1- تمهيد:
يُؤْثَرُ عن الشيخ محمد عبده قوله: «أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال ببالي من السياسة، ومن كل أرض تُذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلّم أو يتعلّم أو يُجَنّ أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس»(2).
وعلى الرغم من كره الشيخ للسياسة وعوالمها، ونفوره من كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد، تبقى قدراً لازباً يلقي بجرانه الثقيل على كل مظهر من مظاهر حياة الإنسان: من دين وعلم وفن وأدب.
وللشعر بالسياسة علاقة خاصة، كانت في أوج متانتها قديماً، وأصابها شيء من الوهن حديثاً، لكنها بقيت منعقدة طوال التاريخ. قويت عندما كان الشعر بوقاً للسلطة وخصومها على حد سواء، ينفخ فيه شعراء كل فريق سعياً إلى تمجيد قادتهم، وإعلاء شأن دعواتهم، واعتبارهم واعتبارها ضرورة إلهية تاريخية. وضعفت عندما غرق الشاعر في هموم ذاته، وانغمس في استبطان تيارات نفسه.
والشاعر العماني في عصره الحديث ليس بمنأى عن السياسة. خاض ميادينها طوراً، فكان فارساً من فرسان حلبتها، وراقبها من بعيد طوراً، فكان ناقداً مقيِّماً إيجاباً أو سلباً، واعتزلها طوراً، فانصرف إلى مشاغل يومه وهواجس نفسه.
وللشعر العماني، في اقترابه من ساحات السياسة، وفي اشتغاله بهمومها، أساليب تعبيرية متنوعة، نحاول أن نسلط الضوء عليها في هذه الورقة.
2- أساليب التعبير السياسي:
من خلال نظرة موسعة نسبيا في النتاج الشعري العماني الحديث، بدا لنا أن هناك أسلوبين أساسيين لجأ إليهما الشعراء في التعبير عن الهم السياسي، وتحت كل منهما يندرج عدد من الأساليب الفرعية.
أول الأسلوبين هو الأسلوب المباشر، وتندرج فيه القصيدة الاستنهاضية، والقصيدة الوطنية، والقصيدة الناقدة.
وثاني الأسلوبين هو الأسلوب غير المباشر، وفيه القصيدة القناع، والقصيدة ذات النفس الأسطوري.
2-1: الأسلوب المباشر:
قضية المباشرة وعدمها، بكل تأكيد، قضية نسبية. فما يُعَدُّ مباشراً في سياق، لا يعد كذلك في سياق آخر. والأدب بشكل عام غير مباشر في طرح رؤاه ومواقفه مقارنة بالعلم. وقد يكون الشعرُ أوغلَ في عدم المباشرة من غيره من الأجناس الأدبية. ومع ذلك، يمكننا في إطار الشعر أن نجد قصائد صريحة في مراميها، واضحة في تعبيراتها، تسلمنا أنفسها منذ أول بيت فيها، لا تتأبى ولا تتمنع، وإنما تتوخى التأثير فينا. وفي المقابل نجد قصائد أخرى غامضة، توصد أبوابها دوننا، فلا تسمح لنا بالدخول إلا بعد طرق دؤوب، ولا نهتدي السبيل في مسالكها إلا بعد جهد جهيد. وجليٌّ أنه في وسعنا نسبة الصنف الأول من هذه القصائد إلى الأسلوب المباشر، والأخرى إلى الأسلوب غير المباشر.
وبهذا التوضيح لمفهوم المباشرة، تجد قسمتنا المقترحة معناها ومسوغها.
وكما أشرنا سابقاً، نجد في نطاق الأسلوب المباشر القصيدة الاستنهاضية، والوطنية، والناقدة. وسنقف فيما يلي على كل واحدة منها.
