عرفت عمان منذ العصور القديمة بريادتها ودورها البحري الملاحي وصلاتها الكبيرة والتاريخية مع الحضارات القديمة, لاسيما الحضارات السومرية والبابلية والرومانية والفرعونية, وغيرها من الحضارات والشعوب في حقب مختلفة, وكان العمانيون في الطليعة بين رواد المحيطات الذين اعتبرت مغامراتهم وأسفارهم مثلا يحتذى في الإقدام والجرأة والشجاعة.
وفي بعض الكتابات الأكادية وردت تسمية عمان ببلاد الفضة والنحاس, وذلك إشارة إلى كثرة وجود هذه المعادن قديما في عمان, وقد ورد ذلك في اللوحة الخاصة بالملك الأكدي المسمى (ماني شتوسو) والتي تذكر أن هذا الملك قد أحضر معدن الفضة من عمان, كما تشير اللوحات التي ترجع إلى ما قبل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد إلى وجود صلات تجارية بين مجان (عمان) والأكاديين ولعل ذلك بسبب انتزاع سيادة طرق التجارة البحرية عبر المحيط الهندي.
وفي صفحات مطوية من تأثير الحضارة العمانية – يشير الباحث د. محمد سليمان أيوب – في تقديمه لبحث في هذا الصدد إلى أن الأكاديين ومن بعدهم السومريين قد سلموا بسيادة العمانيين, وقنعوا باستقبال السفن العمانية القادمة بتجارة الهند وتوابل جنوب الجزيرة العربية, ذاهبا إلى القول إن عمان القديمة كانت حلقة الوصل بين حضارتي وادي النيل وما بين النهرين من جهة وحضارة وادي السند من جهة أخرى. (1)
وقد أسهمت هذه الريادة البحرية العمانية في توثيق الصلات التجارية بين عمان والحضارات القديمة سيما العلاقة مع الحضارة الفرعونية, حيث ؛أشارت أدلة أثرية على وجود علاقات بحرية مزدهرة بين الفراعنة في مصر وبين حضارة ظفار في سلطنة عمان والتي أطلقت عليها النصوص الفرعونية بلاد (بونت)- كما تقول بعض المصادر التاريخية- وأن أقدم ما ورد مسطرا على الآثار المصرية وصلتها ببلاد (بونت) هي البعثة التي أمر بإرسالها الملك ساحورع من الأسرة الخامسة في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد إلى تلك البلاد, على أن أشهر رحلات الفراعنة إلى ظفار تلك الرحلة التي أمرت الملكة (حتبشسوت) منذ بداية الألف الثانية قبل الميلاد تحت قيادة وزيرها, ونقشت مناظرها على جدران معبد الدير البحري في طيبة والتي عادت من عمان محملة بخيرات بونت (ظفار) من بخور وعطور وأخشاب وحيوانات« ( 2 )
وقام العمانيون في هذه المرحلة التاريخية بنشاط بحري كبير في مرحلة ما قبل الإسلام, وهذا الدور اتسم بالنشاط التجاري في العموم الغالب« ولعب موقع عمان الجغرافي الهام دورا بارزا في نشاطها البحري, وفي اهتمام الحضارات القديمة بها وكانت عمان في هذه الفترة ما بين (2800-1800 ق.م) في حال ازدهار حضاري ولقد أسهم أيضا نشاطها البحري في ذلك إضافة إلى عوامل أخرى, واستمر ازدهارها في عصر المعينيين والسبئيين في الألف الأول قبل الميلاد.
وما أن أزف القرن الثالث قبل الميلاد حتى كانت عمان تملك ثاني أسطول بعد قرطبة وطيرة, وربما كان أسطولها أقوى أسطول بحري في العالم أو أكثر عددا , وكان بلا ريب الوسيلة الوحيدة لنقل حضارة مينا وبابل وسوسة إلى الهند ولهذه شكلت البحرية العمانية ومنذ البداية العمود الفقري للحياة الإقتصادية في عمان, وأوكلت إليه مهام عديدة, كصيد الأسماك واللآلئ والنقل والتجارة وحماية الوطن وأبنائه (على اليابسة وعلى ظهر سفنهم) «.(3)
ولا شك أن هذا الدور انعكس على الحياة الاقتصادية في عمان, واضطلعت بدور كبير في جانب تفعيل التجارة البحرية بين آسيا وأفريقيا بحكم الموقع واتصالها بساحل أفريقيا ومدخل بحر الهند والصين, ولا غرابة أن أطلق بعض المؤرخين على العمانيين اسم رواد الملاحة منذ أقدم العصور.
