تتشكل ملامح الشعر العماني قبل النهضة من الموضوعات التقليدية نحو شعر الأخوانيات والغزل والرثاء والمدح والوصف ومن الموضوعات المجددة التي تتناول القضايا الوطنية والتفاعل مع القضايا القومية والتوجه نحو الشعر الذاتي والوجداني. وفي هذا البحث سوف نعرض لهذه الموضوعات والأغراض الشعرية ، محاولين الكشف عن ملامح الشعر العماني في تلك الفترة ورؤيته الشاعر العماني لهذه الموضوعات وعمق تناوله لها وتفاعله مع محيطه العربي في الموضوعات المشتركة ، ونعرض في هذه الحلقة قسما من الموضوعات التقليدية في الشعر العماني قبل النهضة
1- شعر الاخوانيات :
من الموضوعات الشعرية التي اهتم بها الشعراء العمانيون في هذه الفترة والتي غلبت على جانب كبير من دواوينهم هو الإخوانيات ، وهو موضوع شعري قديم عبر عنه الشعراء العرب والعمانيون القدماء، واستمر وجوده في شعر هذه الفترة كتقليد أدبي اتبعه شعراء هذه الفترة للتعبير عن مشاعرهم اتجاه أصدقائهم وأحبتهم . ويضم قصائد العتاب بين الشعراء والردود على رسائل الأصدقاء الشعرية واظهار الود والاحتفاء بالشاعر الآخر أو تهنئة صديق عزيز بعيد عن الشاعر أو قريب منه بمناسبة مهمة ، وتسجيل الذكريات والطرائف التي تحدث بين الشعراء وأصدقائهم شعرا، وقد يبدأ الشاعر قصيدته الإخوانية بشعر الغزل وأحيانا يدخل في الموضوع مباشرة ، وفي حالة الرد على شاعر آخر فإنه يلتزم بنفس الوزن والقافية وفي شعر الاخوانيات عندهم ما في الإخوانيات عادة من محاولة التبسط والتفكه والتحلل من رصانة العبارة والاقتراب من لغة الحديث .
ومن قصائد الإخوانيات قصيدة للشاعر خالد بن هلال الرحبي( 1) أرسلها الى صديق له بعد أن أهداه صديقه هذا ديوانا لعنترة ، فيقول :
دعني أؤم محمدا بثنائي
لم لا وقد ملكت يداه ولائي
يا أيها العلم الذي بخصاله
نار الفخار وكفه البيضاء
يا من يرى فعل السماحة والندى
طبا ومسك المال مثل الداء
يا خير خل من سلالة سالم
يا نجل عبس زبدة الأحياء
طوقتني بنداك طوقا حاليا
أبلى ولا يغشاه نوع بلاء
أهديتني سفرا يصور لي سطا
أبائك العظماء في الأعداء
أهديتنى ديوان عنترة الذي
ذلت لسطوته بنو حواء (2)
ومن مطارحات الشاعر أحمد بن حمدون الحارثي(3) مع أحد أصدقائه هذه الأبيات التي كانت ردا على قصيدة سابقة لذلك الصديق : بلبل الأيك ترنم طربا
أنعش الروح وحي الأدبا
وانشدن نظما بهيا رائقا
جاء يقضي للإخا ما وجبا
جاء يهدي من صفي مخلص
من فتى عيس سمي المجتبا
يا أخا الفطنة ما نظم أتى
لفظه الدر مصوغ ذهبا
ذكرتنا بعهود سلفت
كان فيها الشعر يسمو منصبا
أعلمتنا كيف يرقى كاتب
من بني العصر ويحيى الادبا ( 4)
وتحمل القصيدة في معانيها وألفاظها ما يشير الى عمق العلاقة بين الشاعر وصديقه المحتفى به ولهذا فهو يصف صديقا بمجموعة من الصفات التي تدل على تعلقه واعتزاره واحتفائه به وهي كالتالي صفي، مخلص ، سمي المجتبي، أخا الفطنة ، كما نلاحظ انطلاق الشاعر في التعبير عن مشاعره النفسية اتجاه صديقه وذلك عبر ذكره مجموعة من الألفاظ المعبرة عن هذه المشاعر وهي البلبل ، الترنم ، الطرب ، النظم الرائق .
للشاعر هلال بن بدر البوسعيدي(5) قصيدة يجيب بها على قصيدة بعث بها اليه الأديب عبدالله الطائي (6) الذي كان من تلامذة الشاعر ومعاصريه يقول فيها: لك يا صفوة الشباب الراقي
محض ود مدى حياتي باقي
لك مني صفو الوداد مع الد
هر وحب مؤكد الميثاق
أنت لي أول الشباب مناد
بقريض أحلى من الاغتباق
يملأ العقل نشوة وانتعاشا
فأنا المحتسى وأنمت الساقي
فأدر لفظك ورجع
نغمة الحب في المعانى الرقاق (7)
وقد حاول الشاعر أن يخرج في هذه الأبيات من نطاق الاخوانيات الى الحديث عن مشاعره الخاصة ، فابتعد نسبيا عن النظم وعن شعر المناسبات الخاصة .
