا نحن العرب؟
– تقصد على طريقة عمر الخيام؟
* مثلا.
– كلا. لا أعرف شاعرا كرس انتاجه أو جزءا من انتاجه للخمرة، على أن هذا التقليد موجود داخل الشعر الصيني الذي تأثرنا به كثيرا، ولا أعرف تفسيرا لانعدام الأمر.
*ما الموضوعات أو المسائل الأكثر تناولا داخل الشعر الياباني الحديث؟
– هذا سؤال شائك. وأميل إلى أن شعرنا الحديث تحرر من ضغط الموضوعات، أو ما يسمى بـ "التيمات". في بداياته انشغل كثيرا بهذه القضية وأكثر من اللازم. لذلك كانت تسهل دراسة الأعمال الشعرية على أساس تقسيم موضوعاتي. لكن اليوم، لم يعد الشاعر الحديث سجين الموضوعة. ولابد من تجاوز الموضوعات بشكل أو بأخر. صحيح أن الأدب عموما، وليس الشعر فقط، ينشغل بالموضوعات، لكن أعتقد أننا في شعرنا الحديث تجاوزنا الكثير من الموضوعات التي عولجت سابقا، ولذلك يصعب علي تقديم إجابة واضحة عن سؤالك. شعري مثلا، لم يعد خادما للموضوعة، أو مرتكزا عليها، أو عابرا فوقها. ولا أعتقد أن هذه هي حالة الكثير من الشعراء اليابانيين، وهناك من لا يتفقون معي حول هذه النقطة.
* أليس لهذا علاقة مع ما نواه في الشارع الياباني حيث نجد التخلي عن المعنى، أو حيث اللامعني، اللا موضوع هو جوهر الحياة اليومية اليابانية؟
– نعم. ربما. لكن القراء العاديين للشعر في اليابان، غالبا ما يقولون أن الشعر الحديث صعب جدا. ولا أفهم ماذا يقصدون، ربما يرغبون بإيجاد موضوعات داخل هذا الشعر، وليس هناك من موضوعات.
* لعلي أعيد هذه الصعوبة الى تأثر شعركم الحديث بالثقافة الغربية الميتافيزيقية، ويبدو لي أن الياباني لا يستطيع استيعاب ت.س.إليوت، مثلا، أو الاقتراب منه، كشاعر محمل بالأفكار التوحيدية المجردة.
– يصعب أن أوافق على ملاحظتك الآن. ربما تصح على شعراء ما بعد الحرب مباشرة، لكنها لا تصح على شعراء العقود الأخيرة للنصف الثاني من القرن العشرين. فالتأثيرات لم تعد ملموسة أو مرئية كما في السابق؟
* سابقا، كانت التأثيرات من حلال الترجمات أو المعرفة المباشرة باللغة لكن يبدو انها غيرت الدرب قليلا اليوم لتكون من خلال وسائل الاعلام المتطورة جدا بحيث لا نراها وهي تدخل وتستقر.
– ربما. لكن لا أرى هذا تماما، لا أستطيع النفي الكلي، ولا استطيع الموافقة كليا. حتى في بداية القرن، لم يكن التأثير واضحا جدا، تم إذا كان الشعراء اليوم لا يقرأ بعضهم بعضا، فكيف تريدهم أن يقرأوا الآخرين ويتأثروا بهم.
* ها أنتم تعودون مع الشعر الحديث الى النشيد الطويل غير الموقع هذه المرة وإلى جانبه صيغتا الهايكو والتانكا التقليديتان، أولا، لماذا برأيك لم تقترب هاتان الصيغتان من السياسة إطلاقا؟ ثانيا: في اليابان اليوم عدد هائل من شعرائهما، كيف تنظرون، أنتم شعراء الحداثة، إلى هؤلاء؟
– إن تناول الموضوعات السياسية أو ما شابه، يحتاج الى أشكال فنية طويلة نسبيا. ولذلك فان شكلي الهايكو والتانكا، وبسبب قصرهما، لا يناسبان، ربما هذا هو السبب، أما عن الشق الثاني من السؤال فإنني أقول لك: أنا نفسي مارست كتابة الهايكو والتانكا أيام الشباب مثل أي شاعر ياباني أخر. ولا أزال أذكر المعاناة التي لابد منها بسبب التفكير الدائم بالإيقاع. عالم هذين الشكلين ضيق جدا ويحتاج الى تركيز فائق والى صرامة، وكنت أشعر أنني سجين إيقاع لا غير.
