في نسخته العربية باعتبارها ما يعنينا هاهنا بدرجة أولى ، يفتح منجز ( أمشي على حروف ميتة) أفق التلقّي على كثافة الرؤى في تشبّع واع بخطاب صوفي لافت، يعرف كيف يفجّر زخما من أسئلة الموت الذي يحاصر راهننا ويطوّقه باغتيالات جبانة لبذور المحبة والسلم والجمال،يطعن إنسانيتنا في الصّميم ،على نحو فجائي،ترسم ملامح فصوله، يد المجهول معضودة بلغة عارية والجة في طقس الإبداع المزدان بالنفس السّاخط وتفاصيل التجربة المُقامِرة .
وبرغم المداد الكثير الذي سال في هذا الصدد، لم تزل ثمة العديد من الحلقات المفرغة المتوقفة على معالجات ومقاربات جدّية،من أجل فضّ بكارة ما يقع أو يتوارى خلف ألوان هذه المجموعة التي نذرت لحظة الإبداع لجنون العصر محايثا لمواقف ومحطّات جلد الذات،عبر تخطيط متقن، وسلسلة حيل مواكبة لعروض الرّعب مناوشا لأذهان منقوصة شروط التأقلم والاستعداد والأهلية ، مثلما تجود بها ريشة إقحام دوال الموت المراوحة منازلها بين التجريدية والمادية الصرفة.
هي حلقات مفقودة ،كون الترجمة تخون، في الغالب وبالمطلق تخون.
وتعدّ تمثّلات وتأويلات عتبة الديوان، الضّامن الجوهري للغوص في سائر أسرار هذا المختزل النابض بروح المشترك، كضرب من تخطّ وتجاوز لنبرة التقوقع والفردانية المريضة والقطبية الهوياتية، قفزا مجازيا إلى كونية شاملة تذوب فيها المسافات والعقائد والانتماء.
ضمنيا،وبالاتّكاء على الحقل الدّلالي للعتبة،دائما، تعبر بنا المجموعة إلى نقاط من اللاشكل التعبيري،وفق ما تدلي به، عن فوضوية، اطرادية شذرية يُستشفّ منها إلى أيّ مدى تنرسم حدود اللعبة المتماهية مع ذات قلقة وشكّاكة تروم وجهات متباينة في الأنساق بيد أنها تتفق مع الغرض العام ، في بلورة طوباوية لتكعيبية الوجع الإنساني العابر لثالوث اللون والجغرافية والمعتقد.
وإذن…هنالك مرحلة ما قبلية، شاهدة على الولادات الأولى للحرف وأنسنته،حيث الخلفية ذات الطابع القدسي، المنطلق والمتفتّق عنها خطاب الاستشراف المثرثر بأسطورة الموت.. رائية متزمّلة بنواميس العدمية في الحكي، وترجمة اللواعج وفضح الدّفين .
هي نافذة لحمولة سيكولوجية،تمادت في ذبح الذات، آن لها الدّفق الزئبقي الملفوح بتباشير الإطلالة العلوية المنادية بخلود الفانين،وعيش برزخ الكتابة المغايرة التي تتنفّس تحت الأرض نظريات التفاؤل بما هو آت.
«النَّافذةُ
ابتسامةُ الجدارِ بالنِّسبةِ إِليَّ
لأَنَّني كنتُ أَختبرُ الطَّيرانَ
بقلمِ رصَاصٍ.
النَّافذةُ
بدايةُ الطَّيرانِ»
كل شيء قابل للمحو، تطلعنا على ذلك مرثاة التاريخ الأولى،مشهد القتل،الخطيئة الآدمية الأولى.
وكضرورة، وجد الأمل،ليسكننا ويبلغ أوجه فينا، ساعة تزبد وترغي المعاناة بين حنايا الكائن الضعيف ، لتبدو الصورة مجرد مسلّمة أو معطى بديهي لا يقبل النقاش.