2-1-1: القصيدة الاستنهاضية:
تُعْنى القصائد الاستنهاضية بالشأن السياسي عناية مباشرة، فهي دعوة إلى نصرة توجه سياسي على توجه سياسي آخر. وقد شهد العصر الحديث في عمان صراعاً بين الإمام ومؤيديه من جهة، والسلطان وأتباعه من جهة أخرى. وقد انخرط الشعراء في هذا الصراع إما لهذا الطرف أو ذاك، ومن أبرزهم أبو مسلم البهلاني عَلَمُ القصائد الاستنهاضية في عمان بلا منازع. كتب أبو مسلم عدداً من القصائد يستنهض فيها القبائل العمانية لنصرة الإمام سالم بن راشد الخروصي. وتتميز قصائده تلك بطول النفس، فهي تعد بمئات الأبيات، وتحتفظ في الوقت نفسه بدرجة عالية من الشعرية، حيث السبك المحكم، والبيان الناصع، والخيال الخصب، والعاطفة المشبوبة. وهي بشكل عام تنتهج مبادئ عمود الشعر العربي، التي أحياها شعراء عصر النهضة من أمثال شوقي وحافظ والبارودي، ويعد أبو مسلم واحداً من قممهم، وإن لم يحظَ بما يستحقه من الدرس والاهتمام الإعلامي خارج عمان.
وأشهر استنهاضيات أبي مسلم أربع:
النونية:
تلكَ البوارقُ حاديهِنَّ مرنانُ
فما لطرفِكَ يا ذا الشجوِ وسنانُ
والعينية:
ألا هلْ لداعي اللهِ في الأرضِ سامع
فإني بأمرِ الله يا قومُ صادعُ
والمقصورة:
تلكَ ربوعُ الحيِّ في سَفْحِ النَّقَا
تلوحُ كالأطلالِ من جد البِلى
والميمية:
معاهدَ تذكاري سقتكِ الغمائمُ
مُلِثًّا متى يقلعْ تلته سواجمُ
وكلها من عيون الشعر العماني على امتداد عصوره، بل كلُّ واحدة منها كفيلةٌ بحفظ مكانة رفيعة لصاحبها في سماء الأدب ولو لم يكن له غيرها. ونورد من ميميته أبياتاً يمدح فيها علماء الدين ورجاله:
ولا داهنوا في الدينِ من أجل مطمعٍ
يسيلُ به أنفٌ من الكِبْرِ وارمُ
ترامَوا على القرآنِ شُرباً لمائِهِ
فأصْدَرَهُمْ والكلُّ ريَّانُ هائِمُ
مُقَدَّسَةٌ ألبابُهم ونفوسُهم
وأفعالُهم والمنتحى والعزائِمُ
لهم قَدَمٌ في الاستقامةِ ثابتٌ
وهَمٌّ على الإخلاصِ للهِ قائمُ
وأيدٍ عن الدنيا قصارٌ قواصرٌ
وفوقَ أعاديهم طوالٌ قواصمُ
ومن قصائد الاستنهاض الجميلة، قصيدةٌ للشيخ أبي سلام الكندي، نقرأ فيها:
عمانُ انهضي واستنهضي الشرقَ والغَرْبا ولا تقعُدي واستصحِبي الصارمَ العضبا
عمانُ اصرخي واستصرخي كلَّ باسلٍ
كَمِيٍّ يجيدُ الطعنَ والرميَ والضربـــا
عمانُ انهضي إنَّا رجالُكِ هَمُّنا طِلابُ العُلا ما نبتغي غيرَه كَسْبـــا
2-1-2: القصيدة الوطنية:
القصيدة الوطنية بالمفهوم المتعارف عليه هي تلك التي تتغنى بحب الوطن، وتفتخر بأمجاده، وكثيراً ما يرافقها مدح للنظام السياسي القائم، وهي من هذه الناحية تتصل بالسياسة. وقليل من القصائد الوطنية في العصر الحديث حقق شروطاً فنية جيدة، كبعض قصائد سالم بن علي الكلباني، أما الأغلبية فقد كانت أقرب إلى التقارير الرسمية، إذ تنشغل برصد منجزات النهضة من نشر للتعليم والصحة وبسط للأمن وإنشاء للطرق والمواصلات وغير ذلك. ومن القصائد الجميلة ذات المستوى الفني العالي قصيدة سالم بن علي الكلباني:
عمانُ اسعدي إنا ضَمِنَّا لك السعدا وطوفي بآفاقِ العُلا كوكبًا فردا
لقد أبتِ الأقدارُ يا معهدَ الإبا لعِزِّكَ أن يلقى لسلطانه ندا
عمان أيا لحنا بحنجرة العلا
ويا بحر جود موجه لم يزل مدا
