في جعبة عبده وازن، الشاعر والناقد اللبناني، جديد يُخرجه الينا لنزداد تعرفًا على عالمه الفانتازي والغنائي في كتابات شعرية سابقة، عرفناها في «الغابة المقفلة»، و«العين والهواء»، و«سبب آخر لليل»، و«حديقة الحواسّ» و«أبواب النوم» و«سراج الفتنة»، و«حياة معطلة»، و«نار العودة» وغيرها .
وكان الشاعر قد باشر مسارا آخر، في كتابته الأدبية،شأن العديد من الشعراء،يختبر فيه تجارب جديدة، يتاح له فيها التوسّع في التعبير عن رؤية ورؤيا لا يتّسع الشعر لهما . فكان له كتاب «قلب مفتوح» (2010)، الذي بسط فيه معاناته من مرض القلب وإجراء عملية القلب المفتوح له، وما لازم هذه المعاناة من مشاعر وذكريات أليمة مستمدة من سيرة الكاتب الشخصية،طفلا ثم فتى، ومن ثم شابا، تتصل جميعها بالموت والمرض ومظاهرهما كما تجلت لناظريه في إطار طفولي قديم، عنيت به قرية الدكوانة .ثم كان له كتاب آخر سردي، وسيرذاتي، بعنوان «غرفة أبي» أوغل فيه الكاتب في عالم الطفولة والفتوة المستعاد،مع ما يحمله هذا العالم وتفاصيله من إرهاصات لم يدعها تندثر، وإنما جعلها محطات للتأمل الفكري المستند الى مراجع،وإحالات على نتاج شعراء وكتّاب وفلاسفة،شأنه في كتاباته النثرية ذات الطابع السردي .
ولما كان الكلام على أعمال الشاعر والكاتب يطول،لشمولها أنواعا عديدة ووتيرتها العالية،لن يتستى لنا الحديث عن كتابه ما قبل الأخير،«غيمة أربطها بخيط» الصادر عن دار نوفل للعام نفسه (2017) وهو على ما بدا لنا مجمع من النصوص والأقاصيص القصيرة جدا الفانتازية، بل الحُلُمية التي وإن غلّفها القصّ فهي تُقرأ من الخلاصة («الحلم حارس النوم والنوم أرض كنوزه،ص :211-253) حيث يقترح الكاتب على القرّاء منهجا لتفسير الأحلام التي توالت عليه يوما إثر يوم وليلة بعد ليلة . وبالعودة الى رواية «البيت الأزرق «الصادرة عن منشورات الضفاف ومنشورات الاختلاف في آن (2017) يتّضح أن الكاتب (الشاعر أصلا) عبده وازن انخرط بقوة في تقنية السرد الروائي، بعد أن أكسبته تجربة القصّ في السير الذاتية السابقة مراسا في الحبك وتوقيعا للوصف واستبعادا للتعليق إلا بقدر ما يستدعيه السياق .إذا، يمكن القول إنها الرواية الأولى، غير السيرية، التي يباشرها وازن في موضوع شيّق وباعث على التفكّر فيه، عنيتُ به :الفرد المهمّش والمتحوّل جنسيا . ولكن قبل الانصراف الى معالجة القضايا المطروحة بقوة في متن الرواية، وإبداء الرأي في منظورها وبناء الشخصيات النموذجية فيها،وفي لغة الكاتب وبنية الرواية وانسيابيتها، لا بدّ من كلمة موجزة في حبكتها الرئيسية ؛ يقع الراوي، بصيغة المتكلّم، والشبيه بأوصافه من شخص الكاتب عبده وازن (كاتب، صحفي، روائي، يسكن في جونيه) وليس إياه في الآن نفسه،على مخطوطة لسجين، كانت إحدى صديقاته «ندى» قد ّأمدّته بها لدى معاينتها مريضا في السجن يدعى «بول أندراوس» كان قد توفي في الخامسة والثلاثين من عمره، في السجن لامتناعه عن الطعام شهرا بكامله احتجاجا على ظلم لحق به لاتهامه زورا بقتل شابة فلسطينية، من سكان مخيّم ضبيه . فتثير مأساة الشخصية في نفس الكاتب تعاطفا شديدا،أغفل معه إتمام روايته الأولى التي كان يهمّ بوضع نقاطها الأخيرة،لما فيها من سمات تكاد تكون طبق الأصل عما فيه (الكاتب)، من مثل استغراق الكائن في وحدانية قاسية، وإدراك بمظلومية صارخة، ونزعة الى المشي تكاد تكون هروبا من الواقع وتنفيسا عن كمد وأسى عارمين، حتى ليمكن القول إنّ الكاتب وجد في ذلك الشخص قرينه («بدأت أجمع الخيوط التي قد تساعدني على حبك صورة أخرى لهذا الشخص الذي يكاد يصبح قريني فعلا «ص:40).
