إن الناظر في العديد من السير الذاتية والحوارات والمذكرات أن الصورة الحاصلة للمؤلف عن نفسه في النصوص، الصورة المثبتة في قلب الخطاب تتشكل منشغلة بالمتلقي المفترض. إنها الصورة التي يريد منتج الخطاب أن يثبتها في ذهن المتلقي لا على أنها صورة ابتدعها على سبيل التوهم من قبيل التخيل والاستيهام، بل باعتبارها تمثل كنه الكاتب وتجسد هويته وشخصه. لكن الامر المدهش المحير في هذه النصوص جميعها إنما هو تغييب تاما او يكاد والاحتفاء بالأب أيما احتفاء. ورسم صورة للذات مفتوحة على الأسطوري والمقدس.
يعلن هذا التغييب عن نفسه وفق طرائق عديدة. فيرد في شكل تغييب تام في سيرة بدوي. إذ لا يلتفت الراوي إلى الأم إطلاقا. حتى لكأن الطفل لم تحبل به امرأة وانما سوي من الطين رأسا وأسقط في عالم الأحياء فجأة. لكنه يومئ إيماء إلى المرأة مطلقا في معرض حديثه عن عبثية الوجود واقراره بأن الإنسان إنما يجيء إلى الحياة صدفة وبختا. وهذه الصدفة، في نظره، تعلن عن نفسها "في الإلتقاء بين الحيوان المنوي في الرجل والبويضة في الأنثى… وواهم من يظن أن ثم ترتيبا أو عناية أو غاية." (1) لا يتفطن الراوي إلى أن للكلمات مكرها. ولها ألاعيبها في كشف الرؤية التي يصدر عنها مستخدمها ومجريها. إن الراوي يستخدم كلمتي "الرجل" و "الأنثي". وفي حين ترد الكلمة الأولى خالية من أي تهجين أو دونية واحتقار، ترد الكلمة الثانية التي يشار بها إلى المرأة محملة بنظرة دونية تفقر المرأة من جهة كونها كائنا بشريا وتلحقها بفصيلة الإناث مطلقا. إن كلمة "الأنثي" إنما تستخدم عادة لتسمية البهيمة لا البشر. وما يقابل كلمة الأنثى في الاستخدام اللساني إنما هو كلمة الذكر. لكن الراوي يستخدم الزوج: الرجل الأنثى. فلا تأتي التسمية بريئة، بل ترد محملة بنظرة دونية تهب الرجل ما تبخل به على المرأة. إن مجرد اللهج بكلمة "أنثي" في مقابل كلمة "رجل" ليس خاليا من الدلالة. إنه يعبر عن رؤية ذكورية تعتبر الأنوثة، في حد ذاتها، معرة تتدنى بالكائن حتى لتكاد تلحقه بالكائنات غير العاقلة.
أما الأب فإن الراوي يحتفي به، ويدون بطولاته حتى قبل تكون الطفل في رحم أمه. فيسند اليه من الصفات ما يجعل منه كائنا نموذجيا يجمع إلى النبل الشهامة والكرم ومكارم الأخلاق. إنه صاحب "حدس مرهف" وهو العمدة الذي ورث العمودية عن والده سنة 1905 وسيحافظ على منصبه عشرات السنين. ورغما عن كونه كان من كبار ملأك الأرض من الإقطاعيين فإنه كان قريبا من الفلاحين "كأنه واحد منهم: يأكل من طعامهم إذا لم يوافه الطعام من المنزل، ويجالسهم ويحادثهم حين يكون في الحقل". لقد "كان قوي الشخصية إلى أقصى حد، مرهف الذكاء، ذا حافظة جبارة، مستقيم السلوك، لا يتنقل من راق إلى رأي حسب الظروف، ولا يناور ولا يداور ولا يقبل الضيم". (ص 15) ولم يكن مكتفيا بدوره في الريف المصري، بل كان يسهم في الحياة السياسية المصرية. ذلك أنه كان عنصرا فاعلا في "حزب الأمة ثم في حزب الأحرار الدستوريين الذي خلف حزب الأمة، واستمر على هذا الموقف حتى انهيار حزب الأحرار الدستوريين سنة.. 1950. وكان على اطلاع غير قليل على ما يجري في العالم والسياسة الدولية". بل إن هذا الأب هو باني السلالة الحقيقي. ففي حين كان جذ الطفل شحيحا في إنجاب الأولاد، ثأر الأب لندرة الولد في العائلة وجدد السلالة وأخصبها. يكتب بدوي:
كنت الثامن من إخوتي وأخواتي لأمي، والخامس وعشرين بين أبناء والدي، وسيصبح المجموع واحدا وعشرين ولدا. أحد عشر من البنين وعشر من البنات. وكان ذلك تعويضا هائلا عما جرى لجدي، فإنه لم ينجب غير ولد واحد هو والدي. (ص 15)
يحرص الراوي طيلة رسمه لمشاهد الطفولة على رسم صورة نورانية للأب. حتى ليكاد المتلقي يسلم بأن الإقطاع كان مرحلة ذهبية في تاريخ البشرية، وأن الإقطاعيين كانوا فرسان النبل والكرامة البشرية لحظة تألقها. لذلك يمعن الراوي في تعداد خصال الأب ويتغنى بها فلا يترك صفة محمودة إلا أسندها اليه. نقرأ مثلا: "كان والدي قوي الإيمان شديد الحرص على أداء الصلاة في مواعيدها، والزكاة في مواسمها، وحج إلى بيت الله الحرام في مكة في شتاء سنة 1937". (ص 17) ولما كان التمسك بالدين وطقوسه على هذا النحو من المحتمل أن يدفع بالمتلقي إلى التفكير في مسألة الشدة والتزمت فإن الراوي يعاجله بالقول: "لكنه في الوقت نفسه كان واسع التسامح الديني، فكان طبيبه المعتاد في المنصورة قبطيا، وكان في الأمور الاقتصادية كثيرا ما يتعامل مع نصاري من كل المذاهب".
تشرع الأم في الظهور في سيرة نزار قباني لكنها تحضر لتضطلع بدور الوعاء، أو بدور الرحم ثم تختفي تماما. فيشار اليها إشارة عابرة في معرض الحديث عن لحظة الميلاد. يقول الراوي: "الأرض وأمي حملتا في وقت واحد.. ووضعتا في وقت واحد". ثم تغيب الأم من مسرح الأحداث حتى لكأنها لم توجد قط. بل إن الكلام يغيب الأم ويشرع في الحديث عن الأرض وقد دبت فيها الحياة بمقدم الربيع وعن الطبيعة وهي تثور على الشتاء. حتى لكأن الطفل الوليد إنما هو ابن الأرض وابن الطبيعة والحياة. ولم تكن أمه سوى وعاء انتهى دوره حالما لمح الطفل النور. ثم يشرع الكلام في ابتناء صور الأب بهية نورانية في منتهى البهاء.
يتم الانتقال من الحديث عن الأرض إلى الحديث عن الأب فيما تكون الأم قد أهملت تماما. يكتب: "هذا ما كان يجري في داخل التراب، أما في خارجه فقد كانت حركة المقاومة ضد الانتداب الفرنسي تمتد من الأرياف السورية إلى المدن والأحياء الشعبية… أبي، توفيق القباني، كان واحدا من أولئك الرجال". (2) إن الأب بطل من أبطال المقاومة الشعبية لذلك يمعن النص في التغني بامجاده. لقد عرف السجن وصمد في أشد السجون الصحراوية قسوة: "حين رأيت عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الأولى منزلنا بالبنادق والحراب ويأخذون أبي معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل تدمر الصحراوي عرفت". هكذا يحدث الابن عن والده مفتتنا: "عرفت أن أبي يمتهن عملا آخر غير صناعة الحلويات.. كان يمتهن صناعة الحرية" (ص210) وهو يمعن في تعداد صفات البطل تلك قائلا: "كان أبي إذن يصنع الحلوى ويصنع الثورة وكنت أعجب بهذه الازدواجية فيه…إن هذه الازدواجية في شخصية أبي، انتقلت الي والى شعري بشكل واضح".
غير أنه لا يكتفي بهذا البعد بل يحرص على التوسع في رسم صورة الأب المكافح فيرسم له صورة جذابة محببة إلى النفس. فهو يفني العمر والبدن مكافحا في سبيل إسعاد بنيه وذويه. وهو ليس البطل الخارق المفارق الذي يصعب على المتلقي أن يتماهى معه ويتعرف على الأبوة فيه نبيلة تعلي الإنسان وتمده بجزء هام من عظمته. لا سيما أن الأبوة كما ترتسم على أديم النص أبوة كريمة لا تمارس الزجر والمنع، بل تهب وتعطي ولا شيء غير العطاء. يكتب نزار قباني: "لم يكن أبي غنيا ولم يجمع ثروة، كل مدخول معمل الحلويات الذي كان يملكه، كان ينفقه على اعاشتنا وتعليمنا وتمويل حركات المقاومة الشعبية ضد الفرنسيين". (ص 211) إنه زمن الكادحين… أنفق خمسين عاما من عمره، يستنشق الفحم الحجري، ويتوسد أكياس السكر، وألواح خشب السحاحير.س وهو نموذج الأب المكافح الذي يستل رزق أطفاله بالكد ورشح الجبين، لا يثنيه عن ذلك الهجير وقر الشتاء. فكثيرا ما كان يعود إلى داره "تحت مياه المزاريب الشتائية كأنه سفينة مثقوبة". (ص 212) حتى أن "وجهه المطلي بهباب الفحم، وثيابه الملطخة بالبقع والحروق" تدل عليه: إنه من "الأسر الدمشقية التي كانت تكسب رزقها بالشرف والاستقامة والخوف من الله".
وفي حين تنسى الأم تماما يقع تمجيد الأب. ويقع الإلحاح على أن الأب هو الطريق وهو السبيل المؤدية إلى الأمجاد. ففي جسده يحمل الأب ما سيورثه لابنه من خاصيات تفتح قدامه دروب المجد. يكتب نزار محتفيا بأبيه: "كان تفكير أبي الثوري يعجبني.. وكنت أعتبره نموذجا رائعا للرجل الذي يرفض الأشياء المسلم بها". (285) ويقع الإلحاح أيضا على أن الأب كان القدوة والقبلة والطريق. نقرأ: "وبالإضافة إلى شبهي الكبير له بالملامح الخارجية، فقد كان شبهي بالملامح النفسية أكبر. واذا كان كل طفل يبحث خلال مرحلة طفولته عن فارس، ونموذج، وبطل.. فقد كان أبي فارسي وبطلي". (ص 285) وكثيرا ما يتحول الخطاب إلى مدائح ترفع تمجيدا للأب. من ذلك مثلا قوله واصفا أبده: "عيناه الزرقاوان كانتا صافيتين كمياه بحيرة سويسرية، وقامته مستقيمة كرمح محارب روماني، وقلبه كان إناء من الكريستال يتسع للدنيا كلها". (ص 255) هكذا نسيت الأم تماما. وبدلها جاء الأب ليحتل من الخطاب مركزه ومن الطفولة دائرة السحر التي ستظل تفتن الطفل وتمد ذاكر ته بالبطولات والأمجاد وهي تسطر قدامه عيانا، سواء عندما كان الأب يواجه الغزاة ويقتاد فجرا إلى السجن أو حين كان يعود من عمله وقد كافح الأنواء واللهب. لقد تم الإيماء إلى الأم إيماءة عابرة ثم غيبت تماما. حتى لكأن الراوي اطردها من الحياة. أو لكأن دورها في الحياة قد انتهى حالما وضعت الطفل.
