اليوم التالي، أورشليم، قصر الكاهن الأكبر.
ساخطا يطارد حنان ذبابا صغيرا يحوم حول وجهه النحيف شيخوخة.
– آه ! فلتخلصونا من هذا العذاب.
– الحرارة. يعلق كيفاس، في كل فصل ربيع يحدث هذا، أما في الصيف فالوضع أسوأ.
– هل وضعتم الشباك على النوافذ؟
– نعم، لكن الثقوب ليست ضيقة كفاية. ينبغي التفكير في تغييرها.
– إذا فلتغيرونها.
نتيجة لطول المعاشرة، أصبح كيفاس يعرف لحظات تغير مزاج حميه، فبدون سبب محدد، يمكن لهذا الأخير أن ينقلب من الحالة الأشد لطفا إلى حالة سخط شديد. في كل الأحوال، فهو لا يستطيع أن يظهر انتقادا تجاهه، فحنان شخصية مهمة جدا، فهو الحاخام الأكبر للسنهدرين. وهذا يعني أنه الشخصية الأولى في إسرائيل، فهو ممثل الشعب اليهودي لدى روما.
لقد عرف زوال الحظوة عندما اعتلى تيبر عرش الامبراطورية.
لكن رغم عزله عن مهامه فقد استطاع- بقوة الرشوة – أن ينقل مكانته إلى أبنائه ثم إلى صهره. ومازال يمارس هيمنته الكبرى في المجلس. في الحقيقة إذا كان كيفاس يرأس السنهدرين، فإن حماه يحكم في الظل.
– إذا، يضيف حنان، بنفاد صبر، أين هم؟
– لقد وصلوا للتو إلى أورشليم، ولن يتأخروا.
– أتمنى أن تكون لديهم أخبار جديدة، وإلا سندفع مستقبلا الثمن غاليا، إنها كارثة وفاجعة. ها نحن قد وقعنا في المصيدة التي وضعناها بأنفسنا.
يمد كيفاس يده إلى كأس الخروب. يشرب جرعة ويعلق:
– صحيح أن الأمور لم تسر كما خططنا لها، لكن هذا لا يمنع من أننا مازلنا أسياد الموقف، نحن…
– أسياد الموقف؟ الرجل ما زال على قيد الحياة رافضا مغادرة البلاد. إنه مجنون وكجميع المجانين، فإننا لا يمكن توقع تصرفاته.
– سيستسلم، لقد خيرناه بين المنفى أو السجن المؤبد.
يستند العجوز إلى حاشيتي مقعده وينهض بصعوبة ثم يبدأ في ذرع القاعة طولا وعرضا.
– وبتصرف أخرق تمنحونه وسائل للكتابة!
– تنازل بلا نتائج، كان هذا الثمن الذي دفعناه من أجل تعاونه، وفي كل الأحوال مهما كانت قيمة ما يكتبه فلا أحد سيؤمن به وخصوصا أن لا أحد سيتمكن من قراءته: نحن متأكدون من ذلك.
يرد كيفاس:
– لو كان الأمر بيدي لكان هذا الجليلي في الوقت الحالي يرقد داخل قبر مجهول في عمق أعماق صحراء يهوذية.
– قتله ؟ نحن قتلة أمام الرب، دماء على أيدينا، نحن …؟
– وإذا هرب؟ هل فكرت في هذا؟
مستحيل انه مراقب من طرف المليشيات ليلا ونهارا. أقلهم مالكوش الذي قطعت أذنه ليلة القبض على يسوع من طرف أحد مريديه، سيكون سعيدا لو تتاح له الفرصة للقيام بهذه المهمة، ولن يستطيع يسوع الإفلات منه أبدا. زد على ذلك ففيم سينفعه الهرب؟ هل سيذهب عند مريديه ليقول لهم:» لم ابعث أبدا، لقد كذبت عليكم، لست المنقذ الذي تنتظرونه « هذا غير معقول!
يدير حنان العقد الذهبي الذي يزين صدره، يرفعه قليلا ثم يطلقه.
– في كل الاحوال، هل سبق له أن أعلن أنه يسوع الرب؟ أنا شخصيا لم يقل أمامي ذلك.
ينتفض كيفاس:
– لكني كنت أعتقد…
– لا شيء، لا تعتقد أي شيء، لقد احتفظت بكل عباراته في ذاكرتي. في أية لحظة، لم يعلن ذلك أمامي.
يقف كيفاس بدوره ويتجه نحو حماه.
– حنان…(وجها لوجه)…بالنسبة لي فقد أعلن بجلاء:» أنا يسوع». أنا بدوري اتذكر جميع عباراته، كان جوابه حاسما. «هل أنت يسوع ابن الرب؟» فرد: «ها قد قلت ذلك!»