وهكذا،كانت المخطوطة التي تركها السجين بول، في عهدة المساعدة الاجتماعية، والتي آلت الى الكاتب منطلقا الى بحث دؤوب عن حقائق لا تزال خافية في ما خصّ عائلة بول، وأسباب خرسه، ورفضه الدفاع عن نفسه في المحكمة لردّ التهم عنه، وذلك لدى كلّ من عرفه ؛بدءًا بالأب ألبير طربيه الذي تحدّث عن نباهة بول وسعة اطلاعه وأسئلته العميقة في الدين والفلسفة،و خلص الى اتهام غادة،صديقته وحبيبته،بذلك الانحراف في سلوكه،واتخاذه المشي طريقة وحيدة في الحياة، لكونها تركته . بيد أن الكاتب الراوي،ذا النظرة الارتيابية،يذهب الى إمكان أن يكون الأب المذكور يعشق بول، وقد حالت غادة هذه دون تمام العشق المثلي . وعلى هذا النحو، مضى الكاتب الى المختار يستجلي الحقائق المتصلة بحياة بول العائلية، فأفتى المختار بيقينه بشأن براءة ذلك الشاب المنتحر في سجنه،وأضاء على حال من الهامشية التي كان يحياها، وأنبأه بأن الفتى كان يتيم الأم، وفاقد الوالد الذي سافر وهو لا يزال صغيرا، وأنه كان يعيش في كنف خالته التي أوصت له بالبيت قبيل وفاتها .
المهمّ في هذا البحث المتواصل عن سمات البطل السلبي (بول ) أنّ الكاتب يرسم ملامحه لتتفق تماما مع تصوّر الكاتب للشخصية الضحية ولعالم القيم، من مثل إيثاره الكرامة الداخلية،المختلط بشعور المرارة والضجر من العالم، وميل الى الانتحار يلازمهما شعور بالمظلومية التي ينوء بحملها، فيهيم على وجهه ماشيا دروب المدينة الساحلية، ومتاهاتها،وشعاب الحرش حيث وجد المغدورة سامية مسعود مضرّجة بدمائها، وقد أبى أن يدعها تموت من غير مواساة، فأُلبس تهمة القتل ولم ينبس ببنت شفة، وسيق الى السجن والمحاكمة ولم يشأ أن يدافع عنه محام .تلك هي رؤية الكاتب عبده وازن الرومنسية المزاجية،عدوة العامّ والمؤسسة والتقاليد والفحولة والصور النمطية عن الأنوثة،ما يصبّها في شخصية بول إندراوس، (Philippe Hammond),حسب الشخصية ترجمان لخطاب الكاتب المضمر،على حد تعبير فيليب هامون ومثله،شخصية غادة، حبيبة بول،التي سرعان ما علق الراوي بها، بعد أن أقنعها بضرورة البحث عما يبيّن علائم البراءة في الشخصية المحورية، او البطل السلبي . ومثلها شخصية نسرين التي استحضرها الراوي من سجلّ علاقاته النسوية، معلّمة اللغة الفرنسية التي كان يداوم على مرافقتها في حضور الأفلام السينمائية أيام النادي السينمائي في المدينة .
ولئن صحّ أن هذه الرواية «البيت الأزرق» هي، من حيث بنيتها، فقد جعلها الروائي وازن ذات بنية معكوسة ظاهريا ؛ إذ شرع فيها من موت البطل –السلبي،ليمتد مسارها اللاحق كاشفا عن حياته، خارج السجن، تتكفل بتظهيره شهادات معارفه،وداخل السجن تبيّنه مخطوطة مذكّراته كان كتبها في السجن، واحتفظ بها أمانة زميله السجين (أو زميلته ) المتحوّل جنسيا :جورج –جورجيت، المتّهم بقتل عشيقه حالما تخلّى عنه للزواج بفتاة والإقامة في النبعة،والتي تكشف للقارئ عن جوانب من عالمنا المعاصر –الواقعي- لا تزال طيّ القمع والسكوت، عنيت بها : اللواط،والعلاقات بين اللواطييين، والسحاقيات ومجالاتهنّ المجهولة في بيئة عربية ذكورية في الغالب .
مثلما تكشف الرواية «البيت الأزرق» عن إمساك الكاتب وازن بزمام كتابته،وعدم تحويلها الى مجرّد رواية سيرذاتية أخرى – وقد جعلها بصيغة المتكلّم فكان الراوي داخلا في الحكي ومعنيا به على حدّ ما بأن نوّع في المشاهد وسرّع في وتيرة السرد من دون أن يقسّم الرواية -Genette يصف جيرار جينيت فصولا مرتبة ومرقمة، على جاري العادة، حتى ليخامر القارئ أن الكاتب التزم أسلوب الرواية-النهر الى ختام الرواية التي ابتكرها آلان روب غرييه أو يستلهم منها انسيابيتها واندفاعها (Le roman fleuve) حيث تغادر غادة،حبيبة بول ماضيا والراوي حاضرا، الى كندا، ويعود الروائي الى لعبه الأثير، أي التصرف الفانتازي بمصائر شخصياته .
«البيت الأزرق» ولئن كان كناية عن السجن الاحترازي بلغة نزلاء السجن، على ما نقله البطل السلبي،فهي تبدّت لنا معرضا لوجوه وقضايا وتساؤلات جديرة بأن تطرح على الملأ، وقد بسطها لنا عبده وازن على نحو مختلف، سردا . فهل نقبل على مناقشتها أو التصالح معها، في عالمنا العربي ؟
أنطوان أبوزيد *