ويدير الشاعر بدر بن هلال ندوة شعرية مع الشيخ القاضي سالم بن حمود السيابي (8) حيث يبدأ الشيخ السيابي بإرسال قصيدة يمدح فيها الشاعر هلال بن بدر يقول فيها:
سلام مثل منتظم اللآلي
وشكر لم يزل فوق الكمال
لذي الأدب البديع وذي الأيادي
وجيد الشأن محمود الخصال
خلاصة مجمع الآداب طرا
فريد الذوق شاعرنا هلال
حليف الفضل صافي الود طبعا
ترده آخذا بيد المعالي
أديب في معانيه أريب
حسيب في مراقيه العوالي(9)
وفي هذه الأبيات تبدو سمات الأخوانيات في أوضح صورها في تلك الخلال المنظومة على غرار أسلوبي واحد، وفي هبوط التعبير الشعري في بعض الأشطار.
ويرد عليه الشاعر هلال بن بدر بقصيدة في مستواها يذكر فيها فضائل الشيخ السيابي، ويحافظ على نفس الوزن والقافية في القصيدة الأولى ، فيقول : الى علم المعارف والكمال
الى من حاز تقدير الرجال
الى العلامة الحبر المرجي
لحل المعضلات لدى السؤال
الى رب القريضى اذا تسامى
رجال الشعر في نسج الخيال
الى المفتي الذي اذ قال قولا
أقر له الفحول على التوالي
زففت لي القريضى بفيض ود
إلا ان القلوب على اتصال (10)
ولا تخرج القصيدة السابقة عن كونها خطابا كتب في صورة شعر، وهو نوع من المدح المتبادل بين وزير في الدولة وقاض من قضاة الدولة أيضا، فالرجلان ينشغلان منصبين مهمين في الدولة ، ويذكرنا هذا الشعر عامة بشعر الاخوانيات الذي انتشر في العصر العباسي الثالث عندما أصبح الشعراء وزراء وأصبحوا يتراسلون بالشعر كما يتراسلون بالنثر، فاستعملوه في التهنئة والتعزية والشكر والعتاب والاستعطاف وغير ذلك مما يدور بين الأصحاب من مراسلات ، ولسنا في حاجة الى تأكيد ما في بعض الأبيات من نظم رديء في مطلع الأبيات كقوله : «لحل المعضلات ، لدى السؤال ، أقر له على التوالي".
2- شعر الغزل :
ويشكل موضوع الغزل أحد الموضوعات الهامة في شعر هذه الفترة ، وشعر الغزل من الموضوعات الذاتية وهو على خلاف المديح الذي يعبر فيه الشاعر عن غيره وربما تكون فيه عواطفه ومشاعره زائفة وبالتالي تكون تعابيره تقليدية ، وعلى هذا فإن شعر الغزل من المفترض أن يعبر فيه الشاعر عن مشاعره الخاصة .
وشعر الغزل لهذه الفترة ينقسم الى مستويين ، غزل تقليدي ينقل صورة المرأة القديمة ويتحدث عن جسد المرأة والتشبيب بمحبوبة الشاعر، وغزل يتخلص من المعاني التقليدية والعبارات ويقترب فيه الشعر من ذاتية الشاعر وعواطفه الداخلية .
ومن شعر المستوى الأول في الغزل التقليدي قول الشاعر أحمد بن حمدون :
أذى الشمس قد لاحت وأشرق نورها
أم البدر جلى ضوؤه كل دامس
وذا بلبل يشدو بألحان مطرب
يرددها فوق الغصون الموائس
أم الخرد البيض الكواعب أقبلت
تهادى نشاوى بالعيون النواعس
أأم غادة ميلاء منت بزورة
على غير وعد في الحلى والطنافس
تبدي محياها كصبح سناؤه
وولى الدجى من حينه وجه عابس
وهذا عبيق المسك ضوع طيبه
فأحيا رميمات العقول الدوارس ( 11)
ونلاحظ تكرار صورة المرأة القديمة في هذه الأبيات في تلك التشبيهات التقليدية اليسيرة غير المركبة أو الجديدة ، نحو تشبيه المحبوبة بالشمس والبدر والغصون والصبح والمسك .
