سالم آل الشيخ
تحولات فرزتها نقلة اقتصادية سريعة
إن تسلّم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – مقاليد الحكم في السلطنة عام 1970م أحدث تغيّرات عميقة في جميع جوانب المشهد العُماني، ربما كان أهمها تلك التي أعادت تنظيم الإنسان داخل المجتمع، ووضعته في شكلٍ لم يكن مألوفاً لديه من قبل، لعبت الحكومة(1) في إعادة التشكيل هذه دوراً لم تكن تلعبه الحكومات العمانية من قبل، كان دور الحكومة في عمان قبل ذلك محصوراً بشكل كبير – وفي أغلب الأحيان – في الحفاظ على السلم مع الخارج، والأمن في الداخل، ونصب ميزان العدل، ويبقى على الأفراد والمجتمعات تدبر أمورهم الأخرى (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنظيمية وغيرها) في هذا الجو الآمن والعادل الذي فرضته الحكومة، غير أن الحكومة العمانية الحديثة التي ولدت في سبعينيّات القرن الماضي أصبحت مسؤولة – ولأول مرة بعد أن تراجع دور القبيلة والأحلاف المناطقية –عن تنظيم كل نواحي حياة الإنسان العماني بما فيها الناحية الاقتصادية.
فشهد الإنسان العماني تغيّرات كبيرة كان للحكومة الدور الأكبر، ففي الجانب الاقتصادي أصبح في عمان مؤسسات تُعنى بالتخطيط الاقتصادي، وتطبيق السياسات الاقتصادية المختلفة، وقطاع توظيف حكومي كبير؛ مدني وعسكري وأمني، وعملة وطنية سائدة ومحمية بموجب القانون، وانفتاح تجاري كبير منظّم، وقوانين اقتصادية ناظمة ومسيرة للأسواق والمعاملات الاقتصادية المختلفة.
وقد حققت عُمان خلال فترة حكم صاحب الجلالة المغفور له نمواً اقتصادياُ مطّرداً جعله استثنائيا في العالم على رأي بعض خبراء الاقتصاد، ففي قرابة خمسين سنة تضاعف حجم الاقتصاد العماني حوالي 254 مرة، مرتفعاً من 115.4 مليون ريال عماني في عام 1970 – إبان تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم- إلى 329349.5 مليون ريال عماني في عام 2019م، وتضاعف متوسط دخل الفرد العماني حوالي 42 مرة، فقد ارتفع متوسط دخل الفرد(2) من 153.9 ريال عماني في عام 1970م إلى 6355.6 ريال عماني في عام 2019م ( صحيفة الشبيبة في لقاء مع وكيل الاقتصاد، 2020).
غير أن هذه التغيّرات الاقتصادية السريعة التي قادتها الحكومة، وما صاحبها من انفتاح كبير على العالم وما ينتجه من أفكار وسلع أعادت تشكيل الإنسان العماني في كثيرٍ من جوانب حياته، كما أفرزت قضايا وتحديات لم يواجهها في ماضيه القريب.
استمرت حياة الإنسان العماني رتيبة في كثير من جوانبها لعقود طويلة، حتى أتت هذه الطفرة الاقتصادية التي تُديرها الحكومة لتقلب الكثير من المفاهيم، وتؤثر على الكثير من الموروث الثقافي، فقد ظل الاقتصاد العماني – ولقرون عديدة – اقتصاد يتسم بالكفاف، يقوم على أنشطة تقليدية؛ الزراعة وصيد الأسماك، وبعض الصناعات التقليدية البدائية، ويقوم ببعض المبادلات التجارية مع شركائه التجاريين المحدودين ببعض الدول المطلة على المحيط الهندي والخليج العربي، ثم أتى التدفق النفطي مع النهضة التي قادها المغفور له صاحب الجلالة السلطان قابوس، والانفتاح الكبير على العالم الخارجي، فتحول الاقتصاد العماني إلى اقتصاد وفرة ورفاه، حين تنوعت السلع وتعددت الخدمات، وقد تغيّر معها السلوك الاقتصادي للإنسان العماني من حيث الاستهلاك والتوفير والاستثمار.