عمان عمان العز والبأس والندى ومهد البطولات التي تخلق المجدا
عمان وما أحلى عمان بمسمعي تصب بها الأفواه في خاطري شهدا
2-1-3: القصيدة الناقدة:
إن تدهور الوضع العربي الراهن، ومن الناحية السياسية على وجه الخصوص، حَمَل العديد من المفكرين والباحثين والأدباء على نقده نقداً لاذعاً. وكان لبعض الشعراء العمانيين نصيب من عملية النقد هذه، نقرأ مثلاً لناصر البدري:
يا أمةَ العُرْبِ يَكْفي خَدَّنا قُبَلٌ
فالجسمُ مقبرةٌ بالعارِ تغتسلُ
في عالمِ الغدْرِ لا عَدْلٌ يرافقُنا
إلا الذي في حِمى الأنذال يبتهلُ
علمتِني يا ضنى الأقدارِ ملحمةً
أبطالُها القهرُ والتشريدُ والدجلُ(3)
ونقرأ للشاعر خميس قلم في قصيدة «من سفر الوجع»(4) ما يمكن أن يمثل مراجعةً للذاتِ الجمعية، وثورةً على ماضيها وحاضرها، ودعوةً للأخذ بأسباب القوة العصرية:
والسور
والبلد المسحور
وحصنه المهجور
يا أيها الإنسان لا تكابر
كم في ذرى الأمجاد من مقابر
يرقع التاريخ منها جسده
وينشر الزمان فيها مدده
يخاتل التراب جوقة المحاجر
وينبش الضمير ما يندس في
مزابل الصدور
والجوع
والكاهل المخلوع
والقلق النابت بين غابة
الضلوع
إنا نذوب في انتظار شيخنا
المهدي كالشموع
ونرهن الفأس لإسرائيل
والقلوع
ثم نقول إننا نجوع
فأي ذنب قد جنينا
أيها الجموع
يوم تركنا الجسر يهذي خلفنا
يستنفر الرجوع
ما أسهل الدموع!
ما أسهل الدموع!
والخصائص الفنية لهذا النوع من القصائد مختلفة من شاعر إلى آخر، فقصيدة البدري المشار إليها من النوع الخطابي الرنَّان، حيث العبارات الصارخة المستفادة من أسلوب النداء، والاستفهام الاستنكاري، وأشباهها، وحيث الصور المستفزة، القائمة على تضخيم حجم الهزيمة العربية الراهنة. أما قصيدة خميس قلم فقائمة على محاكاة الأسلوب القرآني بطريقة ساخرة تكشف عن عورات الوضع العربي وتضع اليد على أسبابه، ومحاكاة الأسلوب القرآني تحتمل تأويلات عدة، فقد تكون انتقاداً ضمنياً لسيطرة التيار الديني على النواحي المعرفية للأمة العربية، وقد تكون إشارة إلى أننا بحاجة إلى ما يشبه النبوة الجديدة لتنقذنا من براثن الوضع الحالي، وقد تحتمل تأويلات أخرى عديدة.
2-2: الأسلوب غير المباشر:
وهو يستقي من قيم الحداثة الشعرية التي ثارت على ثنائية (الفكرة+الصورة)، واكتفت بالصورة وسيلة أحادية ترمز، وتومئ، وتلمح، بعيداً عن أي تصريح أو تقرير. وعملت كذلك على التكثيف والإيجاز من جهة، وخلق فجوات دلالية من جهة أخرى، على نحو يؤسس لظاهرة الغموض وانفتاح الفضاء الدلالي للنص.
وفي نطاق هذا الأسلوب نقف على القصيدة القناع، والقصيدة ذات النفس الملحمي الأسطوري.
2-2-1: القصيدة القناع:
وهي باختصار قصيدة تبنى على شخصية تاريخية ذات خصوصية، يحاول الشاعر أن يعيد تقديمها بما يفجر طاقاتها الرمزية والدلالية. ويغلب عليها الطابع الدرامي، بما يتطلبه من حوار وتطور في الأحداث وتأزم. وتسمى القناع لأن الشاعر فيها يختبئ خلف الشخصية التاريخية فيتكلم بصوتها، ويعبر عن مواقفه الفكرية أو السياسية من خلالها.
والقصيدة الأبرز في هذا المجال، قصيدة «صهيل فرس حروري»، لعبد الله المعمري. وهي بحق مَعْلَمٌ من معالم الشعر العماني الحديث، بما توفَّر لها من شعرية عالية قائمة على توظيف أساليب فنية حديثة.