ويقول في قصيدة أخرى متبعا الأسلوب التقليدي نفسه والتشبيهات اليسيرة المألوفة :
تألق برق في ليال بهيمة
وثغر حبيب باسم بالمسرة
وبدر تمام أم عقود زبرجد
بها غادة حسنا شموع تحلت
وورق الضحى يشدو على غصن بانة
يردد بالألحان في سفح بركة
ونسمة روض بالبشارة قد أتت
تهني بوصل من حبيب وزورة (12)
وتأتي أكثر هذه الغزليات كمطالع لقصائد المدح ولذلك لا نكاد نجد فيها شيئا من صدق المشاعر. وأغلب الغزل يأتي على هذا النحو الذي يشبهون فيه المرأة بالبدر والغزال وبالشمس وشعرها بالليل وقوامها بغصن البان وعيونها بعيون البقر الوحشي وهي صفات وردت كثيرا في الشعر العربي القديم .
ويقول الشاعر سعيد بن مسلم المجيزي(13) مكررا نفس المعاني القديمة :
لذكر ليالي الوصل يستعذب الذكر
ويحلو وإن التباعد والهجر
فيا ذكر ليلى شنف السمع موقرا
أحاديث من ليلى يذوب لها الصخر
ويا سعد عللني بذكر أحبتي
فعندك يا سعد الأحاديث والذكر
ومن لي بأن ألقي جبينا إذا بدا
لطلعته تخبو الكواكب والبدر
تسلط في قلبي بسلطان حبه
فبحت بما تخفي الجوانح والصدر
كذلك سلطان الغرام وحكمه
برغم جنود العشق يقضي له الامر (14) والأبيات نظم تختلط فيها العبارات النثرية بالاقتباس من مفردات الشعر العربي القديم دون أن يكون بينها شيء من الترابط ، وقد وردت هذه الأبيات في مطلع لقصيدة يمدح فيها أحد سلاطين عمان ، ونلاحظ أن الشاعر يلجأ الى ذكر أسماء ليلى وسعدي وهي أسماء وردت كثيرا في شعر الغزل القديم وقد استخدمها الشعراء لما فيها من وزن موسيقي، فهي أسماء لم يكن لها وجود حقيقي في حياة الشاعر، وربما تكون استخدمت كأسماء رمزية ترمز لمحبوبات الشاعر. ومن شعر الغزل التقليدي والوقوف عند أماكن الذكريات القديمة وتذكر الأحبة قول الشاعر صالح بن عيسى الحارثي. (15)
دعاني الهوى والشوق نحو الأحبة
وزادني التذكار مخفى علتي
وذكرني عهد الوصال الذي مضى
فهيج ما بي من غرام ولوعة
وفي طي أحشائي لظى الهجر أضرمت
فلا تنطقي إلا بوصل الأحبة
أبيت ونار الشوق بين جوانحي
لها زفرات بين قلبي ومهجتي
لقد ذبت من هجر الحبيب وصده
وإعراضه عني على غير زلة
ويقول عن لقائه بمحبوبته :
بروحي من قد زارني بعد بعده
بليل حذار من رقيب فممقت
فوسدته زندي وبات مضاجعي
الى أن جلا نور الضيا كل ظلمة
فبتنا وكأس الأنس قد دار بيننا
ونحن نشاوي بين ضم وقبلة
لهوت به والليل مرخ سدوله
علينا بأنوع الهنا والمسرة (16)
ومن المستوى الثاني في شعر الغزل تأتي قصائد كل من الشاعرين هلال بن بدر البوسعيدي وعبدالله الطائي اللذين توافرت لهما أسباب الحياة العصرية والاطلاع على مصادر الثقافة العربية المعاصرة ربما أكثر من الشعراء الذين ذكرناهم سابقا، لذلك جاءت قصائدهما الغزلية أفضل من القصائد السابقة حيث تخلصت من المعاني القديمة لشعر الغزل وعباراته التقليدية .
