حاولت الشعرية الجديدة في العقد الأخير في مصر والعالم العربي، ان تشيع عزمها تحايد النصية حسب قدراتها المعرفية عما بعد الحداثة، وهي الفكرة المدشنة – غربا – منذ بداية الستينات، وتوافرت مقولات عدة باتت راسخة في اذهان نخبة المشايعين، وهي المقولات التي لم يكن اقلها خطرا الدعوة إلى اقتفاء آثار الإنسان في كل مكان من خلال التحلل المفرط من خصيصة المكان بالمعنى التاريخي والحضاري نزوعا الى تحقيق آفاق أرحب أمام النص المزمع تصديره والمأمول في تقديمه كأمثولة على تجاوز البقاع المتخلفة لأزمات الهوية وصراعات العودة الى الماضي من خلال الانتقادات الدائمة لمعطيات الحاضر، ولا شك أن هذه الدعوة ترتكن بالأساس إلى تجليات الفردية الميكيافلية وان لم تقصد ذلك، فى الوقت الذي تعود فيه بقوة الى كلمة (الفردية) كتعبير عن المزاج الرومانتيكي وكتعبير عن الحرية التي ينشدها الفنان لنفسه، باعتباره باحثا عن نموذجه الذاتي الذي يطابق نفسه في بوتقة محددة التوصيفات، وهى على بريقها النظري، أودت بمجموعة المنتمين إلى حقوق مختلفة تتعدد تجلياتها حتى بات النص – حال تحققه – مأسوفا عليه ومثيرا للسخرية.
على جانب آخر، كان لابد من الإشارة إلى أن تجليات المدنية التي طرحت فكرة العولمة كعبور أخير لكل الأطراف والهوامش بزعم وضعها على الخارطة التي تليق بها وتدشينها ثقافيا، لا يعني مطلقا تفتيت هذه الهوامش الا إذا انصرفت تصوراتنا إلى ان العملية الإبداعية صارت عملا من أعمال الاقتصاد يسرى عليها ما يسرى على قوانين السوق من عرض وطلب، وهي تصورات مراهقة ومدرسية لا بد من تأسيسها على عمقها الحقيقي لا على السطح الذي تراه العين الواحدة، وربما كانت جملة هذه الاعتراضات هي التي تدعو للفصل جذريا بين ابداع المراكز الذي لم يكن مشغولا بشكل بأزمات الهوية وبين ابداع الاطراف التي تبغي جاهدة الحصول على موطيء قدم لها في سلسة الترقي الحضاري المنتظر، بالإضافة إلى ان شروط الابداع بصفة عامة ليست بالضرورة خاضعة لهذه الغابة من القوانين الذهنية التي تفرض شرطها القاسية مسبقا حتى يتسنى للإبداع مخاطبة الضمير الإنساني على عمومه وتناقضاته في وقت واحد.
وإذا سلمنا بأن الإبداع هو العمل الوحيد الذي يمكنه في ظروف الانسحاق هذه ان يكون معبرا عن خصوصية تاريخية وحضارية بدون الحاجة إلى اسلحة فتاكة تدافع عن كيانه لأدركنا مدى خطورة مقولات النص الإنساني عن نفسه وعن وصفاته التي يحاول تلقينها للآخرين، وهي في جملتها أسباب حدت بهؤلاء المشايعين إلى رفض كل النصوص التي بحثت – بقصد أو بغير قصد – عن خصيصتها التاريخية والحضارية التي تتجلى بشكل عميق في صورة المكان.
أقول ذلك بمناسبة صدور الديوان الثاني للشاعر فتحي عبدالله الصادر عن سلسلة كتابات جديدة التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب، وكان قد صدر له قبلا (راعي المياه) في عام 1993 مؤكدا على عدة ملامح ترتبط بشكل ما بالصراع الطاحن حول الذات حال حروبها الخارجية والداخلية، محمولا بتجربته على أجواء الريف المصري بتراثاته التي تجلت في مفردات الديوان، بجانب العزلة التي رسختها التجربة في مقابل الوحشية والعنف المتجليين في معطيات المدنية الجديدة، وذلك عبر عدة رموز تتمحور بشكل أساسي حول اللاوعي أو حسبما معبر(والاس فاولي) على نحو ادق موجها الخطاب إلى السريالية (أعني اسطورة المعرفة المستمدة من مادة النشاط اللاواعي للانسان)، ورغم ذلك فقد تميز القليل بين قصائد (راعي المياه) بمنطقية التركيب وتوالد المعنى وهما خصيصتان تضربان بعمق في القدم، غير ان فاعليتهما تأتي محملة بدلالات غير مسبوقة ومشفرة على نحو كبير، وهي على أية حال مناخات لم تكشف جيدا عن قناعات الشاعر بل أسست لعدة التباسات قد يستطيع ديوان (سعادة متأخرة) الكشف عنها. وبنظرة أولية إلى عالم الديوان تطالعنا قصائده بلا باعث، أعني بلا تخطيط للشر، لان شرا بهذا الحجم لا يمكن تخطيطه، بداية من (قهوة الصباح) القصيدة الاولي التي ترتاد عالما غريبا بصفة كلية:
(في لحظة كهذه عليهم ان يبحثوا عن شقة أخرى
ليضعوا جثمان صديقهم)
الذي قطع على نفسه ان يتزوج من عاملة المقهى
ويتركها لهم، بعد ان اكشفوا انه أثنى
يقطع اثداء من يحب
ويلبس ملابسها في النهار
ويزور الهيبيين الذين برروا له ان يقتل أصدقاءه
أثناء لذاتهم.