يكرِّسُ الشاعر نصه لتناول شخصية تاريخية تتمثل خصوصيتها في «الخروج على بني أمية». إنها شخصية «أبي بلال مرداس بن أدية التميمي». ولا يخفى ما لسمة الخروج على السلطة القائمة (المستبدة، الغاشمة) من أهمية في عصرنا الحديث، حيث الدعوات إلى التمرد على أنظمة الحكم (الشمولية) تنطلق من جهات متعددة، وحيث الديموقراطية (التي تلتقي مع بعض مبادئ الخوارج) هي النظام السياسي الذي يحظى بالسمعة الأفضل بين أنظمة الحكم القائمة، والنظام الذي تعتقد قطاعات كبيرة من البشرية أنه قادر على تأمين شروط المجتمع الإنساني «الفاضل».
ولن أتوقف هنا لتحليل القصيدة فنيًّا من مختلف جوانبها، وهي ثرية، وأكتفي بالإشارة إلى أن اختباء الشاعر وراء الشخصية التاريخية يتجلى من خلال مراوحته بين ضمير المخاطب، الموجه إلى أبي بلال التميمي، وضمير المتكلم العائد على الشاعر، في مواضع، ومن خلال تداخل الأصوات، وتبادل الأدوار، في مواضع أخرى، على نحوٍ يُظهرُ الثائرَ منقلبًا إلى حياة الشاعر، والشاعرَ سائراً على درب الثائر، ولعل هذا المقطع يجسِّد هذه النقطة جليًّا:
تعرف اللحظة أن لا شيء عندك
غير السؤال المخبأ
ولا حكم إلا لسيف ابن هند
تكتب وجهك بين السطور
وتختم سطرك بالشمع
تصلي على أضلع النهروان
وتذكر قتلاك
تبكي
تفتش عن حافر لا يقول: الخليفة
وجه الحقيقة يعطي ويمنع
وتختم وجهك بالشمع
وتفقد وجهك في زحمة العابرين
يصير الزمان نساء
وأنخاب ليلة سكر
وتقضي مساءك مع ذئبة
تقامر بالروح في لحظة خاسرة
…………
(رأسك الآن ثقيل
ككأس معد
فارغ….
كقنينة الليلة الفائتة)(5)
وعلى الرغم من أن هذا المقطع مبني على ضمير المخاطب (الموجه إلى أبي بلال)، إلا أنه يوحِّد بين الشخصية التاريخية وشخصية الشاعر، عن طريق إسناد بعض صفات الثاني وممارساته إلى الأول، ويبدأ هذا التداخل بين الشخصيتين عند جملة (وتفقد وجهك في زحمة العابرين)، وما يليها.
ويتمثل الجانب السياسي في القصيدة في الدعوة الضمنية، سواء قصد الشاعر أم لم يقصد، إلى الثورة على كل أشكال الظلم والقمع والحكم الاستبدادي:
حروراء
ضمي أصابع كفي
سأعلن بعث الرصاصة(6).
2-2-2: القصيدة ذات النفس الأسطوري:
ورائد هذا الاتجاه هو سيف الرحبي، ولاسيما في دواوينه الأولى: نورسة الجنون، الجبل الأخضر، أجراس القطيعة. إن سيف الرحبي في هذه المجموعات ينظر إلى الكون نظرةً ذات طابع أسطوري، أي أنه يرسم مشاهد كونية خيالية شبيهة بتلك التي نقرؤها في الأساطير، وشبيهة أحيانا أخرى بما نراه في الرسوم المتحركة، حيث لا رقابة على الخيال، وحيث كل شيء جائز ومحتمل، وهذه المشاهد الأسطورية تنتشر في نسيج معظم قصائد هذه المرحلة، وتمثل مصدرا أساسيا من مصادر فتنتها وجمالها الأخاذ. ومن الأمثلة عليها، هذا المقطع من قصيدة «امرأة الانهيارات السعيدة»:
في قصرها بين تلال الفصول القتيلة
تحرك شعرها بأصابع النار
وكانت مخلوقات الغيم تطلُّ
من شرفاتها، متمرغة فيما يشبه دخان الشهوة.
