«هو موت الغناء/ لكن إن رغبت سأترك الحقل مضاء» الذين غادروا المجموعة الشعرية الصادرة عن دار النهضة العربية، للشاعر اسكندر حبش منسوجة من الليل، مأخوذة بهدوء لمن يستطيع إضاءة الحقل، يشد القارئ فيها أكثر ما يشدهُ الليلُ المنتشر كالنور، سيحاولُ القارئ أن يعيد تعريف الليل مجددا بوصفه نورا، دونَ أن يغيبَ عن بالهِ انهُ يقرأ آثار الذين غادروا، آثارهم التي تبدأ في (نقطة من ليل) أو بالأحرى في (بعض حواف لليل). الذين غادروا في كل هذا الليل يختلطون به تماماً حتى يصعب التأكد من إنهم هم الذين غادروا حقاً أم أن غيرهم الذين غادروا، أم في الحقيقة الصلبة نحنُ الذين غادرنا أيضا، إنهُ النسيجُ المُدوّر في عتمة الليل حين يستحيلُ تمييزُ المغادرة الحقيقية فالكل في النهاية غادروا، هم ونحنُ والآخرون كلنا نشكل معاً الذين غادروا، وإذا كانَ الزمنُ كلهُ ليلاً حقاً فمن سيعلم من هم المغادرون حقاً، في هذا الليل؟: «بالكاد لا تزال آثار بعض ليل/ بالكاد بقي موت الغناء/ فجر ورغوة ضوء/ بالكاد بقي صمت. تستيقظين فوق قرميد النعاس/ تستيقظين/ تمضي الظلال/ إن رغبت/ أترك الحقل مضاء» ص46 ستشد القارئ تلك السلاسة اللغوية في الوصف والتي تذكرني بوصف رغوة الحليب فوق الموقد عند مارسيل بروست: «فجر ورغوة ضوء»، السلاسة ليست إلا ثياب لهذا الليل (ليل الذين غادروا) لأن الجسدَ الليلي خلف الثياب جسدُ ألم: «وأقول للعطر في ثوبك/ كم من سبب/ نملأه/ بكل هذا الألم»، إنهُ الألم لكن: «ارم/ هذا الألم/ تماماً كحصاة/ كي يطفو الصمت على سطح/ المياه»، وإنهُ الألم: «ارم هذا الألم/ ثمة ألم آخر/ لم نكتبهُ بعد»، هي كتابة الألم إذن، والذين غادروا كلهم: هم، نحن، والآخرون، يخلّفون ألماً في مغادرتهم الليلة، كل خطوةٍ منهم، ومنا، ومن الآخرين تتركُ ندوباً في القلب، والقلب يتلوى من شدة الألم حين يكون «هو وجهك/ الذي نكتبه/ في كل هذا الألم»، الألم في النهاية هو المسافة الليلية التي تفصلُ بين (المتغادرين) «هو الألم/ يأتي من عمق الليل»، على أن نلتفت لما يغطيهِ عنا الليل، فالمغادرة أيضاً أن نغدُرَ بالشمل، نغدر به ونغادره، قد يكون هذا الذي يكتب عن الذين غادروا ليس إلا الغدير، إنهُ الغدير الذي تركتهُ المياه وحيداً يكتبُ الألم، لأننا نرى غبار الغدير: «قد يثور، هنا، غبار الماء/ لا تتأخر كثيراً،/ من سيقرأ هذه الكتابة العمياء/ من سيضع الكلمة عند أول الصباح/ كي لا يعود ليل»ص155 شمسك «كيف أصف جسدا؟../ هي الكلمات/ التي تنطفئ/ بعيداً/ فوق هذه العانة»، الجسد المتبقي في ليل الذين غادروا، على السرير، عند العتبة، وخلف الأغنية التي تنتهي ولا تنتهي عند باب الحديقة، الحضور الذي في الجسد، المتبقي من ذلك الحضور بعدَ المغادرة «غامضة/ قصة جسدينا»، ودقائق الجسد «عين تنام فوق بطن» والأيدي: «أنت بين يدي/ زبد بحر../ المراكب بعيدة عن مناراتها»، وسبب العصفور الذي يطير، عصفور جسدها «أعلم/ غالباً ما تساءلت/ عن سبب هذا العصفور» ولكن الألم يجعل: «الشقاء للعصفور». نتعرف على الحب لكن من جهة المغادرة، الحب من الجهة الأخرى التي تسبب الألم حيث: «لم أزل أتردد/ بين هذا النهار/ وهذا الورد الفسيح/ الذي يسقط من ردائك الملقى/ فوق يدي»، الحب على هيئة أثر متبقي، وفي الأثر المتبقي يختلف التساؤل «من قال/ لهاتين اليدين/ بأن تشعلا/ حرائق الهضاب/ وأحلام الرسائل../ من قال لشمسك؟