إنسا فيلكه – ترجمة: سالمة صالح*
حين يهجم فرسان القيامة في عوالم كتب الكاتب العراقي عباس خضر (الذي ينشر أعماله بالألمانية) ترافق هجومها الضحكات. في رواية خضر «برتقالات الرئيس» وهي من روايات السجون، التي حظيت بثناء كبير يصبح واضحا لماذا يكون الحال هكذا: الضحك يدافع عن الاستقلال الشخصي الذي يكاد يتحطم تحت التعذيب واليأس. لكن ضحكات عباس هي هدية أيضا لقرائه الألمان الذين يحميهم مما يرويه في الواقع. لفتة إنسانية. يظهر هذا الجانب من الضحك لدى زميله الأكبر سنا فاضل العزاوي لصالح جانب آخر في الخلفية: فالضحك الشيطاني الذي يدوي من خلال روايته «آخر الملائكة» هو سلاح حاد.
ولد فاضل العزاوي في العام 1940 في كركوك، منتميا هناك إلى حلقة اولئك الشعراء الذين أرادوا أن يقودوا الأدب العراقي إلى الحداثة، باستقلالهم أيضا عن التأثير السياسي لحزب البعث. عام 1977 ذهب فاضل العزاوي إلى المنفى، إلى ألمانيا الديموقراطية، حيث استمر تعرضه للمضايقة من قبل الأمن هناك أيضا. كان يعيش في برلين في الظل، رغم أنه يُعد من أبرز الكتاب في العالم العربي. يروي زميله عباس خضر الذي ولد بعده بجيل في بغداد عام 1973 أنه كان يقرأ في شبابه أشعار العزاوي الممنوعة. حتى انه قام في بداية التسعينات بتوزيع نشرة في سوق الكتب في بغداد، تضمنت قصيدة للشاعر تسخر من صدام حسين وحروبه المضحكة.
رواية فاضل العزاوي الأكثر نجاحا «آخر الملائكة» التي صدرت في العام 1992 في لندن بالعربية أعيد نشرها مترجمة الى الانجليزية في العام 2007 في الولايات المتحدة الأمريكية بطبعة أولى بـ 000 200 نسخة. الآن فقط صار يمكن للرواية أن تُقرأ بالألمانية بترجمة لاريسا بندر، حيث تجري أحداث «آخر الملائكة» في مدينة كركوك، التي هي اليوم واحدة من بؤر القتال بين الدولة الإسلامية والقوات العراقية. وبدقة أكبر تجري أحداثها في حي جقور الذي هو البطل الحقيقي لهذه الرواية متعددة الأصوات.
يعيش هنا في سنوات الخمسينات تركمان، عرب، كرد، ويهود بسلام فرحين بحياتهم اليومية بينما يحكم الملك فيصل الثاني البلاد من بغداد. هنا يحصل حميد نايلون على لقبه حين أراد أن يقيم علاقة مع سيدة انجليزية. بعد عشرات السنوات يكتب بصفته العقيد أنور مصطفى دليل الجيب للثورة. هنا أيضا يترعرع الصبي برهان عبدالله، الذي كان يريد أن يحقق مجدا، لكنه يبقى الأكثر حيلة. هنا يمارس درويش بهلول مقالبه المثيرة. وهنا يصبح قره قول منصور الأسود شهيدا على الرغم منه ويصبح الملا زين العابدين القادري إماما فاسدا ولكن بنوايا طيبة.
الشياطين هي ما كان يشغل بال الناس في حي جقور يومذاك. أما السياسة فلم تكن تهم أحدا، لأنها لا تعنيهم. لكن كل هذا يتغير عندما تخطط إدارة المدينة إزالة المقبرة. «تجاوز هذا الاعتداء الحدود المحتملة بالنسبة للناس في مدينة كركوك، كان بالإمكان قبول كل شيء ولكن أن تقوم الحكومة بنبش قبور الآباء والأجداد وبينهم الكثير من الأولياء الصالحين هو تجديف مطلق.» هل تتشكل الآن إرادة سياسية؟ كلا، بمثل هذه التعليقات الخبيثة يصف العزاوي شكاواهم. آخر الملائكة سوق للقصص، هو ما يحتال العزاوي به علينا باسلوب الواقعية السحرية كانعكاس للتاريخ الحقيقي للعراق. الإشاعة هي عربته السردية
إنه يروي لنا سلسلة الأحداث والتغييرات بتدفق دائما، رواية ليست مملة ولو حتى لثانية واحدة ودائما بالحيلة المحسوبة التي تجعل القارئ يحدد موقفه من شخصية الرواية. فمن غيرنا المعني حين يبدأ لولب العنف بالدوران؟
ليست «آخر الملائكة» رواية عن العراق فقط وإنما نوع من محكمة هيرونيموس بوش العالمية، حيث يروي فاضل العزاوي الأسطورة الأزلية لخطيئة المجموعة البشرية بضحكة شيطانية. الحط من نشوة التعذيب بدرجة بازولينية تجعلها مهزلة.
في نهاية هذا الرقص المسعور لا تبقى سوى شخصية واحدة: المحتال برهان عبدالله الذي يشبه بيتر شليميل لدى شاميسو الذي يطوف 46 عاما خلال تاريخ العالم بحذاء الأميال السبعة قبل أن يعود شيخا إلى حي جقور.
دراما المنفى التي تكاد تختفي هنا بين السطور والأحداث تصبح باهتة أمام الصورة الختامية للعالم المقلوب الذي ينهي به فاضل العزاوي خلاصه الساخر.
الربيع الذي يحمله الملائكة على ظهورهم خلال الرواية بأكملها قد فسد في الأكياس: «سيكون هناك دم دائما على هذه السجادة البنفسجية، على هذا الوطن الكبير المسمى كفنا.»
لقد وجدت لاريسا بندر النبرة الصحيحة بالضبط بالألمانية لهذه الملحمة الغنية الذكية.