؛ولعل أجلى المعلومات عن البحرية العمانية في العصور القديمة, تأتينا مع الفتوحات الكبرى للإسكندر المقدوني (356-322 ق.م), التي أدت إلى تغييرات عميقة في الطابع السياسي والحضاري لغرب آسيا رغم قصرها, بالرغم من اعتماد الأسكندر على البحارة الفينيقيين في البحر الأحمر والخليج العربي فقد لعب العمانيون دورا أساسيا وإيجابيا في النشاط البحري في المحيط الهندي ومن جهة أخرى فإن الفرس سعوا لمنافسة العمانيين في الفترة السابقة للإجتياح المقدوني, وبشكل خاص في عهد دارا الكبير ملك الفرس الأخميني (521-548 ق.م) إلا أن العمانيين لما اتصفوا به من عزيمة وتصميم ما لبثوا أن استعادوا دورهم البحري الدولي في عام 100 ق.م.
وعندما برز الرومان كقوة دولية ما بين عام 50 وحتى 200م, شاهد العالم توسعا في النشاط البحري الدولي على أيديهم خاصة ما بين الشرق والغرب, ولم يؤثر ذلك كثيرا على نشاط البحرية العمانية بل دل على العكس من ذلك, فقد زاد العمانيون من نشاطهم البحري الدولي وقاموا بتغيير طرقهم البحرية المعهودة من قبل, ليسايروا شواطئ فارس والسند وصولا إلى الهند متحاشين بذلك الإصطدام مع السفن المعادية لهم.(4)
النشاط البحري العماني في العصر الإسلامي
عند ظهور الإسلام كانت عمان بلدا عربيا مستقلا يحكمه اثنان من أهل الجلندي العرب هما جيفر وعبد, فدخلت عمان في الإسلام طواعية بعد وصول مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم, وقد أسهم العمانيون في الدعوة إلى الإسلام وشاركوا في الكثير من الفتوحات, مثل فتح فارس وبلاد السند وبلاد المغرب العربي, ويروى أن عثمان بن أبي العاص الذي عي ن عاملا على عمان من قبل الخليفة عمر بن الخطاب, قد قام سنة 636هـ بحملة بحرية ضد بلاد السند انطلق بها من الموانئ العمانية بأسطول عماني وبحارة وجنود من عمان.
واسهم العمانيون في العصر الإسلامي أيضا بدور بارز ومتميز في تجارة التوابل بحكم ريادة أسطولهم البحري ونشاطهم التجاري ؛واشتهر العديد من موانئ عمان بمكانة تجارية رفيعة ومتميزة في العالم في ذلك العصر. وكانت صحار, قصبة عمان تعد أهم مدن عمان التجارية مع الشرق الأقصى وأفريقيا ويصفها المقدسي بأنها (دهليز الصين وخزانة الشرق والعراق ومغوثة اليمن), وقد نقل عنه ياقوت الحموي في معجم البلدان هذا الوصف .
وكذلك قامت مسقط بدور هام في تجارة الشرق الأقصى, فقد كان لها بئر من الماء العذب, كانت تتردد عليها السفن التجارية للتزود بمياهها. ومن أشهر أسواق عمان التجارية التي كان يتم فيها تصريف منتجات الشرق الأقصى دبا, وجلفار, وازكي وشبا وكلبا.
كما كان لجزيرة قيس »كيش« الواقعة في بحر عمان دور تجاري هام إذ كانت مقر صاحب عمان, مالك هذا البحر, ومرفأ مراكب الهند وبر فارس. ومن المعروف أن قيس شغلت المكانة التجارية مع بلاد الشرق الأقصى حتى القرن الثامن الهجري عندما بدأ نجم هرمز في التألق والسطوع.
