من النادر جدا أ ن تصدرا لأعمال الكاملة لأحد الكتاب الكبار، بعد موته، دون دراسة، أو مقدمته مستفيضة تتناول أعماله.
وهذا ما حدث في الطبعة الكاملة لاعمال إميل ميشال سيوران التي صدرت في نهاية سنة 1995 عن منشورات جاليمار الفرنسية )سلسلته كوارتو) في 1820 صفحة. ولقد أضطر الناشر الى الاعتذارا لمبرر عندما صدر المجلد مشيرا الى احترام مبدأ دافع عنه سيوران: عدم نشر اي كلام آخر غير ما كتبه المؤلف:
لماذا؟
لأسباب عديدة:
فهاهوذا سيوران يقول في شذرة من كتابه "قياسات المرارة ": "كل تعليق على كتاب هو سيىء أو غير مجد، فكل ما لا يأتي مباشرة لا قيمة له " هذه الشذرة يصدر بها الناشر هذه الطبعة الكاملة أيضا. ويمكن أن نجد هذه الفكرة بأشكال وصياغات مختلفة في كتب سيوران. يقول في كتاب "الاعترافات واللعنات " مثلا: "لا ينبغي الكتابة عن أحد، أبدا. لقد اقتنعت بجدوى هذه الفكرة الى درجة أنني كما ملت الى فعل ذلك، كانت فكرتي الأولى أن أهاجم الشخص الذي سأكتب عنه، حتى وان كنت معجبا به ".
وللخروج من هذا المأزق، أي عدم التعريف بالكاتب وبسط أفكاره، التجأ الناشر الى أسلوب آخر: أن يجعل المؤلف يتحدث عن نفسه من خلال ملحق يضم مقتطفات من الحوارات التي أجريت معه على مر سني حياته.
وهذا ما سنقوم به بدورنا: سنتحدث عنه بلسانه. وسيكون استنادنا أساسا على تلك المقابلات، وعلى بعض آرائه في "شذراته " أو كتاباته المقطعية، وبالخصوص على الكتاب المتميز الذي أصدرته سيلفي جودو سنة 1990 عن منشورات "جوزيه كورتي" بعنوان "محاورات مع سيوران " يلي ذلك نبذة عن حياته، وتعريف تحليلي بأبرز أعماله، ثم مقتطفات مترجمة منها. ونلفت الانتباه الى أن مجلة "ماجازين ليترير" المجلة الأدبية الفرنسية قد نشرت في عددها لشهر سبتمبر 1997 كراسا يضم شذرات لم تنشر من قبل لسيوران، وقد ترجمنا بعضها استكمالا لهذا الملف.
عاش سيوران في مرحلة تتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة لكنه اختار الابتعاد عن زمانه وعن الزمن. سعى الى تحطيم المعنى من أجل خوض تجربة اللامعني. أعلن أنه ضد الفلاسفة وضد المنظومات الفلسفية والمقولات. كما أنه ضد المفكرين الذين ينطلقون من الاقتباس والاستشهاد. وفضل شكل الكتابة المقطعية والاعتراف، والحكمة المختزلة، على الخطاب المتماسك زورا وزيفا كما يقول. "يمكننا تحمل الشر وليس ففهمته. ولا معرفة عنده الا عبر الحواس "لحل تجربة عميقة تصاغ بعبارات فيزيولوجية ".
أمام الفلسفة والفكر، يختار سيوران الشعر والموسيقى. وهو مثل الشاعر يخاتل شكوكه ليتعاطى الكلمة ويحول اللاواقع الى واقع صيغي. الشاعر؟ "هذا الوحش الذي يراود خلاصه عبر الكلمة والذي يملأ خواء الكون برهن الخواء تحديدا" أي الكلمة والموسيقى؟ "ليست من جوهر انساني لأنها لا تبعث أبدا على تصور الجحيم ".
في اجابة له عن سؤال (كيف تتحمل الحياة؟) أشار سيوران الى الاستطيقا، الى ضرورة الكذب من أجل الوجود. ثمة دور تعزية للفن. "أكتب لأتفادى نوبة (…) في التعبير راحة (…) الكتاب انتحار مؤجل ".
أراد الغربة في أعماقه حتى لا ينتمي الى أي أرض ويحافظ على وعيه بالطابع الانتقالي المؤقت لحياة أي انسان. فالانسان الذي يحترم نفسه ليس له وطن. وعليه الانخراط في منابع النشأة، ما قبل الانفصال والتمزق. ذلك أن التاريخ سقوط أول في الزمن وطرد من الأبدية. وما بعد التاريخ هو سقوط ثان، أي أنه سقوط من الزمن.
أمام هذه العدمية، لم الكتابة إذن؟
الكتابة نسيان للشيء لصالح تسميته أو معرفته، انها كتابة تعبر عن انتظار الكائن. وهي، لذلك، لا تأتي عبر منظومة فكرية بل ضمن انقطاعية الكتابة المنطقية استجابة لتشظي الكائن.
عدمية سيوران تستبعد أي هروب خارج عدمنا الزمني. فكيف نتمكن من معانقة الأبدية في حضن الزمن؟ إنه غنوصي ذو صفاء ووضوح فكري ينكر الخلاص، متصوف دنيوي متخلص من الأشكال الماورائية. إذن النشوة عنده حضور كلي من دون موضوع وجد: خواء ممتليء ! وهذا اللاشيء عنده هو كل شي ء. فلا مجال لاستعادة الحالة الفردوسية الأولى. واليائس من خلاصه يصير عالم جمال. إن الانسان الأخير هو انسان خاو: انه حكيم الأزمنة الحديثة.
القطيعة مع المكان والزمان
ولد أميل ميشال سيوران يوم 8أبريل 1911 في "رازيناري" وهي قرية في مقاطعة ترانسلفانيا الرومانية، من أب قس أرثوذوكسي، وعرف منذ طفولته بحبه للعزلة والتنزه في الجبال المحيطة بقريته. التحق سنة 1920 بالمدرسة الثانوية في مدينة سيبيو المجاورة. وأمضى الأعوام ما بين 1928 و1932 في جامعة بوخارست حيث حصل على دبلوم حول الفيلسوف برجسون. واكتشف الفيلسوف الألماني سيمل.
ويتحدث سيوران عن حالات من الأرق واليأس لازمته خلال هذه المرحلة فأوحت اليه بكتابه الأول الذي ألفه سنة 1932 ونشر سنة 1934 تحت عنوان "على ذرى اليأس " ثم أعقبته عناوين أخرى مثل "كتاب الخدع " و" دموع وقديسون ".