لا يعني هذا أن وجود الأب، من جهة كونه رب الأسرة، هو الذي أدى إلى سقوط الأم في عتمة الغياب. فالناظر في مذكرات بيرم التونسي وسيرة سلامة موسى وسيرة خليل حاوي يلاحظ أن الظاهرة نفسها تعاود الظهور على نحو لافت فعلا. فقلد ذاق بيرم التونسي تجربة اليتم. فقد والده وهو لم يتخط الثانية عشرة من عمره. لكن المذكرات تكتفي بالإيماء إلى الأم إيماءتين. ترد الأولى لحظة الحديث عن موت الأب وتعجيل الأم بالزواج من أحد النجارين: "مات أبي ولي من العمر اثنتا عشرة سنة ولم تلبث أمي أن تزوجت من نجار هوادج". (3) أما الإيماءة الثانية فتتعلق بمرض الأم وموتها بعد أن أوكلت مهمة تطبيبها إلى حلاق الحي. وليس يخفى أن رسم صورة الأم على هذا النحو يحمل في تلاوينه نوعا من العتاب يتجلى في عبارة "لم تلبث أن تزوجت". وهو عتاب سرعان ما يفصح عن نفسه في شكل إدانة واضحة إذ تنعت الأم بأنها امرأة جاهلة قادها الجهل إلى حتفها. يكتب بيرم: "وأصيبت أمي… بخراج في ثديها.. فأشار عليها الجهل.. أن يتولى حلاق الجيران مهمة فتح هذا الخراج فماتت اثر ذلك". (ص 23) لكن النص يتوسع في رسم صورة الأب. فترتسم على أديمه جذابة محببة إلى النفس:
كان أبي فنانا بالسليقة. ففي الوقت الذي لم تكن الناس تعرف فيه لا راديو ولا تلفزيون، ولم تكن الجرامافونات شاع استعمالها كان أبي يستأجر شعراء الربابة يظلون ينشدون أمامه طول اليوم -وهو قائم بعمله – الشعر البدوي القديم من أمثال قصص أبي زيد الهلالي سلامة والزير سالم فغرس في نفسي ملكة الشعر البدوي خاصة. أما سلامة موسى فإنه لم يعرف والده. لقد نشأ يتيما بعد أن مات والده وهو لم يتخط الثانية من عمره. لكن ذلك اليتم المبكر لم يغير من حضور الأم في سيرته شيئا يذكر. بل إنه يكتفي بالإيماء اليها إيماءة عابرة في معرض حديثه عن الويلات والمحن التي تعرض لها وهو لم يزل بعد طفلا يانعا. وهو لا يحدث عن أمه بل يشير اليها ليجعل المتلقي يتمثل هول العلة التي ألزمته الفراش في صباه. يكتب: "وأولى الذكريات التي تمثل في ذهني صورة أمي وهي قاعدة إلى فراشي تصلي من أجلي وأنا مريض". (4) أما عن والده فيقول: (ص 23) لا أذكر أبي لأنه مات وأنا دون السنتين. ولكن جو البيت في طفولتي كان حافلا بذكراه. فقد كانت أمي تصف سنة وفاته بـ "السنة السوداء" وبقيت بدلته معلقة إلى الحائط جملة سنوات كما كانت يوم وفاته. حتى القميص المنشى بياقته المتصلة لم يكن يبرح مكانه. وكنت أسمع القصص عنه.
لكنه لا يحدث عن هذه القصص بل يتكتم عليها. والراجح أن البدلة الفارغة المعلقة لم تكن لتترك الصبي دون استيهامات وأمنيات بعودة هذا الأب الذي اختفى فجأة. فمن الصعب على طفل دون السنتين أن يعي أن الموت غياب ولا رجعة. والراجح أيضا أن هذه البدلة التي تركتها الأم معلقة كما تركها الأب الراحل كي تتمسك بالذكرى إنما كانت تمثل نوعا من الفعل المقاوم لسلطة الموت وتوحشه. إنها، بمعنى آخر، الحضور الذي يشير دوما إلى غياب الأب. وهي الأنيس الذي يعمق الإحساس بالفقد وضراوته.
إن الفقد الذي عاشه سلامة موسى صبيا يمكن أن يفسر حماسه الشديد لآبائه الروحيين. فحالما يتم اطلاع سلامة موسى على مؤلفات فرح أنطون والتعرف عليه بعد ذلك، سيشرع في الحديث عنه لا باعتباره مجرد مفكر بل باعتباره الأب الروحي الذي سينوب عن الأب الحقيقي. وسيضطلع فرح أنطون بهذا الدور. بل إن الصورة التي يرسمها سلامة موسى في سيرته لفرح أنطون ليست سوى صورة الأب الذي تم العثور عليه بعد أن طال غيابه.
لم يكن مجيء فرح أنطون إلى مصر بعد أن انسدت في وجهه كل بقعة في لبنان مجرد لجوء ثقافي، بل كان نوعا من عودة الأب الحاني إلى ابن قضى شطرا من عمره يمني النفس بتلك العودة. يكتب سلامة موسى: "يبدو لي الآن أن فرح أنطون لم يكن على جهل بما يعمل. فإنه خرج من لبنان سنة.. 1900. وكان يحس أننا في حاجة إلى هذه المبادئ والمناهج. ولذلك أثارنا بترجمة قصة الثورة الفرنسية". (ص 54-55) لم يذكر سلامة موسى والده ولم يتأس على موته. لكنه توسع في الكلام عن والده الروحي. وبلغ من شدة احتفائه بذكراه أن توسع في ذكر امجاده وآرائه ومواقفه. وكتب عنه في نبرة تجمع إلى الرثاء الإحساس باليتم الضاري. بل إن سلامة موسى سيحتمي بذكرى هذا الأب الروحي الميت عندما يرى النزعة التقليدية تعاود الظهور وتطبق على الأدب. فلقد كان سلامة موسى يؤمن بأن الرومانسية هي الطريق المؤدية إلى تحديث الأدب العربي. لكنه لا حظ أن التقليدية تمتلك سلطانا لا يرد فاحتمى بالأب الروحي فرح أنطون مسندا اليه ما يسنده الطفل إلى أبيه أعني المقدرة على قهر الصعاب التي لم ينجح الابن في تذليلها. يقول سلامة موسى: "الحق أن ما فقدنا فيه عظيم فادح، فلو انه عاش إلى أيامنا مثلا لطبع النزهات الأدبية والسياسية في مصر بطابعه. ولعله كان يوجه الأدب المصري هذه الوجهة الرومانسية التي آسف على أنه لا يتجهها الآن". (ص 57)
وقيما تظل الأم منيبة تماما يواصل الابن سلامة موسى مهمة البحث عن هذا الأب الفقيد حال رحيل فرح أنطون. فيكتب محدثا عن لطفي السيد وقد غدا، في نظره، أبا روحيا آخر يمكن أن يخفف من حدة اليتم: "وفيما بين 1907 و1910 ظهرت قوة جديدة في مصر كان لها أثر آخر في توجيهي النفسي، وكانت هذه القوة أحمد لطفي السيد". (ص 58) إن القوة هي صفو الرجولة. وكلاهما صفتان تسندان عادة إلى الأب. لذلك لن يدخر الطفل الذي صار الآن شابا أي جهد في الاحتفاء بهذا الأب الروحي. بل إن سلامة موسى يذكر ثلاثة آباء يدين لهم بما يدين به الطفل لوالده في تكوين شخصيته. وفي حين يجزم نزار قباني وبدوي بأن لأبويهما فضلا في تحديد شخصيتيهما، يكتب سلامة موسى جازما: "يعقوب منوع، وفرح أنطون، ولطفي السيد من القوات التي صاغت شخصيتي". (ص 60) ولا يمكن للتثليث، في هذه الحال، أن يعتبر عودة متسترة للمتخيل الديني أو أمارة على ما يمتلكه ذلك المتخيل من سطوة في تحديد سلوك الفرد مهما كان يدين بالعلم بديلا عن الدين.
سيتحول الاحتفاء بالأب الروحي في سيرة خليل حاوي إلى تمجيد للطائفة وللقرية التي تسكنها الطائفة. وفي حين يتم تغييب الأم تغييبا تاما، تقع الإشارة إلى الأب بما يدل على انسحابه المبكر من حياة الطفل. يكتب حاوي: "مرض والدي ولي من العمر اثنتا عشرة سنة، وكان مرضا عصبيا موجعا. وضاقت بنا سبل العيش فتحتم علي- وأنا كبير إخوتي وأخواتي- أن أترك المدرسة وأبدأ العمل كما يبدأ الكثير من الشويريين". (5) غير أن غياب الأب يرد مقترنا ببروز الأب الروحي الذي سينقذ الطفل من اليتم. والكلام يرسم هذه الإنابة بدقة متنامية، ففي اللحظة التي يتم فيها انسحاب الأب العليل يتلفت الطفل صوب "الشوريين" ويتخذ منهم قدوة وقبلة ونموذجا.
وبدل الاحتفاء بالأب واسناد الصفات المحمودة اليه واعلائه وتمجيده كما فعل كل من بدوي ونزار قباني مع أبويهما وسلامة موسى مع والده الروحي، يشرع خطاب خليل حاوي في تمجيد الذين سينهضون بدور الأب وينوبون عنه في شد أزر الطفل الذي فقد من يعوله. يكتب حاوي مكرسا فكرة إعلاء الأب البديل: "الشوير هي أقل القرى اللبنانية تعصبا طائفيا… من تراثها أنها قدمت للفكر الحر عددا من المفكرين الثائرين الذين دفعتهم ظروف الاحتلال العثماني إلى الهجرة. من هؤلاء: الدكتور خليل سعادة، وداود مجاعص". ومثلما تغنى كل من بدوي ونزار قباني وسلامة موسى بامجاد الأب سواء كان والدا أو أبا روحيا، يعمد خليل حاوي إلى التغني بامجاد "الشوريين" وقد صاروا العزاء والملاذ والتعويض عن الأب العليل.
يكتب مفاخرا: نعت "شويري" نعت يعتد به، نعت ينطوي على أهم ما تشتمل عليه الحياة الجبلية من صبر على المصاعب وثورة في وجه الظلم. ومثلما ورث كل من بدوي ونزار قباني وسلامة موسى عن آبائهم كثيرا من الميزات، فإن خليل حاوي سيرث، بدوره، عن "الشوريين"، باعتبارهم الأب البديل، ميلهم إلى رفض الظلم وقدرتهم على مغالبة أقدارهم ومنازلة الصعاب. فيكدح ويدرس في الآن نفسه. ويتحدى القنصل الانجليزي الذي منعه من الذهاب إلى الأردن فيتسلل عبر طريق جبلية وعرة وهو لم يتخط بعد الخامسة عشرة من عمره ويجوب مدن الأردن كلها تقريبا ويطوي القرى طيا لا يقدر عليه، في تلك السن، إلا من كان في عروقه دم من سلالة "الشوريين" وفي طبعه سمات من طبعهم الجبلي القاهر للصعاب.