ومما لا شك فيه أن التجار الكارمية العمانيين, ونواخذة عمان تمرسوا في سلوك الطريق البحري الموصل إلى بلاد الشرق الأقصى من جهة وشرق أفريقيا من جهة أخرى إلى حد أنهم توصلوا إلى معرفة مواطن الضعف فيه, ومواسم مده وجزره, وأوقات هبوب الرياح والعواصف والأنواء, وخصصوا في جزره محطات ومراسي للتمير والاستراحة.(5)
فإلى جانب الإسهام الحضاري الرائع, الذي قام به العمانيون في مجال التجارة العالمية فإنهم أسدوا للإسلام وحضارته أجل الخدمات, وضربوا أروع المثل لأهالي البلاد الذين كانوا يتعاملون معهم تجاريا , فبفضل معاملاتهم السمحة وتمسكهم بمبادئ الإسلام الحنيف تمكنوا من كسب قلوب من كانوا يتعاملون معهم, واجتذبوهم إلى اعتناق الإسلام طواعية, فلم يلبث أن انتشر بفضلهم بين شعوب جنوب شرق آسيا والصين وشرق أفريقيا.
وعندما نقل العباسيون عاصمة الخلافة الإسلامية من دمشق إلى بغداد, أثر ذلك على النشاط البحري بشكل إيجابي, ووصلت البحرية العمانية إلى ذروة قوتها في عهد هارون الرشيد.حيث وجدت عمان نفسها على مفترق الطرق البحرية. الصين والهند شرقا, والعراق في الشمال الشرقي, والبحر الأحمر وشرق أفريقيا في الجنوب العربي. وكانت الطريق بين كانتون الصينية وبغداد من أطول الطرق البحرية في القرون الوسطى .
وقد ساعد نفوذ كل من الدولة الإسلامية الموحدة وامبراطورية تانغ الصينية على تأمين التسهيلات اللازمة للنشاطات البحرية والتجارية .
وتصدى أئمة عمان للقراصنة الهنود الذين نشطوا ضد سفن عمان وغيرها في عرض البحر وضد ثغورها (مثل دبا وجلفار وما حولها). فشكلوا أسطولا خاصا من السفن الصغيرة والسريعة للتصدي للقراصنة.
وفي عهد الإمام المهنا بن جيفر اليحمدي الخروصي (839-841م) اجتمعت له القوتان البحرية والبرية وازدهرت التجارة إزدهارا كبيرا , وكان الأسطول العماني في عهده يتكون من ثلاثمائة مركب للعمليات الحربية ولرد كيد العدو الخارجي.
وكان الأسطول العماني بالمرصاد لكل عدو يحاول تدنيس الأرض العمانية أو الإعتداء على سواحلها وممتلكاتها, ففي عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي (237-273 هـ / 857-881م) هاجم الأحباش جزيرة سوقطرة التي كانت تابعة لعمان واحتلوها وقتلوا الوالي العماني عليها, فجهز الإمام أسطولا ضخما بلغ تعداده أكثر من مائة سفينة ونازل الأحباش وانتصر انتصارا ساحقا وحرر تلك الجزيرة.
وبلغ تعداد سفن الأسطول في عهد هذا الإمام نيفا وثلاثمائة بارجة حربية مسلحة بالسلاح العصري في ذلك الحين ناهيك عن القوات البرية والقوات التي كانت ترابض في الثغور العمانية«.(6)
وعندما سيطر القرامطة على الخليج في عام 331هـ / 924م, نازل الأسطول العماني الأسطول القرمطي, واستطاع الأسطول العماني أن يتصدى للأسطول القرمطي وأن يدمره تدميرا كاملا, بعد أن اتبع استراتيجية جديدة في قتاله البحري مكنته من الانتصار, وبسبب الصراع بين القرامطة والبويهيين على أرض عمان أرسل البويهيون أسطولا ضخما إلى عمان في عام 355هـ/ 965م. فهاجمت تلك السفن الأسطول العماني وباغتته ودمرت ثماني وتسعين سفينة من أصل سفن الاسطول. واستغل بنو بويه تلك الفرصة فحاولوا احتلال أراض عمانية, ولكن البحرية العمانية لعبت دورا في طردهم, وتحقيق الانتصار, وانتهى الاحتلال البويهي لعمان في 431هـ/ 1019م.(7)
وفي القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي اتسمت هذه الفترة بالازدهار التجاري, وكانت عمان في تلك الفترة دولة مستقلة, وكان التجار العمانيون هم العناصر المؤثرة في ازدهار النشاط العربي الملاحي في المحيط الهندي, فمن صحار ومسقط والموانئ الأخرى على ساحل الباطنة برز عدد كبير من الملاحين العرب الأكفاء الذين سيطروا على التجارة البحرية مع الشرق الأقصى وإفريقيا الشرقية .