يهز العجوز كتفيه:
– هذا ليس جوابا، المسألة كلها تتمثل في الأسلوب المستخدم. كم مرة حدث أن كنت في حالة غضب وتعب من شخص فظ، فأرد عليه: «ها قد قلت ذلك! ها قد قلت ذلك!» وأنا أضمر:» لا داعي لهذا الحديث، لقد استسلمت» هذه هي الطريقة الوحيدة لوضع حد لمناقشة عديمة الفائدة. مع العلم أن مثل هذه المناقشات تكون فاشلة سلفا. أما عبارته «أنا ابن الرب» التي لم يتوقف عن ترديدها، فإن أي أمي يعرف أنها عبارة مألوفة جدا.
وهي واردة في الكتاب أكثر من مائة مرة.
– لقد جدف معلنا بجرأة: «هدموا هذا الهيكل، خلال ثلاثة أيام سأغير مكانه».
– هذا خطأ،يا أخي كيفاس، لقد كان يقصد هيكلا آخر.
التفت الكاهنان في لحظة واحدة في اتجاه من قال هذه الكلمات: نيقوديموس وبجانبه يوسف الرامي.
– السلام عليكما،
يرحب حنان كنا في انتظاركما.
تجاهل كيفاس الرد على التحية وأسرع متسائلا:
– ماذا تقصد بهيكل آخر؟ حسب علمي لا يوجد هيكل واحد يوجد في أورشليم.
ارتقى نيقوديموس الدرجات ليصل إلى مستوى قامة الرجلين.
– أعتقد أنه في ذلك اليوم كان يقصد هيكل جسده.
يدعو حنان الرجلين للجلوس. يلتحق بدوره بقعده.
– إذا فقد حدثتماه ؟
يرد نيقوديموس:
– نعم، لحد الآن مازال يكابر ولا يريد أن يعرف شيئا وهذا عادي لأن الرجل تعذب كثيرا وهو ليس على درجة كبيرة من الوعي، غير أنني متأكد أنه سيستسلم في نهاية الامر. المسألة مسألة أيام أو ساعات.في كل الأحوال فالوقت في صالحنا.
يصرخ حنان هائجا:
– أنت يا نيقوديموس، إنه خطأك، كانت فكرتك.
– يا أخي، كن متسامحا قليلا ، كيف يمكننا أن نعلم أن الليلة التي أخرجناه فيها من القبر كان مازال على قيد الحياة. كما أن العسكري تحقق من الأمر حينا غرس رمحه في خصره. بالنسبة لنا جميعا لم يكن لدينا شك أن الناصري قد مات. لكن عندما أدار حراسنا حجر القبر اكتشفنا انه لم يمت.
– إذن كان من المفترض أن تتركوه يموت. يحسم حنان
– لنشاهد خطتنا تنهار. يعترض يوسف الرامي ثم يتابع: بل ليتحول كل ما أنجزناه إلى لا شيء.
يتدخل كيفاس بوجل:
– بخصوص الحراس… ألا توجد مخاطرة من أن يفشوا السر.
يهز يوسف رأسه بالنفي:
– في هذا الوقت بالذات يوجدون خارج البلاد ومعهم مال وافر يكفيهم حتى نهاية عمرهم.
صمت جسيم يغطي القاعة.
يسأل حنان.
– والاشاعات التي تقول ان الناصري يوجد هنا وهناك… أظن رجالنا من حرضوا على ذلك؟
يبتسم يوسف:
لا خلافا لكل التوقعات، لم نحتج للتحرك في هذا الاتجاه، فمريدوه تصرفوا بما يفوق تطلعاتنا، وهذا جيد.
يزيح خيطا رفيعا عن كمه ويتابع:
– فلنحافظ على برودة أعصابنا، سيستسلم أنا متأكد من ذلك.
– وإذا رفض؟ يتساءل حنان.
يتردد نيقوديموس ثم يقول:
-إذا سنضطر إلى اختيار حل آخر…
ينظر كيفاس إلى الأرض.
يعدل حنان استدارة العقد حول صدره.
شعاع شمس قانية يخترق النافذة ويتحطم بمحاذاة أقدامهم.
في نفس الساعة، في مكان ما من يهوذية.