داخل هذه الرحاب ذاتها يتنزل موقف نعيمة من الأمومة والأبوة. وهو يحدث عن لحظة موت الأب ولحظة موت الأم وفق طريقتين متباينتين بالكل. فترتسم صورة الأم على أديم النص باهتة. ويختزل كيانها كله فيما تشترك فيه مع النساء كلهن ومع جنس الإناث كلهن. حتى أن صفة الأمومة نفسها تزحزح عن مواضعها وتحول عن مقاديرها فتختزل في بعدها البيولوجي. وبدل استخدام عبارة "أمي" يطلق نعيمة على الأم عبارة "التي ولدتني". يكتب محدثا عن لحظة موتها: "ماتت التي ولدتني والموت يطوي الكل – حتى الوالدات – ماتت وفي لحمي وعظمي ودمي بقايا من لحمها ودمها وعظمها… أما كونت جسما حيا في جسمها ومن جسمها الحي؟ فكأن بعضي مات بموتها. وكأن بعضها ما يزال حيا في حياتي". (6)
هكذا يقع الإلحاح على هذا الجانب البيولوجي الذي يربط ما بين الأم وابنها الذي وضعته. فترتسم صورتها منظورا اليها من جهة كونها الوعاء الذي يحضن الحياة في بدئها. يطفح النص في الإخبار عن موت الأم وكيفيات تمثل الابن لصورة الأم ومنزلتها في قلبه بنوع من الموضوعية والتعالي عن الفجيعة. إن الابن لا يتأسس على موت الأم ورحيلها إلى الأبد، بل يتخذ من حادثة موتها فرصة ليستعرض مواقفه من الوجود والعدم واليوم الآخر. وهو يجاهر بذلك قائلا: "لم أك جاهلا أن التي ولدتني ستموت يوما ما. فما هالني وأنا بجانب سريرها، أن أحس بيدها تتثلج وتيبس في يدي". وهو يجد من الوقت متسعا ليشرع في تأمل الوجود والما وراء والعدم وسطوته. يقول متوجها بالخطاب إلى الأم الميتة: (ص 3/184)
ومن ثم يا أم ديب، فلا أنت تعرفين ولا أنا أعرف من الذي اختارك لي أما، واختارني لك ابنا. ولعل لي ولك يدا في ذلك الاختيار. ولكن من حيث لا ندري. أفلا يجمل بك وبي أن نلقي هم "الآخرة" على الذي دبر البداية فأحسن التدبير؟ بلى. بلى. ذلك خير لك ولي.
إن استسلام الابن في لحظة جلل كهذه لتأمل قضايا الوجود وقضايا المنزلة البشرية وهال الحياة موقف يمكن أن يعتبر أمارة على مدى ثبات هذا الابن ورباطة جأشه في مواجهة رؤية اليتم وفاجعة الموت. لكن حديثه عن موت أبيه وما خلفه في نفسه من أحزان لا تطفأ سرعان ما يكشف المضمر ويجلي المسكوت عنه: إن منزلة الأم في نفسه دونية إلى أبعد حث إذا ما قورنت بمنزلة الأب. لذلك يعمد حين الحديث عن موت أبيه إلى تفخيم الحدث فيخلع عليه كل مواصفات الرؤية والفاجعة. ويشهد الكلام نفسه نوعا من التحول فيتشكل جامعا إلى الرثاء، الحرص على جعل المتلقي يتمثل عظمة الفقد الذي ابتليت به الحياة بأسرها عند رحيل هذا الأب المثال. لذلك تتوسع السيرة في الحديث عن الأب متبعة بنية المرثية العربية. فتبدأ بتعظيم خصال الميت، وتحدث عن أفعاله المحمودة. ثم تنتقل إلى الحديث عن فاجعة الموت وفق نسق بموجبه ترسم الهول الذي استبد بالدنيا قاطبة لحظة رحيل الأب "رب الشخروب"، ويصبح النوح المداخل للكلام كما لو أنه نوح كوني شامل.
ترتسم صورة الأب بهية نورانية أخاذة. فيقع الحديث عن الأب وفق نسق ممعن في المداورة بموجبه يتمكن الكلام من فتح صورة الأب على ما به تصبح مجسدة للأبوة الحانية الحامية من جهة كونها قيمة بشرية خالدة. إن الأب يكف نتيجة الأوصاف التي تسند اليه عن كونه أبا لصاحب السيرة ويصبح كما لو أنه أب الناس أجمعين وأب الحياة المنشغل بها المتنكر في مصيرها ومصير الناس من بعده. هذا ما يجسده المشهد الذي يرسم الأب قبل رحيله متأملا في قضايا الوجود. فالأب فلاح يواجه الطبيعة وقسوتها بالكدح ورشح الجبين ليستل قوت ذويه. يحدث الابن عنه قائلا: «دلقا كان قدوم بو ديب إلى الأرض وارتحاله عنها بدون طبل وزمر. ولكنه كان من الذين زرعوا كثيرا، والذين ظلوا يحصدون حتى آخر نسمة من حياتهم. وكان قنوعا بما زرع وبما حصد". (3/143) لكنه يجد من الوقت متسعا ليتأمل الكون. بل إنه كثيرا ما يرى وهو يتنكر في قضايا الوجود. فترتسم صورته جامعة إلى ملامح الفيلسوف ملامح الزاهد أو الراهب المتبتل الذي يتخذ من العالم مادة لتأمل أسرار الوجود المحفوظة. نقرأ مثلا: (ص 140- 141).
ولكم رأيته جالسا تحت بلوطته الحبيبة، ويداه على عصاه، وذقنه على يده، وبصره يجول من قمة إلى قمة، ومن واد إلى واد، ومن حقل إلى حقل، وكأنه يجول صفحات كتاب عزيز حفظه عن ظهر قلب. اقتربت منه ذات مرة وهو في تلك الحال وسألته: "فيم تفكر يا أبت؟" فأجابني: "أفكر يا ابني في الناس كيف يولدون، وكيف يعيشون، وكيف يموتون. الا ترى معي أن الناس يولدون شبه أصوات؟ ثم ينهضون من الموت بالتدريج إلى أن تكتمل قواهم… إننا نموت يا ابني قبل أن نموت. ونعيش مع الموت منذ أن نولد وحتى نموت. ثم نستفظع الموت".
هكذا تشرع السيرة في رسم خصال هذا الأب المثال. ثم تتوسع في الحديث عن أفعاله وما تركه من ذكر في الدنيا. لقد كانت حياته رغم ميله إلى التأمل في قضايا الوجود مليئة بالكدح والحركة والنشاط وفلح الأرض حتى بعد أن وصل إلى الثالثة والثمانين من العمر. (ص 3/142) ولن يرحل عن الدنيا مثلما يرحل البشر الفانون عادة. لن يرحل عن الدنيا إلا بعد أن يرى الماء -صفو الحياة – يتدفق من أرض "الشخروب". لقد ظلت العائلة أبا عن جد تمني النفس بالعثور على الماء في أرض "الشخروب" دون جدوى. وسيشهد هذا الأب المثال تلك اللحظة البهية. "كان أبي في جملة الذين شهدوا انصباب الماء فشكر ربه على هذه النعمة التي طالما. تمناها وحلم بها وصلى من أجلها". وحالما تتحقق أمنية الأب التي ستقلب قحط الشخروب خصبا وسخط الأرض عطاء يرحل عن الدنيا. حتى لكأنه اختار موته أو لكأنه آلي على نفسه الا يستسلم للموت إلا بعد أن يترك في "الشخروب" وناسها الماء واهب الحياة.
لقد اطمأن الأب على الحياة ثم رحل. وهكذا يفعل النبيون والقديسون والمصطفون. إنهم مؤتمنون على الحياة. وهم إنما يأتون إلى الدنيا ثم يرحلون عنها بعد أن يطمئنوا على أن الحياة لن تبلى من بعدهم. ثمة في مشهد موت الأب حرص خفي على تحلية صورة الأب بملمح أسطوري أدونيسي. لذلك ترشح حادثة موت الأب بما يجعل منها لحظة بداية ونهاية في آن معا. لقد مات الأب في موسم الحصاد. مات بعد أن شاهد الماء يتدفق في الأرض المسخوطة الموات. ولذلك أيضا ترتسم حادثة الموت لا باعتبارها مجرد حدث عادي محتمل الوقوع مثلما هو شأن حادثة موت الأم، بل تعمد السيرة إلى رسم موت الأب في شكل مشهد قيامي. فتجتمع الموجودات والكائنات كلها لتوفي الأب الراحل حقه من التبجيل. إنه يشيع مخفورا بالعناصر كلها والموجودات جميعها: (ص 3/ولقد خيل الي أن عصافير الشخر وب ومخوره وترابه وأ شجاره وأشواكه كانت تشيعه مع المشيقين. فالوشائج التي كانت بينه وبينها لأقوى بما لا يقاس من وشائج الأرحام واللحم والدم. وكنت حريصا أن أضع في تابوته البسيط حصاة من حصى الشخر وب، وحفنة من ترابه،
وسنبلة من زرعه، وورقة من بلوطته الدهرية.
ليس يخفى أن هذا المشهد الاحتفالي الذي يمجد الأب ويعليه يكشف مدى الإهمال الذي قوبل به موت الأم. بل إن هذا المشهد يستحضر صورة الأم مجسدة في الحديث عن د«الأرحام واللحم والدم <<. فيحقر صلة الرحم، ويعتبر الكائن أعظم من أن تدعي امرأة أنها وهبته الحياة. فليست المرأة سوى وسيلة انتدبتها الحياة لتنهض بمهمة الحمل والولادة. إن الأم، في هذه السيرة، رحم ولحم ودم. إنها المادة ثقيلة ثخنة دونية. أما الأب فهو الطريق. وهو الدليل إلى الوشائج الخفية التي تجعل من الكائن جزءا من حركة الحياة في رحلة بحثها عن الأفضل والأكمل والأبهي. بهذا كله ترشح فكرة الوشائج التي تربط بين الأب وبقية العناصر والموجودات. وهذا أيضا ما يومئ اليه حرص الابن على أن يضع «دحصاة من حصى الشخر وب، وحفنة من ترابه، وسنبلة من زرعه، وورقة من بلوطته الدهرية << مع جثمان الأب في التابوت. إن الحركة نفسها طافحة بالدلالة على أن الأب كان جزءا بهيا من الكون والحياة. ولن يعرف العزلة والفقد واليتم في قبره سادامت معه تلك العناصر تؤنسه. غير أن إعلاء الابن لأبيه على هذا النحو لا يرد في السيرة ) مقصودا لذاته. إنه الطريق التي تسلكها السيرة لتشرع في إعلاء صاحبها. سيقع الإلحاح على أن الابن سيواصل امجاد الأب ومآثره ويترك بين الناس ذكرا لا يمحى الدهر كله.
والناظر في نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، يلاحظ أن الكتاب يوهم بأنه يحتفي بالأم. لا سيما أن نجيب محفوظ نفسه يقول صراحة: "ان علاقتي بوالدتي – واسمها فاطمة – كانت أوثق من علاقتي بوالدي لأسباب كثيرة. منها أن والدي كان مشغولا، ودائما كان خارج البيت في عمله. في حين أنني كنت ملازما لأمي باستمرار". (7) لكن كيفيات حديثه عن أمه وأبيه سرعان ما تكشف أن إعجابه كان منصرفا إلى أبيه. ثمة في النص حشد من العلامات الدالة على انجذاب الابن إلى أبيه وافتتانه به أكثر من افتتانه بأمه.