ويذكر المؤرخ السعودي أن ازدهار صحار يرجع إلى القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي, وقد اشترك هذا المؤرخ في كثير من الرحلات التجارية مع أولئك الملاحين, ويذكر أيضا أن ربابنة السفن من سيراف وعمان كانوا يرتادون بحار الصين والهند والسند وإفرقيا الشرقية, واليمن والبحر الأحمر, والحبشة, كما كانوا يقطعون أطول الطرق البحرية التجارية في فترة القرون الوسطى.( 8 )
الصراع البحري العماني – البرتغالي في الخليج
بقي الأسطول العماني يسعى في المياه العربية والدولية ولم يجابه بمنافسة قوية ذات شأن إلى أن ظهرت السفن الأوروبية في المياه العربية, فبدأ التحدي الخطير والجاد لأول مرة, وكان يحكم عمان الإمام محمد بن إسماعيل الذي بدأ حكمه في 906هـ/1500م, حيث ظهر الأسطول المذكور بقيادة الفونسو البوكيرك البرتغالي, واستطاع الأخير أن يحيل المنطقة الواقعة ما بين رأس الحد ورأس مسندم إلى حطام.
وقد حاول المماليك والعثمانيون وغيرهم من المتضررين من الأسطول البرتغالي في مياه المحيط الهندي والبحر الأحمر والخليج, التصدي له عام 914هـ/1508م, إلا أن الأسطول البرتغالي تغلب عليهم جميعا وأدى ذلك إلى تغيير مسار التجارة الدولية, وانقلبت الأساليب التجارية القديمة رأسا على عقب وتحول مسارها من الخليج والبحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح.
ولم يكتف البرتغاليون بذلك, بل قاموا بضرب السفن والموانئ العمانية وأحرقوا مدنها. ففي 913ه- / 1507م وجه الأسطول البرتغالي ضربة إلى السفن العمانية في خور جراما وأغرقها, ثم هاجم ميناء قلهات وقريات فأباد أهلها ودمر فيها حوالي 83سفينة, ثم هاجم مسقط ودمرها وأحرق سفنها. ناهيك عن أعمال الابادة الجماعية وتشويه الأحياء, كل ذلك أضعف العمانيين فأنهك أسطولهم واقتصادهم, بعد أن انتزعت منهم معظم مراكزهم التجارية, ولذلك أصبح العمانيون بين خيارين إما مجابهة المعتدي بكل ما يملكون أو الاستسلام. وهذا معناه الموت المحقق.(9)
ولم تنهار معنويات العمانيين لهذا النوع من الغزو الذي يقوم على الإبادة الجماعية والتدمير وغيرها – الأساليب الوحشية المتمثلة في الغزو البرتغالي لعمان, لكن هذه الغزوة جعلت العمانيين يستعدون عسكريا ويتوحدون داخليا لمواجهة القوة البرتغالية الضاربة لطردهم من عمان ؛أدت حرب تحرير موانئ عمان- التي استغرقت قرابة عقدين من الزمن, وتكتلت بطرد البرتغاليين من قاعدة ارتكازهم مسقط بعد معركة بطولية ألهب النصر فيها حماسة العمانيين- إلى خلق حالة من الاندفاع والثقة في النفس لم تتمثل في التصدي للبرتغاليين بحرا فحسب, كان من نتيجتها ترنح البرتغاليين (سادة البحار الشرقية طوال أكثر من قرن من الزمن) وانهيارهم وفقدانهم لقواعدهم الواحدة تلو الأخرى, وبروز عمان كأقوى دولة بحرية غرب المحيط الهندي.