يتأكد يسوع من أن زيت القنديل مازال متوفرا، ثم يواصل الكتابة:
رددت على الحاكم: «لقد ولدت وجئت الى العالم لكي أقول الحقيقة، فكل من سيسمع صوتي سيعثر فيه على الحقيقة» وردا على كلماتي،
سأل بصلافة: «وما هي الحقيقة؟» بدوره لم يفهم شيئا. فقد كان متقوقعا داخل منظوره للعالم خادما للامبراطورية، كان بيلات أعمى،أعمى، أعمى. يظن أن التطهير من جريمة يتم بمجرد غسل اليدين في
القدح معلنا:» أنا بريء من دم هذا العادل» ثم عندما لجأ إلى هذه اللعبة المسرحية مقترحا استبدال حياة هذا المجرم يسوع بارابا (أو باراباس المترجم)
بحياتي. أي هدف كان يصبو إليه، لاشيء، كانت الحيلة الأخيرة لهذا النذل.
كيف يمكنه أن يصدق أن هذا الجمهور الهائج سيتخلى عن الفريسة التي اختارها؟ عندما يغرز حيوان متوحش أنيابه في لحم ضحيته، لا شيء يمكن أن يثنيه عنها. في كل الاحوال فقد شاء الرب أن يسطر منذ الازل كل تفاصيل حياتي. فلا ذرة رمل يمكن أن تتغير من موقعها إلا بمشيئته.
كنت أعرف، وعرفت دوما.
« يجب أن يوضع ابن الانسان بين أيدي الناس الذي سيحكمون عليه بالموت ويسلمونه للكفار كي يسخرون منه ويهينونه ويبصقون عليه»
كنت أعرف دائما أن هذا سيحدث، لهذا كنت أؤجل الذهاب إلى أورشليم. كنت أعلم أن الخطر يوجد هناك، وهذا أيضا ما دفعني للهرب من الكهان الذين كانوا يحاولون القبض علي. حدث ذلك على بعد فراسخ من الاردن. ليس بعيدا عن المكان حيث التقيت يوحنا المعمدان بعد سنوات من الفراق. هربت ولم أحس بالطمأنينة حتى اقتربت من مياه النهر(نهر الاردن المترجم ) عادت إلي ذكرى يوحنا.
كان يوحنا في نظر بيلات تلك «الحقيقة الغريبة». ولد يوحنا في أسرة كهنوتية، أي كاهن بالولادة، لكنه اختار طريقا آخر. كان غاضبا وهو يرى الامتيازات التي يحصل عليها الكهنة ثروتهم المتزايدة وتواطؤهم المستمر واليومي مع المحتل الروماني. كان يوحنا في خضم ذلك متعطشا للطهارة كنا معا كذلك.لا شيء يمكن ان يشفي غليلنا.
خلال فترة مراهقتنا لم نلتق إلا نادرا: بين الناصرة والخليل تبلغ المسافة مائة ميل(1) لكن في كل مرة يكون اللقاء مبهجة. كان يوحنا يكبرني ببضعة شهور غير أن بصيرة رجل كبير كانت تسكنه. في نفس الوقت كانت الثورة تزمجر في أعماقه، كما لو أن بداخله تهدر الأنهار غاضبة. كان يتحدث عن عالم خال من الامتيازات بعيد الكهنة و أطماعهم. عالم حقيقي. كان يحلم بفجر جديد يتحقق فيه نصر الرب، وجلاء الملوك الغرباء لتسود الطهارة العالم برمته.كان غالبا ما يرفع قبضته مرددا كلمات عيسى: «إسمعي أيتها السماوات، اصغي جيدا! لأن الرب يكلمك، لقد أطعمت ورعيت الأبناء، لكنهم تمردوا علي، العجل يعرف مالكه، الحمار يعرف زريبة سيده، أما إسرائيل فلا تعرف شيئا. لا يملك شعبي أدنى ذكاء. اللعنة على الامة المذنبة، على الشعب الغاشم، على العرق الشرير، على الاطفال الفاسدين!»
ذات صباح وقد بلغت التاسعة عشر من عمري، دق يوحنا بابنا، تكبد مشقة السفر ليخبرني أن والده زكريا قد مات. لم تستطع أمه إليزابيث تحمل المصاب.
– سأرحل، قررت أن ألتحق بطائفة الأسنيين(2) .
لم يدهشني قراره لأنه سبق له أن حدثني مرارا عن هذه الطائفة من النساك التي كانت تقيم في قمران على ضفاف البحر الميت، في عزلة عن العالم. لقد شرح لي طريقة عيشهم ونظرتهم للعالم، وتوقعاتهم. بالنسبة له، تعتبر هذه الطائفة أعدل من يوجد على أرض إسرائيل. ثم طلب مني أن أرافقه في رحلته.