* هل تعتبر شعراء الهايكو والتانكا اليوم شعراء حقا؟
– بصراحة، لا أعتبرهم شعراء، بل هم عبارة عن متخصصين بنظم الهايكو والتانكا، إنهم سجناء هذا العالم الضيق، عالم الإيقاع، لست ضدهم، ولكن ببساطة لا أعتبرهم شعراء، لا أقول إن الهايكو او التانكا ليس شعرا، ولكن الذين يمارسونهما اليوم ليسوا شعراء. حتى أنا، يحدث لي أحيانا أن أنظم قصائد هايكو تلبية لحنين ما في الداخل، لكن كتاب الهايكو المتخصصين، لن يعتبروها قصائد هايكو حقيقية.
* والحالة هذه، كيف تنظر إلى معلمي الهايكو القدامي: باشو، إيسا، بوزون وغيرهم؟
– هؤلاء شعراء بلا جدال، وشعراء كبار.
* إذن، القضية هي أن الشكل القديم لا يتماشى والحداثة…
– (صمت وهمهمة وهز رأس)… ومع ذلك، هناك اليوم بين هؤلاء المتخصصين بنظم الهايكو من ينجح أحيانا ويقدم شعرا لا يمكن أن يكون إلا هايكو. وذلك بعد كفاح مرير مع الشكل والإيقاع، نعم، هناك عدد من كتاب الهايكو الذين أنتجوا فعلا قصيدة هايكو حديثة…
* إذن أنت مع هايكو حديث أو هايكو حر؟
– هايكو حديث وهإيكو حر ليسا شيئا واحدا هناك تمايز واختلاف..
*ما معنى هايكو حديث؟
– يعني الإمساك بالحداثة مع بقائه هايكو، الاحتفاظ بهويته كـ.هايكو والتقاط الروح الحديثة …
*هل تقصد تغيير الموضوعات: الكلام على الأشياء الحديثة مثل الأجهزة التكنولوجية من كمبيوتر وغيره، بدل الكلام على الطبيعة ومظاهرها؟
– (ابتسامة عريضة)، لا يتعلق الأمر بهذه الموضوعات، بل بشكل ما للقول، للفهم والرؤيا…
* وما معنى الهايكو الحر؟
– نطلق هذا التعبير على قصائد الهايكو التي لا تتضمن "الكلمة الفصلية"، الكلمة الدالة على الزمن. فقصيدة الهايكو، كما تعلم، لابد أن تراعي هذه القاعدة الأساسية وقواعد أخرى ملازمة زيادة على الإيقاع، وعندما يتخلى الهايكو عن "الكلمة الفصلية" وعن وزنه المعروف يتحول إلى قصيدة صغيرة، وينتفي اسم "هايكو" عنه آنذاك.
* من الملاحظ أن تسمية "هايكو" صارت تطلق في أوروبا وفي أمريكا وفي أماكن أخرى من العالم على جميع القصائد القصيرة. وكنا قد تحدثنا، أنت وأنا، حول أن الهايكو لا يمكن أن يكون هايكو إلا باللغة اليابانية حصرا، وذلك لطبيعة خاصة جدا باللغة اليابانية. لكن ما يلفت الانتباه ظاهرة الجمعيات الامريكية والأوروبية التي تطلق على نفسها تسميات مثل: جمعية الهايكو الأمريكية، أو جمعية الهايكو الألمانية او الكندية، أو غير ذلك… وقد طالعت الكثير من منشورات هذه الجمعيات حيث نحد قصائد قصيرة لا تعالج إلا ظواهر الطبيعة، على الطريقة اليابانية، وفي كل قصيدة نجد الكلمة الدالة على الفصل وبعضا من روح الهايكو..