هل هو إذن اكتشاف ميكانيكي لما فوق الواقع أو ما يسمي (الواقع الأسمى)
ربما كانت اللامعقولية التي تجمع عناصر النص هي ذاتها التي تحمله إلى
مناطق هذه المعقولية مرة أخرى، وهي غير المنطق الذي يراد به الترسيخ
وتقديس الركام.
البطل الجديد اذن ليس هو الشاعر وليس هو الضمير بل هو الإنسان غير
المنسجم، او مقترف الجريمة أحيانا:
(..ولانقاذ جثتي
عرضت عليهم ذبح الممثلة الصغيرة
في حرارة تناسب ادوارهم المليئة بالصراخ)
"من قصيدة: لابسو الكاوبوي"
هي حالة لا شك بعيدة عن السلام بعيدة عن مرادفات التصالح والولاء، هي إذن كتابة تستحق وصفها بالشرك، فهي في الوقت الذي تحلم فيه بالقوة وتحاول ممارستها، تتظلم وتجأر من الامراض الفتاكة والوهن والتلاشي، وهي في الوقت الذي تدعو فيه للأسف على أمراض الأولاد والكلاب والابقار كمرادفات للبيئة تدعو ايضا للأسف على الآلية غير المتحضرة لاستخدامات المدنية لأشيائها التي انتشرت عبر محيط الكتابة وتكررت بشكل لافت: منها المسدس الملاكم، الملابس، الإعلان، القطار، وقد عبرت هذه المفردات عن حالة من حالات الرفض المقنع لعوالم تبدو لفرط غرابتها أسطورية لا يمكن حدوثها في الواقع وغم ما سبق الإشارة عن الإسراف في استخدام مثل هذه المرادفات.
أما السؤال الذي يبدو جوهريا فهو عن مدى نجاد هذه الحملة الثقافية التي يطرحها الديوان أمام العالم في صناعة الشعرية، وفي صناعة اختيارات محققة للتميز؟، ولا شك أيضا ان الإجابة لا يمكنها القطع أمام أي شعرية في التاريخ بالقدرة على النجاح أو الإخفاق، بالمعنى الذي يطرحه المنطق الرياضي، بل إن الأقرب للحقيقة ان الفضاءات غير الصالحة لصناعة الشعرية بالمنطق النظري نجت من هذا المأزق في عدة قصائد بينها قهوة الصباح، ابريل أيها الطيب، سعادة متأخرة، سعادة كبرى،… وذلك لان معادلات الشعرية مع فضاءاتها الحميمة واللصيقة بالشاعر في هذه القصائد قد تحققت بشكل تعينت فيه أبعاد الدلالة أي الدلالة ذات المردود، رغم ان الفضاء الشعري لم يفارق نسيجه منذ القصيدة الأولى حتى الأخيرة، وذلك من خلال تواتر مفردات أساسية للكتابة معبرة ودالة دائما على هذا الفضاء، الذي ظل لا يقطعه شيء سوى وجود الشاعر ككيان حقيقي في بعض القصائد المشار اليها، وهوما يشي في أحيان كثيرة ان الديوان يتكون من قصيدة واحدة ليس أكثر والتأكيد على وجود الشاعر في بعض المناطق الشعرية يعني انه غاب في الكثير منها، وهو غياب اقترب بالشعرية من كونها متفاعلة إلى كونها راصدة.