لا يعطي الابن، من تاريخ أمه ومن تاريخ عائلتها أي خبر. ويكتفي بذكر اسمها والبعض من صفاتها. فيذكر أنها "كانت سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب". ويلح، في الآن نفسه، على أنه يعتبرها "مخزنا للثقافة الشعبية. كانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار… كانت أيضا دائمة التردد على المتحف المصري" (ص 14) يرد كلام الابن عن الأم في القسم الذي يحمل عنوان: "أمي". لكنه سرعان ما يتناساها ويشرع في الحديث عن أخيه الأكبر الذي عين ضابطا في السودان، وعن ابن أخته الذي استشهد في حرب أكتوبر. (ص 65)
لقد كانت علاقة الابن بأمه وثيقة. هذا ما يجاهر به. لكنه يحدث عن موتها دون تأس أو ألم. وبدل الحديث عن الفراغ الذي أحدثه غيابها في عالمه، بدل الحديث عن فاجعة اليتم يشرع في الحديث عن السرقة التي طالت بيت العائلة عندما توفيت. إن المصاب، في هذه الحال، ليس رحيل الأم عن الدنيا، بل ما طال البيت من سرقة. يقول نجيب محفوظ محدثا عن فاجعة السرقة التي يهون قدامها فقد الأم: "وعندما توفيت والدتي حدثت في بيتنا سرقة "أهلية"، حيث جاء أولاد أختي وأخذوا كثيرا من الأوراق والأشياء الشخصية، ومن بينها صور خاصة بي". (ص 16)
ألا يتألم ابن لفراق أمه فراقا أبديا مسألة لا يمكن أن تعد أمارة على أن الابن يكره أمه. فمن المحتمل أن يكون الابن جلدا صبورا له من رباطة الجأش ما لا مثيل له. أما أن يحدث ابن في الدنيا قاطبة عن موت أمه ويتأسس على فقد بعض الأشياء والصور الشخصية التي سرقها أبناء أخته، فإن الموقف من شأنه أن يجعل المتلقي يحيط العلاقة بين الابن وأمه بكثير من الريبة والشك. كيف يمكن لعلاقة الابن بأمه أن تكون وثيقة إلى درجة جعلته يحدث بها ويشهرها، فيما هو يعتبر فقد الأشياء التافهة عديمة القيمة أكثر ويلا من فقد كائن وهبه الحياة واقتاد خطاه أيام كان يتهجى العالم.
إن الأم، في هذه المذكرات، حاضرة حضورا شبحيا باهتا. اسم ولا لقب. لا تاريخ ولا أسلاف. وفي حين تظل ملامح ألأم باهتة غائمة يحرص نجيب محفوظ على جعل المتلقي يرى الأب عيانا. لذلك تقت تحلية القسم الذي يحمل عنوان: "أبي" بصورة شمسية للأب في جلبابه المصري. ويتوسع في ذكر حسبه ونسبه وتاريخه ورعايته لأبنائه. يكتب: (ص 17)
والدي اسمه عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا.. من مواليد عام 1870 وتوفي عام 1937. وجدتي لأبي من عائلة "عفيفي"، وهي من العائلات الإقطاعية بالغيوم، أما جدي فمن رشيد أصلا ثم هاجر بعد ذلك إلى الإسكندرية. لكأن الأم نكرة مجهولة الأصل. أو لكأن ذكر نسبها يمكن أن يشين. أما الأب فشخص أصيل من أهل البيوتات. لذلك يقع الاحتفاء به. يمعن نجيب محفوظ في إعلاء والده ويذكر جميع خصاله الممدوحة ملحا على أن هذا الأب الحاني كان نموذجا ومثالا وكان أبا وصديقا. وفي حين يذكر نجيب محفوظ أن موت أمه قد اقترن في ذهنه بمصيبة أكبر- وهي سرقة صوره الشخصية وبعض أشيائه من بيت العائلة – يسترسل، حين ذكره لوفاة والده، في تعداد حسبه ونسبه وخصا له. ولا يأتي تشكل الكلام على ذلك النحو من قبيل الصدفة والبخت. إن تعداد الخصال منسوبة إلى الأب الراحل يفتح الكلام على الرثاء، وعلى الرغبة في تخليد ذكره. فالخصال إنما تعدد، في هذه الحال، إعلاء للميت وانتصارا لذكره أي لما بقي منه لا يقدر الموت على محوه ولا يمكن للبلى أن يطاله.
لقد كان فقد الأب مصابا جللا. بهذا يحدث نجيب محفوظ متلقيه المفترض. ولا مجال للجلد أو الصبر والسلوان. لقد ظل الحزن يرافقه حتى لحظت كتابة المذكرات. لذلك يعلن: "ولا تتصور حزني عليه، خاصة أنها كانت أول تجربة لي مع الموت، وكان مصابي في إنسان عزيز جدا على نفسي". (ص 23) عبثا يحاول نجيب محفوظ أن يبرر حزنه على والده بكون حادثة فقد الأب كانت أول تجربة له مع الموت. إن التبرير، في هذه الحال، لا يمكن أن يمنع المتلقي من استحضار موقف اللامبالاة الذي قوبل به موت الأم. لا سيما إذا كان المتلقي على بينة من أن الموت يظل كاسرا ضاريا ولا يمكن للمرء أن يدجنه أو يتغلب على طابعه الفجائي المتوحش. إن جزع الابن آن فقده لوالده يتعارض بالكل مع اللامبالاة التي واجه بها رحيل الأم. وللجزع والجلد، في مثل هذه الحال، دلالة واضحة على العاطفة التي يكنها لكل واحد منهما.
أما في سيرة أدونيس فإن الأم تحضر وفق طريقتين في غاية الاقتضاب حتى أن حضورها مقارنة بحضور الأب يبدو كالغياب تماما. لكنها تظل، مع ذلك، حاضرة. يشار اليها عند ذكر حادثة موت الأخت سكينة. فترتسم صورتها مجللة بحزن صامت كاسر. وهي تخبر ابنها بأن الطفلة قد "أصيبت بالعين لجمالها". (8) ثم تعاود الظهور، في موضع آخر، لكن حضورها يرد كالغياب تماما فهي تكتفي بتسليم ابنها "زوادة المدرسة" وتنبهه إلى ضرورة الاعتناء بنفسه. ثم تقبله ويمضي في حال سبيله. ويظل يستحضر طلعتها في ذهنه ويرسم لها صورة في منتهى الشفافية والرومانسية. "كنت أشعر… أنها ترافقني لتلمس الفضاء فوقي، أهو ندي، أم يابس؟ أهو مائل إلى الصحو، أم إلى التغيم، إلى الدفء والاعتدال، أم إلى البرودة". أما صورة الأب فترتسم على أديم النص في منتهى الجاذبية والبهاء. إنه الرجل المثال. فهو بنى الكوخ بيديه. وهو الذي صنع أثاثه. وهو الذي حرص على تنمية موهبة الطفل واستمالته إلى الشعر. حتى أن الأب قد بلغ من شدة حرصه على تنمية موهبة ابنه أن حول كوخه المبني "بقضبان خشبية تغطى بنباتات شوكي يغطى بالتراب" إلى ما يشبه المنتدى الأدبي. يكتب أدونيس: "أذكر أيضا قراءة الشعر العربي القديم، بعناية أبي وبسهره على تربيتي. كل ليلة قراءة للشعر وحده… قراءة بصوت عال وأمام ضيوف يحبون السماع، وهم أنفسهم شعراء يصفون إلى صوتك باهتمام كأنهم يمتحنون أو يقومون.. بعد السماع يأتي امتحان الصرف والنحو… ثم يأتي امتحان المعنى. ما معنى هذا البيت؟ هل أخذه الشاعر أم ابتكره؟… كل ذلك في جلسة بعد العشاء، في البيت الذي ولدت فيه والذي يتكون من غرفة واحدة في ضوء قنديل شاحب يغذيه زيت النفط".
ويلح أدونيس أيضا على ان هذا الأب المعلم الأول كان حريصا على تلقين ابنه درسا آخر بموجبه اقترن الشعر في ذهن الطفل بالسفر. فلقد كان الأب المعلم يأخذه معه إلى القرى المجاورة ليقرأ على الناس الشعر وهو لم يكد يتجاوز العاشرة. "غدا أسافر لزيارة الأصدقاء في قرية (يسميها). أو في قريتين لم يسميهما). هل تأتي معي؟ تقرأ لهم شعرا. سوف يسرون بك، ويحبونك". هكذا كان الأب يستدرج ابنه إلى قطع المسافات بين القرى مشيا على الأقدام إكراما للشعر.
لكن هذا المشهد لم يكتمل بعد. سيحرص النص على إضافة ملامح أخرى لصورة هذا الأب الحاني الذي أدرك حدسا لابنه موهبة يجب أن تشحذ وتنمى. لذلك ستعاود صورة الأب المتمرد المنشق الذي لا يخشى في الحق لوعة لائم الظهور من جديد. وسيورث ابنه طبعه الانشقاقي ذاك. يخبر أدونيس متلقيه المفترض بهذا البعد قائلا: "كان زعيم العشيرة التي أنتمي اليها، متسلطا عليها، كأنها ملكه الخاص… وكان أبي على طرفي نقيض معه. لم يخضع له قط وظل حريصا على أن يبقى بعيدا عنه. غير أنه قد دفع الثمن غاليا". لا يذكر أدونيس الثمن الذي دفعه والده. لكن ذلك التكتم لا يغير من صورة الأب شيئا: إنه نموذج للمرء الذي يختار الخسارة على الضيم، ويضحي في سبيل حريته بالغالي والنفيس. ورغم أن أدونيس لا يتوسع في ذكر حكاية والده وما جرى له مع هذا "الزعيم المتسلط" فإن صورة الأب تظل صورة نورانية فيما يظل حضور الأم شبحيا أو يكاد. إن الأب هو الأبي، المعطاء، الشهم، الحامي. وهو الذي يشير إلى الدروب التي سيرتادها الطفل فيما بعد أي دروب الكتابة ودروب الشعر.
تتجلى مسألة إدانة الأم بطريقة أكثر وضوحا وأشد مضاء لدى كل من يوسف إدريس وطه حسين وفدوى طوقان. يتحدث يوسف إدريس في مقابلة معه، عن هذا الوجه القاتم الذي ارتسم في ذاكرته. فيذكر أنه أبعد عن حضن أمه وهو لم يتخط بعد الخامسة. ويلح على أن أمه كانت قاسية صارمة خلفت فعالها في ذاته ندوبا لا يمكن أن تندمل. "كانت أمي ثلاثة أرباع رجل". (9) هكذا يحدث عنها ويدينها حتى ليكاد يطردها من دائرة الأنوثة والأمومة والبشر، ويجاهر بأنها كائن مسخ. ويمعن في الحديث عن فعالها متأسيا على ذاته مشيرا إلى أنها كادت تمارس على ذكورته نوعا من الإخصاء من شدة قسوتها. يكتب: "أنا المحروم من الحنان… حصلت على أول قبلة كابن وأنا في الحادية والعشرين من عمري؟ لم تقبلني أمي قبلها أبدا… كنت مضروبا ممنوعا. ولذلك كنت بحاجة إلى وقت طويل كي أكتشف أنني ولد، وأنني مرغوب ومطلوب، وأن حواء لا تكرهني".