– (مقاطعا) أعرف ذلك، وحدث لي أن ناقشت بعض شعراء هذه الجمعيات، وهم مقتنعون أن الهايكو لا يمكن أن يكون هايكو إلا باللغة اليابانية، أما نصوصهم، فهي قصائد قصيرة لا غير، تحاكي شكل الهايكو من بعيد، وفيها لمحات وضربات جمالية رائعة، غير أنها تنتمي الى فضاء معرفي أخر لا علاقة له بالفضاء المعرفي الخاص بالهايكو. صحيح أن الهايكو قصيدة قصيرة جدا، وتبدو مغرية للتقليد والمحاكاة، لكن هذا ليس كل شيء: هناك "شيء ما" للهايكو لا يدركه إلا أبناء اللغة وشعراؤها.
هذا "الشيء"، هو الذي يجعل من الهايكو هايكو وليس شيئا أخر. يتعلق الأمر بالتقاط "نواة شعرية جوهرية" هذه "النواة الشعرية" هي واحدة من جوهريات الهايكو. ولابد من أن تكون واضحة وملموسة جدا داخل القصيدة، وترتبط ارتباطا عضويا بايقاع الهايكو، لذلك قلت أعلاه عن عالم الهايكو مغلق وساكن، وأنا لا أحب السكونية داخل الشعر…
* عندما تلح على الطابع الياباني وتقول عن هذه القصيدة أو عن تلك إنها ليست من الأفق الياباني، ماذا تقصد بهذا الأفق وهل أنت شاعر ياباني وبأي معنى؟
– يوجد داخل القصيدة، أية قصيدة، شيء ما يشي، أو يجب أن يشيء بيابانيتها أو بأجنبيتها، من خلال نفس العبارات وتركيب الكلمات، لابد أن نفهم، إذ ا كنا قراء شعر، من أي الأفاق هذه القصيدة أو تلك، هناك رموز ومفاتيح تكاد تكون غير مرئية، هي التي تدل على "الهوية"، وعندما أقول عن نفسي إنني شاعر ياباني، فذلك وربما لأنني أكتب باليابانية فقط، لكن قد أترجم إلى السويدية مثلا وقد أقرأ، وقد يترجم شاعر الهايكو الكبير ماتسو باشو إلى السويدية أيضا، لكن القارئ السويدي لن يصل الى النواة الشعرية التي عمل عليها باشو في قصيدته المكتوبة أساسا باليابانية.
* والحالة هذه، تعتبر اللغة هوية الشعر؟
– هناك نوع من الجسر، وقصائدي تستطيع عبوره، لذلك أنا شاعر ياباني، ولكن لست شاعرا يابانيا فقط ايضا.
* مع نهاية القرن العشرين، يكون الشعر الياباني الحديث قد أكمل دورة مائة سنة تماما، هل هناك شاعر- قمة نستطيع اعتباره أمير هدا الشعر، أو العلم الأبرر في هذا الشعر؟
– في الماضي كانت هناك قمم حقا بالنظر إلى ما يحيط، لكن اليوم، أي خلال مائة سنة، لا يوجد شاعر- قمة يمكن القول عنه انه أعظم الشعراء وأكبرهم، لدينا جبال شعرية كثيرة، لكنها متساوية متوازية. لا يوجد،أجبل فوجي،، شعري. (جبل فوجي أعلى قمة في اليابان، وهو الجبل المقدس)، نعم، لا اعتقد بوجود "جبل فوجي" شعري مرئي أكثر من الآخرين. صحيح أنني أحب جدا الشعراء الرواد الذين ذكرتهم في بداية الحديث، وقد تأثرت بهم أنا وغيري، لكنهم ليسوا جبالا أعلى من غيرهم وقد أفرزت السنوات اللاحقة شعراء آخرين من المستوى نفسه.