ورغم ذلك تظل مشاعر الخصوصية من ناحية ومشاعر التعيين من ناحية أخري هما شاغلا الفضاء الأكثر والأرحب في النص منذ بدايته، واذا كانت الاشارة إلى الخصوصية المكانية تبدو متفائلة إلى حد ما فان التأكيد على شعرية واحدة ووحيدة ومضللة وضالة اسمها النثر اليومي من شأنه المصادرة على جميع الأشكال الشعرية الأخرى، غير أن الأكثر أهمية هو أنه رغم هذه الانحيازات تظل جميع الخصائص الشعرية مجرد أوصاف لا تحمل أحكاما قيمية، فلا الخصوصية تعني بالضرورة نجاح الشعرية، ولا اليومية والبساطة يعنيان فشلا للشعرية أيضا، غير ان الرغبة في الهدم وان توحدت، لابد ان نتركها تكتمل داخل معناه الاشمل والأكثر موضوعية.
وهو ما يؤكد عليه الشاعر فتحي عبدالله الذي أعاد اكتشاف الكتابة الآلية التي تحاول من خلال أطروحاتها ان تكون هجوما لاذعا ضد أنماط اللغة العادية، من خلال سيل من الدلالات والتعارضات التي تبدو أحيانا أنها رغبة في بلوغ المطلق، وهي تصورات نجحت رغم هذه القتامة والتشابكات من الخروج على عبودية اللغة، ليس بتحويلها إلى أداة ولكن بشحنها بدلالات غير مسبوقة تنفرد بها تجربة الشاعر:
(ابريل أيها الطيب
بقرات أبي في حاجة إلى دواء
وأولادي مصابون بأمراض الكلاب
ولحيتي طويلة
وأحبها هكذا
لأنني وحيد
وأفعالي كلها لي)
"من قصيدة ابريل ايها الطيب"
كما تتبدى هذه التشابكات بشكل اعنف واكثر كثافة من خلال المشهدية التي تصاحب الكتابة في معظم قصائد الديوان، وهي مشهدية طاغية حولت الصورة الشعرية إلى صورة ممتدة تستغرق القصيدة بكاملها، فلا يمكن التعامل معها باعتبارها صورا جزئية، وهو الأمر الذي نأى بالديوان عن البلاغة التقليدية التي تعتمد قيمتها من الاستعارات والصور المقطعية أو الصور اللفظية الخالصة، وهو رفض موضوعي لكل رقابة يمكن فرضها مسبقا على اللغة أو على تصوراتنا عنها، غير ان مأزق هذه الكتابة المشهدية يظل هو السقوط المروع لما سماه بودلير "استقلال الخيال" وهو أحد الأسس المهمة التي انطلقت منها السريالية، وظلت تقرن الصدق الفني بهذه الاستقلالية، رغم إنها لم تتعامل مع الشعر على اعتبار انه الشكل الأعلى للكلام ونفت عن الفن غائيته ونظرت إلى الحياة باعتبارها الغاية الوحيدة. وقد يفسر هذا التصور بعض الارتباكات التي تسببها القراءة الأولى لمثل هذه الشعرية، التي وصمت الواقع في كل سطورها وقدمت كعجينة أولى، فبدا الواقع الأكثر مدنية من خلال المفردات على انه الأكثر بدائية ويتأكد ذلك من خلال الممارسات الوحشية في القتل المتكرر والشذوذ والخنوثة وكذلك تبدو النظرة غير المنضبطة للفعل الإنساني رميا للشعر بالفوضى وعودة للتأكيد على جمالياته المحضة دون النظر الى دوره في هذا الإطار وهي تصورات اكتنفت الشعر الجديد في جملته بدرجات متفاوتة.
إن ديوان (سعادة متأخرة) مقدمة لشعرية متميزة تستطيع التأكيد على هذا التميز في مرحلتها الراهنة إذا تخلصت بدرجة أساسية من الذهنية الثقافية التي سيطرت على جملة التوجهات الشعرية لإدانة الواقع، وكذلك بضرورة وحتمية تورط الذات الشاعرة في مناخاتها الشعرية بدون الاكتفاء برصدها وتحويلها الى مشهدية حاذقة، يضاف إلى ذلك ضرورة إثراء التجربة الشعرية بفتحها على مناخات اكثر إيجابية حتى لا يقع الشاعر في مأزق التكرارية، لا سيما في القاموس الشعري بمفرداته التي جاءت قليلة بدرجة ما، وقد يعزز هذا التفاؤل بالتميز المنتظر وقوف الشاعر بتفرد تام أمام مناخاته الخاصة دون التباسه مع شعرية القطيع التي أفسدت وفسدت ولا تزال.
محمود قرني (شاعر من مصر)