ولأن علم الاقتصاد هو علم البدائل التي يختارها الإنسان في نشاطاته اليومية، حيث تنعكس خياراته الاقتصادية – سلوكه الاقتصادي – على جوانبه الأخرى، فقد تغيّر مع هذه الخيارات الاقتصادية الكثير من سلوكيات الإنسان العُماني الصحية والنفسية، كما صحبتها تغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية وغيرها من الجوانب الأخرى، فعلى سبيل المثال، ظهرت في الجانب الصحي قضايا لم تكن مطروحة من قبل كقضايا الأنظمة الغذائية والنشاط البدني والسمنة والأمراض المزمنة، كما ظهرت في الجانب الاجتماعي قضايا كالعنوسة والطلاق وتكافؤ الجنسين والهجرة من الأرياف للمدن، أما في الجانب الثقافي فكانت قضية الهُوية حاضرة على الدوام مع ازدياد عدد العمالة الوافدة، وتعدد الروافد الثقافية القادمة من الخارج على شكل قنوات فضائية، وفضاء إلكتروني مفتوح، وسلع وخدمات تنتج في الخارج، وهكذا بالنسبة للجوانب الأخرى المختلفة.
ولأن كل هذه التغيرات كانت من الإنسان، ويُفترض بها أنها لأجل الإنسان في هذه الأرض، فكان من الأهمية بمكان أن يقوم المشتغلون بالجوانب البحثية والمعرفية برصد هذه التغيّرات، وتحليلها، ومحاولة طرح الأسئلة بشأنها، والأجوبة عليها، وإذا أطلقنا على بعض هذه التغيرات صفة التنمية، فإن الإنسان – كما يُقال- هدف التنمية وغايتها كما أنه هو أداتها، وعليه، فإنه من المهم – ونحن نشتغل بالتنمية – أن نوفّر إجابات علمية عميقة عن تأثيرات هذه التنمية على الإنسان؟ أو بمعنى آخر: عن تأثر الإنسان بمعطيات التنمية.
عليه، وبشكل أوضح ومباشر أضع هذه التساؤلات: هل استطاع المشتغلون في بحوث الاقتصاد والتنمية خلال الخمسين السنة الماضية أن يرصدوا:
تأثير التحولات الاقتصادية على السلوك الاقتصادي للإنسان العماني؟ وما مدى أثر هذا التغير في السلوك الاقتصادي – إن وُجد – على الجوانب الأخرى (الاجتماعية، الثقافية، الدينية، الصحية، ….) لهذا الإنسان؟
وإن كان الهدف من التحول الاقتصادي هو التنمية، فمن هو الإنسان الذي نريده بالتنمية؟ ولماذا؟ وأين الإنسان الراهن عن ذلك الإنسان الذي نريد أن نصله؟ وما السياسات الاقتصادية الصحيحة ( الخيارات الاقتصادية الصحيحة) التي يمكنها أن تغيّر في ذات الإنسان ومحيطه لتوصلنا للإنسان المنشود من التنمية؟
الاشتغال العلمي على أثر التحولات الاقتصادية في الإنسان العماني
إن التحولات الاقتصادية – التي خلقت السياسات المختلفة للحكومة جانباً كبيراً منها – كان لها الأثر الكبير في الإنسان العماني؛ إذ إن الواقع الاقتصادي أحد محددات خيارات الإنسان اليومية، وبالنتيجة أحد محددات سلوكه، والحكومة هي العنصر الفاعل المؤثر – يكاد يكون الوحيد – خلال فترة الخمسين سنة ماضية، حيث حلّت محل قوى المجتمع السابقة، ولم تُفسح المجال لتنشأ مؤسسات مجتمع مدني فاعلة.
وكان الإنسان العماني على الدوام موجوداً في خطط الحكومة التنموية فهو المستهدف بالخدمات المختلفة كالصحة والتعليم والماء والكهرباء والطرق والاتصالات وغيرها، وتطرقت الخطط التنموية الخمسية المتعاقبة على التنمية البشرية، كما أفردت لها رؤية عمان 2020، وعمان 2040 تفصيلاً مهماً، حددت فيه هذه الرؤى الإنسان العماني الذي تريده نتيجةً للتنمية.