ونلاحظ ملامح الاختلاف هذه في بعض قصائد هلال بن بدر البوسعيدي ففي قصيدة ثمرة الأشواق ، نلاحظ سيطرة النبرة الذاتية على هذه القصيدة وغناء الشاعر الحزين واقتراب ألفاظها من ألفاظ الرومانسيين ، فيقول :
أغني ولكن الغناء أنين
وأحدو ولكن الحداء حنين
وان قلت شعرا فهو مجر صبابتي
على أنه وسط الضلوع دفين
فمن لفؤاد وهو ولهان خافق
ومن لجفون دمعهن هتون
لواعج أحزان وآلام فرقة
قد أعتورا قلبي فكيف يكون
أخلاي قد ذقت الأمرين بعدكم
وكل شجا غير الفراق يهون
كتمت هواكم برهة بحهد طاقتي
وإني به حتى الممات ضنين
فلا عتب إن باعت دموعي بسره
واني لأسرارا لحبيب مصون (17)
وعلى الرغم من وجود بعض الصيغ التقليدية إلا أن عبارات الشاعر الشعرية تتسم بيسر العبارة وسلاسة البناء، وخفرت الايقاع ، لكنه مع ذلك يدور في فلك تلك الفترة التي كانت تقع في برزخ بين الكلاسيكية المطلقة وبدايات التجديد، والشاعر في هذه القصيدة يمزج بين التجربة العاطفية وتجربة الاغتراب الداخلي وتبدو في القصيدة روح الشكوى التي سماها الدكتور نزار العاني «السمة التوجعية " وتسأل عن مصدرها في حياة الشاعر، «من أين تجيء هذه المشاعر والأحاسيس المغلفة تماما بسمة توجعية واضحة عند رجل عهدناه معتدا بفكره متعاليا على ما هو مدفون وسط الضلوع ، جوابا في ميادين الحياة الشاسعة ؟"
ويجيب قائلا "إن البو سعيدي في لحظة مراجعة صوفية مع الذات ، يقرأ بعض علامات القهر الدفين داخل تضاريس
روحه الشاعرة والتي تبدو غالبا متعافية وغير مأزومة ، هناك لا شك في ثنايا شعره وتلافيف قصائده سمة توجعية مستترة ، وهناك سوداوية خفية تشكل منطلقا لنداء القصيدة الجمالي والفني والمعنوي. (18)
وللدكتور العاني الحق في هذا التساؤل لأن الشاعر كان يعيش في وسط أجواء السلطة والترف ، وتسرب هذه الروح الحزينة وسمات التوجع الى عالمه وشعره مدعاة التساؤل وربما تعكس هذه السمة التوجعية رومانسية البوسعيدي ، كما يمكن أن تكون صدى لحالة من حالات التمرد على الواقع الذي يعيشه ويحاول تغييره .
وللشاعر عبدالله الطائي قصائد ذات توجه عاطفي، ولكنها تجيء في مقطوعات صغيرة مرتبطة بموضوع الحنين والتذكر لزوجته ولقمان ولأهله في عمان ، وربما يرجع ذلك الى انشغال الشاعر بهموم وطنه أكثر من انشغاله بمشاعره وعواطفه القلبية ، وحتى قصائد الحنين والتذكر فإنه يوظفها للحديث عن وطنه وما أصابه من تخلف وتأخر، وربما نجد في قصيدة أو قصيدتين هذا التوجه العاطفي الواضح فيقول في إحدى قصيدتيه التي يصور فيها حالة انقطاع الحب :
انتهينا لا الهوى يحنو علينا
قد محوناه كلانا بيدينا
انتهينا لا لقاء ممكن
يكشف الأعذار عما قد جنينا
يا لسر القلب هل يظهره
ليس مثل القلب إشفاقا علينا
إنه الحب الذي جمعنا
وأرانا من صفاء الدهر لونا
يا حبيبي انقطاعا بعد أن
أزهر العمر غراما فازدهينا(19)
وقد يختلط الغزل عند بعض هؤلاء الشعراء بتجارب شخصية كالفقد أو الغربة أو الحنين للوطن ، ولهذا تمتزج تجربة الفقد الرومانسي العام بالفقد العاطفي في بعض مقطوعات عبدالله الطائي الذي يتحدث بضمير يعود الى بعض المحبين أو كليهما ولا يتحدث عن نفسه مفردا ولا عن محبوبته وحدها كما في الأبيات الماضية .
ويصور الشاعر في قصيدة أخرى أمسية من أماميه الرومانسية على ضفاف الخليج ، فتبدو في مفرداته وابنيته الأسلوبية رقة رومانسية غير معهودة عند شعراء هذه المرحلة ويمزج الشاعر فيها بين مشاعره وبعض لحظات الطبيعة ومشاهدها المألوفة في الشعر الرومانسي العربي، ولعل بقنص أبياتها يذكرنا بنظائر لها عند علي محمود طه ، والقصيدة بعنوان أمسية على الخليج (وهي من القصائد التي كتبها في سنوات حياته الأخيرة ):
سألت هل لك في سهرتنا هذي قصيدة أنظر الليل وقد رصع بالأنجم جيده وأرمق الجو وقد لحن بالصمت نشيده أفما حرك في القلب أحاسيس جديدة؟ قلت والاغراء من حولي قد فاق حدوده صوت حسناء بجنح الليل يستجلي وجوده وحديث يجبر العازف أن يلقي عوده ها هنا تحلو الأماسي ويصب الكون جوده وضياء البدر أغناه بألوان جديدة فبدا الشاطيء روضا نثر الأفق وروده ( 20) ويبدو تأثر الشاعر برواد الاتجاه الرومانسي في العالم العربي وبالخصوص علي محمود طه في قصيدته كليوباترا، ويعبر الشاعر عن عواطفه تعبيرا صريحا. وهو ما ليس مألوفا في شعره الذي انشغل فيه بالتعبير عن همومه الوطنية والانسانية .