يعاود هذا الوجه المروع للأم الظهور في سيرة طه حسين بطريقة أكثر تكتما. فيتعمد الراوي في الأيام مخاتلة المتلقي لينفره من الأم وفعالها دون أن يثير فيه ما يمكن أن يجعله يستفظع موقف الطفل من أمه. وتعلن عملية التنفير هذه عن نفسها تدريجيا. فتصور الأم وهي ترغم الطفل على الاستلقاء على فخذها ثم تعمد إلى "عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدة بعد الأخرى، وتقطر فيهما سائلا يؤذيه ولا يجدي عليه خيرا". (10) لا يقع وصف الأم ولا يتم ذكر تاريخها الشخصي وطبعها، بل يقع التركيز على فعلها المؤذي الذي سيودي بعيني الطفل. أما الأب فإنه يشرع في الظهور على أديم النص محاطا بهالة تجعل منه مثالا للشخص الكادح الورع. فحالما ينهض من نومه يتوجه إلى ربه "يصلي ويقرأ ورده ويشرب قهوته ويمضي إلى عمله". (ص 10) ويحاول الراوي أن يوهم المتلقي بأن لا وجود لأي فرق بين الأم والأب في نظر الطفل وفي تعاملهما معه، فيجاهر بأن الطفل "كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينا ورفقا". (ص 17)
لكن الناظر في هذا الكلام من جهة الأفعال التي جاءت تترجم موقف الطفل من كليهما، سرعان ما يدرك أن الراوي يتخير الأفعال التي تومئ إلى مقاصده المضمرة. ففي المسافة الفاصلة بين الفعلين "يحس" و "يجد" يرتسم موقف الطفل أميل إلى الأب. فرأفة أمه ورحمتها بالكاد تدركان. أو لكأن الأم إنما تعبر عن رأفتها ورحمتها بطريقة محتشمة تكاد من شدة اقتصادها لا تدرك، والطفل هو الذي يحمى بذلك لأن إحساسه بالعالم من حوله كان إحساسا مرهفا. أما ما يبديه الأب من رفق ولين فإنه يتعدى مستوى الإحساس إلى الإدراك. ذلك أن الأب يترجم ذلك في أفعاله وأقواله وعلاقته بالطفل الذي تلقفته الظلمة.
ورغم أن الراوي كثيرا ما يدين الأم والأب معلنا أن "الأبوة والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع" (ص 17) فإنه كثيرا ما يجاهر بأن الأب كان حريصا على تعليم الطفل. وكان يجنبه الأذى، ويحنو عليه. فلما انكشف للأب مثلا أن الصبي لم يحفظ القرآن وأن معلمه يتظاهر بتحفيظه غضب أشد الغضب. وتجنب الصبي مجلس الأب ثلاثة أيام كادت الكآبة فيها تهلكه: "حتى إذا كان اليوم الرابع دخل عليه أبوه في المطبخ حيث كان يحب أن ينزوي إلى جانب الفرن؛ فمازال يكلمه في دعابة وعطف ورفق حتى أنس الصبي اليه، وانطلق وجهه بعد عبوسه. وأخذه أبوه بيده فأجلسه مكانه من المائدة، وعني به أثناء الغداء عناية خاصة". (ص 62) أما الأم فإنها لا تظهر ولا تواسي الصبي ولا تخفف من مصابه. لذلك كثيرا ما يرصع النص بإدانة الأمهات والتشهير بهن جميعا. وترتسم صورة الأم قاتمة. إنها امرأة آثمة. وهي أقل مسؤولية وأقل عناية بنسلها من أنثى الحيوان التي توفي نسلها حقه من العناية والحنان وتجنبه الأذى. يجاهر الراوي بهذا الحقد الدفين الذي لن يشفى منه الصبي أبدا قائلا: (ص 120) "ولنساء القرى ومدن الأقاليم فلسفة آثمة وعلم ليس أقل منه إثما. يشكو الطفل، وقلما تعني به أمه… وأي طفل لا يشكو! إنما هو يوم وليلة ويبل. فإن عنيت به أمه فهي تزدري الطبيب أو تجهله، وهي تعتمد على هذا العلم الآثم، علم النساء وأشباه النساء. وعلى هذا النحو فقد صبينا عينيه. أصابه الرمد فأهمل أياما، ثم دعي الحلاق فعالجه علاجا ذهب بعينيه".
إن الأم آثمة. وهي مجرمة أيضا. فلقد أهلكت نفسا بشرية ولم تبال. وسيعمد الراوي إلى التوقف عند هذه الجريمة ويصفها وصفا دقيقا، فيذكر كيف أودى إهمال الأم لبنيها بحياة أخت الصبي الصغرى. وهو يتفنن في وصف الطفلة حتى يعظم الجريمة. فترتسم صورتها بهية مرحة جذابة. لقد كانت "خفيفة الروح طلقة الوجه فصيحة اللسان عذبة الحديث قوية الخيال". ثم كان أن مرضت و "ظلت فاترة هامدة محمومة يوما ويوما ويوما. وهي ملقاة على فراشها في ناحية من نواحي الدار. تعني بها أمها أو أختها من حين إلى حين تدفع اليها شيئا من الغذاء الله يعلم أكان جيدا أم رديئا". ويعمد الراوي أيضا إلى تصوير مشهد الطفلة وهي في النزع الأخير تحتضر وتغالب الموت، ويرصد التفاصيل رصدا يهدف من خلاله إلى جعل المتلقي يتمثل حجم الجرم. فيحدث عن صياح الطفلة الذي يخترق السمع قاسيا مروعا. ويصور عذابها واضطرابها وارتجافها والرعدة التي تستبد بالجسد الطفل والعرق يتصبب من وجهها غزيرا لا يجف. ثم تسلم الروح وهي لم تتخط بعد سنتها الرابعة.
ههنا أيضا يتنزل مشهد موت الأخ الذي أصيب بالطاعون. فهو يلقى حتفه نتيجة الإهمال. لهذا كله سيغادر الصبي القرية قاصدا الأزهر دون أن يحس بأي أسى على فراق أمه. إن الأم آثمة. لقد أودت بحياة اثنين من أبنائها كانا محببين إلى نفس الصبي. لم تكتف بإطفاء عيني الصبي، بل مضت بالأذية إلى منتهاها. يرسم الراوي حزن الصبي لحظة مفارقته أهله. ويتعمد إيراد كلام الأب وهو يشجع ابنه قائلا: "ماذا يحزنك؟ ألست رجلا؟ ألست قادرا على أن تفارق أمك؟ أم أنك تريد أن تلعب!" (ص 140) ليوهم المتلقي بأن مصدر الحزن إنما هو فراق الأم كما جرت به العادة في مثل هذه المواقف التي يرغم فيها طفل على الرحيل بعيدا عن ظل الأم وجناحها الحاني. ثم يجاهر بأن هذه الأم الآثمة لا يمكن للمرء أن يأسف على فراقها. لقد كان الصبي متلفتا ساعة الرحيل إلى ضحايا تلك الأم الآثمة ولا سيما الأخ الراحل مصابا بالطاعون: "شهد الله ما كان الصبي حزينا لفراق أمه. وما كان الصبي حزينا لأنه لن يلعب. إنما كان يذكر هذا الذي ينام هنالك. من وراء النيل كان يذكره، وكان يذكر أنه كثيرا ما فكر في أنه سيكون معه في القاهرة تلميذا في مدرسة الطب. كان يذكر هذا كله فيحزن… ولو قد أرسل نفسه مع سجيتها لبكى وأبكى من حوله أبده وأخويه". لكأن الأم، في وعي طه حسين ووعي يوسف إدريس كائن مسكون من الداخل بنزعة مادية لا تكف عن تغيير أقنعتها. أو لكأنها الوجه الآخر للأم الأكول التي تلتذ بالتهام أولادها بشره منقطع النظير. وهو الوجه الذي سيتراءى مروعا في رحلة جبلية رحلة صعبة حيث تكف جريمة الأم عن كونها فعلا لا إراديا مرده الإهمال أو الغفلة وتصبح اختيارا.
تتشكل سيرة فدوى طوقان حريصة على إحاطة الأم بهالة رمزية تجعل منها كائنا يجسد الشرور جميعها حتى تتمكن من استدراج المتلقي إلى استفظاع فعال الأم وصنائعها. لذلك يتبع الكلام استراتيجية محددة مدارها إفراغ مفهوم الأمومة من دلالاته المتعارفة وشحنه بدلالات مضادة. إن الأمومة محاطة في الذهن البشري مطلقا بحشود من القيم الإنسانية الخالدة. فهي واهبة حياة. وهي حارسة الحياة وراعيتها أيضا. وهي جماع ما يحتاجه الطفل في بدء حياته من حب وحنان وأمن. من هنا تستحث الأمومة طابعها القدسي. بالأمومة تضمن الحياة تجديد نفسها. إنها الخادم الأمين للوجود. ذلك أنها لا تهب الحياة فحسب، ولا ترعاها فقط، بل تهب الكائن ما به يزدهي بالحياة ويمجدها ويشرف بها. ومن هنا أيضا يستمد مفهوم الأم نفسه طابعه القدسي. فالأم صفو الآلهة من جهة كونها تهب الحياة. وهي أشبه بالآلهة من جهة كونها ترعى الحياة وتنميها في الكائن وتغرس فيه حب الحياة والرغبة في الحفاظ عليها.
هذا البعد القدسي للأمومة هو ما ستحرص سيرة فدوى طوقان على محوه واستبداله بنقيضه. ذلك أن الأم ستعمل منذ تشكل الجنين في رحمها على انتزاع الحياة منه، فتحاول أن تتخلص منه بالإجهاض وتظل تعيد الكرة مرارا. تكتب فدوى طوقان في نبرة طافحة بالشجن: "أمي حاولت التخلص مني في الشهور الأولى من حملها بي. حاولت وكررت المحاولة. ولكنها فشلت". (11) هكذا تشرع السيرة في تسجيل وقائع وأحداث جرت قبل أن ترى البنت النور. ومثلما ألح عبد الرحمن بدوي لحظة تدوينه لسيرته على أن نجاة والده من الموت غيلة إنما تم لأن الأب منذور لإنجاب ولد سيكون له شأن عظيم، تحرص فدوى طوقان على إعلام المتلقي بأن نجاتها من الهلاك على يد الأم الآثمة الأكول إنما حصل لأن البنت منذورة لأمر عظيم أيضا. لذلك تتوسع السيرة في رسم المنازلة بين الأم والجنين. وتصبح عبارة عن منازلة بين الوجود والعدم. حتى لكأننا في حضرة الحياة وهي تجاهد لتكون. فلقد أنجبت الأم ستة أطفال وحين حملت للمرة السابعة عقدت العزم على الخطب العظيم. نقرأ: "كان هذا كافيا بالنسبة لأمي، وآن لها أن تستريح، لكنها حملت بالرقم السابع على كره، وحين أرادت التخلص من هذا الرقم السابع ظل متشبثا في رحمها تشبث الشجر بالأرض، وكأنما يحمل في سر تكوينه روح الإصرار والتحدي المضاد".