فقد حددت رؤية عمان 2020 الإنسان العماني الذي تريده بنهاية الرؤية هو ذلك الإنسان المالك للقدرات والمهارات الممكنة له من مواكبة التطور التقني وإدارة المتغيرات التقنية الطارئة بكفاءة عالية، والقادر على مواجهة الظروف المحلية والعالمية المتغيرة باستمرار (الصقري والكندي، 2017)، أما رؤية عمان 2040 فقد حددت الإنسان الذي تريده بهذه الكلمات: مبدع، معتز بهويته، مبتكر، ومنافس عالمياً، ينعم بحياة كريمة، ورفاه مستدام (رؤية عمان 2040، 2020)، وما بين الرؤيتين كانت خطة التنمية المستدامة لعام 2030 التي وضعتها الأمم المتحدة واعتمدتها السلطنة كخطة لها، والتي هدفت إلى أن تصل بها إلى إنسانٍ متساوٍ مع الآخرين، ومتمتعٍ بكافة حقوقه المدنية
(الأمم المتحدة، 2020).
إذن، إذا كانت الحكومة حدّدت الإنسان الذي تريده من خلال خططها التنموية ورؤاها المستقبلية، وهي صاحبة التأثير، والمالكة لزمام التغيير، فهل طرح الباحث الاقتصادي تساؤلاته من منظوره الاقتصادي: لماذا هذا الإنسان؟ وكيف نصل إليه؟ وأين نحن عنه الآن؟ وماذا عن تأثيرات السياسات الاقتصادية التنموية في الجوانب الأخرى للإنسان، نظرته للموت، للحياة، للدين، للقيم، للموروث، للمواطنة، للكون، لأخيه الإنسان، ولكافة الأمور الأخرى التي تنتظم في سلك ما يفهمه الإنسان في الإطار النظري أو الممارسة الفعلية؟
لا يوجد حتى الآن – على حد علمي – مسح شامل للدراسات الاقتصادية العمانية، حيث تحصر جميع الأعمال البحثية التي ناقشت موضوع الاقتصاد في الشأن العماني، وتصنفها حسب فروع الاقتصاد المختلفة؛ غير أن المطلع على البحوث والاشتغالات العلمية في الجانب الاقتصادي العماني – على عمومه – يجدها في الأغلب أنها تتسم بالأمور الأتية:
كثيرٌ من الكتابات الاقتصادية كان وليدة الحدث، تتطرق لقوانين ولوائح وإجراءات واتفاقيات حكومية وقت صدورها أو التوقيع عليها، ومحاولة إعطاء تحليل نظري على الآثار المتوقعة لصدور أو تطبيق تلك الإجراءات الحكومية، وأغلب هذه الكتابات مبنية على إدراك الكاتب لا الحقائق، ومعضمها لا يرقى أن توصف بأنها اشتغالات بحثية.
الكتابة في الظاهرة الاقتصادية أو السياسة الاقتصادية وليس في الأبعاد العميقة لأسبابها، وتأثيراتها، ولسبر أغوار التأثير الاقتصادي لربما نكون بحاجة لمغادرة شواطئ الحديث عن الظاهرة أو السياسة ذاتها ونتجه عميقاً في تحليل تأثير هذه الظاهرة أو السياسة في الإنسان العماني المتلقي لها، الإنسان ذو الأبعاد المختلفة خارج حدود الاقتصاد، وهذا يتطلب من الاقتصادي أن يكون واسع المعرفة، ودارسا للفكر الاقتصادي.
كثير من الدراسات الاقتصادية التي وقعت عليها، ينصب اهتمامها على الاقتصاد الصرف كالسياسات الاقتصادية المختلفة، وتدرس آثارها الاقتصادية المتمثلة في أرقام اقتصادية ترتفع وتنخفض كالناتج المحلي الإجمالي والتضخم والبطالة ومتوسط دخل الفرد، وغيرها من المؤشرات الاقتصادية القطاعية والمالية المختلفة، غير أن القليل منها كان يشير إلى كيف لهذه التغيرات أن تؤثر في السلوك الاقتصادي، وكيف يكون وَقْع هذا التغير في السلوك الاقتصادي للفرد على الجوانب الأخرى المختلفة له.
الدراسات الاقتصادية قليلة عند الأخذ بعين الاعتبار التفرعات الاقتصادية المختلفة، فقد تفرعت علوم الاقتصاد خلال العقود القليلة الماضية كثيراً، ولم يعد يكفي أن تدرس الاقتصاد الكلي والجزئي على عمومه السابق، فظهرت الأبحاث في تفرّعات أخرى للاقتصاد، منها على سبيل المثال: الاقتصاد السلوكي، الاقتصاد الاجتماعي، الاقتصاد البيئي، الاقتصاد الصناعي، الاقتصاد المالي، الاقتصاد التجريبي، الاقتصاد العصبي، الاقتصاد الميكروبي، اقتصاد الطاقة، ويكاد تخلو بعض الفروع على أهميتها من دراسات لها صلة بالشأن العُماني.