/ هنا نور العالم»، هي محاولة البحث عن أعذار شعرية في الليل المحلوب في هذه الكلمات الليلية. النصوص، لمسة حلمةِ الليل واستدرار حليب نقطة الليل «لازلت/ أنسج الكلمات/ كنقطة من ليل»، إنه الليل حيث تختلط الحدود بين مملكة الظلال ومملكة الظلام والكتابة تشبهُ احتطاب الليل «ظلك/ أم عتمة الليل؟»، فلم يعد التمييز ممكناً، الكل ممتزجٌ في نسيجٍ ليلي فـ «لا تولمي للعصافير»وفي نفس الوقت «تولمين للطائر/ وألملم ما تبقى من جسد»، وهي وحدها تستطيع أن تجعلَ الليل يغادر أيضاً مع الذين غادروا، هي، تستطيع أن تميت الليل «هل سيموت الليل/ على يدك؟» قد يموت الليل على يدها حقاً: لأن لها شمساً، لكن «من قال لشمسك أن تشرق باكراً؟» و: «من قال لشمسك هنا نور العالم؟!»، السؤال هنا عن شمسها لأن نور العالم ليس هنا، وهنا زمان وليس مكان، ونور العالم في زمانٍ آخر تماماً «كبرنا في هذه العتمة/ هنا نور العالم»!!، نور العالم في العتمة، وإذا ما تحقق الحلم بموت الليل فـ «هل ستطردينني من موت/ هذه العتمة؟»، من نور العالم؟! القبض على الحب في لحظة المغادرة قبض ناقص يشبهُ القبض على قميص يوسف، وبعد ذلك لا يبقى إلا أثر القميص في اليد، إحمرار الجلد في اليد والعنق، الشمس غادرت أيضاً أو هي التي قادت كل الذين غادروا، والبقاء يعني محاولة كتابة تلك الذكريات التي تتوارد على من غادرَهُ النوم، الكتابة أو نسج الليل وسط أوهام الليل ومخاوفه، محاولات القبض على قميص يوسف الهارب بالتدوين، بالكتابة، بإعادة التساؤل، بالذكرى: بتدوير الألم. لن يغيب عن القارئ كتابة التدوير القاسية التي تختفي في جسد الليل خلف الثياب الرهيفة للأسلوب السلس، أسلوب التدوير الذي يعتمده الشاعر طوال المجموعة، ذلك التدوير القاسي بسبب شدة الألم، تدوير الاعتصار، عصرُ القلب والكلمات والليل واللحظات والذكرى والأغاني، والدوران نفسهُ للحطاب الليلي الذي يضيعُ عليه تمييز الجهات ولا تسعفه العين في ليل الغابة فيظل يدور حول كل مكان، الدوار نفسهُ يلفنا في ليل الذي غادروا ويشبكُ علينا العُقَد متعمداً أن لا يسلس أبداً للقياد، وأن لا يفك الخيط السلس الدقيق، بل كل مرةٍ يلويه ويربطهُ مجدداً فوق ألم القلب، هنا نور العالم، في هذه العتمة، إثر مغادرة الشمس. الليل «أما زلت تصدق الماضي/ أما زلت تصدق المستقبل/ من قال لك إن هذا الحاضر/ لم يكن سوى ليل آخر»، الليل يمتد ويمتد ليطغى على الحاضر أيضاً، وحين يطغى الليل على الحاضر لا يعود هناكَ سوى هذا الليل المطبق، مادام الماضي غادَرَ وصار في الليل، والمستقبل أصلاً في الليل، وما دامت هنا العتمة: «هنا نور العالم»، والموت المظلم الليلي يتحول من ليله إلى بقايا نور: «سأسمي اسما وأصمت/ الموت/ هو أيضا/ بقايا نور»، الليل يطغى ويتكثف، ينسكبُ حليب الليل في نسيج نقطة ليل، في الكلمات التي تشكل أثراً للذين غادروا، أثرُ الليل الذي يتبعه القفّار، عندها سيكون مفهوماً لماذا تبدأ (أيام لم تغادرنا) بهذا المقطع: «لماذا هذا الوقت يحفر أخدوده؟