– ارحل معي، أعرفك جيدا، اضطرامك أكثر مما يلتهمني. أنت أيضا تبحث مثلي. أرى في نظرتك قوة غامضة. أنت صامت لكنك تبدو كما لو أنك تصرخ. تبدو غائبا لكنك حاضر أقوى من الزمن. هيا معي، هناك سنكبر.
– يوحنا، لست مستعدا لذلك، أفضل النبيذ والخبز.
لم أكن أكذب، يصر بإلحاح:
– يسوع، هيا معي.
– ربما فيما بعد، أحتاج بعض الوقت. عدد كبير من الأسئلة تتدافع في رأسي.
وضع كفه الأخوية فوق كتفي، أوقفني مسمرا مدة من الزمن، ثم قال بنبرة غريبة:
– سأنتظرك، سأمهد لك الطريق.
مرت أسابيع وشهور وأنا أكاد أختنق بأسئلتي. أقلب حياتي كما يقلب المحراث ترابا دون بذور، ثم خلصت إلى أن يوحنا ربما كان على صواب. وفكرت أن الأجوبة توجد هناك على سفوح هضاب الصوان الوردي، فقررت الذهاب للالتحاق بيوحنا.
أتذكر.
عندما أعلنت خبر رحيلي عارضني إخوتي وأمطروني بالانتقادات إلا جاك. يعتقدون أن من واجب الأخ الأكبر أن يبقى إلى جانب العائلة. أبي فضل الصمت أما مريم فكفكفت عبراتها.
عند مخرج المنزل فقط وضعت أمي كفها فوق خدي وهمهمت:» اذهب، بني، لكن لا تنس أبدا» اعتقدت لحظتها أنها تعلمني أنها ستكون دائما في انتظار عودتي. لكني كنت مخطئا. كانت تقصد -ولم أستوعب الأمر آنذاك-
« لاتنس لم أتيت إلى هذا العالم».
كانت الرحلة طويلة من الناصرة إلى البحر الميت. كانت مناسبة للتفكير والتأمل.
وصلت إلى قمران في يوم ماطر وعاصف. كان بيت النساك منتصبا داخل منظر قاحل. وليس بعيدا عن هذا البحر الملعون ذي المياه الثقيلة بالملح التي يمكن أن تجعل الحجر يطفو على سطحها، مياه متماسكة لدرجة أنها تمتص الأشعة. أما الأشجار القليلة المحيطة فتجعلك تفكر أنها عظام أموات ممتدة نحو السماء.
كان أولئك الأشخاص يلقبون بـ«أبناء صدوق» حراس المصاهرة.ذرية هارون أخو موسى. كانوا يبجلون كاهنا يلقب بـ«اونياس»، ولا أعلم لأي سبب ب «سيد العدل». يتعلق الأمر بشخص حكيم، قتله ملك كافر منذ زمن بعيد.
كان قد قسم الناس إلى عصبتين: أبناء الظلمات وأخرى هي أبناء النور، التي تنتمي إليها طائفة قمران. بالنسبة لهم أبناء الظلمات ينتمي إليها باقي البشر المؤهلون للوقوع في الخزي والعار. كل باقي الامم وكل اليهود خارج طائفتهم سينتهون إلى الهلاك يرسله ملاك المصائب، فيرزحون تحت الكوارث غضبا من الرب المنتقم، وبهذا يصبحون ضحية فزع بلا نهاية وخزي أبدي، بلا هوادة وبلا انقطاع.
غمرني الحزن وأنا اسمع هذه العبارات، فكتاباتنا المقدسة زخمة بالوعيد والدم المسفوك إلى درجة أنني كنت أسمع الصراخ في بعض المساءات عندما أكون مستلقيا فوق فراشي كانت الأصوات تقتحم رأسي وتحرق لحمي. آه كم ليلة مرت أمامي عيني مشاهد المذابح! كم ليلة سمعت صوت موسى الرهيب آمرا: « تقلدوا سيوفكم، اخترقوا وجوبوا الموقع بيتا بيتا وليقتل كل واحد منكم أخاه وأبويه» في ذلك اليوم قتل ما يقارب الثلاثة ألاف شخص من السكان.
ألا يتعارض هذا مع مبادئ يهوه: «لا تبحثوا عن الانتقام، لا تحقدوا على أطفال شعبكم ، أحبوا أقاربكم كما تحبون أنفسكم»
رفضت فكرة أن يلعن الأب أطفاله. عيناي كانتا تقرآن وتفهمان. قلبي كان يدرك وينزف.
ستحب قريبك كما تحب نفسك.
لم أكن أريد سماع سوى هذه الكلمات. بلا شك هذا نتيجة صدمتي من قسوة ولاتسامح الأسينيين .