خلال العام الدراسي 1934 – 1935 حصل على منحة دراسية في ألمانيا لاعداد أطروحة في الفلسفة لكنه لم يفعل شيئا ومر بمرحلة عقم في حياته لم تميزها سوى رحلة الى باريس لمدة شهر قرر إثرها الاقامة في فرنسا. فعاد الى رومانيا وعمل على تحقيق هذا الهدف. فحصل على منحة من المعهد الفرنسي في بوخارست كي يدرس في باريس التي وصل اليها سنة 1937. وخلال الأعوام الأولى من اقامته وضع كتاب "غروب الأفكار" ونشره بالرومانية في سيبيو.
التحق بالسوربون لدراسة اللغة الانجليزية فاكتشف الشعراء الانجليز ثم قرر تعميق لغته الأم "الرومانية "، لكنه سرعان ما استغرب هذا الاختيار حتى قرر سنة 1946 أن يقطع مع لغته ومع الماضي والاقامة النهائية في فرنسا. لذلك بدأ يطور لغته الفرنسية. ونشر كتابه الأول بهذه اللغة بعد ثلاثة أعوام، أي سنة 1949، ضمن منشورات "جاليمار" التي سوف تتولى نشر أعماله لاحقا. فكان أول كتاب ينشره بالفرنسية بعنوان "موجز التفكيك " وحصل به على جائزة اللغة الفرنسية المخصصة للكتاب الأجانب (كان من بين أعضاء لجنة التحكيم: اندريه جيد، جول رومان، سوبرفيال، بولهان، الخ..).
ثم اتخذ سيوران قرارا برفضي كل أنواع الجوائز. وهذا ما التزم به على الرغم من العروض الكثيرة. وتأكدت قيمته ككاتب باللغة الفرنسية. وتوالت مؤلفاته: "قياس الخيبة "، "إغواء الوجود"، "بحث في الفكر الرجعي"، "التاريخ واليوتوبيا" «السقوط في الزمن ". وخلال هذه المرحلة، أي مع بداية الستينات أدار وأشرف على سلسلة دراسات ضمن منشورات "بلون " لكنها لم تنجح على الرغم هن أهمية عناوينها. فخاب ظنه وألفى السلسلة بعد صدور الكتاب السابع. فكانت تلك تجربة النشر الوحيدة التي خاضها سيوران، وتابع اصدار مؤلفاته "الخلق السيىء" (1969)"مساويء أن يكون المرء قد ولد" (1973)، "التمزق(" (1979، "تمارين الاعجاب " (1986) وفي العام نفسه صدر له مختصر كتاب كان قد ألفه باللغة الرومانية بعنوان "دموع وقديسون " ثم أصدر "الاعترافات واللعنات " سنة 1967، وكتاب «على ذرى اليأس » سنة 1990، مترجما عن الرومانية.
وجدت أعماله في البداية تقبلا محدودا. لكن قاعدة قرائه ما انفكت تتوسع في الأعوام الأخيرة، ولاسيما بعد موته مؤخرا. فظهرت كتبه في سلسلة الجيب الشعبية. وكثرت ترجماته وتناولت وسائل الاعلام كتبه ونجاحه المفاجيء.
قراءة في أعماله
1- موجز التفكيك
أول كتاب يؤلفه سيوران باللغة الفرنسية مباشرة، أسلوب فيه الكثير من المبالغة والكتابة الكلاسيكية "الباروكية ". لم يبلغ فيه ايجاز الحكمة بعد. نبرة استفزازية. بداية إعلان عن موضوعاته الأثيرة: الشر، الخلاص، التاريخ، الانحطاط، القداسة، مصادر التدمير الذاتي. ويعتبر النقاد هذا الكتاب.الخلية الأم لأعماله اللاحقة. بنبرته الرؤيوية التي تكاد تكون نيتشوية (نسبة الى الفيلسوف نيتشه ) والميتافيزيقيا السلبية التي تستند الى أفضلية العدم حيث "الكائن مجرد ادعاء باللاشيء"وما النتيجة التي يتوصل اليها الرائي الا "رؤية تخطط فيها الحكمة بالمرارة و… بالمقلب !".
2 – قياسات المرارة
يختلف هذا الكتاب عن الكتاب السابق بتلاشي الغنائية المتمردة لصالح الصلافة الساخرة والحكمة المقطرة، فإذا الحكمة والفكاهة السوداء والمفارقة نتحالف مع النزعة الارتيابية من أجل قلب القيم السائدة.
3- إغواء الوجود
العدمية تؤدي الى الجمالية، ما من حل آخر غير الاقامة في وهم الوجود وهو الأمر الذي يعني بالنسبة للكاتب، تعويض خواء الكون برمز الخواء ذاته: أي الكلمة، اختبار سيوران "محاسن المنفى" كي يقيم في "مدينة اللاشيء" قطع الجذور ليصير "غريب الميتافيزيقا ". مع تأملات ينطوي عليها الكتاب حول الشعر والرواية والكلمة. فيضع سيوران شقته في حقيقة الكلمة "خلق الكلم ".
4 – بحث في الفكر الرجعي
يتناول سيوران في هذا الكتاب مختارات من نصوص الكاتب المتصوف جوزيف دي ميستر: ذلك "المفكر المغالي " الذي يفري «بفصاحة الشراسة ». وهو صوفي ساخر، قاريء جيد للعهد القديم لكنه يمتاز أيضا بانتمائه الى القرن الثامن عشر. وأهم ما فيه أنه موسوم، مثل سيوران، بـ «ختم المنفى» ويؤمن مثله بسقوط الانسان لأن الشر يسكن أفعاله، غير أن سيوران يأخذ على جوزيف دي ميستر إيمانه «بالخطيئة الأولى ».
5- التاريخ واليوتوبيا
مثل كتاب «إغواء الوجود» يضم كتاب «التاريخ واليوتوبيا» مقالات مطولة غير أن سيوران يبدو هنا أقرب الى المؤرخ منه الى الفيلسوف، فيبحث عن الدوافع الخفية وراء مختلف الأنظمة السياسية بالطريقة ذاتها التي توخاها في دراسته عن جوزيف دي سيستر: ان الايديولوجيات تختلق فراديس في الزمن، ويكون موقع تلك الفراديس إما في الماضي (النشأة ) أو في المستقبل، وذلك حسب الرغبة في الدعوة الى الحنين للماضي، أو الى عبادة التقدم.