ويبرر الدكتور أحمد درويش هذا التغيير الذي طرأ على مفردات هذه القصيدة وعلى نفسية الشاعر ، بأنه نوع من التعبير عن قرب الانتصار الذي بدأ يلوح في الأفق فيقول «وهو يرى الخليج في هذه القصيدة لا كما كان يراه دائما من خلال قضية الكفاح التي شغلته طويلا بركانا ثائرا من الأمواج ، وانما يراه في لحظة الصفو موجا هادئا وغناء ووجها حسنا. وهذه واحدة من القصائد القليلة في انتاج الشاعر التي تلجا الى الأوزان المجزوءة القصيرة والى الروح المرحة ، والى استخدام معجم تتردد فيها كلمات مثل «اللحن ، الانشاد، رصع ، السهرة .النجوى، السعد" وتتشكل من خلالها صور تتحرك في القلب أحاسيس جديدة على حد تعبير الشاعر(21).
3- شعر الوصف
ويلتف شعراء هذه الفترة الى مشاهد الطبيعة ومناظر الحياة في المدينة والريف فيصفون الحدائق والمروج وخيام الصيد والقلاع والحصون التي تشتهر بها عمان . ويصف الشاعر سعيد المجيزي خياما مضروبة وسط الصحراء فيقول :
خيام ما يطاولها السحاب
وشهب في البسيطة أم قباب ؟
وإطناب بأوتاد أنيطت
أم الجوزا بأيديها شهاب ؟
وأعمدة تجللها سماء
من الياقوت يكسوها ضباب
فتلك مصانع نشأت بأيد
أم الافلاك ليس لها حجاب(22)
وترتكز الأبيات على بنية التقليد، تنظر الى تعبيرات معروفة في الشعر العربي القديم ، كالخيام والأطناب والأوتاد والجوزاء. ويقف الشاعر هلال بن بدر البوسعيدي أمام حصن جبرين الذي يقع وسط البساتين والنخيل ويتذكر كل تلك الانجازات الحضارية ويقلب طرفه في دقة هندسة البناء ويستعيد تاريخ بناء هذا الحصن وذكرياته السعيدة والمحزنة ، فتختلط في نفسه كل هذه المشاعر فتخرج الأبيات ممزوجة بالمشاعر المتباينة ، فيقول :
يا نسمة من ربى مجبرين مسراها
أهدت لقلبي ذكرى لست أنساها
وأنعشتني وما في القلب من وطر
سوى عهود أناجيها وأرعاها
في ظل قصرك يا مجبرين مرتعها
وتحت دوحتك الشماء مأواها
من لي بجبرين أو من لي بدوحتها
من لي بساحتها من لي برباها
يومي بقصرك يا مجبرين قد قصرت
ساعاته ودقيق الفن أفناها
أقلب الطيف في أشكال هندسة
وأستعيد خيالي في ثناياها
يا قصر حدث وفي التأريخ مفخرة
فقد خبرتك مزهوا وتياها (23)
ولا تقتصر نظرة هلال بن بدر البوسعيدي التأملية فقط على أمور الحياة ، وإنما يشغله التأمل في التراث التاريخي والحضاري لعمان ، ويقدم صورة تفصيلية لحصن جبرين وموقعه وسط البساتين والأشجار ويعبر عن اعجابه بالفن الهندسي، كما يجعل الشاعر من القصر شاهدا على أحداث التاريخ العماني.
ومن قصائد الوصف التي قالها الشاعر عبدالله الطائي قصيدة يصف فيها جمال ظفار المنطقة الجنوبية من عمان حيث تكثر الخضرة فيقول :
حاك السحاب لها ثوبا تكون من
زهر فوشته من أفراح لقياها
فالأرض من بشرها بالخير ناطقة
اللفظ خضرتها والزهر مبناها
الخصب في أرضها تبدو خمائله
عرائسا يفتن الأبصار مرآها
كأن بابل بالجنات قد هجرت
بلادها واستقرت في زواياها
هذا النسيم أتى يشكو صبابته
لأنه اعتل لما زار مرعاها
وحمرة الورد جاءته على خجل
إذ لاح منظرها يزهو محياها ( 24)
ولا يخفى ما في المقطوعة على الرغم من ايقاعها المنساب – من تقليد وبخاصة في البيتين الأخيرين .
4- شعر الرثاء
يعد شعر الرثاء من فنون الشعر الموروثة والتقليدية والشاعر يرثي أصحابه ويبكيهم ويصور هول الفجيعة التي ألمت بهم ويتحدث عن صفات المرثي، وأحيانا يؤبن المتوفى بذكر أفعاله أو بذكر صفاته وحزن الكائنات والليل عليه .
