لمياء باعشن
كاتبة وباحثة سعودية
تطمح هذه الورقة البحثية إلى تتبّع ظاهرة القلق في الأعمال النقدية للدكتور سعد البازعي، وهي ظاهرة واضحة يصعب تجاهلها، كونها طافية على أوجه وسطوح أعماله، كما أنها متأصلة ومتجذرة في أعماق فكره وتحليلاته بشكل لافت. يوضح البازعي أن للقلق أنواعًا يستبعد منها «القلق المرضي الناتج عن خلل نفسي، أي قلق الاضطرابات العصبية»، ويثبّت ذلك القلق المعرفي الناتج عن «عدم الاطمئنان إلى الجاهز والسهل من الأجوبة والحلول» ويصفه بأنه « قلق فاعل في حياة الفكر والثقافة كونه مهيمنا ومحفزا ودافعا إلى المساءلة والإبداع»(1).
وقد برزت مفردة القلق في عنوان كتابه (قلق المعرفة: إشكاليات فكرية وثقافية)، كما أنها انتشرت في عناوين فرعية لفصوله من مثل: قلق الأطر، قلق المعاصرة، قلق الانتماء، قلق التنوير، قلق العربية، قلق الحوار، وقلق الأقلية. وحمل العنوان الشارح لكتابه (مواجهات السلطة) المفردة ذاتها (قلق الهيمنة عبر الثقافات)، كما جاء فصل كامل في كتابه (القصيدة الشعبية: سمات التحضر وتحديات التجديد)، تحت عنوان «قلق التحضر وألق الترحال»، ونستطيع أن نحدد من طبيعة هذه العناوين أن القلق الدائر فيها هو قلق موضوعي يختلف في مدلولاته عن قلق ورد في عناوين أخرى يختص به الفاعل، من مثل قلق المفكر، وقلق الترجمة، وقلق التأليف، وقلق الكتابة، وقلق التفلسف، وحتى قلق السؤال، حيث ينتقل فيها التركيز من الموضوع الذي يطرح القلق، إلى الممارس لفعل قلق المواجهة. وكمفكر ومترجم ومؤلف وكاتب، لا بد أن القلق يشكل هاجسًا ودافعًا معرفيًا للبازعي فنجده يقول: «أحسب أنني مطارد بالقلق»(2)، قاصدًا ذلك المحرك المُلِحّ الذي يؤزّه نحو نبذ الركون إلى المستقر. ويصف البازعي مصدر قلق المترجم مثلًا بقوله: «أما مصدر القلق فهو في المقام الأول الفجوة الدلالية التي تؤرق المترجم وتشعره بأن اختلافًا يمتد بين النصين الأصلي والمترجم»، فيتضح لنا أن هناك نوعين من القلق لكل منهما موضع منفصل (LOCI)، فما يؤرق المترجم حقيقة هو قلق ناتج عن قلق آخر يكمن في جوف التقابل الاختلافي بين النصين.
القلق المعرفي هو الانشغال المركزي للبازعي، وهو قلق مبني على التشكك في القناعات الثابتة، ومندفع نحو التجديد والاختلاف، وناتج عن «الوقوف أمام الاختلاف، وعن الأسئلة المحيرة التي لا تتوقف المعرفة عن طرحها والتنامي من خلالها»(3)، ويقف الكاتب إذن في موضع المتسائل القلِق أمام اختلاف يعتريه القلَق، وهذا ما يوضح مقولة البازعي: «القلق مصدر للمعرفة، وفي الوقت عينه نتيجة لها»، فالمفكر -من موضعه الواعي بالقلق الكامن في موضوع المعرفة- يجابه تلك المكامن بالتساؤلات القلقة ليصل إلى معرفة جديدة، وفي محاولة استخلاصنا لمنهجية البازعي في تناول القضايا الفكرية نلاحظ أنه يلتزم مدخلًا يتلمس من خلاله بؤرة صراع كامنة في مكونات القضية التي تشغله، ثم يقوم بشطر تلك البؤرة إلى جانبين، ومن ثم معاينتها كإشكالية تستلزم عرْضًا جدليًا. ينظر البازعي إلى القضايا من زاويتين يمثل التواتر بينهما مرتكزًا للقلق، فنجده حين لا يعنون القضية بالقلق الصريح، فإنه يصرّح بانشطارها البيني، فيستبدل قلق الحوار، وقلق التفلسف، وقلق الهيمنة، بعناوين منقسمة في تعالقاتها، مثل: جمهور الثقافة أم ثقافة الجمهور؟، عقدة الفلسفة أم عقدة النقد؟، عصر المعلومات أم عصر المعرفة؟، مفكرون عرب أم فلاسفة؟، حول علاقة الديني بالأدبي، بين انقراض اللغات وانحسارها، الكتابة بين الشارع والشاعر.. وهكذا. في اشتغاله على الأطروحات الفكرية يعمد البازعي إلى عقد مقارنات بين أطرافها المتجاذبة والمتنافرة، ويتضح لنا هذا المنطلق والمنهج في تحليله لمواضيع حيوية تستدعي مقابلها، مثل: الموروث والوافد، النقد العربي والمفاهيم الغربية، الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، الترجمة والأصل، الصحراء والمدينة، المثقف والسلطة، الحرية والعبودية، الفكر والفلسفة، والتأليف والتوليف.