6- السقوط في الزمن
هذا الكتاب يضم جوهر أفكار سيوران ورؤيته الميتافيزيقية. أهم كتبه ومفتاحها، تاريخ الوعي هو تاريخ محنته لقد نفي الانسان من براءته الأولى وسقط في التاريخ. هذا السقوط يقوده الى رعب الصيرورة، أول درجة من درجات سقوطه وانحطاطه. لكنه مهدد بالسقوط من هذا الزمن أيضا بسبب الشك الذي يحول الزمن الى "أبدية جهنمية " والى السأم. "الجحيم هو المكان الذي نحكم فيه بالزمن الى الأبد" والارتيابية طرح بمثابة الصيغة الدنيوية للشيطاني. وحتى جعل المعرفة مطلقا آخر، انما يعني عبادة اللامعني. ما من منفذ الا هذا: تحويل هذا العدم الى امتلاء والتخلص من الثنائية عبر التجربة الموحدة للخواء والمؤدية الى عتبة البوذية والصوفية.
– الانسان سجين الوقت. انفصل عن عاهة وعن ذاته. إنه يهرب نحو المستقبل محبوسا بسبب التسارع المدوخ للزمن. وهو ما يميز الحضارة.
– هذا الانسان المحاصر والمستعبد من الزمن يستطيع السمو الى عظمة مأساوية بفضل الشك، هذه المسافة النقدية التي يقيمها مع ذاته. لكن اذا كان هذا الشك ثأره فهو أيضا خسرانه "تبدأ الحضارة بالأسطورة وتنتهي بالشك ». – أن تكون انسانا ليس حلا، وكذلك أن تكف عن أن تكون كذلك »!
– من أجل كسب الحرية ينبغي «التمرن على أن تكون لاشيئا» وهي الطريق الوحيدة لبلوغ براءة ثانية.
– المرض يقظة تكسب الانسان زيادة في الكينونة.
7- الخلق السيىء
مشكلية الشر هي جوهر هذا الكتاب. فيه يفصح سيوران عن مباديء غنوصية عرفانية (نزعة فلسفية دينية تهدف الى ادراك كنه الأسرار الربانية ).
– وجود مبدأ الشر في أصل النشأة.
– المسيحية في ضوء مبدأ الشر.
– البوذية ومفهوم الخواء.
8- مساويء أن يكون المرء قد ولد
مجموعة من الحكم. الأصل: لماذا الرضا بالقليل أفضل من لا شي ء؟ ويمكن تلخيص الكتاب هكذا «آه ! لو ولدنا قبل الانسان !» نوستالجيا، حنين الى «زمن ما قبل الزمن » حتى نتفادى كارثة الولادة. إذن فالشر خلفنا وليس أمامنا.
– التراجيديا الحقيقية للانسان هي في استحالة العودة الى زمن الماضي وبلوغ عدم ما قبل الوعي.
9- التمزق
بعد التأمل في مفهوم التاريخ ضمن أعمال مسابقة، يتناول سيوران في هذا الكتاب ما بعد التاريخ. ويحاول تخيل إحدى النهايات المحتملة لحضارتنا، "بالمراهنة على الكارثة ». النهاية المحتومة للانسانية "مقدرة ومكتوبة في بداياتها" ذلك أن الجنس البشري بعد أن غادر براءته الأولى، يمعن في الانحطاط والعماء.
10 – تمارين الاعجاب
هذا الكتاب يضم المقالات والمقدمات التي كتبها سيوران عن كتاب آخرين. غير أن هواجسه الشخصية تبرز من خلال آرائه في الآخرين. وكما يدل عنوان الكتاب فهو "بورتريهات اعجاب". ويتحدث فيه سيوران عن مفهومه الخاص للأدب "الكتابة رذيلة » لكنها رذيلة خلاص، لأن التعبير يطهر وهذه ليست كلمته، فلنقل: لأن التعبير يؤدي الى بعض الراحة. ومن آرائه في الآخرين نقتطف:
– جوزيف دي ميستر: أشد المفكرين شغفا وتعصبا. وحش فاتن !
– بيكيت: جعل من حب الكلمات "سنده الوحيد".
– هنري ميشو: المهووس القادر على أن يكون نزيها. المتصوف المكبوت.
– ميرسيا إلياد: بعيد وغريب عن كل الديانات التي يدرسها، ومع ذلك فهو قادر على العطاء والخصب.
– سان جون بيرس: يتحدى العدم "من أولئك الشعراء الوسطاء في النزاع القائم بيننا وبين العالم ». وهنا كتاب آخرون نستطيع تقريبه منهم:
– كايوا: المخفق في عالم التصوف.
– بورخيس "الحضري المترحل " أو "الحضري بلا وطن ".
11- اعترافات ولعنات
متابعة للحكم المقطعية التي تأتي على شكل شذرات، وتتناول التيمات المعتادة: الخواء، الخيبة، انحطاط الكائن الخ.. وصولا الى الشيخوخة، ومحاسبة الذات. منذ العنوان: اعترافات، بمعنى التمرد والقبول. ومضات، لحظات فالتة. حكم قصيرة «أصبنا كنا بعدوى الأمل ». عودة الى تأمل الموسيقى. نوع من عودة الفكر الى لحظات صفاء وسكينة. تسليم: "ليس للحياة أي مبرر وجود، وهذا هو المبرر الوحيد، على أية حال ".
12 – دموع وقديسور
ترجم هذا الكتاب من الرومانية من كتابة الشباب، مع تشذيبها من الحمية الأولى. نوبات تفكيره "الشغف بالمطلق في روح مرتابة ". الدموع تعكس آلام الحنين للمطلق، والمنفى الماورائي. والقديس أو المتصوف ينوس "بين هوى الوجد ورعب الخواء".
13- على ذرى اليأس
هو أول كتاب وضعه بالرومانية وكان في الثانية والعشرين من العمر. وهو كتاب منبثق من عنف داخلي "لو لم أكتبه لانتحرت ». غنائية وشكوى من الوجود. مديح النار. الشباب. إحالات الى الطاقة الحيوية عند نيتشه. "استسلام المتصوف ينبجس من الخواء وليس من النار الباطنية " ويؤاخذ الحكيم لأنه يتجاهل "مأسوية الهوى" فما من فكر خلاق حقا يتخلى عن ذاتيته، ومن هنا صفة "المفكر العضوي" التي ينتسب اليها سيوران، أي المفكر الذي يحول حالاته الى معرفة ويستخلص نظرياته من لحمه ودمه من تجربته الذاتية.