اعتمدت المؤسّسات الحكومية المعنيّة بالشأن الاقتصادي في كثير من الأحيان على موظفيها أو خبراء تستأجرهم للقيام ببعض المسوحات وإعداد بعض الدراسات التي تعينها على القيام بالدور المنوط بها، وهذا أدى إلى أن الكثير من الدراسات الاقتصادية غير منشورة، ولم تتعرض للنقد العلمي.
معوقات الاشتغالات البحثية الاقتصادية
إذا اتفقنا أن الباحث الاقتصادي ترك مجالات بحثية كثيرة لم يبحث فيها بعد في الجانب الاقتصادي وأثره في سلوك الفرد العماني، فسيأتي السؤال: لماذا؟
ولأن الظواهر الكبيرة تقف خلف حدوثها أمورٌ كثيرة، أي لا تقتصر على أمرٍ واحد، فإن الأسباب التي تقف خلف هذا القصور كثيرةٌ أيضاً، بعضها خاصة بالبحث الاقتصادي، وبعضها عامة أثرت في معظم المجالات البحثية والعمل المعرفي، وسأرصد هنا بعض الأسباب التي هي – في تقديري – أكثر أهمية:
التاريخ يشرح بعض الأسباب، فقد دخلت عمان سبعينيّات القرن المنصرم بمدرستين نظاميتين فقط، وبنسبة مرتفعة في الأمية؛ إذ كان جزء كبير من المجتمع العماني ذا تعليم محدود بسبب عدم كفاية البرامج التعليمية أو عدم فعاليتها أو عدم توفر إمكانات الحصول عليها، وتشير أرقام منظمة اليونسكو إلى أنه في عام 1970م كان معدل الأمية بين الراشدين في سلطنة عمان يبلغ قرابة (65.7%)، حيث بلغت نسبة أمية الذكور (43.9%)، وارتفعت عند الإناث لتصل (88.3%) (المبسلي، 2015).
بدأت حركة التعليم الحديث ومحو الأمية بعد ذلك، وكان على أبناء عمان أن ينتظروا 16 عاماً حتى يُفتتح أول صرح تعليمي عالٍ في عمان متمثلاً في جامعة السلطان قابوس، وكانت أول حاضن فعلي ممكن للأبحاث العلمية في عمان.
وعلى الرغم من وجود اشتغال بحثي للعمانيين أو في الشأن العماني قبل هذه المرحلة وفي بداياتها الأولى، غير أنّه كان يغلب عليه الجانب الفقهي، شأنه شأن معظم أقطار العالم الإسلامي التي ينطبق عليها وصف الجابري للحضارة الإسلامية بأنها “حضارة فقه”؛ إذ يحتل الفقه – غيرَ منازع- المرتبةَ الأولى في منتجاتها الفكرية كمًّا وكيفًا (القرني، 2019).
وعليه، فإنه لا يوجد تأسيس للعمل البحثي الاقتصادي في عمان في فترة ما قبل السبعينيات، وتأخر بعد ذلك في العقود الأولى للنهضة، ولا يعني ذلك أبداً أن الفضاء المعرفي كان يخلو من بعض الدراسات التي قامت برصد بعض التحولات الاقتصادية للمرحلة، فبعض الجهات الحكومية – كما سبقت الإشارة – كانت تقوم ببعض المسوحات وعمل الدراسات الاقتصادية التي تساعدها في تأدية عملها، كما أن هناك بعض المهتمين من الأجانب – وهم قلة – ممن كتب عن مرحلة التحول هذه، غير أن الكثير من هذه الدراسات لم تنشر، بل ظلت حبيسة الأدراج الحكومية.
وحتى اليوم فإن الحاصلين على شهادتي الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد لا يتجاوز عددهم 20 خريجاً حسب بيانات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.