وينقسم شعر الرثاء في هذه الفترة الى نوعين من الشعر شعر يتوجه بالرثاء الى الأهل والأحبة والأصدقاء وشعر يتوجه الى قادة الأمة ورجالها العظام الذين فقدوا في فترة كفاحهم ضد الاستعمار والتخلف . وخير من يمثل الشعراء العمانيين في مجال الرثاء في هذه الفترة الشاعر عبدالله الطائي،حيث ينقسم شعره في الرثاء الى قسمين أساسيين ، الأول يختص برثاء أهله وأقربائه ، والثاني يختص برثاء الشخصيات الوطنية العمانية والقومية العربية التي كانت تقود النضال من أجل الحرية والتحرر.
ومن قصائد القسم الأول الخاص برثاء الأقرباء ، قصيدة في رثاء أمه وقد توفيت وهو في الغربة فأضافت وفاتها جرحا الى جروحه الكثيرة ، ويصف الشاعر يوم وفاتها بأنه اليوم الذي ضعفت فيه مقاومته الى حد بعيد ويتمنى إن يسمح له لكي يزور قبرها في مسقط فيقول :
اليوم لانت يا زمان قناتي
ولكم صمدت لأعنف الهزات
أصبحت أرجو أن أشاهد قبرها
ولو أنني أرضيت كل عداتي
فأطوف مسقط لائذا متحاميا
الموت يدفعني لمحو شكاتي
أمي لقد ملك القضاء سهامه
فاتاك منها قاتل النبلات
لكن موتك قد ألان تجلدي
وأضاعني حتى زهدت حياتي
اليوم أشعر بالمصائب جمعت
والنفس تغرق في دجى الظلمات
يا قلب حسبك حسرة وتخاذلا
فاصمد على المكروه والعقبات (25)
ويكاد يكون الشاعر عبدالله الطائي شاعرا رثائيا لكثرة ما كتب من قصائد رثائية وخصوصا وهو يرثي شهداء عمان وكذلك
بعض أحبته الذين أنكبه فيهم الموت وهو في ديار الغربة فعمقت هذه الأحداث جروحه وأضافت الى هموما الشخصية هموما جديدة ، ولهذا فإن رثائياته تكاد تنطق بحزنه وبصدق مشاعره ويتجلده وهو حتى في رثائه يربط بين كل هذه المآسي ويعكسها في النهاية على حالة البلاد في تلك الفترة .
ويرسل الشاعر مرثاة أخرى الى المرحوم الشيخ أحمد بن سعيد الكندي وكان خال الشاعر عبدالله الطائي وأحد أساتذته في
نفس الوقت وقد رعاه في طفولته وشبابه ، فيقول فيها:
بكيتك حتى كدت بالدمع أشرق
وروحي من بين الجوانح تزهق
ففقدك أذوى في الحياة شبابها
وكنت لها زهوا به يترقرق
رفعنا بك الأعناق في كل بلدة
فقد عشت رمزا بالمفاخر ينطق
وكنت لنا العنوان في كل مسلك
معالمه رأي وخلق وموثق (26)
ونلاحظ على قصائد الرثاء الخاصة صدق الشاعر وانطلاق في التعبير عن أحزانه وآلامه التي طالما رماه بها الدهر، ومن
شدة صدق الشاعر ومعاناته لفقد أحبته فإننا نكاد نستشعر حزنه ودموعه التي تتساقط على وجناته وهو يرثيهم بكل حرقة وانكسار.
ويسلك الشاعر بدر بن هلال البوسعيدي منهجا جديدا في موضوع الرثاء، فلم تحد قصائد الرثاء لديه مخصومة لذوي الجاه
والسلطان وأصحاب المناصب مثلما فعل في قصائد المدح ، فقد تنوع رثاؤه ما بين شخصيات دينية وبعض القادة التاريخيين
للامة الاسلامية الذين وقفوا في وجه الظلم وأصحاب المثل العليا مثل الحسين بن علي وبعض الذين شاركوا في تحرير أوطانهم مثل زعيم باكستان محمد علي جناح خان ، ولبعض شعراء الأمة الذين كانوا من معاصري الشاعر وتوفوا في حياتهم نحو أحد شوقي وحافظ ابراهيم ، فلقد أنشد الشاعر قصيدتين في رثاء الامام الحسين بن علي رضي آلله عنه ، فيقول في إحدى قصيدتيه :
روع الكون أرضه والسماء
يوم ضجت بخطبها كربلاء
يا لخطب من دونه كل خطب
ومصاب قد عز فيه العزاء
لبس الدهر فيه ثوب حداد
فهو والدهر ما له انضاء
ليت شعري وهل يبلغني الشـ
ـعر مقاما يجود فيه الرثاء
سبط نحير الأنام والصفـ
ـوة الكبرى وأبوه وأمه الزهراء
فصلاة من الاله عليه
وسلام ورحمة وثناء (27)
وينطلق الشاعر في رثائه من وازع ديني يعكس تقديره وحبه لآل البيت ، كما تعبر القصيدة عن صدق مشاعر الشاعر وتأثره بمصيبة الحسين ، ويذهب الدكتور علي عبدالخالق الى هذا الرأي فيقول عن قصيدتي الشاعر "ولعل في هذين المثالين ما يدل على أن رثاء هلال بن بدر للحسين استوفى غايته بما أفاض فيهما من شعور صادق ، واثارة لعاطفة الحب "(28).