بعض آرائه
قبل تقديم مختارات من شذراته، ارتأينا ترجمة مقتطفات من آرائه المبثوثة في عدد من المقابلات التي أجريت معه، وقد صدرت بدورها ضمن أعماله الكاملة عن منشورات "جاليمار» الفرنسية ونبدأ بمقتطفات من كتاب سيلفي جودو "محاورات مع سيوران » الذي صدر سنة 1990 عن منشورات جوزيه كورتي.
يقول سيوران متحدثا عن الفترة التي سبقت تأليف كتابه الأول "على ذرى اليأس " في بداية شبابه: "عشت لحظات، يكون المرء فيها مأخوذا خارج المظاهر. هزة فورية تأخذك من دون استعداد. يجد الكائن نفسه في امتلاء خارق، أو بالأحرى في خواء حماسي. كانت تجربة عظيمة، الكشف المباشر ببطلان كل شي. تلك الاشراقات فتحت لي مجال معرفة السعادة القصوى التي يتحدث عنها المتصوفة. وخارج هذه السعادة المؤقتة لا يمتلك أي شي ء وجودا حقيقيا. نحن نعيش في مملكة الأشباح. ونحن على أية حال، لا نعود كما كنا أبدا، سواء أكانت تلك العودة من الفردوس أم من الجحيم ".
" الخطر لدى المتصوفة ليس الشيطان بل ذلك الخواء" (بعد الكشف ).
"الخواء يغدو معرفة. والتصوف يغدو فاقدا للمطلق ".
"الاخفاق هو الصيغة العصرية للعدم. طيلة حياتي كنت مفتونا بالفشل. وما يعقبه من ندم، وهو ما عبرت عنه في كتابي على ذرى اليأس ".
وعن الموسيقى يقول: «أفضل دليل على أن الموسيقى ليست من جوهر انساني، بأي شكل من الأشكال، هو أنها لا تبعث أبدا على تصور الجحيم.. انها الفن الوحيد الذي يضفي معنى على كلمة المطلق، إنها المطلق معيشا لكن عبر وهم كبير لأنه يتلاشى مع عودة الصمت..».
وعن الشعر "بقدر ما تطول علاقتنا بالشعر نتمكن من مغالبة الخواء الداخلي. وبالشعر كما بالموسيقى، نلامس شيئا ما، جوهريا. وفي الشعر يستبعد الزمن، واذا أنت خارج الصيرورة.. الموسيقى والشعر غيبوبتان متساميتان ".
عن أقرب كتبه الى نفسه: (كتاب«مساويء أن يكون المرء قد ولد" التزم بكل كلمة في هذا الكتاب الذي نستطيع فتحه في أي صفحة، وليس من الضروري قراءته كله. كذلك أميل الى كتاب "قياسات المرارة " لأن كثيرين هاجموه. غير أنني أتمسك بشكل خاص بالصفحات السبع الأخيرة من كتاب "السقوط في الزمن " وهي تمثل أفضل ما كتبت وأكثره جدية ).
ومن مقابلة أجراها معه مايكل جاكوب سنة 1988: "بقيت مجهولا تماما طيلة ثلاثين عاما. وكانت كتبي لا تباع قط. لقد تقبلت ذلك الوضع جيدا لأنه يناسب رؤيتي للأشياء. الأعوام الوحيدة المهمة هي تلك التي عشتها مجهولا. أن تكون مجهولا ففي ذلك لذة _ مع جوانب من المرارة أحيانا. لكنها حالة خارقة ".
وعن مسألة انتمائه، يجيب في مقابلة أجراها معه فرناندو سافاتر سنة 1977"أشعر أنني منفصل عن كل البلدان وعن كل المجموعات. أنا متشرد ميتافيزيقي. أشبه قليلا أولئك الرواقيين في نهاية الامبراطورية الرومانية والذين كانوا يشعرون بأنهم "مواطنو العالم " الأمر الذي يعني أنهم مواطنو اللامكان ".
ويتحدث عن الضحك في مقابلة مع ليئا فرجين سنة 1984: "الضحك هو المبرر الكبير للحياة ! وعلي القول إنني، حتى في أعتى لحظات اليأس، كنت قادرا على الضحك. هذا ما يميز الانسان عن الحيوان. الضحك ظاهرة عدمية، تماما كما يمكن للفرح أن يكون حالة مأتمية ".
وعن تفضيله للكتابة المقطعية أو الشذرات يقول في حواره مع سيلفي جودو: "الشذرة وهي الشكل الوحيد الملائم لمزاجي، تمثل كبرياء لحظة محولة مع كل التناقضات التي تحتويها. إن عملا ذا نفس طويل، وخاضعا لمتطلبات البناء ومزيفا بهاجس التتابع، هو عمل من الافراط في التماسك بحيث لا يمكن أن يكون حقيقيا".
المختـــارات
* كتاب" موجز التفكيك ":
في كل انسان ينام نبي، عندما يستيقظ يكون الشر قد زاد قليلا في العالم.
الخلاص ينهي كل شي ء وينهينا.
العيب في كل مذهب للخلاص يكمن في إلغاء الشعر، مجال عدم الاكتمال. من شأن الشاعر أن يخون نفسه اذا طمع في الخلاص: فالخلاص هو موت النشيد، نفي الفن والروح.
لا يوجد انسان لم يتمن _ لا شعوريا على الاقل _موت انسان آخر. كل واحد يجر وراءه مقبرة أصدقاء واعداء، وليس من المهم كثيرا أن تكون تلك المقبرة قد أحيلت الى مهاوي القلب أو أسقطت على سطح الرغبات.
الحرية مبدأ أخلاقي من جوهر شيطاني.
ما يجعلني أعترف بأن الشاعر حقيقي يكمن فيما يلي. عند قراءته، ومعايشة كتاباته مطولا، يتغير شيء ما في داخلي..
الحياة – هدية قدمها للأحياء أولئك المهووسون بالموت..
كتاب "قياسات المرارة "
الشعر الجدير بهذا الاسم يبدأ من تجربة القدر. وحدهم الشعراء السيئون أحرار.مع كل فكرة تولد فينا، يتعفن شي ء ما فينا.
لا أكون أنا- أنا إلا إذا كنت تحت أناي أو فوقها. وقت الغضب أو وقت الانهيار، عندما أكون في مستواي المعتاد لا أدرك أنني موجود.