وترتكز الآلية الإجرائية في طرح القضية ذات الجانبين على الجدل الحجاجي، والبازعي يصرح في بعض عناوينه بأن معاينة القضايا لها صفة جدلية، فيعنون كتابًا له بـ (جدل الألفة والغربة: قراءات في المشهد الشعري المعاصر) وآخر بـ (جدل التجديد: الشعر السعودي في نصف قرن)، يدرج فيه فصلًا بعنوان (جدلية الذات والآخر)، ويظهر فصلًا في كتابه (هموم العقل) تحت عنوان «المقاومة وجدلية العنف»، ثم يترجم كتابًا عنوانه Globalectics للأفريقي نغوجي واثيونغو إلى (جدل العولمة)، مفهوم الجدل، بل والجدل الهيغلي تحديدًا حاضر في ذهن البازعي، وبالتالي قائم في معالجته للقضايا المعرفية القلقة، وهاهو يتوقف في كتابه (جدل التجديد) عند مفردة الجدل شارحًا مصادرها ومقاصدها، فهي إما مستمدة من مفهوم الـ «الديالكتيك» أو «الجدلية الهيغلية» القائمة على «تنازع الأضداد»، أو من الحوار المحتدم على شكل خطابات نقدية ومواقف سجالية ذات طابع سوسيو ثقافي.(4)
في كتبه (قلق المعرفة)، و(معالم الحداثة)، و(هموم العقل) يكثف البازعي توقفه عند المنجز الفلسفي لهيغل، شارحًا أفكاره بإسهاب، ومقيّمًا إسهاماته في الفكر الغربي، ومقتبسًا أقواله بين نص وآخر، أما عن طريقة تناوله لمادة كتاب (جدل التجديد)، فإنه يشير إلى تقارب بين منهجه الجدلي، وبين الجدل الهيغلي قائلًا: «بينت في الكتاب حركة من التغيير هي أقرب إلى التغيير الجدلي، أي التغيير القائم على متضادات: اتجاه تقليدي يفضي إلى اتجاه متحرر، ثم عودة إلى التقليد تتبعه حركة تحرر أخرى ولكن من نوع مختلف. يعني هذا أن الجدلية المقصودة ليست جدلية بالمعنى الذي قصده الفيلسوف الألماني هيغل، صاحب نظرية الجدلية التاريخية، لكنه يقترب منها. يكمن الاختلاف في أن الجدلية التي أشير إليها ليست تطورية أو تقدمية تفضي إلى الأرقى أو الأفضل، إنما جدلية تتضمن التراجع حينًا والمضي قدمًا إلى الأمام حينًا آخر».(5)
يمثل هذا الاقتباس مفتاحًا جوهريًا للنهج الجدلي الذي يتبعه البازعي (رغم نفيه المعنى الهيغلي في الجدل) في تشكيل مواقفه الفكرية من قضايا متعددة: (أ) طرح أولي مسلم به، يتبعه (ب) نفي جزئي يبين نقاط الاختلاف، ثم الوصول أخيرًا إلى (ج) طرح توافقي بديل، بل إننا نستطيع استنباط هذا النهج داخل الاقتباس ذاته:
ـــ الطرح الأولي المسلَّم به: أن هناك ربطًا بين الجدل البازعي والجدل الهيغلي.