كانت نقطة الانطلاق في هذا التطور الملحمي إدراك الإمام سلطان بن سيف (1649-1679) أن معركة مسقط ستكون فاتحة لصراع مصيري مع العدو, وان امتلاك قوة بحرية قوية أمر حاسم لتأمين سواحل بلاده وتجارتها من الهجمات التدميرية البرتغالية, ولهذا ركز اهتمامه على بناء القوة البحرية, وخلال وقت قياسي استطاع تشكيل نواة الأسطول الذي قدر له أن يؤدي دورا خطيرا في السنوات التي أعقبت حرب التحرير«. (10)
وقد أدت استعدادات العمانيين العسكرية إلى إيجاد مناخ نفسي ومعنوي للتصدي للاحتلال البرتغالي وقد كان للتاريخ والخبرة البحرية العمانية الأثر الكبير في اكتساب المعرفة القتالية في البحر والوثوق من هزيمة البرتغاليين في النهاية وطردهم من عمان.
»ويرى المتتبع لتاريخ الصراع البحري العماني- البرتغالي, أن بناء الأسطول تزامن منذ البداية مع استمرار الاصطدامات البحرية مع قطع الأسطول البرتغالي القوي, وما كان للعمانيين أن يقفوا وقفة التحدي هذه بأسطولهم الوليد لولا عراقتهم وتمرسهم بالفنون البحرية, فأثبتوا عمليا أنهم نسل واحد من أعرق الشعوب البحرية, ومن هذه الحقيقة, جاءت مبادرة العمانيين بتطوير بناء سفنهم, وتبني طراز جديد من السفن الحربية يكون بمقدورها مواجهة (القلاع الطافية) للعدو.
وأفادت السفينتان البرتغاليتان اللتان تم الإستيلاء عليهما خلال معركة مسقط وسائل بناء سفن جديدة تثبت ألواح أبدانها بالمسامير بدلا من الأسلوب التقليدي بخياطتها بالحبال, ولها فتحات للمدافع, وترتفع على سطحها الصواري ذات الأشرعة المربعة, إلى جانب تحوير السفن المحلية بما يلائم الغرض الجديد«.(11)
وبالفعل تحقق لعمان في ظل حكم اليعاربة قوة بحرية ضاربة استطاعت الصمود والتصدي للغزو الأجنبي المتتالي ويذكر ؛الكابتن تشرلس لوكير مكج الذي زار مسقط في 1706 المدينة وأسطولها بقوله: »تطور هذا الميناء كثيرا على أيدي العرب الذين انتزعوه من قبضة البرتغاليين بحيث أصبح مصدر قلق لكل المتاجرين في الهند .. لديهم أربع عشرة سفينة حربية ضخمة وعشرون سفينة تجارية, وإحدى سفنهم الحربية تحمل سبعين مدفعا , وليس في أسطولهم سفينة أقل من عشرين مدفعا , ومع صعوبة الحصول على البارود فإن العرب أكثر الناس سخاء به في كل المناسبات … راياتهم حمر تخفق بخيلاء على الصواري«. (12)
وقام العمانيون بالتصدي للغزو البرتغالي واشتبكوا معهم في قتال كبير بقيادة الإمام ناصر بن مرشد اليعربي في مطلع القرن الحادي عشر الهجري ( 1034هـ / 1624 هـ ), وحشد القوات البرية تساندها القوات البحرية العمانية واستطاع أن يسترد سواحل عمان من الغاصبين ما بين جلفار وظفار. ففي 1060هـ / 1650م قام العمانيون بمهاجمة البرتغاليين في مسقط وفر من نجا منهم إلى سفنهم بعد أن أسر 700 برتغالي, وقام الامام بمهاجمة مستودعات الذخيرة والأسلحة البرتغالية في المدينة واستولى عليها .
وساعد العمانيين في ذلك تسلحهم بنوع جديد من السفن الحربية الحديثة, وزيادة عدد وقوة المدافع فيها, وتخلوا إلى حد كبير عن سفنهم التقليدية واستخدموا سفنا كبيرة الحجم من الطراز الأوروبي, بني معظمها في الهند. وزودت بالمدفعية الحديثة .