ثمة في هذه السيرة ما يشير صراحة إلى أن العلاقة بين الأم والبنت ظلت علاقة غريم بغريمه. فالأم لا تكتفي بإعلام البنت بحادثة الإجهاض، بل تحرص على جعل البنت تتمثل حجم الأذية التي تعرضت لها أيام كانت جنينا في الرحم. مهنا مثلا يتنزل مشهد الجنين وهو يقفز ويتخبط في أحشاء الأم الآثمة. تحدث الأم ابنتها قائلة: "حين استشهد ابن عمي كامل عسقلان كنت في الشهر السابع من الحمل… رحت أصرخ وأبكي مع أمه وأخته وكان وحيدهما، وكنت تتخبطين وتقفزين في أحشائي من جانب إلى آخر، والنسوة في المأتم يطلبن مني الرحمة بالجنين ويقلن لي – أشفقي على هذا الولد في بطنك، حرام عليك". (ص 14) ثمة في هذا المشهد نوع من التشفي الخفي. ثمة حرص على إيذاء البنت عن طريق إعلامها بأن المحن والويلات قد رافقتها منذ أن كانت جنينا في الرحم. ولا وجود في النص لما يمنع هذا التأويل. بل إن الإشارات التي تؤكده عديدة متنوعة. ستعمد البنت مثلا إلى المجاهرة بأن فعال الأم لا يمكن أن تفسر إلا بكونها تعتبر البنت كائنا نحسا قدم إلى الدنيا مخفورا بالويلات والمحن التي ستنصب على العائلة. تكتب: "ترى هل ربطت أمي بين مقدمي إلى العائلة بالنحس الذي طرأ عليها، أعني إبعاد الانجليز لأبي إلى مصر منفيا عن عائلته ووطنه؟" (ص 20). ستطفح السيرة بالتماس الأعذار لهذه الأم الآثمة. وتتوالى الجمل التي تبحث عن تبريرات لفعالها وصنائعها. تحدث البنت نفسها قائلة: "ما أحب أن أظلم أمي". وتبرر حرصها على الإجهاض بكونها تعبت من الإنجاب. (ص 12) وتبرر إيذاءها الذي لا يهدأ باقتران حملها بالبنت بموت ابن عمها كامل عسقلان واقتران مولدها بإبعاد الانحليز الأب إلى مصر، وتعتبر تلك. الكراهية رفضا لا شعوريا للمصائب التي انصبت على العائلة. (ص 20) لكن هذه التبريرات لا تبرئ الأم بقدر ما تبرئ البنت. إنها تأتي لتمنع المتلقي من أن يعتبر مواقف البنت من أمها ضربا من العقوق ونكران الجميل. فأن تشهر بنت بأمها وتدينها مسألة كفيلة، في حث ذاتها، بأن تفتح الكلام على فكرة العقوق. لذلك تتوالى المشاهد التي ترسم فعال هذه الأم وأذيتها. إن الأم ترفض أن تهب ابنتها فرصة الحياة. وحين تفشل في إنجاز جريمتها تحول حياة البنت إلى جحيم لا يطاق. وهذا ما يتعارض بالكل مع مفهوم الأمومة نفسه.
والناظر في سيرة فدوى طوقان يلاحظ أن الأم كانت تهب ابنتها "اللبن" مكرهة. تحدث البنت الضحية عن أمها قائلة: "لم تكن متفرغة لي ولا مشتاقة الي بل أسلمتني إلى صبية كانت تعمل في المنزل اسمها (السمرة) لتقوم برعايتي وكان على أمي وظيفة إرضاعي فقط". (ص 20) هكذا ترتسم العلاقة بين الأم وابنتها. إنها علاقة أكثر دونية من العلاقة بين أنثى الحيوان ونسلها. إن أنثى الحيوان تحمي نسلها وترعاه ولا تكتفي بإرضاعه. ثمة إلحاح على أن هذه العلاقة تم إفقارها واختزالها إلى درجة تجعلها أدخل في عالم النباتات حيث تكون العلاقة بين النبتة والبذرة علاقة تغذية لا غير. فعلى النبتة حالما تشهد النور أن تواجه قدرها وحيدة وتبحث لها عن مكان تحت الشمس ولا معين ولا مساعد. إن أمومة البذرة، في عالم النبات، هي الدرجة الصفر من الأمومة. أما في عالم الحيوان فإن الأمومة تشهد نوعا من الإثراء إذ تنفتح على الرعاية والحماية. وتبلغ مع الإنسان مستوى القيمة الإنسانية إذ تصبح رعاية للكائن واسعادا له. إنها عطاء يكشف عظمة الكائن ومقدرته على الكرم ومسؤوليته على استمرار الحياة. فالأمومة، من هذا المنظور، إنما تدل على أن الكائن مؤتمن على الحياة. بهذه المعاني أيضا يطفح الجذر اللغوي "أمم". إنه يدل على حشد من المعاني الإيجابية كالنعمة والملاذ والهداية والأصل وما يجمع ولا يفرق. جاء في لسان العرب مادة "أمم": "الإمة، بالكسر، العيش الرخي… والإمة النعمة… وأم القوم وأم بالكسر، وأم بهم: تقدمهم، وهي الإمامة… وأم الشيء أصله… يقال للمرأة التي يأوي اليها الرجل هي أم مثواه.. وأم القرى: مكة، شرفها الله تعالى، لأنها توسطت الأرض فيما زعموا… واعلم أن كل شيء يضم اليه سائر ما يليه فإن العرب تسمي ذلك الشيء أما".
لكن كلمة الأم تفرغ من محتواها، في سيرة فدوى طوقان، وتشهد الأمومة نوعا من التحول الفاجع المروع. فتتوالى المشاهد التي ترسم الأمومة ضارية كاسرة. حتى لكأن الأم التي حرصت على التخلص هن البنت أيام كانت جنينا في رحمها لم تغفر لهذا الجنين صموده وعناده وانتصاره على العدم، فآلت على نفسها أن تجعل من مقام البنت تحت الشمس جحيما وويلا. لذلك جاءت السيرة لتشهد على هذا الوجه السادي القاتم الذي يجعل من الأم بلية تتعقب البنت بالضرب والإذلال والتنكيل.
تحدث البنت عن كل هذا في نبرة لا تخلو من تأس على الذات يكاد يحول الكلام إلى مرثية ذاتية. تجري مقارنة بين مشهد زوجة عمها آن تمشيطها لشعر ابنتها في تؤدة وحنان، ومشهد أمها وهي تكيل لها من الضرب والإذلال ما لم تتمكن من نسيانه حتى لحظة كتابة السيرة. وترد المقارنة لتعمق إحساس المتلقي بما بين الأمومة ونقيضها من بون. وهي إنما ترسم حنان زوجة العم كي يكون سقوط الأم فظيعا. نقرأ: "كانت زوجة عمي تجلس "شهيرة" أمامها تقوم بتمشيط شعرها الطويل. وفي الوقت ذاته أكون قد اتخذت مقعدي أمام أمي لتقوم بتمشيط شعري. كنت وأنا في مقعدي أنظر إلى زوجة عمي وهي تدلل شعر شهيرة، تمشطه على مهل وتتهامس – معها بحديث الأم المهتمة بإشباع عاطفة ابنتها بشكل – تلقائي وغريزي. وكان هذا كله يحدث أمام بصري وسمعي بينما كنت أتلقى الضربات على ظهري من قبضتي أمي العصبيتين بسبب ضيقها بتململي بين يديها. كان تمشيطها لشعري سريعا عصبيا موجعا". (ص 22)
لقد تحول الحديث عن الطفولة، في أغلب الأحيان، إلى إدانة للأم واستجارة من ظلمها بالكتابة. حتى لكأنه مطلوب من الكلمات أن تتحمل تبعة ما صنع مع البنت حتى لا يصنع ثانية. وهذا ما مد السيرة بطابعها الثأري. إنها مدونة اشهاد على خراب الأنوثة وخراب الأمومة في عالم بلا قيم. كانت الأم قد رحلت وطواها النسيان حين شرعت فدوى طوقان تكتب سيرتها. لكن الغفران وما يحققه من أمن في نفس القائم به لم يعرف طريقه إلى قلب صاحبة السيرة. ذلك أن حكايتها مع أمها تفوق حدود الاحتمال. وهذا ما تحرص على تبيانه وتدوينه. لقد تركت الأم في كيان ابنتها جروحا لا يمكن أن يغفرها إلا إله يقر العزم على أن يهب رحمته لأشد الخطاة فظاظة وقسوة وشرورا. أما صاحبة السيرة، من جهة كونها من البشر، فإن الغفران لم يجد طريقه إلى قلبها. وعلى الأم أن تجني ثمار الضغينة التي ظلت تزرعها في كيان البنت. هذا البعد الثأري الذي يتحكم بالكتابة هو الذي جعل النص يخترق اختراقا من الداخل بالشكوى والتذمر، بالإدانة والتشهير والفضح. "وقع علي ظلم أمي أكثر من مرة… لقد عاقبتني أمي ذات يوم بدعك شفتي ولساني بزر من الفلفل الحار… لقد عانيت من أمي…" هكذا تتوالى الجمل الطافحة بالتظلم والتأسي على الذات.
لم تشف صاحبة السيرة من حقدها على أمها الآثمة حتى بعد أن رحلت الأم عن الدنيا. وهي تبرر ذلك بكون الأم لم ترحل حقيقة. فمثلما لا يمكن أن ينتهي الشر من العالم لا يمكن لهذه الأم الآثمة أن تغيب. لقد ماتت فعلا. لكن شبحها لم يمت. ومثلما لا يمكن للأشباح وللكائنات الشريرة أن تختفي إلى الأبد مادام في الدنيا رمق، فإن هذه الأم تظل تعاود الظهور لتروع البنت الضحية. فأنى للففران أن يجد طريقه إلى قلب البنت المروعة إذن مادام شبح الأم يظل يعاود الظهور وما دامت جنايتها بينة في حياة البنت لا يمكن أن تزول ! إن الأم، في هذه السيرة، صفو العدم الذي يظل يملأ بالهلع قلب الإنسان. ويظل يترصد خطاه ويقتفي أثره منذ لحظة مجيئه إلى الدنيا حتى القبر. نقرأ مثلا: "بقيت على مدى سنوات طويلة أراني في الحلم وجها لوجه مع أمي -حتى بعد وفاتها- هي صامتة وأنا يغمري شعور بالقهر المكتوم واحساس عنيف بالغيظ والظلم، أحاول الصراخ لأعبر لها عن ظلمها لي لكن صوتي يظل مخنوقا في حلقي فلا يصل اليها. هذا الحلم واحد من كوابيس كثيرة كانت تعتريني في أثناء نومي باستمرار".