ـــ النفي الجزئي والاختلاف: «ليس كما قصد هيغل» = تطورية تقدمية # تقدمية تراجعية
ـــ إعلان التوافق: ليست جدلية هيغل، ولكن تقترب منها.
كما وينطوي الاقتباس أعلاه على تعريف البازعي بطريقته في تناول جدلية كتابه: «حركة من التغيير القائم على متضادات: اتجاه تقليدي يفضي إلى اتجاه متحرر، ثم عودة إلى التقليد تتبعه حركة تحرر أخرى ولكن من نوع مختلف»، وهذه بوضوح حركة حجاج ثلاثية:
1ـ انتقال من اتجاه تقليدي إلى متحرر.
2ـ عودة إلى التقليد.
3ـ حركة تحرر مختلفة.
يعتبر هذا البناء الثلاثي السمة المميزة لأسلوب هيغل في الحِجاج (Hegel’s Triadic Structure) ويتكون من الأطروحة، ونقيضها، ونتيجة إعادة تركيبها (synthesis /antithesis /thesis)، بمعنى أن طرحًا أوليًا يتطور إلى ثان ينفيه، ويؤدي ذلك إلى طرح آخر يحل التوتر بينهما. ففي كتبه (استقبال الآخر) و(قلق المعرفة) و(الاختلاف الثقافي) يكرر البازعي تصديه لإشكالية علاقة العرب بثقافة الغرب، فيزعجه أن تلقي العرب للمفاهيم النقدية والفكرية قد تحول إلى ارتماء في أحضان الفكر الغربي، خاضع لكل ما يفد إليه دون استيعاب، وتابع للسياقات الاجتماعية والتاريخية الأجنبية دون تمحيص. لكن البازعي لا يميل كل الميل، فهو لا يحبذ الرفض الكامل الذي يمثله حزب التأصيل المنغلق على الإرث العربي الأصيل والمحافظ عليه من الضياع. يكتشف البازعي أنه بصدد إشكالية مشدودة إلى قطبين متجاذبين، إما التمسك بالإرث الثقافي العربي المتأصل، أو مواكبة الانفتاح على الغرب والانغماس في الخصوصية الوافدة، فيطرح تركيبته الجامعة بين التراث العربي القديم والثقافة الأوروبية الحديثة والتي تقترح موقفًا حضاريًا مستقلًا «يستطيع التحاور مع الثقافة القادمة بتحليلها تحليلًا يحترم ما فيها من اختلاف واتفاق ويسعى للإفادة من ذلك كله، وفي الوقت نفسه ينتقد ما قد تنطوي عليه الثقافة من مغايرة في السياقات أو ما قد تدعو إليه من مواقف قد يتفق معها الدارس وقد لا يتفق».(6)
تتعامل هذه الكتب مع العلاقات الحضاريّة والمعرفيّة التي تتشكل في ظلها المفاهيم المهاجرة من بيئة إلى بيئة، فالمثاقفة لا بد أن تتعرض لسيول التأويل الملتبس الذي هو نتيجة حتمية للانتقال من السياق الأصلي لذلك البديل. ويقف البازعي عند تشعبات ثنائية مشابهة، إذ أن التعلق بالأصل يتطور إلى فكرة تنقية الجذور التي شوهتها تأثيرات الانتقال لبيئة مختلفة. يرى البازعي أن هجرة المفاهيم تؤثر في البيئة كما تؤثر فيها البيئة، لذلك فهو لا يتفق مع رأي هايدغر بأن التغيير له اتجاه واحد يستدعي أخذ احترازات حمائية أو إنقاذية، لذلك يقول: «لم أذهب مذهب هايدغر في محاولة تنقية المفهوم أو النظرية، وإنما إلى جعل الوعي بالدلالة الأصلية طريقًا إلى تفاعل واعٍ، لكنه غير مسكون بنقاء الأصل وصحته، وساعٍ في الوقت نفسه إلى أخذ اختلاف البيئة الجديدة في الاعتبار لإحداث تفاعل أكثر استجابة لطبيعة الثقافة التي ينتقل المفهوم أو النظرية إليها».(7)