حيث نتخيل امرأة فاتنة تتربع على عرش الطبيعة، أصابعها متوهجة كالنار تحرك بها شعرها فتنثره في الفضاء، وَتَرِدُ على خيالنا بفعل هذه المنبهات النصية صورة مضمونها أن الرياح والعواصف ليست سوى نتاج حركة شعر الأميرة، أو أن الرياح والعواصف هي نفسها شعر الأميرة المتخفية، وعلى هذا النحو يتعاضد خيال الشاعر مع خيال المتلقي في صنع خيال فريد أخاذ. واقرأ هذا المقطع من قصيدة «أحلام القطارات»:
من نافذة القطار/ رأيت أميرة الآفاق تمسك
بصولجان العواصف/ تغطيها سحب الربيع بأكفان بيضاء/ والبحر يتمدد على أطراف الغابة
مشبعا بنعاس الأمداء/ رأيت صباحات يفترسها عصفور/ رأيت المطر والريح يتجامعان وينجبان
حمرة الغروب/ رأيت الخلجان النائمة على أكتاف
السفن/ والنوارس الذبيحة تحلق فوق زبد/ الموج.
وبغض النظر عن التأويلات التي يمكن أن نخلعها على هذه المقاطع، تبقى هذه الصور الخيالية الغريبة واحدةً من أبرز مصادر فتنتها وسحرها.
في هذه القصائد نلاحظ أن الهمَّ العربيَّ العامَّ حاضر بقوة. ولا يبدو هذا العنصر السياسي نابياً عن التجربة، ملصقاً بها بإكراه، بل هو، على العكس تماماً، ملتحم بها، ويشكل جزءاً لا يتجزأ منها. ولنقرأ هذا المقطع السوريالي الطابع والروح:
من شرفتي الدمشقية/ أطل على جحيم أيامي الناعم مثل/ذكرى بعيدة/أسمع الأخبار العربية/وأسمح لنفسي بالتخيل:
ها هو الفضاء مشنقة بحلم الإنسان/ المرتدي سلطة الحلم/ أين يمكن للعصافير والنسور /أن تحلق خارج جحيمي/أنا الرجل المنذور للغدر/أحدق في مرايا نفس مقعرة/جماجم وعظام وحطام أجيال كئيبة/يسكنون القاع/ونسوة ينتحبن في ثياب الحداد/كأنما العالم يجترُّ حطام أيامه الأخيرة/في قلبي.
في هذا المقطع وسواه، نجد الهمَّ السياسيَّ محرضاً على ارتكاب «الفن»، فالأوضاع السياسية المتدهورة، سواء على مستوى السياسية الداخلية أو الخارجية، تستثير دواعي الرفض والتمرد والثورة، وإن كانت للثورة وجوه متعددة، فإن الشكل الأدبي الفني يأتي في مقدمتها زمنياً، لأن شروطه الواقعية أيسر، وبسبب ذلك يُمثل إرهاصاً بثورات واقعية قادمة، أي ثورات سياسية حقيقية. من هذا التمازج بين الفن والسياسة، لا تبدو الإشارات السياسية المبثوثة في نصوص سيف الرحبي مبتورة الصلة عنها، بل، على العكس، تبدو شديدة الالتحام بها، وتبلغ في بعض الأحيان أن تكون روحها.
3- خاتمة:
حاولنا فيما سبق أن نستجلي أساليب التعبير عن الهمِّ السياسي في الشعر العماني الحديث، وخلصنا إلى أن التجربة الشعرية العمانية الحديثة عرفت أسلوبين أساسيين: أسلوب التعبير المباشر، وأسلوب التعبير غير المباشر. ويندرج في الأسلوب الأول القصيدة الاستنهاضية، والقصيدة الوطنية، والقصيدة الناقدة. أما الأسلوب الثاني فيندرج فيه القصيدة القناع، والقصيدة ذات النفس الأسطوري.
هذه هي الأساليب التي وقفنا عليها، وقد راعينا فيها أن تكون مسيطرة على القصائد التي ترد فيها، فلم نلتفت إلى القصائد التي تمس الجانب السياسي مسًّا خفيفاً، في مواضع محدودة منها.
الهوامش:–
1- قدمت هذه الورقة في ندوة (التجليات السياسية في الشعر العماني) التي نظمها النادي الثقافي يوم الاثنين 19 أبريل 2011.
2- من مقال للشيخ سلمان العودة بعنوان «بعيدا عن السياسة».
3- ناصر البدري، قصائد للاحتراق الأخير، المطابع العالمية، روي، سلطنة عمان، ص43.
4- خميس قلم، طفولة حامضة، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2007م، ص33.
5- عبد الله حمد سعيد، صهيل فرس حروري، دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى، 2005، ص10-11.
6- نفسه، ص15.