إن اهتمام علم الاقتصاد بسلوك الإنسان، ودراسة تأثره بالأوضاع الاقتصادية المختلفة في اتخاذ قراراته الاقتصادية اليومية حديثٌ نسبياً، حيث ظهر ما يعرف بالاقتصاد السلوكي والاقتصاد العصبي والاقتصاد التجريبي والاقتصاد الاجتماعي، وكلها تحاول فهم سلوك الإنسان الاقتصادي، وكثير من هذه العلوم لم تبدأ في التشكل على ما هي عليه اليوم إلا مع الألفية الجديدة؛ ولذا فإنه قلما نجد من العمانيين من تخصص في هذه الفروع من علم الاقتصاد، وإن وجِدوا فهم قليل، قد لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، وهذا يبرر ما نجده في الكثير مما كُتب في التأثيرات الاقتصادية في الإنسان العماني أنه يغلب عليه الوصف والمقارنة لا التحليل والتفكيك، وهنا تجدر الإشارة إلى وحدة الاقتصاد السلوكي التي أُسست مؤخراً في بداية عام 2020، وهي موجودة بوزارة الاقتصاد لتُعنى بدراسة السلوك الاقتصادي في عمان وتحليله وتوجيهه.
عندما وقعت الأزمة الاقتصادية العالمية 2007 – 2008 دون سابق توقع من علماء الاقتصاد، سُئل أحدهم عن السبب في ذلك؛ فذكر عدداً من الأسباب التي لم تمكّن الاقتصاديين من توقع الأزمة، من جملتها ذهابهم عميقاً في تخصصات دقيقة، إذ قال:
تَخَصُص الاقتصاديين الدقيق منعهم من رؤية الصورة الكاملة لأوضاع السوق، إذ إن كل واحدٍ منهم كان منكباً ينظر عميقاً في البقعة التي تخصص فيها غير ملاحظٍ للذي يحدث في الأعلى. وكما هو مُلاحظ، فقد بدأت العلوم متداخلة لتنفصل بعد ذلك، ثم لتعود وتتداخل من جديد، وهذا هو الوضع خلال العقود القليلة المنصرمة، فحتى يستطيع الباحث الاقتصادي فهم استجابة الإنسان للتغيرات الاقتصادية يحتاج في كثير من الأحيان إلى فهم عميق لعلوم أخرى ذات علاقة كعلم الاجتماع أو النفس أو الأعصاب أو التاريخ، إذ إن علم الاقتصاد وحده لا يرصد هذا التغيير، ولذا كانت الحاجة لنشأة علوم فرعية كعلم الاقتصاد السلوكي والاقتصاد العصبي والاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد الإحصائي وغيرها من فروع علم الاقتصاد الأخرى، وعليه فإنه من المهم على الباحث الاقتصادي – كما هو الشأن لدى الباحثين الآخرين – أن يكون واسع المعرفة في العلوم الأخرى التي تمكنه من البحث في مجال اهتمامه.
هناك من الاقتصاديين العُمانيين من اتجه لمعالجة قضايا اقتصادية عالمية أو لاقتصادات كبيرة كالاقتصاد الأمريكي أو الأوروبي أو الصيني وذلك – في تقديري – لسببين رئيسين وهما: شح البيانات والمعلومات عن الاقتصاد العماني؛ خصوصاً التفصيلة منها، ولو أن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات (تأسس 2012) حاول في السنوات الأخيرة أن يسد هذه الثغرة، غير أن الكثير من البيانات التفصيلية على عمومها لا زالت غير متوفرة؛ منها تلك التي لها علاقة بالسلوك الاقتصادي.
كما أن الباحث الاقتصادي يبحث عن الجدوى العلمية لبحثه المتمثلة في كثرة الاستشهادات به من باحثين أخرين، ولا يتحصل هذا في الغالب إلا من خلال التطرق لمواضيع تهم عدداً كبيراً من الباحثين الاقتصاديين، أما شأن الاقتصاد العماني فهو صغير نسبياً إذا ما قُورن بالاقتصادات الكبيرة، وعليه فإن الباحث فيه قلما يجد من يَستشهد ببحثه في البحوث الاقتصادية الأخرى.