من ثمّ وباحتضاننا لرؤية شاعرتنا ذات اللبوس الفلسفي، نخلص إلى ما يفيد الحاجة الآدمية إلى الاتعاظ والاستفادة من دروس التاريخ المجانية، بعدّه ألدغ سوط وخير مُعاقب لا سلطة لنا عليه فيما يخطّ لنا غير آبه، من مصائر وأقدار .
الطيران حقيقة علمية أثمرتها جهود وذكاء الإنسان.والخرق التركيبي المحلاة به هذه الومضة المراوغة/ النافذة ابتسامة الجدار، يقول بحتمية شقّ نافذة روحية في كل الأحوال، كسبيل للخلاص الآدمي، واجتراح لمسارات تجريبية بغرض بعث المفقود من القيم والأخلاق.
وهو ربط هيستيري توجّه سردياته منطقة الهذيان في الذات المتخبّطة الباحثة دونما كلل،عن تقنيات جديدة لفكّ طلاسم معضلات وجودية جمّة تهدد حياتنا باستمرار.
ربط بين الذاكرة وإفرازات روح التّعصرن والمضي قدما نحو عالم أكثر تطوّرا وتعقيدا.
……………..
« أَدورُ
داخلَ دُخانِ سيجارتِكَ الَّتي أَشعلتَها،
ومعَ آخرِ رشفةٍ مِنها
يَبقى عَقبُها،
ولا شيءَ يَبقى منِّي»
هذا المناخ الممسوس برمادية أو ضبابية سرمدية معتّمة على الحياة بشتى مناحيها، قد يخفّف ديدن إدمان الحرف،من جبروته وصولته على الروح المتآكلة أصلا جرّاء تثاقف جارف مزيّف دخيل وهجين مخول لموجبات استحواذ الآلي وتمكّنه منّا.
«حِينَ ذابتِ السَّاعةُ الَّتي لمْ تأْتِ فِيها
كانَ الوقتُ عِندي مفقوداً،
وضجَّةٌ تبخِّرُ عقاربَ عدمِ رؤيتِكَ مجدَّداً
كابوسٌ معتادٌ هذا.
مجيئك مَوقوتُ الخيالِ،
وأَنتَ مجرَّدُ حُلمٍ،
ومؤقِّتةٌ لغيابِكِ
الَّتي لاَ تَفهمُ الوقوفَ..»
تجديف الذات خارج الزمن، هكذا يحدث،كون الواقع مجرّد ضجّة استطاعت ابتلاع صوت الحكمة، فذلّلت وأخضعت الإنسان وشكّكته في نبعه ، وقزّمت رغبته في استثمار طاقاته الكامنة، وركبت على حلمه المشروع، جاعلة منه ضحية وجلادا في ذات الآن.
«جميعُ الخياراتِ مَطروحةٌ علَى الطَّاولةِ؛
أَن ترسُمَ الصَّباحَ على كلماتِكَ.
أَن أَركُضَ بجانبِ غيابِكَ.
أَن نصلَ إِلى الحبِّ بيدَيْنِ أَو شفتَيْنِ.
أَنتَ لمْ تَزلْ
تَصبُّ الصَّمتَ فِي الكأْسِ
وأَنا أَشربُ خيالَكَ
وتقول أيضاً
بخارُ حديثِكَ،
أَحاطَ كلَّ مُخيلتِي بالضَّبابِ،
فلاَ تَرى اقترابَ أَحلامِنا المُشتركةِ بينَنا
فِي الحدِّ الأَدنى للمَسافةِ.
يداكَ
منذُ سنواتٍ
بَعيدتانِ عنِّي..»
…………….
«للوصُولِ إِليكَ
أَمشي عَلى حُروفِ مَيتةٍ؛
ربَّما كلمةٌ تقولُ: آهٍ
معَ الكلمةِ المُصابةِ، أَيضاً
سأَمشي بجانبِ مَسافاتِكَ…»
……………
«عندَما نِمتُ فِي السَّريرِ
جاءَتِ المُمرِّضاتُ،
والسُّحبُ أَيضاً،
وصوتُ شلالٍ فِي كلِّ مكانٍ.