ما بين السأم والوجد تجري كل تجربتنا مع الزمن.
ندرك أننا لم نعد في مرحلة الشباب عندما نكف عن اختيار أعدائنا، أو عندما نكتفي بمن عندنا منهم.
تأتي أحقادنا كلها من بقائنا تحت مستوى ذواتنا وعدم قدرتنا على اللحاق بها. وهذا لن نغفره أبدا للآخرين. كل تجربة عميقة تصاغ بعبارات فيزيولوجية.
* عن الحب
فن الحب؟ هو في القدرة على الجمع بين مزاج مصاص دماء ورصانة شقائق النعمان.
من يقتل نفسه من أجل غانية يدخل تجربة أكمل وأعمق من تجربة البطل الذي يبلبل العالم.
أحلم أحيانا بحب بعيد وبخاري مثل انفصام العطر..
ثمة راهب وجزار يتشاجران داخل كل رغبة.
لو كان أدم سعيدا في الحب لوفر علينا التاريخ. الجنس: بلقنة الأجساد (…)
في اللذة كما في أوقات الهلع، نعود الى أصولنا، الشامبانزي المستبعد بغير وجه حق، يبلغ المجد أخيرا – ولو لمدة الصرخة.
مازلنا نحب.. على أية حال، وهذه الـ"على أية حال. تغطي لانهاية ».
* عن الموسيقى
– لولا هيمنة المفهوم لحلت الموسيقى محل الفلسفة، ولكان في ذلك فردوس الوضوح، الدقيق عن التعبير، وباء من النشوة المتنقلة.
– ما قيمة كل الألحان مقارنة بتلك التي تخنق فينا الاستحالة المزدوجة للعيش وللموت !
– الموسيقى ملجأ الأرواح التي جرحت السعادة.
– ما من موسيقى حقيقية إلا تلك التي تجعلنا نجس الزمن.
* دوار التاريخ
– الأحداث: أورام الزمن..
– تطور: كان من شأن برومثيوس، في أيامنا أن يكون نائبنا يمثل المعارضة – الانسان كائن يفرز الكارثة.
* مصادر الخواء
– وحدها الروع المتصدعة يكون لها انفتاح على الماوراء.
– للحشرات جحيم ينقصه، لحسن الحظ، مسرحي أو مؤرخ وقائع.
– الأرق هو شكل البطولة الوحيد المنسجم مع السرير.
– لا يبلغ الجنون الا الثرثارون والصموتون: هؤلاء المفرغون من كل لغز وأولئك الذين خزنوا من الألغاز الكثير.
– قال لي أحد المرضى:"ما الجدوى من آلامي؟ لست شاعرا حتى استثمرها أو افتخر بها.".
– في حالة الشحوب ينسحب دمنا كي يكف عن التدخل _أو الاعتراض _بيننا وبين لسنا ندري ماذا.
– المرض منفذ لا ارادي الى ذواتنا، يجبرنا على التوغل "في العمق " ويحكمنا به _المريض؟ انه ميتافيزيقي رغم أنفه.
– بعد البحث سدي عن بلد تنتمي اليه، ترتد الى الموت، حتى تتمكن في هذا المنفى الجديد، من الاقامة كمواطن.
– الحيوان المنوي قاطع طريق في حالته الخام.
* كتاب "السقوط في الزمن "
(مقتطفات من الصفحات السبع الأخيرة المفضلة لدى سيوران )
– ما أميزه في كل لحظة من اللحظات، هو لهاثها واحتضارها، وليس الانتقال نحو لحظة أخرى. أهيىء زمنا ميتا، وأتمرغ في اختناق الصيرورة.
– الآخرون يسقطون في الزمن، أما أنا فقد سقطت من الزمن.
– اذا كنت لا أحس بالزمن، اذا كنت بعيدا عنه أكثر من أي كان، فأنا بالمقابل أعرفه. إنني أتأمله باستمرار: انه يشغل مركز وعيي.
– ارحموا من كان في الزمن ولم يعد قادرا أن يكون فيه !
– ثمة شيء ما، مقدس، في كل كائن لا يعرف أنه يوجد، في كل أشكال الحياة المتخلصة من الوعي. ومن لم يحسد النبات قط ينتقل الى جانب المأساة الانسانية.
– كيف يؤدي وعي المرء بالموت الى تلطيف فكرة الموت أو تأخير حدوثه؟ عندما يدرك المرء أنه فان، فمعنى ذلك في الواقع أنه يموت مرتين فقط، ولا يظل يموت في كل مرة يدرك فيها أنه سيموت.
– الجميل في الحرية أننا نتعلق بها في النطاق ذاته الذي تبدو فيه مستحيلة.
– بعد أن أفسد الانسان الأبدية الحق، سقط في الزمن، حيث تمكن من العيش حتى وان خانته. البحبوحة: الثابت أنه حقق الانسجام والتكيف. إن عملية ذلك السقوط والتكيف تدعى التاريخ.
– لكن ثمة سقطة أخرى تنتظره وتهدده وان كان يصعب تقدير مداها. هذه المرة لم يعد الأمر يتعلق بسقوطه من الأبدية، بل من الزمن، والسقوط من الزمن يعني السقوط من التاريخ، انه الصيرورة المعلقة…
لابد من الاعتراف بأن الزمن يشكل عنصرنا الحيوي، وعندما ينزع منا، نجد أنفسنا بلا سند، في اللاواقع تماما، أو في قلب الجحيم. وربما في الاثنين معا، في السأم، ذلك الحنين االنوستالجي) الظاميء الى الزمن، واستحالة اللحاق به والاندراج فيه، والاحباط من رؤيته يتدفق هناك في الأعلى، فوق بؤسنا وشقائنا. لقد خسرنا الأبدية والزمن: والسأم هو اجترار هذه الخسارة المزدوجة.
* كتاب " الخلق السيىء"
– نصيب من أفرط في التمرد هو الافتقار الى أية طاقة أخرى غير الخيبة.
– قال شحاذ: "عندما أبكي بجوار زهرة، تنمو بوتيرة أسرع.».
– الوظيفة الوحيدة للذاكرة تكمن في مساعدتنا على الندم.
– يمكن الزعم بكل ثقة أن القرن الحادي والعشرين، وهو أكثر تقدما من قرننا، سوف ينظر الى هتلر وستالين باعتبارهما طفلين في جوقة.
– يا لكمية التعب التي ترتاح في دماغي!
– يعتبر ثرثرة كل حوار مع شخص لم يعرف الألم.