الصدام مع هولندا
في تلك الفترة بدأت الخلافة الإسلامية المتمثلة في الدولة العثمانية في التراجع والانحسار, برز إثر ذلك أطماع الدول الأوروبية في المنطقة مستغلة ضعف الدولة العثمانية – كما قلنا – وانشغالها في مشاكلها الداخلية وحروبها الخارجية .
ومع تحرك الاسطول العماني ضد البرتغاليين, زارعا الرعب في قلوبهم, منتزعا منهم الموقع تلو الموقع, ونتيجة لتصاعد القوة الهولندية في الخليج فقد سعت لارث الهيمنة البرتغالية, ولكن العمانيين لم يكونوا على استعداد لاستبدال بالسيادة البرتغالية السيادة الهولندية في الخليج والمحيط الهندي, وبدأ الصدام بينهما في 1107هـ / 1695م وما بعدها, فأخذت البحرية العمانية تهاجم السفن الهولندية في الخليج ومياه المحيط الهندي, وتفاقم الأمر بانتقال الصراع إلى ما بين العرب والفرس, مما دفع بالبحارة العرب الذين كانوا يعملون على سفن فارسية إلى القضاء على قادتهم الفرس, واستيلائهم على السفن, وفشل الهولنديون في نجدة الفرس, ويمكن تفسير ذلك بأن البحرية العمانية كانت من القوة بحيث تصدت للهولنديين والفرس وتغلبت عليهما .
واستغل العمانيون انشغال القوى الأوروبية بتوطيد نفوذها في الهند, فوطدوا مراكزهم في شواطئ أفريقيا الشرقية وجزر المحيط الهندي, وحاولوا توطيد علاقاتهم مع الدول والشعوب الأخرى وإقامة علاقات بحرية وتجارية واسعـة.(13)
حكم آل بوسعيد وتأسيس الإمبراطورية العمانية
عندما تولت الدولة البوسعيدية في عمان استطاعت أن تحقق الكثير من الإنجازات العسكرية لا سيما بناء الأسطول العماني وتطويره للأغراض العسكرية والتجارية, وأصبحت عمان في عهده دولة يحسب لها الحساب على الصعيد الدولي والإقليمي.
»وعند تسلمه كانت البلاد تعاني من الاضطراب وتفتقر إلى الاستقرار, فكان عليه أن يحل السلام في الداخل بتحقيق وحدة القبائل, منطلقا لبناء الدولة القوية التي تتطلع إلى إعادة هيبتها الخارجية وازدهارها التجاري, ببناء الأسطول الذي تعرض للإهمال خلال محنة الحرب الأهلية والغزو الخارجي.(14)
ففي سنة (1189 هـ – 1775م) كان أسطوله البحري يتألف من 24 سفينة, أربع منها مزودة ب- 44 مدفعا , وخمس فرقاطات تحمل كل منها 18 إلى 24 مدفعا , أما البقية فكانت من النوع الذي تتراوح أسلحته بين 8 و 14 مدفعا .
وقبل ذلك بحوالي عقدين من الزمن كانت قوته البحرية قد مكنته من أن يلعب دورا إقليميا هاما في استقرار المنطقة وازدهارها تجاريا , ففي سنة (1170هـ – 1756م) حاصر الفرس مدينة البصرة, واستنجد والي بغداد بالإمام, الذي أرسل جيشا قدره المؤرخ العماني ابن رزيق بعشرة الآف رجل, ابحروا على متن أكثر من مئة مركب, بما فيها الفرقاطة المسماة »الرحماني« التي كانت مركز قيادة الأسطول, وقد أحصى بارسوتز الانجليزي, الذي كان في البصرة أثناء الحصار عدد عناصر الجيش الفارسي, الذي كان يحاصر البصرة بخمسين ألف رجل ومع ذلك تمكن الجيش العماني من فك هذا الحصار وطرد الفرس.