ذهبتِ المُمرِّضاتُ،
وبَقيتُ فِي مكانٍ شمالاً؛
كلُّ شيءٍ طازجٌ وجديدٌ،
ولهُ رائحةٌ رطبةٌ…»
…………
«كلُّ مَا أَكتبُهُ؛
يَصيرُ سِجناً أَو مَوتاً
بالأَبجديَّةِ المريضةِ.
لاَ بدَّ أَن نعيشَ الحريَّةَ بلُغةِ الإِشارةِ..»
……………………
«قدْ أَسقطُ فِي مكانٍ ما
لمْ تُولَدِ الحروفُ فيهِ بعدُ،
ولا يوجدُ تدقيقٌ بأَيِّ تفكيرٍ
هناكَ بثيابٍ منَ الزُّهورِ
سأَرقصُ وأَنا أَتذكَّرُكَ،
وسأَنقش رَقصتي فِي حَجرٍ،
وحتَّى بعدَ بليونِ سنةٍ
سيكونُ الحبُّ معنَى هذهِ الرَّقصةِ»
إجمالا، تطالعنا الشاعرة الإيرانية الواعدة ساناز داودزاده فر،عبر هذا الديوان الباكورة المذكور، باعتماد إحدى وسبعين توقيعة، على مسرحه تتنازع الذات شخصيتين متخيلة تتيح نظرة أوسع وأحوى تتأتى ضمن فلكها عولمة الحالة واقتراحها في بعدها الكوني الدامغ بوعي جمعي يكرّس لثقافة المشترك، خاصة وأنه لا تخفى علينا التركيبة المجتمعية والعقائدية في وطن شاعرتنا، وثقل الموروث فيما يتعلّق بأيديولوجية موالاة الإسلام في فجرها الأول،هذا من جهة.
ومن جهة ثانية ، سلطة روح التجربة الخاصة، وخيار استثمار البصمة الأنوية لتشكيل نظير هذه الفسيفساء التعبيرية، الناطقة بوجع وطن يتخطى همّ الانتماء الضيّق ، ليسمق مع اشرئباب وتنطّع فروع الشمولي والكليّ الإنساني ،ويلبّي حاجيات وتطلّعات وذوق المتلقّي المطعون بلغة المشترك.
ففي النهاية نحن بصدد شعرية نافرة ،أبت إلا أن تتيح للذات مسافات مخملية مفتوقة في اللاوعي، بغية التحليق بهاجسين اثنين : الحب والحرية، كمكمّلين للمنظومة برمّتها.
إنها تجربة لا تتغنّى بالجاهز ، بقدر ما تعيد إنتاجه،ليتلاءم وثقل المكابدات الحديثة للذات، وتترع السياق والمتن بشحنات الإيجاب ووجدانيات المخلّص ،بشأن وظيفة الكتابة تجاه الذات والآخر والمحيط.
إنها فسيفساء كلامية،صامتة عمّا يمكن للصورة أن تهمس به وتسكبه راحا عذبة في جوارحنا، داخل دائرة فعل إبداعي ، أحسبه شكّل استثناء في تطويع المفردة الصافية والمعجم المغرق في حديث اليومي والهامشي ،انقيادا إلى ما يصبّ بالنهاية فيما من شأنه إقناعنا بالعرض الشعري باعتباره جملة واحدة تقاس بنفس متقطّع، خدمة للجانب الرّسالي والغرض العام في معمار التجربة ككل.
كتابة نشاز،لم يستقم بها خطّ الترجمة، كونه جاء ناقصا ،تعيش حياتها البرزخية الموازية، مستسلمة لطقوس مرحلة ما بعد جنائزية المشهد والإنسان والحرف.
تتنفّس تحت الأرض،من نافذة روحية احتياطية، تسعى إلى لملمة المفقود ونحت المشترك.
أحمد الشيخاوي