* ألا يوجد شعراء كبار الآن في اليابان، كما كان الأمر في السابق مع واحد مثل ماتسو باشو؟
– لا. لا أعتقد وهذه وجهة نظري على كل حال.
* لكن يوحد شعراء اصلاء، فأنت تميز بين الشاعر الكبير والشاعر الأصيل، على أساس أن الكبير ليس أصيلا بالضرورة.
– بالتأكيد لدينا شعراء أصلاء.. ولكي أوضح هذه الفكرة أعود بك الى القرن التاسع عشر وأقول: إذا كان فيكتور هيجو شاعرا وطنيا كبيرا، فإن بودلير كان شاعرا عالميا أصيلا، يعيش في مناطق الشعر القصوى، وهناك مسافة بين أن تكون أصيلا وبين أن تكون كبيرا.
* قراء الشعر الياباني الحديث لا يزدادون، أو هم في تناقص مستمر، ويبدو أن هذا لا ينطبق على قراء الهايكو والتانكا، هذه هي الشكوى التي أسمعها عندما ألتقي بواحد من شعراء الحداثة ونتناول موضوعة التواصل مع القراء، وكأن الأمر لا يتعلق بأي تغيير بعد مائة سنة.
– لا أعتقد ذلك، أو على الأقل هناك شعراء حديثون يباعون جيدا ويعيشون من نتاجاتهم الشعرية، لكن لابد من أن أشير هنا وبوضوح إلى أن اليابانيين توقفوا خلال العقد الأخير عن القراءة الشعرية، وهبطت المبيعات بشكل مرعب، سواء تعلق الأمر بالشعر الحديث أو بالشعر التقليدي. ويبدو لي أن السبب هو فقدان الياباني لمعرفته بنفسه معرفة واضحة. وهذا ما كان قد لاحظه بودلير عندما قال ما صحناه: يمكن أن تعيش بلا خبز يوميا، لكن لا تستطيع أن تعيش بلا شعر يوميا، وإذا قلت العكس، فذلك لأنك فقدت معرفتك بنفسك، ولم تعد تعرف من أنت.
* هذا هو الاتهام التقليدي والدائم للقارئ من قبل الشاعر الحديث سواء في اليابان أو في غيرها..
– أنا لا اتهم، ولكن (يضحك)، نعم، نعم وليكن، هذا اتهام.
* وهؤلاء القراء أنفسهم، لم ينقطوا عن مطالعة الهايكو..
– لا أعتقد أن الأمر كذلك، كل ما هنالك أن الذين يكتبون الهايكو في اليابان اليوم عددهم أكبر، ولا أحد يقرأهم إلا هم: يعني هم المنتجون والمستهلكون، "صناع" الهايكو، هم أنفسهم القراء لا أكثر ولا أقل.
* لكن هذا التشخيص ينطبق على شعراء الحداثة أيضا؟
– (يضحك، يضحك)، إن الوضع الآن أسوأ من هذا التشخيص وأسوأ مما تتصور، إذا كان جيلي قد تواصل مع ما قبله ومع بعضا البعض، فإن شعراء اليوم، ولا سيما الشباب، في قطيعة تامة مع من سبقهم ومع بعضهم البعض، ولا يقرأ أحدهم الأخر، وأتساءل بشيء من السخرية السوداء هل يقرأ أحدهم ما يكتب؟
* هذا يعني أن حالة "صناع" الهايكو و "صناع" التانكا أفضل بكثير من حالتكم، أنتم شراء الحداثة؟
– أنت تعرف أن "صناع" الهايكو يعيشون داخل جمعيات صغيرة ومتعددة، ولكل جمعية استاذ يدير الجلسات والاجتماعات وهذا تقيد هايكيوي قديم – حيث تتم قراءة ما نظم كل واحد. أثناء الجلسة فقط يقرأ بعضهم بعضا ويتواصلون، بهذا المعنى ربما وضعهم أفضل.