مقابل هذا الإنتصار الكبير قرر السلطان العثماني منح الإمام خراجا سنويا , استمر ولاة البصرة بدفعه لحكام عمان حتى وفاة السيد سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد, وحاز الإمام أحمد على إعجاب الامبراطور المنغولي شاه علم بعد أن أظهر أسطوله كفاءة عالية في ملاحقة القراصنة على السواحل الهندية وأسر بعض قادتهم, وعقد الشاه مع الإمام حلفا دفاعيا هجوميا , وعين سفيرا مقيما في مسقط, وقد أثبت الإمام أحمد بن سعيد على الصعيد الداخلي, جدارته في إدارة حكومة مركزية قوية واشتهر بتسامحه وبعد نظره و بالإهتمام بالتفصيلات الإدارية.
توفي الإمام أحمد بن سعيد في الرستاق سنة (1198هـ – 1783م) وبويع ابنه سعيد إماما على الرغم من الرغبة العامة بتولية هلال, أكبر أولاد الإمام سنا وأشدهم ذكاء , لكن هذا الأخير كان مصابا بضعف البصر وسافر إلى السند إلتماسا للعلاج ولم يعد من هناك أبدا , وكان الإمام الجديد سعيد بن أحمد زاهدا في الحكم, لذلك بذل أعيان العمانيين جهدا خاصا لتعيين إمام آخر بدلا منه, وتوجهت الأنظار أولا نحو أخيه قيس ثم تحولت إلى ابنه حمد, الذي كان بمثابة الحاكم الفعلي للبلاد وأقام في مسقط بينما ظل والده في الرستاق, وكان أول من ناداه الشعب بالسيد, وأولى السيد حمد اهتماما خاصا بتوسيع نفوذ عمان البحري فاستولى على لامو في شرق أفريقيا.
وراح يخطط للإستيلاء على ممباسا وكلكوتا نفسها, لكنه توفي فجأة في سنة (1206هـ – 1729م) وخلفه في السلطة الفعلية السيد سلطان ابن الإمام أحمد بن سعيد, وكان نفوذ عمان في أيام السيد سلطان يمتد على جانبي الخليج ويفرض الرسوم على جميع السفن المبحرة فيه.
بعد وفاة السيد سلطان شهدت عمان مرحلة من الغموض وعدم الاستقرار انتهت كما يؤكد المؤرخون العمانيون, بسيطرة السيد سعيد بن سلطان أحمد على الوضع واستكمال مقومات سلطته التي استمرت اثنتي وخمسين سنة بين سنتي (1806 – 1856م).
يعتبر عصر السيد سعيد بن سلطان وهو – حفيد مؤسس أسرة البوسعيد الحاكمة في عمان – من أزهى العصور التي مرت بعمان خلال القرن التاسع عشر إن لم يكن أكثرها ازدهارا رغم الصعوبات الكثيرة التي واجهته في بناء الدولة, ويرى المؤرخون أن السيد سعيد بن سلطان هو بلاشك أبرز الشخصيات في أسرة البوسعيد التي لعبت دورا في تاريخ عمان والخليج وشرق أفريقيا, ولا نكون مبالغين إذا اعتبرناه من الشخصيات الهامة جدا في تاريخ العرب الحديث والمعاصر.
شهد النصف الأول من القرن التاسع عشر اهتماما كبيرا ببناء الأسطول التجاري والحربي في عهد السيد سعيد بن سلطان, وكانت تبنى السفن في هذه الأحواض من الأخشاب المستوردة من الهند وجاوة علاوة على الأخشاب العمانية … إلى جانب استخدام أشجار النخيل لبناء السفن الصغيرة.
ونتيجة لجهود السيد سعيد بن سلطان في الإهتمام بالبحرية العمانية, أصبح الأسطول العماني الحربي والتجاري في الخليج العربي والمحيط الهندي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ثاني أكبر أسطول على الإطلاق, ويأتي في المرتبة الثانية بعد الأسطول البريطاني.