تأتي الأبحاث العلمية في حقيقتها لتجيب عن الأسئلة، ولأنه في كثير من الأحيان هناك جهة تستفيد من الإجابة عن هذه الأسئلة فإنها توظف الباحث العلمي ليقوم بالمهمة نيابة عنها، غير أنه بدايةً يجب على هذه الجهات أن تخبر الباحث العلمي أنها تواجه سؤالاً تحتاج إجابته، وحيث إنه لا توجد جهة في عمان عُنيت بصورة كبيرة بدراسة الآثار الاقتصادية في الجوانب المختلفة لسلوك الانسان العماني؛ فإن الباحث والمؤسسة البحثية لم يجدا من يوجههما لهذه المنطقة البحثية، أي إن منطقة البحث هذه لم تُطرح – على أهميتها – من قبل مؤسسات البحث أو مؤسسات صنع القرار مثل مجلس البحث العلمي أو مجلس التخطيط أو وزارة التنمية الاجتماعية، وذلك أمر يبرره أن الدراسات المتصلة بسلوك الإنسان تُعدّ متقدمة نسبياً عن تلك الأساسية التي يحتاجها واضعو السياسات الاقتصادية في معظم الأحيان.
قلة الإنفاق على البحث العلمي بالمجمل، فتقرير التنافسية 2019 يشير إلى أن عمان ترتيبها جاء متأخراً في نسبة الإنفاق على البحث والتطوير من نسبة الناتج المحلي الإجمالي، حيث تأتي في المرتبة (91) من أصل 141 دولة، ولهذا أثره السلبي في مقدار النشر العلمي الذي حصلت فيه عمان على الترتيب (89)، وعلى مقدار بروز مؤسسات البحث العلمي، والذي جاءت فيه عمان في المرتبة (85) ( المنتدى الاقتصادي العالمي، 2019).
والباحث في ضعف الإنفاق على البحث العلمي في عمان يجد له عدة أسباب، منها أن معظم مؤسسات التعليم العالي – التي يفترض منها أن تنفق على البحث العلمي- مؤسسات خاصّة ربحيّة، اهتمت بالتدريس، ووجهت مواردها البشرية والمالية لذلك، إذ إن العائد منه مضمون، خلاف العائد من البحث العلمي.
وكان على الحكومة أن تغطي هذا الجانب، وعلى الرغم من تأكيد الحكومة على أهمية البحث العلمي ودعمه فإنه في الحقيقة يبدو وكأنها تنظر إلى الإنفاق على البحث العلمي ترفا لا ضرورة، ولذا فإن الميزانية المُقرة للبحث العلمي الموجه لمجلس البحث العلمي على وجه الخصوص تأثرت كثيراً بتقليص الإنفاق الحكومي نتيجة تقلّص عوائد النفط خلال السنوات الخمس الماضية، وقد تم التطرق إلى ذلك ضمن حلقات العمل التي دعا لها مجلس البحث العلمي عام 2019 ضمن مشروع إعداد الاستراتيجية الوطنية للبحث العلمي والتطوير.
الشغف وحده لا يكفي دوماً لكي لينجز الباحث أبحاثه، ولذلك فإن الباحث (3)لن يقدر – على الدوام- أن يقوم بالدور الذي يفترض منه أن يقوم به ما لم يُعط التمكين، ويُمنح الحافز، والباحث الأكاديمي(4) في عمان يعاني من ثلاثة أمور رئيسة، لها صلة مباشرة به، وهي: قلة الدعم المالي للبحث العلمي، وقلة الحوافز المؤسسية أثناء القيام بالبحث تسهّل عليه مهمة البحث وتخفف عنه عبء التدريس أو العبء الإداري، وعدم ربط الدرجة العلمية بالدرجة المالية في كثير من مؤسسات التعليم العالي، وعليه فإن الباحث يمكن أن يترقى علمياً فيحصل على درجة علمية أعلى نتيجة أبحاثه، غير أن ذلك لا يؤهله للحصول على درجة مالية أعلى. ومؤدى كل ذلك تراخٍ فرديّ – له ما يبرره – في عملية الإنتاج العلمي.
تأخر وجود استراتيجية وطنية للبحث العلمي في عمان، التي يمكنها من خلق منظومة للبحث العلمي وتعزيزه بالتمويل والتنسيق بين الجهات البحثية المختلفة، تجمع الجهود المشتتة، والتوجيه نحو مجالات البحث ذات الأولوية لعمان وخططها التنموية، وتدريب الباحثين العلميين وتأهيلهم، وتشجيعهم على التفاعل مع الأوساط العلمية والبحثيّة المحليّة والعالميّة، كما يمكن لهذه الاستراتيجية وضع الحلول واقتراح الآليات التي تمكّن البحوث من العبور إلى ضفة الابتكار والتنفيذ دون السقوط في هوة «وادي الموت» -كما يطلق عليها البعض – حيث تنتظرها الأدراج المغلقة والرفوف الساكنة، فلا يصلها ضوء الإعلام، ولا يد صانع قرار.