– نظريا لا يهمني كثيرا أن أعيش أو أن أموت، عمليا، تشغلني كل أشكال القلق التي تفتح هوة بين الحياة والموت.
– كل فكرة خصبة تتحول الى فكرة كاذبة، تنحل الى معتقد.وحدها الفكرة العقيم تحافظ على حالة الفكرة.
– الانسان هذا المبيد، يلاحق كل ما يعيش، كل ما يتحرك قريبا سوف نتحدث عن آخر قطة.
– كل كائن هو نشيد مدمر.
– الحكمة تستر جراحنا: انها تعلمنا كيف ننزف خفية.
– مللت من كوني أنا، ومع ذلك أتوسل للآلهة باستمرار كي تعيدني الى ذاتي.
– كنا نعيش في قرارة جحيم، وكل لحظة فيه معجزة.
* كتاب "مساويء أن يكون المرء قد ولد"
– كلما توغل الفن في طريق مسدود ازداد عدد الفنانين. هذا الخلل يكف عن كونه كذلك اذا فكرنا بأن الفن، في طريقه الى النضوب، صار مستحيلا وسهلا في آن.
– ما يجعل الشعراء السيئين أكثر سوءا هو اكتفاؤهم بقراءة الشعراء (مثل الفلاسفة السيئين الذين لا يقرأون الا الفلاسفة الرديئين ) والحال أنهم _ الشعراء _ قد يستفيدون أكثر من كتاب في علم النبات أو الجيولوجيا. لا يمكن للمرء أن يفتني الا اذا عايش اختصاصات بعيدة عن اختصاصه.وهذا لا يكون صحيحا، طبعا، الا في المجالات التي تستفحل فيها الأنا.
– ترياق السأم هو الخوف. ينبغي أن يكون الدواء أقوى من الداء.
– الخوف يؤدي الى الوعي، الخوف المرضي وليس الخوف الطبيعي والا لكانت الحيوانات قد بلغت درجة وعي تفوق وعينا.
– الطريقة الوحيدة لبلوغ ما هو كوني تكمن في ضرورة انشغالنا بما يخصنا فقط.
– اذا أردت التعرف على بلد، يتوجب عليك أن تعايش كتابه الذين من الدرجة الثانية، فهم وحدهم يعكسون طبيعته الحقيقية. أما الآخرون فإنهم إما يشهرون بـ أو يشوهون ضحالة مواطنيهم: لا يريدون ولا يستطيعون أن يكونوا في مستوى واحد معهم. إنهم شهود مشبوهون.
– نتقبل من دون رعب فكرة النوم المتواصل، وبالمقابل من شأن اليقظة الأبدية (وهذا هو معنى الخلود لو كان ممكنا) أن تصيبنا بالرعب.
– اللاشعور وطن. الوعي منفى.
– كل جيل يعيش في المطلق، ويتصرف كما لو أنه بلغ القمة، بل نهاية التاريخ.
– لا يمتلك قناعات إلا ذاك الذي لم يعمق شيئا.
– كل شعب،في مرحلة من مراحل تطوره، يذهب به الظن الى أنه شعب مختار. عندئذ يعطي أفضل وأسوأ ما فيه.
-… من الصباح الى المساء، نصنع الماضي.
– كلما مر الزمن ازدادت قناعتي بأن أعوامي الأولى كانت فردوسا. ولا أشك أنني مخطيء. لو كان هناك فردوس فإنه يتوجب علي البحث عنه قبل
أعوامي كلها.
– في الفن كما في كل شي ء يكون الشارح عادة نبيها وفطنا أكثر من النص المشروح. هذا ما يمتاز به القاتل على الضحية.
* كتاب"إعترافات ولعنات "
– إن تطبيق المعاملة ذاتها على الشاعر وعلى المفكر تبدو لي خطأ في الذوق. ثمة مجالات لا ينبغي أن يقترب منها الفلاسفة. تفكيك القصيدة كما تفكك منظومة ( فلسفية ) هو جريمة، بل عمل تدنيسي وانتهاك حرمات.
أمر مثير للفضول: الشعراء يبتهجون عندما لا يفهمون ما يكتب عنهم. ذلك أن الرطانة تغريهم وتوهمهم بتحقيق تقدم.
هذا الضعف يجعلهم دون مستوى نقادهم وشارحيهم.
– أفضل طريقة للتخلص من عدو هي أن تمدحه أينما حللت. سوف ينقلون اليه ذلك فلا تبقى لديه قوة لازعاجك: لقد حطمت قوته.. وسوف يواصل حملته ضدك دائما، لكن من دون صرامة وبأس، إذ يكون قد كف لاشعوريا عن كرهك.لقد هزم وهو يجهل هزيمته.
– أولئك الابناء لم أرغب في مجيئهم، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها
– لا يسكن المرء بلادا، بل يسكن لغة، ذلك هو الوطن ولا شيء غيره.
– من يعش الخلود يفوت.. سيرته الذاتية، وفي خاتمة المطاف لا تكون ناجزة أو مكتملة إلا المصائر المحطمة.
– الحلم بإلغائه للزمن، يلغي الموتى. والمقوى يستغلون ذلك كي يزعجونا، البارحة رأيت أبي. كان كما عرفته دائما. ومع ذلك ترددت قليلا. واذا لم يكن هو؟ تعانقنا على الطريقة الرومانية، لكن كما هي الحال معه دائما، من دون دفق حنان، من دون حرارة من دون إظهار مشاعر الفرح معلما هو متبع لدى شعب منفتح. وبسبب تلك القبلة المتحفظة، الثلجية، تيقنت أنه هو فعلا، استيقظت وأنا أقول لنفسي إن المرء لا يبعث من الموت إلا دخيلا منغصا، وان ذلك الخلود المزعج هو الوحيد الموجود.
– النقد تفسير خاطيء ومعكوس: ينبغي أن تتم القراءة من أجل فهم الذات، لا من أجل فهم الآخر.
– كل رغبة تبعث في داخلي رغبة مضادة بحيث، مهما فعلت، لا أجد قيمة إلا لما لم أفعل.
– "سوف تحل نهاية الانسانية عندما يصير الجميع مثلي " هكذا قلت ذات يوم، في سورة لست مؤهلا لوصفها.
– ما أشد ما كان البشر يتبادلون الكراهية في الظلمة وعفونة الكهوف ! هذا ما يجعلنا نفهم لماذا لم يرغب الرسامون الذين كانوا يتعيشون داخل تلك الكهوف،في تخليد وجوه من يشبهونهم وفضلوا عليهم وجوه الحيوانات.