كانت عمان في أواسط القرن التاسع عشر وحتى وفاة السيد سعيد تعتبر »دولة بحرية آسيوية من الدرجة الأولى« غير أن مكانتها بدأت بالإنحسار لأسباب إقتصادية وسياسية نشأت عن اقتسام الامبراطورية العمانية, والتراجع البحري نتيجة عدم استقرار الأوضاع السياسية في النصف الأول من القرن العشرين.(15)
البحرية العمانية في عهد السلطان قابوس
وعندما تولى جلالة السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في عمان 1970م, وتمجيدا للدور البحري العظيم شهدت البحرية العمانية في عهد جلالته, تطويرا وتحديثا لقدراتها البحرية حيث كانت البحرية قبل عام 1970م عبارة عن جناح بحري يضم بعض القطع البحرية الخفيفة التسليح والإمكانيات, ومع بزوغ فجر النهضة المباركة خطت البحرية خطوات واسعة على طريق التطوير والتحديث, شملت كافة عناصر ومرافق قوتها البحرية ومع التوسع الذي شهدته البحرية السلطانية العمانية أدخلت إلى الخدمة العديد من القطع البحرية الحديثة, لرفع كفاءة الأسطول العماني حتى يكون على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه في الذود عن المياه الإقليمية وعلى الجانب الآخر مواكبا لنظم التسليح البحري العالمية الحديثة, وفي هذا الإطار تم توقيع إتفاقيات تسليح حديثة لتزويد البحرية بالسفن المتطورة, حيث تمت إضافة عدد من السفن الحديثة المميزة والتي من أحدثها السفن السلطانية (قاهر الأمواج – البشرى – المنصور – المؤزر), ويأتي انضمام القطع البحرية الجديدة إلى الأسطول في إطار دعم القدرات الدفاعية وإحلالها محل السفن التي أخرجت من الخدمة, وتعد السفن الجديدة من أفضل أنواع القطع البحرية العالمية التي جهزت بتجهيزات وتسليح حديث, وتم بناؤها لتواكب الاتجاه الحديث في الأداء البحري هذا إلى جانب السفن الأخرى التي تعمل ضمن قطع أسطول البحرية السلطانية العمانية وتشكل قوة الأسطول البحري العماني.
المراجع :
1- عمان ودورها الريادي بين حضارات العالم القديم- الباحث محمد علي الصليبي- ص 320- فعاليات ومناشط المنتدى الأدبي 89/ 1990 م- وزارة التراث القومي والثقافة .
2- ظفار في الكتابات التاريخية ورحلات الباحثين: عبد الله بن علي العليان
مجلة نزوى- العدد ( 24 ) اكتوبر 2000.
3- كتاب عمان في التاريخ- الباب الرابع- ازدهار الحضارة العمانية- فصل جهود العمانيين البحرية قبل الإسلام (ص304) المرجع حصيلة الندوة الفكرية التي عقدت عام 1994 في مسقط- طبع بدار أميل للنشر- لندن .
4- المرجع السابق ص 305 .
5- د/ سحر عبد العزيز- تجارة عمان في الكارم وصداها على سياسة مصر حتى طليعة القرن السابع الهجري- بحث مقدم إلى ندوة العلاقات العمانية المصرية 1991- اصدار المنتدى الأدبي- وزارة التراث القومي والثقافة- الجزء الثاني 1992م .
6- عمان في التاريخ- مرجع سابق ص 328 و ص 329.
7- عمان في التاريخ- مرجع سابق ص 330 .
8- عمان في أمجادها التاريخية- الباحث عبد المنعم عامر- سلسلة تراثنا- العدد الثامن- وزارة التراث القومي والثقافة- طبع بمطابع سجل العرب- القاهرة- يونيو 1980م ص37 و ص38 .
9- عمان في التاريخ- مرجع سابق- ص330.
10- الصراع البحري العماني – البرتغالي في الخليج- د/ صالح محمد العابد- المعهد الدبلوماسي- وزارة الخارجية العمانية- محاضرات الدورة التاسعة 1994م
11- الصراع البحري العماني البرتغالي في الخليج-مرجع سابق.
12- المرجع السابق .
13-عمان في التاريخ- مرجع سابق .
14- الصراع البحري العماني- البرتغالي- مرجع سابق.
15- الوعد والوفاء- فصل عمان في العصور الوسطى والحديثة- وزارة الاعلام- سلطنة عمان- طبع بمطابع رياض نجيب الريس ومشاركوه المحدودة- لندن- ص 71-73 .
عبدالله بن علي العليان كاتب من سلطنة عمان