* أنتم أيضا لكم جمعيات واجتماعات دورية ودوريات منتظمة؟
– الأمر مختلف بالنسبة الينا، حيث لا يوجد "استاذ" بالمعنى التقليدي، يقرر صلاحية هذه القصيدة أو تلك وفقا لقواعد وقوانين محددة، نحن أحرار فيما نكتب، ويحدث أن يقرأ بعضنا قصيدة أو عدة قصائد في الاجتماعات، لكن ليس من أجل مناقشتها وإقرارها.
* لنتكلم قليلا حول تأثير الشعر الغربي والامريكي على الشعر الياباني الحديث، لأن غالبية الشعراء الذين التقيتهم يشيرون الى هذه النقطة؟
– إن الترجمات التي أنجزت، خلال النصف الأول من القرن العشرين، أعطت ثمارها الواضحة بعد الحرب الكونية الثانية مباشرة. هكذا ولدت جماعة شعرية اتخذت من قصيدة ت.س. إليوت "الأرض اليباب" اسما لها. وهب شعراؤها دورا بارزا في حركة شعرنا الحديث وكان تأثير ت.س. إليوت والشعر الأمريكي تحديدا واضحا جدا في أعمالهم الشعرية. ثم جاء بعد هذه الموجة، شعراء آخرون، مثل صديقنا الشاعر أووكا- ماكوتو، ليفصحوا عن تأثرهم بالشعر الفرنسي، لكن ليس بالوضوح نفسه.
* بالمناسبة، وعلى ذكر أووكا- ماكوتو، هذا الشاعر الحديث والمحامي عن الحداثة الشعرية في اليابان، والذي كنت قد ترجمت له كتابين الى الحربية، كيف يمكن تفسير زاويته اليومية في جريدة "أساهي"، فهو منذ حوالي عشرين سنة يختار قصيدة هايكو قديمة أو معاصرة ويعلق عليها مشيرا إلى نواتها الشعرية، ولم يحدث أن اختار قصيدة حديثة واحدة، أو معاصرة من قصيدة حديثة، وفي الوقت نفسه لم ينقطع عن نشر نتاجه الشعري الحديث إما على شكل مجموعات أو في الدوريات المتخصصة؟
– هذه إشكالية نعاني منها وندفع ثمنها، أنا الأخر كرست، ولا أزال، وقتا طويلا لتحقيق ونشر أعمال شعراء قدامي، ولهذا السبب نترض لهجوم الاجيال الجديدة، لعلك تحرف شاعرا اسمه أراكاوا- يوجي (طبعا أعرفه، وله قصيدة أو قصيدتان داخل ديوان الشعر الياباني الحديث الذي نشر- بالعربية سنة 1994، والتقيت به مرتين بالمصادفة أثناء لقاءات شعرية موسعة، وهو من مواليد 1949) لقد أعطى في بداية هذا شهر ديسمبر (كانون الأول 1999) محاضرة في جامعتي حول الشعر الياباني الحديث، ما له وما عليه، وهاجم أووكا- ماكوتو لهذا السبب تحديدا مؤكدا أن الشاعر يجب الا يبذر طاقته في موضوعات قديمة وسانحة. وما يقوم به أو وكا- ماكوتو يحرم الجيل الجديد من خصوصيته التي يجب أن يصل إليها عبر تجربته الذاتية. أما أنا فأعتقد أن أووكا- ماكوتو لا يزال – وتحديد: في زاويته اليومية المذكورة – سجين تأثره بالناقد ياسودا- يوجيرو الذي كان، كما أشرت سابقا، ضد الحداثة الشعرية بكل أشكالها ومع الحفاظ على التقاليد الجمالية بكل أشكالها أيضا، ولابد أن قراءة أووكا- ماكوتو له أيام الشباب قد اثمرت عندما أصبح أووكا شاعرا معروفا.