– كثيرا ما ينبجس الجوهري اثر حديث طويل. الحقائق الكبرى تقال على العتبات.
– الرسالة الجديرة بهذا الاسم تكتب تحت وطأة الاعجاب أو الاستنكار أي المبالغة في كلتا الحالتين. لهذا نفهم لماذا تكون الرسالة الجدية رسالة ميتة في المهد.
– تغيير الكاتب لغته يعادل كتابة رسالة حب بوساطة قاموس.
– ليس غير الموسيقى لربط صلة لا تنفصم بين كائنين. أي هوى هو هوى فان. إنه ينحط شأنه شأن كل ما له صلة بالحياة، في حين أن الموسيقى ذات جوهر أسمى من الحياة، وبالتالي أسمى من الموت.
– من الملاحظ أن الرطانة الفلسفية، وهذا عين الصواب، سريعة الانتشار، شأنها شأن اللهجة العامية، والسبب؟ الأولى مفرطة في تكلفها، والثانية مفرطة في حيويتها، إفراطان مدمران.
– الانتعاظ أو هزة الجماع، ذروة، اليأس أيضا. أحدهما يدوم لحظة، والثاني يدوم حياة.
– حقيقة ان الحياة ليس لها معنى، هو مبرر للعيش، وهو الوحيد على أية حال.- في بحثها عن صيغة قابلة لارضاء الجميع، ركزت الطبيعة اختيارها على الموت، والموت، كما كان متوقعا لم يكن ليرضي أحدا.
– يعيش أيامه الأخيرة منذ شهور منذ أعوام، ويتحدث عن نهايته بصيغة الماضي، عن وجود يلي الممات. استغربت كيف أنه لا يأكل شيئا تقريبا ويتوصل الى البقاء:"جسدي وروحي استغرقا الكثير من الزمن والضراوة من أجل الالتحام، الى درجة أنهما لا يتوصلان الآن الى الانفصال." واذا لم يكن له صوت تشوبه نوبة احتضار فإن مرد ذلك الى كونه لم يعد على قيد الحياة منذ زمن طويل. "أنا شمعة مطفأة " هذه أصح عبارة قالها بخصوص تحوله الأخير. وعندما حدثته عن احتمال حدوث معجزة، كان جوابه: "يتطلب الأمر كثيرا من المعجزات ".
– كان علينا الا نتكلم إلا عن الأحاسيس والرؤى: وليس عن الأفكار أبدا، لأنها لا تنبثق من دواخلنا ولا تكون ملكنا حقا أبدا.
– مدمر ومكتس بالسأم، هذا الاعصار على البطيء.
– في التخلص من الحياة حرمان من سعادة السخرية منها. هذا هو الرد الوحيد على من يخبرك بأنه يرغب في التخلص منها.
– أجدى طريقة لاكتساب أصدقاء أوفياء أن تهنئهم على فشلهم.
– عندما نموت نصير سادة العالم.
– التدفق الخالص للزمن. الزمن العاري والمختزل في جوهر متدفق بلا انقطاع للحظات، ندركه في الأرق. لحل شي ء يختفي. ويتسرب الصمت الى كل مكان ننصت فلا نسمع شيئا. تكف الحواس عن التوجه نحو الخارج. نحو أي خارج؟ انه انغمار لا يبقى فيه الا هذا التدفق الخالص من خلالنا، وهو نحن أيضا ولن ينتهي الا مع النوم أو طلوع النهار.
– اذا كنت أفضل النساء على الرجال فلانهن يتميزن عن الرجال باختلال أشد في التوازن، وبالتالي، بتعقيد أكثر، وتوقد ذهن وصلافة، من دون نسيان ذلك السمو الغامض الذي تمنحهن إياه عبودية القرون.
إن الندم. كهجرة في الاتجاه المعاكس، إذ يمتعنا باستعادة حياتنا، يوهمنا بأننا عشنا الكثير من الحيرات.
– يقاس عمق أي هوى بالمشاعر الدنيئة التي تسكنه والتي تضمن كثافته وديمومته.
– الكآبة تتغذى من ذاتها ولهذا لا تعرف كيف تتجدد.
– كلما تألمنا أكثر طالبنا بالأقل. الاحتجاج علامة على أن الانسان لم يجتر أي جحيم.
– موقعنا في مكان ما، بين الوجود والعدم، أي ما بين وهمين.
– رفعت جبال الهملايا طيلة الليل – كيف أسمي ذلك نوما؟
– بعد كلام مثير لمدة ساعات هأنذا يغزوني الفراغ، الفراغ والخزي. أليس من البذاءة أن يكشف المرء أسراره ويعري كيانه، أن يحكي ويستمع الى من يحكي، في حين أن أكثر لحظات حياته امتلاء قد عرفها خلال الصمت، خلال الادراك الحسي للصمت؟
– أنت الآن هاديء، لقد نسيت عدوك. أما هو فيسهر ويترقب. ومع ذلك عليك أن تكون مستعدا عندما يهجم. سوف تنتصر عليه لأن الضعف تعظن منه بسبب ذلك الهدر الهائل للطاقة، أي الحقد.
– ورأى الرب أن النور حسن ".
هذا أيضا هو رأي الفانين، ماعدا الارقين. فالضوء عندهم اعتداء، جحيم أقسى من جحيم الليل.
– لا شي ء أشد ازعاجا لاستمرارية التأمل من الشعور بالحضور الملح للدماغ. ربما هنا يكمن السبب في أن المجانين لا يفكرون إلا من خلال بروق (ومضات ).
– منذ القدم ونحن نموت ومع ذلك لم يفقد الموت شيئا من فضارته هنا يكمن سر الاسرار.
– أن تقرأ يعني أنك تترك آخر يجهد من أجلك. إنه الشكل الأكثر لطفا في درجات الاستغلال.
– ما أن أخرج من "أنا" حتى أنام.
– لكي تبني المحارة قرقعتها يتوجب عليها أن تمرر في جسمها ما يعادل وزنها خمسين ألف مرة من مياه البحر…. الى أين ذهب باحثا عن دروس في الصبر!
– أن نكون أو لا نكون.
.. لا هذا ولا ذاك.
– حذار من المفكرين الذين لا تعمل عقولهم الا انطلاقا من الاقتباس.