على هذا النحو المروع ظل شبح الأم يلاحق البنت. ولا يمكن للبنت أن تنجو من هذا الهول العائد من بين القبور والأجداث الا إذا امتنعت عن النوم وأنى لها ذلك ! لقد رحلت الأم عن الدنيا لكنها تمكنت قبل رحيلها من الإقامة في لاوعي البنت وستظل تتعقبها بالويلات حتى القبر. لا أمن ولا راحة إذن. إن الشبح لا يموت. ومن قبرها واصلت الأم فعالها وشرورها. هذا ما تشهد السيرة عليه فيما هي تكشف أن الأم قد تمكنت قبل رحيلها من تشويه البنت تشويها لا يمكن أن تشفى منه أبدا. فلقد كانت البنت في أول أمرها طفلة عادية مولعة مثل البنات في سنها بالدمى. ولا وجود في السيرة لما يدل على أن الأم كانت على وعي بأن ميل البنت إلى اللعب بالدمى إنما هو سلوك متولد عن نزعتين دفينتين في البنات عموما، أعني الأنوثة الحانية والأمومة الكامنة. لكنها حرصت، مع ذلك، على قتل هذين الشعورين في ابنتها. تحدث البنت عن هذه المحنة قائلة: "حتى الدمى التي كانت تصنعها لي خالتي أو رفيقتي علياء من أعواد الخشب الدقيقة ومن مزق القماش، حتى تلك الدمى توقفت عن التعامل معها منذ زجرتني أمي بقولها: "مسخك الله، كفاك انشغالا بالدمى، فقد كبرت". كنت يومها في الثامنة من العمر، منذ ذلك اليوم لم احتضن دمية، وكانت العلاقة النفسية التي تربطني بالدمى أقوى من علاقتي بأي شيء آخر، فقد كانت تتحول بين يدي إلى مخلوق حي، إلى طفل صغير أدلله وأضاحكه وأغضب عليه وأعاقبه وأغني له فينام". لم تتزوج صاحبة السيرة. لم تنجب أطفالا. لم تهب الحياة فرصة تجديد نفسها. بخلت بجسدها على الحياة. وتلك. نتائج الذهنية الذكورية التي شوهت أنوثة البنت وحولتها إلى أنوثة عقيم. ثم كان أن الأم زرعت في البنت فزعا من الأمومة. هذا ما يرشح مشهد تحريم اللعب بالدمى بالدلالة عليه. وهذا ما يجعل من السيرة محاكمة عسيرة قاسية للأم وللذهنية الذكورية السائدة في مجتمع بلا قيم.
إن الأمومة، من جهة كونها قيمة بشرية خالدة، واهبة الحياة وحارستها التي ترعاها رعاية الكاهنة للنار المقدسة. لكن الأم، في سيرة فدوى طوقان، لا تبخل بالحياة وتحرص على ابادتها فحسب، بل تحولها إلى عالم جحيمي لا يمكن للمرء أن ينجو منه إلا متى لقي حتفه. إن الأم ليست حارسة الحياة بل هي لعنة الكائن ولعنة الحياة. ولما كان الأب رمزا للذهنية الذكورية المزدهية بفعالها، وهو زوج هذه الأم الغشوم فإن اللعنة ستطاله أيضا. ستحرص السيرة على رصد فعاله المشينه. فهو الذي يسجن النساء في البيت. وهو الذي يوافق على حرمان البنت من التعلم ولا يهب لنجدتها. وهو الذي يكف عن محادثتها عندما تبدو عليها هبات الأنوثة. لكن السيرة لا تجرده من الفضل مثلما فعلت مع الأم. فيقع الإلحاح مثلا على أنه وصل من شدة غضبه على الأم حين حاولت أن تتخلص من الجنين أن قاطعها وامتنع عن محادثتها. تكتب فدوى طوقان: "ولأول مرة في حياتهما الزوجية ينقطع أبي عن محادثة أمي لبضعة أيام، فقد أغضبته محاولة الإجهاض". (ص 13) ويقع الإلحاح أيضا على أنه وطني يهب لنجدة الوطن المهدد بالويلات والمخاطر. فيتم إبعاده من فلسطين إلى مصر ويسجن في سجن عكة حيث يصيبه المرض الذي سيودي به إلى حتفه. وبذلك تكون صورة الأب في سيرة فدوى طوقان وسيرة نزار قباني وأدونيس وعبد الرحمن بدوي واحدة أو تكاد. إن الأب شخص مناضل لا يقبل الضيم ولا يرضى بهوان الأوطان.
لكن السيرة لا تمجده ولا تعليه مثلما هو الشأن لدى كل من نزار وأدونيس وعبد الرحمن بدوي، بل تقع المجاهرة بأن البنت تقف منه موقفا محايدا. فهو لا يحظى بحبها. ولا تطاله كراهيتها. تحدث البنت عن أبيها قائلة: "لم أكن أحمل لأبي عاطفة قوية، بل ظل شعوري تجاهه أقرب ما يكون إلى الحيادية، لم أبغضه ولكنني لم أحبه: لم يكن له أي حضور وجداني في نفسي إلا في أوقات مرضه أو حين يسجن أو يبعد لأسباب سياسية". (ص 135) لكنها لم تغفر له إهماله لها فتحدث عنه قائلة: "لم يكن يبدي لي أي لون من ألوان الاهتمام أو الإيثار، حتى حين كنت أقع فريسة لحمى الملاريا في صغري ما كان ليدنو مني أو يسأل عني. وكان هذا الإهمال يؤلمني". غير أن موقف اللامبالاة هذا ليس خاليا من الدلالة. فقديما قالت العرب كل فتاة بأبيها معجبة. وجاء علم النفس الحديث طافحا بالحديث عن علاقة الحب المفترضة التي تكنها البنت لأبيها ووشح "إيلكترا" لتصبح مجسدة لهذا النزوع الدفين في المرأة. (12) والناظر في هذه السيرة سرعان ما يدرك أن البنت ظلت منذ طفولتها المبكرة تبحث عن أب بديل. ولم يكن حدث البحث ذاك خاليا من الدلالة. لكأن البنت بلفت من شدة كراهيتها للأم أن عدت أبدها ملكا لتلك الأم السادية. وكان أن زادها إهمال الأب لها تباعدا عنه. وستجد في إبراهيم أخيها هذا الأب البديل. وهي تحدث عنه لا باعتباره أخا بل باعتباره الأب الحاني. فتمجده وتعليه وتعده المنقذ والمخلص والدليل الهادي إلى دروب الخلاص.
لذلك تتشكل صورة إبراهيم نورانية بهية محاطة بهالة رمزية تفتحها على أكثر من دلالة. إنه الأب البديل. تكتب: "أصبح إبراهيم بحنوه الغامر وايثاره لي تعويضا عن أب لم يشعرني أبدا بدفء عاطفته الأبوية". (13) وهي تحدث عن موت إبراهيم باعتباره يتما حقيقيا. تقول: "وحين توفي إبراهيم، وكان أبي لا يزال على قيد الحياة، عرفت طعم اليتم الحقيقي". وهي تحث ث بفضله. وتذهب إلى حد الجزم بأنه كان يمثل التماعة الأمل الوحيدة في دياجير الجحيم الذي حكمت العائلة على البنت بالإقامة فيه. تكتب: "أول هدية تلقيتها في صغري كانت منه. أول سفر من أسفار حياتي كان برفقته. كان هو الوحيد الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانيته بعد فقدان عمي. والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها… كان تعامله معي يعطيني انطباعا بأنه معني بإسعادي واشاعة الفرح في قلبي". (ص 60)
هذه الهالة التي تحرص السيرة على أن تحيط بها صورة إبراهيم كثيرا ما تطفح بالدلالة على أن إبراهيم لم يكن أبا فحسب، بل كان رسول السماء لكائن معذب في الأرض لا يملك فكاكا من عذابه. لذلك تتتالى الجمل التي تبتني هذا البعد وتثبته. تكتب مثلا: "مع وجه إبراهيم أشرق وجه الله على حياتي". ونقرأ أيضا: "في تلك الفترة القاسية من سني مراهقتي كانت يد إبراهيم هي حبل السلامة الذي تدلى وانتشلني من بئر نفسي الموحشة المكتنفة بالظلام". (ص 63) ولذلك أيضا تتوالى الصفات التي تلح على أنه كان الأب الحاني. تكتب: "كان بالنسبة لنا ينبوع حب وحنان يفاق علينا من عطائه ويمنحنا من وقته ومساعدته". (ص 62).
تلح السيرة أيضا على أن إبراهيم كان طريقا، كان دربا تشير إلى ما يجب أن تكون عليه الرجولة إذا أرادت أن تنجو مما يجعل منها منوا لخراب الكائن وخسرانه. فإبراهيم هو الذي رد للبنت إحساسها بأنها إنسان وليست أنوثة مدانة. وهو الذي تمكن من جعلها تتخلص من عقدة الأنوثة فلا تعامل نفسها على أنها حمالة عار ممكن أو محتمل. تكتب: "على غير عادة رجال الأسرة، كان يجلس معنا – نحن، أمه وشقيقاته – يبادلنا الحديث ويحكي لنا عما جرى ويجري من شؤونه الخاصة وبعض الشؤون العامة. كما كان يروي لنا الطرائف الأدبية والتاريخية مما يطالعه".
وفي حين كانت العلاقة بين البنت وأمها علاقة عدائية واضحة لا تني تغير من ميادين عملها ومجالات إفصاحها عن نفسها، وفي حين كانت العلاقة بين الأب الحقيقي والبنت علاقة إهمال متبادل ولا مبالاة، كانت العلاقة بين البنت وهذا الأخ الذي اضطلع بدور الأب البديل علاقة إشكالية متعددة الأبعاد والوجوه. فالبنت تجاهر بأنها تعده الأب البديل. لكنها كثيرا ما تحدث عنه بطريقة تفتح صورته على صورة الزوج حينا وصورة الابن حينا آخر. وفي الحالتين ترتسم صورة هذا الأب البديل باعتباره هبة السماء. إنه المنقذ والمخلص الذي جاء يصالح البنت مع أنوثتها ويرهم ما تبقى من تلك الأنوثة المسحوقة في عالم ذكوري بلا قيم. لقد أيقظ في البنت عاطفة طمسها القهر حتى كاد ينسيها مذاقها وبهاءها. لقد جعلها تكتشف أن الرجل كائن يمكن أن يحب، سواء كان ابنا أو زوجا أو أبا.