* يبدو لي أنك الآن ضد إحياء الماضي؟
– قلت لك إنني أجل تراث الهايكو وأجل شعراءه القدامي، أما اليوم ونحن على بعد ثلاثة أيام فقط من الألفية الثالثة (أجري هذا الحوار بتاريخ 27-12-1999)، لا أعرف ما الذي تقدمه العودة إلى الماضي، ينبغي الا نهتم بالماضي كل هذا الاهتمام، أحترم أووكا- ماكوتو وأحب أعماله الشعرية ولكن أريد أن أقول له: يا سيد أووكا، لا ينبغي الاهتمام بالماضي إلى هذه الدرجة، إنني في النهاية ضد هذه العودة، على الرغم مما كرسته لأعمال قديمة من وقتي وطاقتي.
* لكن هنا يشرح سؤال لابد منه وهو سؤال واقعي: حاجات القراء الجمالية، من يشبعها. إذا لم يستطع الشعر الحديث القيام بذلك فلم لا نترك المهمة للشعر القديم، أي للهايكو والتانكا؟
– لكن المشكلة هي أن الشباب اليوم لا يهتمون لا بالشعر القديم ولا بالشعر الحديث طبعا، لقد فقدوا العلاقة أو الرابط بين الشعر والحساسية الحديثة، لذلك أردت القول إن الشعر الحديث، والحديث حقا، هو الذي يقوم بتحضير أرضية جديدة لدخول الألفية الثالثة بإحساس مختلف وجديد، ونحن شعراء الحداثة نستشرف الأفاق ونرى المستقبل.
* مقولة استشراف الأفق ورؤية المستقبل ليست يابانية حدا، بل هي بالأحرى غربية. فالحساسية اليابانية، كما عرفتها وخبرتها ولا أزال، تقوم في التركيز على الحاضر، ولا يعنيها موضوع "الرائي" كثيرا؟
– لا اتفق معك، وموضوعة الرؤيا ليست خاصية غربية. لدينا في شعرنا القديم، ولا سيما لدى ماتسو باشو، قصائد هايكو رؤيوية بامتياز، ولدينا قصائد حرة قديمة مماثلة، تحديدا لدى شاعر مثل ميازاوا- كانجي في بداية القرن العشرين.
* كيف تفسر انقطاع الأجيال الجديدة عن قراءة الشعر، هل هو الازدهار الاقتصادي الهائل لليابان، هل هي الحداثة وبجميع أشكالها، هل يكتفي الياباني اليوم بالحساسية المالية، بالنقود، بحضارة المتعة والاستهلاك؟
– فقد اليابانيون، ولاسيما الشباب، البوصلة، بوصلة المستقبل: لا هدف واضحا، ولا غاية واضحة، لماذا الحياة، لماذا العيش، وما معنى أن أعيش، هذه هي أسئلة الياباني اليوم. إنها أسئلة الفتيان تحديدا، الفتيان الذين لم يعد لديهم أحلام، وعندما تطرح السؤال: ماذا تريد أن تعمل أو أن تكون في المستقبل، يجيبك بلا تردد لا شيء، أريد فقط أن أعيش طويلا، وليست عندي أية طموحات.
* ما الأسباب؟
– سؤال معقد وصعب ولا أعرف الإجابة. لكن أعتقد أن ذهنية الشباب تتقاطع مع وضعية شعرنا الحديث. تمزق وضياع.