ويظهر الشاعر في رثائه لشاعري الجيل أحمد شوقي وحافظ ابراهيم تأثرا كبيرا لفقدهما لكنه يرثي مصر ودولة الشعر
لوفاتهما، ولاشك بأن الشاعر يعتبر فقدهما خسارة للشعر وللامة العربية فيقول:
خر نجمان من علو سماك
أنت يا مصر ما الذي قا دهاك ؟
حافظ مات ثم يتلوه شوقي
أي خطب أجل مما أتاك !
شاعر النيل من تركت لمصر
بعدك النيل ما جرى غير باك
حزن الشرق يوم أن مات شوقي
روح شوقي أطلي من علياك
يا أمير القريض هذي القوافي
أصبحت حرة بغير امتلاك (29)
ونستطيع أن نشعر مدى حزن الشاعر
وانكسار نفسه الرقيقة إزاء حادثة الفقد الكبيرة التي حلت بشاعري الجيل أحمد شوقي وحافظ ابراهيم ، ولقد نجح الشاعر في إشاعة جو الحزن والكآبة خلال الأبيات الماضية وتصوير حزنه الدفين عبر مجموعة من الأساليب التعبيرية التي تناسب موضوع القصيدة نحو النداء«شاعر النيل يا أمير القريض "، والاستفهام «أنت يا مصر ما الذي قد دهاك "، ثم أسلوب التكرار " روح شوقي ، ساعديني يا دولة الشعر"، «فهذه أساليب وان بدت فيها الخطابية الجهيرة إلا أنها عبرت عن الحزن الدفين والألم الممض الذي انتفض له الشاعر فراحت قيثارته تنشده في ترجح وتألم " ( 30).
وبهذا التوجه في الرثاء أخرج الشاعر هلال بن بدر موضوع الرثاء من إطاره المحلي الضيق الى الاطار العربي والاسلامي الواسع ، وقد اتضح ذلك من تنوع رثائه ما بين رثاء شخصيات دينية مثل الحسين ، وأدبية مثل شوقي وحافظ وسياسية مثل محمد علي جناح ، وهو توجه جديد على الشعر العماني ويدلل على عمق تفكير الشاعر وسعيه للخروج من الإطار المحلي والتفاعل الدائم مع قضايا أمته .
ومن عجائب القدر أن الشاعر عبدالله الطائي يقوم برثاء الشاعر هلال بن بدر البوسعيدي الذي كان من أساتذته الذين تلقي العلم على أيديهم في المدرسة السعيدية في مسقط ، والذي يلتقي معه في نفس خط الدعوة الى تحرير عمان من الجهل والتخلف ، فيقول :
يا ليلى ما من الظلام سدولا
واجعل سوادك ياظلام ثقيلا
لا شأن لي بالصبح تشرق شمسه
والقلب ينشد في الصباح فتيلا
مهلا أبا شعرائنا من للمني
يتلو لدى تحقيقها ترتيلا
وبقيت نسرا لا جناح بجنبه
يرجو من الرجل العنيد جميلا
يا ناعيا لهلال بدر أنني
أجد اصطباري للنبا مخذولا
قد كنت أمل ان يعيش لكي يرى
للنصر فوق جبالنا إكليلا
ويرى الشباب وقد توافد جمعه
ليقيم مجدا في عمان أثيلا
ويصوغ في نصر الشباب قصائدا
يلقي بها عند البناء دليلا ( 31)
ونلاحظ أن الطائي يخرج عن الاطار العام لشعر الرثاء عند الشعراء العرب القدماء ومعاصريه من العمانيين كذلك ، فهو لا يعدد خصال البوسعيدي ومناقبه ولكنه يؤنبه بمواقفه الوطنية الشجاعة التي تهدف الى رفعة عمان وإعادة دورها الحضاري القديم .