– اذا كانت الروابط بين البشر على هذه الدرجة من الصعوبة فلأنهم خلقوا للعراك وليس لاقامة "روابط"
– الارتياب يتسلل الى كل شي ء، لكن مع استثناء مهم: لا وجود لموسيقى ارتيابية.
– آخر شاعر مهم في روما، جوفنال، وآخر كاتب لامع في اليونان لوسيان، كلاهما تعامل مع السخرية التي انتهى اليها أدباهما، كما ينبغي لكل شي ء، سواء أكان أدبا أم لا، أن ينتهي.
– يا للحظ الذي يتمتع به الروائي أو المؤلف المسرحي في التعبير متنكرا، وفي التخلص من صراعاته، وأكثر من ذلك، في التخلص من كل أولئك الشخوص الذين يتعاركون داخله ! الأمر مختلف بالنسبة للباحث فهو محصور في جنس جاحد لا يسقط فيه تعارضاته الخاصة إلا عبر مناقضة نفسه في كل مرة. في الحكمة تحرر أوسع- انتصار للأنا المجزأة.
– آراء نعم، قناعات لا، هذا هي نقطة البدء للافتخار الفكري.
– لا شي ء يعادل الظهور المفاجيء "للصرصور" لحظة الاستيقاظ. انه يعيدك الى الوراء مليارات السنين حتى العلامات الأولى، حتى امارات الوجود، أي في الواقع، حتى المبدأ ذاته للصرصور.
– كل ما نستطيع تصنيفه قابل للتلف لا يدوم إلا ما هو قابل لتعدد التأويل.
– في، أوج الليالي، لا أحد غير مجتمع الدقائق، كل دقيقة تتظاهر بمرافقتنا ثم تهرب. فرار يليه فرار.
– كلما تقدمنا في السن أدركنا أننا نتوهم أنفسنا متحررين من كل شي ء وأننا في الواقع لسنا متحررين من أي شي ء.
– الأوراق الأخيرة تسقط متراقصة. لابد من جرعة كبيرة من فقدان الحس كي نواجه الخريف.
– ما أعرف يقوض ما أريد.
– يأتي وقت لا يقلد المرء فيه الا نفسه.
– في لغة أخرى مستعارة (غير اللغة الأم ) نكون واعين بالكلمات. فهي لا تكون موجودة فيك بل خارجك. هذا البون بينك وبين وسيلتك للتعبير يفسر صعوبة، بل استحالة، أن يكون المرء شاعرا في غير لغته. كيف عساك تستخلص جوهر كلمات ليست متجذرة فيك؟ إن القادم الجديد يعيش على سطر الكلمة، ولا يمكنه، في لغة تعلمها متأخرا، أن يترجم ذلك الاحتضار الباطني الذي ينبجس منه الشعر.
– "لماذا الشذرات " سألني مؤاخذا ذلك الفيلسوف الشاب.
– "بسبب الكسل، بسبب النزق، بسبب القرف، لكن لأسباب وبما أنني لم أجد منها سببا واحدا،أطنبت في تفسيرات بدت له جادة وانتهت باقناعه.
– على اية حال،لم أضع وقتي،أنا أيضا تمرغت،كأي انسان،في هذا الكون الزائغ.
الملـحق
هذه شذرات مختارة من كراس نشرته مجلة «ما جازين ليتر ير" المجلة الأدبية الفرنسية (سبتمبر 1997) وتضمن بعض الكتابات التي لم تنشر ضمن الأعمال الكاملة.
اذا كان هناك نحنق للمطلق، فهو انا. أقول هذا بكل الافتخار المطلوب. أنا متقدم كثيرا على الموت.
أنا فيلسوف عواء. أفكاري اذا كانت هناك أفكار، تنبح، إنها لا تفسر شيئا، بل تنفجر.
– بالأمس في القطار الذي كان ينقلني من كومبياني الى باريس، امامي فتاة (9اعاما) وشاب. حاولت مقاومة اهتمامي بالفتاة وبجاذبيتها. ولكي أتوصل الى ذلك، تخيلتها ميتة، في حالة جثة متخللة، وتخيلت عينيها، وجنتيها، أنفها، شفتيها، كل ما فيها، في حالة تحلل، لكن، من دون طائل. ظلت فتنتها تجذبني، تلك هي معجزة الحياة.
– منذ خمسة وعشرين عاما وأنا أعيش في الفنادق. وهذا امتياز، ما من استقرار في أي مكان. وهكذا لا يتمسك المرء بشي ء. ويعيش حياة عابر سبيل. إنه شعور دائم بالرحيل الموشك، ادراك لواقع انتقالي الى أقصى حد. ماذا تفعل؟ انتظرني
سأرمي انفجاري. هذا ما امتاز به على القلقين الكبار الذين كانوا إجمالا مستسلمين وهادئين.
– لو كانت لي شجاعة كافية، كل يوم، كي أصرخ ربع ساعة، لتمتعت بتوازن كامل.
– الى السيد «س » الذي ما انفك يضرب نفسه بعنف لاعتقاده بانه مسؤول عن انتحار زوجته _أوضحت بأن الانتحار كامن فيها، وأنها لم تكن تنتظر سوى ذريعة حتى تقتل نفسها، وإذا كان له من ذنب فهو توفيره لتلك الذريعة. هذا كل ما في الأمر «كان الانتحار فيها، تماما كما كان تبكيت الضمير فيك " قلت له.
– ما الندم، أو تبكيت الضمير؟ إنه الرغبة في أن يجد المرء نفسه مذنبا، في ان يلتذ بتمزيق نفسه، في أن يرى نفسه ويحسها أسود مما هي في الواقع.
– فقد نابليون ثلاثين ألف جندي في معركة "فاغرام " من دون أن يشعر بأي ذنب عانى من سوء المزاج فقط _ لكن ما جدوى ملاحظة هذه الامور؟ إن الشعور بالذنب لا يصيب إلا الذين ينقصهم الفعل، الذين لا يستطيعون الفعل. وهكذا فإن الندم عندهم يحل محل العمل.
– عندما يكون المرء وحده، حتى وان لم يفعل شيئا. لا يحس بانه يبدد وقته لكنه تقريبا لا يبدده الا إذا كان في رفقة.
– لاشيء لدي حتى أقوله؟ لا يهم ! هذا "اللاشي ء" حقيقي وخصب، اذ لا وجود لحوار عقيم مع الذات. هناك نتيجة دائما، حتى وان تمثلت في أمل ملاقاة الذات، ذات يوم.
محمد علي اليوسفي (كاتب ومترجم من المغرب)