كنا مترهبين داخل دير ، لا نتناول غير الخبز وجذور النباتات والفواكه. كان اللحم ممنوعا، وارتداء الملابس محرما: كان يجب ارتداء الصوف الابيض، وكانت تفرض علينا طريقة خاصة لحساب الأيام والسنوات. فبالنسبة للأسنيين فالتقويم الجديد كان تقويما مدنسا ومن هنا كان احتفالنا بالأعياد يتم في أوقات خاطئة. وهذا أحد الأسباب التي دفعت اصحاب هذا المذهب الى رفض الصلاة في المعبد او مصاحبتنا لاننا كنا في نظرهم – نحن اليهود – مغتصبين.
لم أشعر أبدا بأي تحفظ للصلاة رفقة أهلي، أو أن ألقن داخل الحرم القدسي. بالنسبة لي كانت الأمور طبيعية.
كانت طقوس الاغتسال تشغل حيزا مهما من حياتنا اليومية. حمام للتطهير يسبق كل وجبة طعام. وللتذكير فالماء لم يكن متوافرا في الجوار بما يكفي ليغمر الجسد بكامله، لهذا كان علينا أن نعبر مسافة ثلاثة أميال ذراع.
كان ممنوعا علينا ذبح الحيوانات، أو صناعة السلاح أو الاشتغال بالتجارة. كان أعضاء الطائفة عندما ينتهون من التعلم الذي يستغرق ثلاث سنوات، يقسمون أن يتخلوا إلى الأبد عن جميع ملذات الحياة.
في بداية الأمر، اعتقدت أن رؤيتهم للعالم تجذبني، قلت في بداية الأمر فقط لأنني شيئا فشيئا رأيت الهوة التي تفصلني عن هؤلاء.
كانوا يؤكدون أن التوبة عن الخطأ لا تصح على المذنب والعدو. وإذن ما جدوى التوبة من الأصل؟ أما أنا فكنت أفكر: « إذا كنت تحب الذين يحبونك، ما هو الجزاء الذي تستحقه؟ واذا كنت تلقي السلام على إخوتك فقط، هل تفعل شيئا استثنائيا؟ ألا يتصرف الوثنيون هكذا؟
كانت هناك أيضا تلك القوانين الصارمة المفروضة في جميع المجالات حتى الأشياء الحميمة، كلمس الآخر باليد، أو كشف الأعضاء التناسلية. إذا شوهد أحدهم يمشي عاريا بلا سبب ملح، فإنه يعاقب لمدة ثلاثة أشهر.
في الحقيقة، سبب قطيعتي مع الآسنيين كان في مكان آخر: كانت هذه الطائفة تعيش راضية بلاواقعيتها، في انتظار،غير أنه انتظار عقيم. كانت قريتهم المنتصبة فوق الجبل بادية للعيان ولا يمكن إخفاؤها،من غير الممكن أن نضيء مصباحا لنضعه داخل علبة أسطوانية بل ينبغي وضعه في مشكاة ليضيء جميع البيت.
ذات صباح، بعد سنتين، غادرت، تخليت عن يوحنا في قمران وعن أشباحه.
هل عاتبوني؟ لا أعتقد ذلك، لأن المستقبل كان سينصفني.
إلى أين المسير؟ أين سأجد الحقيقة ومعنى كل شيء؟
كان هناك ذلك الصوت الذي يهمس الكلمات التي لا أفهم غير نصف معناها. في بعض المساءات كان يتردد قويا ملعلعا كالرعد، وفي أخرى يأتي هادئا ودافئا. عرفت، منذ ذلك الحين، أنه صوت أبي، الذي في السماوات.
الهوامش
[ الفصل الثالث من رواية «أنا يسوع» للروائي الفرنسي جيلبرت سينويه ستصدر عن دار الجمل.
1- حوالي 150 كيلومترا. مثل جميع الناس في ذلك العصر الروماني فيسوع يتحدث عن الميل الذي كان يعادل 1480 مترا.
2- طائفة الأسنيين طائفة قمران كانت مختلية للتعبد في كهوف مطلة على البحر الميت منذ القرن الثاني قبل الميلاد وهي طائفة يهودية تقويمية نباتية وهي صاحبة المخطوطات التي ثم العثور عليها في السنوات الأخيرة المسماة بمخطوطات البحر الميت(المترجم)
جيلبرت سينويه:
ولد فـي مصر سنة 1947 عاش فيها طفولته ومراهقته، وتأثر الروائي الفرنسي بانعكاس تلك المرحلة المهمة من حياته على كتاباته الفكرية والتاريخية..
* الفصل الثالث من رواية «أنا يسوع».