ونجد للشاعر الطائي قصائد أخرى في رثاء عدد من الشخصيات العربية مثل أمير الكويت والزعيم العربي جمال عبدالناصر وزعيم باكستان لياقت خان .
الهوامش:
1- الشيخ خالد بن هلال الرحبي 1908- 1953 كان أديبا مولعا بالشعر هاجر الى زنجبار وقضى بقية عمره فيها، له ديوان شعر يسمى السحر الحلال لكنه ضاع مع ما ضاع من تراث الشعراء العمانيين في زنجبار.
2- شقائق النعمان في شعراء عمان ص 329.
3- الشيخ أحمد بن حمدون الحارثي (1906- 1966) كان من رجال العلم واللغة قضى معظم حياته في مدينة نزوى هاجر الى زنجبار في أواخر حياته حيث توفي هناك ليس له ديوان شعر مطبوع .
4- شقائق النعمان في شعراء عمان ج 2ص 16.
5- هلال بن بدر البوسعيدي (1903- 1966) من ابرز شعراء هذه الفترة وهو احد افراد الأسرة الحاكمة في عمان شغل مناصب عديدة منها مدرس في المدرسة السعيدية في مسقط ثم رئيسا لاول مجلس بلدي في مسقط ثم سكرتيرا للسلطان سعيد ومستشاره الخاص له ديوان شعر مطبوع صدر عام 1985.
6- عبدالله بن محمد الطائي (- 1973) من ابرز شعراء النهضة الادبية شارك في الدعوة الى تحرير عمان من التخلف والجهل ، عاش اكثر حياته مهاجرا خارج عمان وذلك في اكثر من بلد عربي واجنبي منها العراق والكويت وابوظبي ومصر والهند، له ديوانان مطبوعان الفجر الزاحف ووداعا ايها الليل الطويل عام 1974 وله أيضا مجموعة من الدراسات المطبوعة والقصص والروايات .
7- المصدر السابق قصيدة صفو الوداد ص 45.
8- الشيخ سالم بن حمود السيابي شاعر ومؤرخ معاصر له عدة كتب في تاريخ عمان وله ايضا اسهامات شعرية متفرقة لم يصدر له ديوان توفي عام 1994.
9- ديوان الشاعر هلال بن بدر ص 47.
10 – المصدر السابق ص 51.
11 – شقائق النعمان في شعراء عمان ج 2 ص 22.
12 – المصدر السابق ج 2ص 19 .
13 – سعيد بن مسلم المجيزي (1864- 1953) شاعر عماني عاش في البلاط السلطاني وكان من شعراء السلاطين خصصي اكثر شعره في مدح السلاطين البوسعيديين عايش ثلاثة سلاطين منهم اول شاعر طبع له ديوان في تاريخ عمان حيث طبع له ديوان شعر في لوزاكا في اليابان عام 16 19 واعيد طبعه في القاهرة 1982..
14 – ديوان ابي الصوفي سعيد بن مسلم المجيزي إصدار وزارة التراث القومي والثقافة تحقيق د. حسين نصار، عام 1982 ص 45.
15 – صالح بن عيسى الحارثي شاعر عماني له شعر قليل كان يقيم في القاهرة ليس له ديوان مطبوع .
16 – شقائق النعمان في شعراء عمان ج 2ص321.
17 – ديوان الشاعر ثمرة الاشواق ص 93.
18- جولة تحليلية في عالم السيد هلال بن بدر د. نزار العاني ص 73، 74.
19 – ديوان وداعا ايها الليل قصيدة نهاية حب ص 63
20- المصدر السابق قصيدة امسية على الخليج ص75.
21- مدخل الى دراسة الأدب ص 178 ، 179.
22- ديوان ابي سعيد بن مسلم المجيزي, ص 24.
23- ديوان الشاعر قصيدة يا نسمة من ربى جبرين ص 131.
24 – ديوان حادي القافلة المخطوط ، قصيدة سلطان مسقط اثر عودتا ص 32.
25- ديوان وداعا ايها الليل قصيدة يرحمها الله ص 33.
26- ديوان وداعا ايها الليل قصيدة سلاما تراب العامرات ص 82.
27- ديوان الشاعر قصيدة سبط خير الأنام ص 141، وللشاعر قصيدة أخرى في رثاء الحسين بعنوان سادة اطهار انظر ديوان الشاعر ص 147
28- الشعر العماني ، د. علي عبدالخالق ص 149.
29- ديوان الشاعر قصيدة ساعديني يا دولة الشعر ص 153.
30- الحس الوطني والجمعي في شعر السيد هلال بن بدر د. عبدالباسط عطايا دراسة منشورة في جريدة عمان السبت 6سبتمبر1997 .
31- ديوان الفجر الزاحف قصيدة سحابة حزن .
شبر بن شرف الموسوي (باحث من سلطنة عمان)