مرة أخرى نجد أن الطرح الثالث يقدم تركيبا جامعا يتسم بالاتزان والتوسط بين طرفي التحول الثقافي معتمدًا على رفع مستوى وعي التلقي إلى حد يضمن عدم تشويه المفاهيم «المستوطنة»، كما يضمن عدم هيمنتها على البيئة المهاجر إليها. ويبقى الوعي بالدلالة الأصلية شرطًا وسيطًا يقود إلى تفاعل مبني على إدراك أبعاد قابلية الثقافات المختلفة للتفاعل وللتأثير المتبادل، وللتحول والتحويل تباعًا، وفي (جدل الألفة والغرابة) يستثمر البازعي الهيكل الثلاثي في تفسير علاقة تبادلية أخرى ليزيح به الاستفزاز القائم بين المتضادات، وليدلف إلى تلك المناطق الرمادية بحثًا عن التماسك كبديل للاشتباك، تماسك يسمح للألفة «أن تغادر ألفتها»، والغرابة أن تتجاوز غرابتها، وتلك هي ماهية الشعر، حيث «تغادر بقدرته الأشياء عاديتها وألفتها لتكتسب الدهشة وتضيء»(8)، في العملية الإبداعية تتجلى هذه التقاطعات لتحقق التجديد بعيدًا عن رتابة المألوفات: «إن ثمة ألفة تستحق إزالتها بحثًا عن غرابة أو دهشة كافية، أو أن ثمة جانبًا من الحياة تظلمه سطحية الرؤية، وأن الوقت قد حان لكي يحفر أحد لإظهار عمق خاف أو أهمية مقفلة). في المعطى الأول تفضيل للألفة، وفي المعطى الثاني تفضيل للغرابة، وفي التركيب الثالث جمع بينهما يعطل المفاضلة: «فكل منهما تكتسب قيمتها من علاقتها بالأخرى، وفيما يحدث بينهما من تجاذب، غير أن هذا لا يعني أنهما متساويتان بالضرورة».(9)
ينجذب البازعي بقلق أسئلته إلى عمق القضايا القلقة بإشكالياتها، فيتحرك بين تصور نمطي مستقر، وبين موقف مخالف خارج المألوف، ويحاول علاج التوتر بعقد حوار بينهما يخفف حدة القلق وحديَّة التناقض، ثم يطرح بديلًا يعزز نقاط التواشج بينهما، فيحقق من خلاله تفاعلًا حيويًا بين قوتين يمثل القوة الثالثة الناتجة والجامعة بين الطرفين. هكذا يعالج البازعي الإشكاليات المطروحة في كتبه ومقالاته ومحاضراته، إشكاليات الأنا والآخر، والمدينة والقرية، والمثقف والسلطة، والتحديث والأصالة، والهوية والعولمة، واليهودي السياسي واليهودي المفكر، وغيرها من الثنائيات المتضادة التي يواجهها برفض القبول المطلق لأي منهما، وباقتراح نقطة التقاء منسجم بينهما. هذه هي الزاوية التي تهم البازعي في تناوله للقضايا الإشكالية: «زاوية التأزم الذي يعتري عملية التشكل نفسها، وأرجو أن أدرس هذين الموضوعين مستقلين بعضهما عن بعض، وقد أجد بينهما بعض المشتركات التي تبرر دمجهما على نحو ما».(10)
قد يبدو أن البازعي يتخذ موقفًا حياديًا بين طرفي القضايا المتأزمة، بينما يتميز تفكيره بالنسبية، وعندما تتعادل عنده كفتا الميزان فذلك لأنه يعاين الطرفين بنفس العين الناقدة باحثًا عن تمايزهما ليتم التوافق، ويبقى هذا التوافق مفتوحًا لإضافات قادمة وقابلًا لتمحيص أبعد، ومنطويًا على إمكانية تبلور قلق جديد، لذلك فإن أحكام البازعي على القضايا لا يمكن أن تكون نهائية أو نافذة. يقول البازعي وهو يشرح عدم انشغاله بالتمذهب ضمن منهج نقدي محدد: «الحقيقة أن لدي إشكالية واضحة في مسألة الحسم الفكري، وأنا أعي ذلك»(11)، وفي اعتقادي أن هذا القول ينطبق أيضًا على طريقته في التوسط بين التناقضات داخل القضايا دون حسم، وهي الطريقة المنبثقة عن الهيكلة الثلاثية للجدلية الهيغلية التي تفسر منهجه التطبيقي في مواجهة التأزم.