ثمة في هذه السير والمذكرات والمحاورات، على تعث د أصحابها واختلاف أزمنتهم وتباين مواقفهم من قضايا الإنسان والوجود وقضايا الكتابة، نوع من التماثل الصريح فيما يخص الموقف من الأم. إنها كائن آثم يستحق التشهير والإدانة. وهذه هي صورتها في نص طه حسين وتصريحات يوسف إدريس وسيرة فدوى طوقان. أو هي مجرد وعاء يؤدي وظيفة الحمل والولادة ثم يختفي من حياة الطفل نهائيا كما في سيرة نزار قباني. إنها تحضر لتدان، أو يقع تغييبها والإيماء اليها إيماء عابرا مثلما هو الشأن في سيرة سلامة موسى وأدونيس حيث يختزل حضورها حتى يغدو مجرد حضور شبحي باهت لا يكاد يرى. ويتم تغييبها والسكوت عنها فلا تحظى بالذكر أصلا كما في سيرة عبد الرحمن بدوي وخليل حاوي. وحده الأب -سواء كان حقيقيا أو كان أبا بديلا- ينال التبجيل ويحظى بالإعلاء. فترتسم صورته على أديم هذه النصوص جميعها بهية نورانية تكاد ترفعه إلى مصاف أنصاف الآلهة أو إلى مرتبة الأبطال الأسطوريين. ففي حين ترتسم الأمومة كاسرة آثمة مؤذية مدججة بالشرور والويلات والخسران أو ممحية غائبة لا تقدر على رعاية الحياة بل تكتفي بإنجاب الأطفال ثم تتركهم لحصائرهم، ترتسم الأبوة عطايا وهبات. إن الأب، في هذه النصوص، هو النموذج والمثل. والأبوة هي التماعة النور الوحيدة في عالم أفقرت فيه الأمومة واختزلت في بعدها البيولوجي. تجمع هذه النصوص كلها على أن الأب -سواء كان حقيقيا أو كان أبا بديلا- إنما يمثل نموذجا لعظمة الكائن. فهو يجمع إلى البسالة والفطنة (سيرة بدوي) طبعا انشقاقيا ثوريا ووطنية لا تضاهى (سيرة نزار قباني وأدونيس). وهو الهادي والمعلم والمنقذ والملاذ (سيرة سلامة موسى وفدوى طوقان وخليل حاوي وأدونيس ونزار قباني ومذكرات بيرم التونسي) وهو الأب الحاني الذي يهب لتخفيف الأحزان (سيرة طه حسين). وفي حين تحرص النصوص جميعها على إحاطة فكرة الأمومة ذاتها بما يشين ويدين ويشهر، تحيط الأبوة بهالة تجعل منها طريقا وقبلة. حتى لكأننا أمام خطابات تتفق على أن الأب هو الطريق إلى الخلاص. إن الأب هو الطريق المؤدية. أما الأمومة فنفق مظلم ودياجير. والأم طريق مسدودة أو طريق كربة تملأ بالويل والنكد حياة الإنسان. وهذا ما تجاهر به سيرة فدوى طوقان في حين تتكتم عليه بقية النصوص. لكن تغييب هذه النصوص للأم والاكتفاء بالإيماء اليها مسألة تشير، على نحو ممعن في التخفي، إلى أن خلاص الابن مشروط بمدى تباعده عن الأم وتناسيها كي يحث الخطي باتجاه الأب وما يجسده من قيم.
هل كان نجيب محفوظ واهما حين رسم صورة الأب في الثلاثية قاتمة كاسرة في منتهى القتامة؟ لكأن صور الأب التي رسمها نجيب محض توهم. فلا وجود في هذه النصوص لأي ملمح من ملامح "السيد أحمد عبد الجواد". لا وجود في سلوك الآباء وكيفيات تعاملهم مع أبنائهم وزوجاتهم لما يشير ولو إيماء إلى أن المجتمع مجتمع رجالي ذكوري مزده بذكور يته يشهرها في وجه الأنوثة سلاحا. حتى أن الناظر في هذه السير والمذكرات والمحاورات يكاد يسلم بأن الأبوة تجمع في رحابها ما يجعل منها أبوة حامية وأمومة حانية في الآن نفسه. إن صورة الأب جذابة بهية نورانية. الأب طريق وقدوة. الأب جماع قيم وخصال ممدوحة. أما الأم فإن حضورها أقرب إلى الغياب وبه أشبه. وحين تحضر تحاط بهالة تجعل منها منوا للأبالسة. فتغدو رمزا أو تلتحف بملامح الرمز. إنها جماع الفصال المذمومة التي تجسد دونية الكائن وخسرانه. مدانة هي الأنوثة إذن. ومدانة الأمومة أيضا. ووحدها الرجولة تنال السؤدد والمجد. وحدها الأبوة تحظى بالتبجيل والتمجيد والإعلاء. وعلى هذا جريان هذه النصوص جميعها.
يحاول جيلبار دوران Gilbert Durand في Les Structures anthropologiques de ص imaginaire أن يرصد صورة "المرأة المشؤومة" فيبين أن الأنوثة قد اقترنت في الذهن البشري عامة بالماء. ذلك أن سيولة الماء وسيولة الحيض واحدة. ودم الحيض هو ما يجعل الأنوثة مفتوحة على فكرة الشؤم. فالمرأة كائن مائي قمري. ومثلما تتبع المياه في مدها وجزرها دورة القمر تخضع دهاء الحيض لدى المرأة للدورة ذاتها. ثمة بين الأنوثة والقمر علاقة سرية. والقمر إنما يجسد المظهر المأسوي للزمن. ففي حين تحافظ الشمس على مظهرها فلا تتغير إلا في حالات الكسوف النادرة. يمعن القمر في التبدل والتحول. فيكبر ويصغر ثم يختفي تماما. إنه يجسد في حركته فعل الموت وفعل الزمن وطابعهما الضاري الكاسر. ويخلص جيلبار دوران إلى أن دم الحيض مرتبط بفكرة موت القمر. (14) وبهذا التماثل تنفتح الأنوثة ذاتها على فكرة الشر. ومن هنا تلتحف الأنوثة ببعد هام من أبعادها الرمزية وتنفتح على صورة "الأم الرهيبة"، صورة السعلاة التي تعززها المحظورات الجنسية. لأن الخيال المعادي للأنوثة يتدخل في تلوين هذا التصور بواسطة خلق تماه بين الزمن وموت القمر والحيض وما ينجر عن الجنس من مخاطر. هذه الأم الرهيبة هي النموذج اللاواعي لكل الساحرات الطاعنات في السن ولكل الجنيات الشريرات اللواتي يؤثثن الحكايات الشعبية. (ص 113)
هذا التوازي بين الأنوثة الكاسرة والأمومة الشريرة الرهيبة هو ما يقع الإلحاح عليه أيضا في معجم الرموز والأغراض الأدبية des symboles et des littéraires Dictionnaire فيقع رسم صورة الأم الأكول، الأم الرهيبة كالسعلاة، مقترنة بصورة القمر ورمزية دم الحيض. فالوعي البدائي الذي أخذ بالقمر، وبالاستناد إلى دورة القمر بنى تقويمه للزمن، ونظم تقاليده الاجتماعية ونظمه الزراعية لم يكن بإمكانه إلا أن يعد الدم رمزا من رموزه الأساسية، "ولا سيما دم الحيض الذي تلتقي فيه سمات الدنس (صفو الموت) والدياجير… الدنس الجسدي والروحي. وهذه كلها نعوت تسند إلى الأم الأكول… إن هذه السمات هي منبع الغموض الذي يحاط به الدم باعتباره الوسيلة التي بها تستمر الحياة وبها يمكن أن تتلف. وهو الغموض نفسه الذي يحيط بدم الحيض الذي تعتبره الحضارات جميعها صفو الحظر الجنسي لأن المظاهر الفيزيولوجية المرافقة له. تعد لدى النوع البشري عامة عاملا يوقظ الرغبة الجنسية، وتمثل نداء جنسيا يجب التحصن منه. (15) غير أن هذه التأويلات لمفهوم الأنوثة والأمومة لا يمكن أن تجلي الغموض وتوضح الأسباب التي أدت إلى تغييب الأم أو ادانتها والتشهير بها في هذه السير والمذكرات والمحاورات. ثمة دلالات أخرى تظل لائذة بالصمت ولا يمكن للتأويلات الانثروبولوجية وحدها أن تحيط بها. ثمة دلالات متأتية من صميم الثقافة العربية ورموزها وتغريبة الكائن في رحلة بحثه عن المعنى طيلة مسار هذه الثقافة. فكثيرا ما رسمت المتون القديمة للمرأة صورة من خلالها تتراءى محنة الإنسان وتغريبته في براري الفناء. إن المرأة في كتب الفقه وكتب الأخبار وكتب السيرة والقصص كثيرا ما تأتي لتجسد فكرة الشر. والنساء حبائل إبليس ومصايده. هذا ما تلح عليه المتون القديمة. لكأن صورة الأم في هذه السير والمحاورات والمذكرات إنما تمثل الصدى المباشر لألاعيب المتخيل الجماعي وحيله وسلطانه. لكأنها ترغم على تحمل الخطيئة التي كانت في البدء. ومثلما حملت حواء الجريرة كلها، مثلما اعتبرت طريق آدم إلى التهلكة سترتسم صورتها قاتمة في هذه النصوص. إن حواء لا تقطن الماضي. وهي لم ترحل عن الدنيا أبدا، بل تقيم على الأرض لتواصل كيدها وفعالها. لكأن التصور الذي يعتبر النساء جميعهن مجرد أقنعة وتجليات لتلك الأنوثة الماكرة التي صنعت في البدء خراب الكائن يعاود الظهور في هذه النصوص متخذا له دروبا ملتوية مداورة ممعنة في الزيغ والتخفي.
الهوامش:
1- عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000، ص 6.
2- نزار قباني، قصتي مع الشعر، ضمن الأعمال النثرية الكاملة، بيروت: منشورات نزار قباني، 1993، ص 209.
3- بيرم التونسي، مذكرات بيرم التونسي، بيروت -صيدا: المكتبة العصرية للطباعة والنشر، (د. ت)، ص 23.
4- سلامة موسى، تربية سلامة موسى، ص 15.
5- خليل حاوي، "السيرة الناقصة"، مجلة الآداب، العدد 6، حزيران، 1992، السنة الأربعون، ص 100.
6- ميخائيل نعيمة، سبعون، بيروت: مؤسسة نوفل، الطبعة الثامنة، 1993، ص 3/180.
7- رجاء النقاش، نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، القاهرة: مركز الاهرام للترجمة والنشر، 1998. ص 16.
8- حوار مع أدونيس، أجراه مارغريت أوبانك وصمويل شمعون، مجلة عيون، ليون -ألمانيا: منشورات الجمل، عدد 6، السنة الثالثة 1998.
9- يوسف إدريس، "أنا.. أنا.. أنا فقط"، مجلة الكرمل، العدد 12، ص 190.
10- طه حسين، الأيام، القاهرة: دار المعارف بمصر، الطبعة الخمسون، 1973، ص 6.
11- فدوى طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة، سيرة ذاتية، بيروت: دار العودة، الطبعة الثانية، 1985، ص 12.
12- إيلكترا هي ابنة أغاممنون الذي خاض حرب طروادة، وبعد تسع سنين من الحصار المرير تمكن في السنة العاشرة من دخول مدينة طروادة، وعاد مظفرا. لكن زوجته كليتيمنسترا غدرت به عندما كان خارجا من الحمام "ألقت عليه غطاء فضفاضا تخبط فيه كالشبكة ولم يستطع أن يدافع عن نفسه عندما أهوت عليه بالفأس وضربته ضربات ثلاثا ألقته على الأرض صريعا". ثم نصبت عشيقها ايجيست ملكا. وستتمكن إيلكترا بمعية أخيها أوريست من قتل الأم والثأر لأغاممنون. لذلك صارت إيلكترا ترمز في علم النفس إلى افتتان البنت بأبيها. انظر عماد حاتم، أساطير اليونان، ص 633-645.
13- فدوى طوقان، رحلة جبلية رحلة صعبة، ص 135.
14- Gilbert Durand, Les Structures anthropologiques de I imaginaire, Paris: Bordas, 1969, p 118-119.
15- (I. Aziza, cl. Olivieri, et R. sctrick, Dictionnaire des symboles et des themes littéraires (Paris: Fermand Nathan, 1978
محمد لطفي اليوسفي (ناقد واكاديمي من تونس)