* ربما تحتاجون إلى حروب جديدة، فالحروب مخرج من هذا المأزق، ومع الحرب نجد أهدافا وغايات دائما؟
– (يضحك، يضحك)… ربما، فهناك شباب يرغبون. فعلا بافتعال حرب اية حرب لخروج من مأزقهم الذاتية، ليجدوا معنى لحياتهم ولكنهم في الوقت نفسه حريصون جدا على الرفاهية التي تنعم بها اليابان وينعمون بها هم أيضا ولا يريدون أز يفقد وها، أنام جيدا، أكل جيدا، أشرب جيدا، أسافر، أفعل ما أريد… الخ، ولكن عندما سأكون راشدا بعد عقد أو عقدين،سوف لن يبقى شيء ممتع، سوف أكون قد أتيت على جميع المتع، وسأعيدها بالطريقة عينها، وهذا ما يقلقني… ذلك هو لسان حال الشباب اليوم. وقد وجه سؤال الى مجموعة من الشباب: هل لديك ما تقوله للراشدين الآن؟ وكان الجواب: لا شيء، ولا يعنون لي شيئا، فليفعلوا ما يريدون… أعتقد أن الازدهار المادي هو السبب فالشباب أخذوا يدركون لوحدهم أن الثراء لا يقود الى السعادة. تصور، حتى الشابات أيضا، لا يردن الزواج ويردن العيش هكذا بلا أطفال، يا إلهي، ماذا سيحدث لليابان، وكيف ستكون في المستقبل (يضحك، يضحك).
* هل لديك ذكريات عن الحرب الكونية الثانية؟
– نعم. كنت في منشوريا من 39- 1946. أي كنت طفلا عندما دعي أبي إلى الاحتياط وسافرت عائلتي بالكامل معه الى هناك. ولا أزال أذكر كيف كان يتم اعدام الجنود الصينيين في محيط البيت الذي كنا نسكنه.
* آنذاك، كان الأمبراطور إلها، وكانت الحرب باسمه، هل كنت تعبد الامبراطور؟
– كان عمري وقتها ثمانية أعوام، ولم أكن أفهم هذا الموضوع، لكن الآن، وبعد أن كبرت لم يحدث لي أن اعتقدت بأنه إله.
* ألم تتعلم مثلا من والديك، من محيطك العائلي، تقاليد تأليه الامبراطور؟
– لم يعلمني والداي هذا، ولم يقولا شر مماثلا، لكن في المدرسة كانت تعلق على الجدار صورة كبيرة له، وكان علينا أن نحييها وننحني أمامها. ولكن لم أعتقد بألوهيته ولا مرة.
* أبدا، أبدا؟
– أبدا.
* عندما تكون خارج الهابان ويطرح عليك السؤال: ماذا تعبدون في بلادكم، ما هو كتابكم المقدس، كيف تجيب؟
– منذ طفولتي، لم أؤمن بشيء، ولا أعتقد بشيء، فلا أجيب.
* حقا لا تؤمن بشيء؟
– حقا.
* لكن والموت وما بعده، الا تخاف من هذا الموضوع؟
– (صمت طويل وهمهمة) نعم أخاف.
* لم وأنت غير مؤمن بشيء؟
– ها، هوذا سؤالك إذن. بعد الموت سأعود الى اللاشيء. عندما كنت في سن العشرين كنت أخاف الموت خوفا بك حدود.
* هل تعتقد بوجود حياة أو شيء ما بعد الموت؟
– لا أعتقد.
* هل تعتقد مثل غالبية اليابانيين، أنك بعد الموت ستكون وردة، أو شجرة، أو قطرة ماء… الخ.
– لا، لا أعتقد، وأنت هل تؤمن بوجود شيء بعد الموت؟
* نعم. أنا أعتقد بوجود شيء بعد الموت، وإلا لن يكون الأمر ممتعا، لا نموت من أجل أن نموت فقط، لكن أنت سوف تصير الى اللاشيء، إلى العدم، ما هو هذا اللاشيء، هذا العدم؟
– يعني عندما أنام الآن سوف أستيقظ ثم أنام ثم أستيقظ إلى أخره، لكن عندما أموت فلن أستيقظ أبدا (قهقهة عالية).