/ لماذا هذه المياه الثمينة تتبخر؟»، إنها أيام لم تغادرنا لكنها وقتٌ يحفر أخدوده، ومياهٌ ثمينة تتبخر، أي أنها أيامٌ في حالة مغادرة أيضاً لكنها تبقى، أيامٌ تغادر كالذين غادروا لكنها مثلهم تبقى، في الليل، في تلك الليلة، ذلك اليوم، الليلة واليوم اللذان صارا كل ليلة، والليلة التي أدخلت الأثرَ كله في الليل، أدخلت وجه الزمن في الليل، حتى النهار ليس نهاراً «لا شجر هنا/ لكنه النهار/ الذي لا نستطيع تجنبه» النهار هو الأشجار «لننسى هذا الفجر/ الذي يوقظ الأشجار»، وحسنا بقي نهار أشجار وإلا لتوقف الزمن المغادر من شدة هذا الألم. في اللحظات الليلية المتبقية نكتشفُ موت الأغنية، والنشيد وصمتَ الكلمات «نبدع أسماء للصمت»، كلها آثار لتلك المغادرة المستمرة، وهذا الليل هو الآثارُ المتبقية، والصمت المتبقي، والمجموع لكن في الخلف، في الخلف الزمني الذي هو المستقبل، ففي زمن المغادرة يصير المستقبل أثراً للمغادرة يعيش فيه الوحيد المغدور والغدير، عندها يصيرُ الموت بقايا نورٍ في نهاية النفق المظلم «لماذا نكتب/ والموت هو أيضاً/ بقايا نور»، السؤال المستمر عن النور في الليل المنسوج في الكلمات، في الموت، بعد إظلام الحقل، وموت الأغنية، وصمت الكلمات، والليل الليل «الليل هو وجهُ الزمن»، حتى لو كان لك نهار «مهما كان عليه نهارك/ ستكبر بين الحجارة والليل»، النور في العتمة حقاً، والليل يشملُ الزمن كله، وفي الليل تصيرُ المجموعة الشعرية إجابة على سؤال «ماذا فعلت اذا/ بكل هذه الكلمات؟» لأن الإجابة هي النسيج من ليل الذين غادروا «لا زلت/ أنسج الكلمات/ كنقطة من ليل»، وما يكتبه الليل «يكتب الليل نفسه/ في هذه التنهيدة الصامتة..» الليل في الذين غادروا يستعيد جدوده الشعريين، الليل الشعري الذي يفيض دوماً ويغرقُ في دوامة رياحه وجه الزمن، نتذكرُ فعل الليالي الشعرية كما عند امرئ القيس، ذلك الليل الذي رُبطت نجومهُ بحبالٍ إلى الجبل، ولهُ أمواجٌ ضخمة كالبحر، والذي يجعلُ الصباح التالي له ليلاً أيضاً «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل/ فيالك من ليلٍ كأن نجومهُ بكلِّ مغارِ الفتل شدّت بيذبُلِ»، أو ليل النابغة الذبياني الذي يعانيه بطيء الكواكب، أو ندورُ في الحضرة الليلية يتلبسنا جن الليل فننعشُ مرددين مع باول تسيلان «Hell ist die Nacht» نيّر هذا الليل الذي وجدَ لنا قلوباً/ نيّرٌ هذا الليل»، الليل يبدو قادراً على أن يبتلعَ الضوء وأن يجعلَ لعتمتهِ نوراً. أما الذين غادروا فهم: «الذين كانوا يحفرون الليل/ غادروا الحكمة، لم يتركوا خلفهم/ سوى هذه اللغة/ لغة/ بقيت بدون نشيد..» ويبقى الحقل مضاءً كي يهدي إلى الدرب، مضاء بكلمات الأغنية، ببقايا نور الموت، ونور العالم «هو موت الغناء/ لكن إن رغبت سأترك الحقل مضاء».
شاعر وكاتب من عُمان