فوق هذا كله، فإنه من المهم تعزيز تلك المهارات التي تقود لمجتمع المعرفة في المؤسسات التعليميّة المختلفة؛ التعليم العام والعالي والمهني، فإنه وإن قيل إن البحث العلميّ يقود إلى مجتمعٍ معرفيّ فإنه بالمقابل المجتمع المعرفي ذلك الذي يقوم أساساً على نشر المعرفة، وإنتاجها، وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعيّ (العبيدي، 2019)، وقد اعتمدت السلطنة في العام المنصرم (2020) الإطار الوطني العماني لمهارات المستقبل، وكان منها مهارة التفكير الناقد والإبداع والابتكار وحل المشكلات والمبادرة والمرونة والتكيّف، كل هذه المهارات من شأنها أن ترفع من المنسوب المعرفيّ والثقافة البحثية في المجتمع، ثقافة تشريح الواقع الاقتصادي، ونقده، وإعادة فهمه في سياق يركز على دور الإنسان في التنمية والتحولات الكبيرة.
ما المتوقع من الباحث الاقتصادي؟
كتب الاقتصادي مانكيو (Mankiw)من جامعة هارفرد، كما أنه على الاقتصادي(5) أن يكون علميّاً وهو يجمع البيانات ويحلل المعلومات ليطور الأدوات التحليلية ويقترح ويجرب النظريات الاقتصادية في محاولةٍ لفهم وشرح كيف يعمل عالم الاقتصاد، فإنه عليه أيضاً أن يكون مهندساً، يشخّص الواقع، ويعرف المشكلة، ويضع الحلول للمشاكل العملية موضع التنفيذ (Mankiw، 2006)، وبكلمات أخرى فإنه يرى أن على الاقتصادي أن يجمع بين مهارات خريجي كليات العلوم الذين يهدفون من دراستهم إلى فهم أعمق لكيفية عمل الأشياء من حولهم، وخريجي كليات الهندسة الذين يهدفون من دراستهم وضع الحلول للمشاكل التي تعترضهم، ويعملون على تطبيقها.
من هنا يأتي دور الباحث الاقتصادي، أن يفهم التغيرات الاقتصادية المختلفة والآلية التي تعمل بها، وأن ينظر إلى الواقع الاقتصادي ويطبق ما فهمه من آليات عمل المتغيرات الاقتصادية ليحل المشاكل التي تعترض هذا الواقع، ولأنه كما يُقال عن قاطرة الاقتصاد بأنها القاطرة التي تجرّ عربة التغيير، لكونها الأهم والأكثر تأثيراً، فإن أهمية دور الباحث الاقتصادي يأتي من أهمية الاقتصاد.
ولأن كل ذلك من أجل الإنسان فهو جوهر القضية وصلبها، فإنه من الضرورة أن يفهم الباحث الاقتصادي الآثار المترتبة من التغيرات الاقتصادية في هذا الإنسان، وذلك حتى يستطيع أن يضع السياسات الاقتصادية المناسبة للوصول إلى الإنسان الهدف.
وفي الختام أعود على بدء، وأضع بين يدي الباحث الاقتصادي هذه التسآؤلات، علّه يرشدنا إلى طرق الإجابة:
هل الإنسان العماني – في سلوكه الاقتصادي – اليوم غير ذلك الذي شهد البداية الأولى للنهضة الحديثة؟ نعم؟ لا؟ نعم في جوانب ولا في جوانب أخرى؟
ما تأثير التحولات الاقتصادية خلال العقود الخمسة الأخيرة في السلوك الاقتصادي للإنسان العماني؟ وما مدى أثر هذا التغير في السلوك الاقتصادي – إن وُجد – على الجوانب الأخرى لهذا الإنسان؟
هل التحولات الاقتصادية التي حدثت والتي أسمينا بعضها «تنمية» أخذت هذا الإنسان إلى الاتجاه الصحيح؟ … وما الاتجاه الصحيح هذا؟ وأين هذا الإنسان اليوم عن غاية هذا الاتجاه الصحيح؟