* أريد أن أختم هذا الحوار معك بدردشة حول موضوع أدهشني ولا يزال. في سنة 1985 نشرت الشاعرة المعروفة تاوارا- ماتشي- وآنذاك لم تكن معروفة وكانت في بداية الطريق – ديوانا عنوانه "عيد ميلاد السلطة"، وهو من فئة الشعر التقليدي الذي يعتمد شكل التانكا الموزون. وقد بيع منه سنة نشره فقط أكثر من خمسة ملايين نسخة ولابد من أن هذا الرقم قد تضاعف من حينها حتى الآن، ومنذ سنة أيضا تكرر الأمر مع ديوان جديد لها حول الشكولاته، ورأيت بالعين المجردة كيف يقف الناس بالدور على باب إحدى المكتبات لشراء ديوانها الجديد، كيف تفسر ذلك؟
– ببساطة، لأن قصائدها ذات الإيقاع التقليدي، تعكس جيدا المظهر الخارجي لذهنية الياباني الحديثة، تعبر جيدا عن سطح هذه الذهنية. ومن السهل فهم هذه الكتابة، لا أكره قصائد تاوارا ماتشي، لكن لا أستطيع أن أقدرها كثيرا. ثم إن تاوارا – ماتشي ليست فريدة من نوعها، وهناك من سبقها الى هذا التوجه الجديد داخل قصيدة التانكا:
* ألا تعتقد أن الياباني يريد رفاهية الحداثة على صعيد الحياة اليومية، لكنه يريد بالمقابل الاحتفاظ بالذوق التقليدي على صعيد الحياة الخفية أو الروحية الداخلية؟
– يتعلق الأمر بالأحرى بسهولة قصيدة التانكا. سهولة كتابتها وسهولة فهمها بالنسبة إلى الياباني، من المؤكد أن إيقاع قصيدة التانكا هو إيقاع تقليدي، لكن الموضوعات التي اعتمدتها تاوارا – ماتشي هي الظاهر الخارجية في الحياة الحديثة، يعني سطح هذه الحياة، هي حقا موضوعات مرئية وملموسة ومن السهل فهمها.
* يعني هناك توافق ما بين الماضي- الايقاع وبين الحاضر- السطح؟
– نعم. هوذا.
* يبدو أن الياباني يحب المظاهر الخارجية، أو السطح، ولا يحب الأشياء العميقة أو الداخلية أو المركبة أو ما لا يراه…؟
– نعم، أنا موافق تماما.
* لكن هل تحب، أنت أيضا كياباني، المظاهر الخارجية، أو السطح، لأن الغوص إلى الأعماق، يأخذ وقتا ويتعب…؟
– (ضحكة طويلة).. على الرغم مما قلت. أعلاه، غير أني أقدر جيدا آلية عمل السطح ووظيفة المظاهر الخارجية لأنها تحتوي على كثير من الإشارات والعلامات الدالة التي تعكس الحميمية والعمق في الأشياء والعالم. للمظهر الخارجي، أو للسطح تعبيرا الخاص، وعلينا الا نهمل هذا الجانب في حياتنا الإنسانية.
* ألا يتناول الشعر الحديث هذا الجانب، أو هذا السطح؟
– ليس كما يجب، ولذلك لا يحب الناس قراءة الشعر الحديث. فهم لا يجدون فيه المظاهر الخارجية لذهنيتهم، لحياتهم الحديثة.
* وهل يمكن لتقنية الشعر الحديث، غير الموزونة وغير الموقعة، أن تتناول هذا السطح ببساطة ونجاح دون الوقوع في فخ النثرية المباشرة؟
– إذا استطعنا أن نقول هذا، فذلك يعني أن الحداثة الشعرية اليابانية لم تنضج بعد، وكذلك شعراء الحداثة لم ينضجوا هم أيضا. إن الاهتمام بالسطح والمظهر الخارجي، جزء من الحداثة في نظري، وإهمالا يقود إلى الاتجاه المعاكس، فنحن إما أن نزدري هذا السطح جدا، وإما أن نتعلق به جدا.
لقاء أجراه: محمد عضيمة (شاعر ومترجم سوري يقيم في طوكيو)