يجد التناقض الأساسي الذي ستدور حوله تأملاتي أفصح تعبير عنه مع نهاية الكتاب الثاني من »اعترافات« أوغسطين. فقد وضعت سمتان تميزان الروح الإنسانية بحيث تقابل إحداهما الأخرى, آثر المؤلف أن يصوغ لهما بحسه المعروف بالطباق البلاغي مصطلحين هما: [intentio] القصد, السعي, الابتغاء و[distentio animi] روح الانتشار أو التمدد أو التبدد. وسأقارن هذه المقابلة لاحقا بالمقابلة الأرسطية بين الحبكة [muthos] والقلب [peripeteia].
ولابد لي من الإدلاء, بملاحظتين أوليتين. الأولى أنني أبدأ قراءتي الكتاب الثاني من »الاعترافات« من الفصل (17:14), مع السؤال: ؛ما الزمان, إذن? «. ولست أجهل أن تحليل الزمان يرتكز على التأمل في العلاقات بين الأبدية والزمن, مستوحيا السطر الأول من »سفر التكوين«: »في البدء كان الله… «. وبهذا المعنى فإن عزل تحليل الزمان عن التأمل يعني ممارسة العنف على النص, على نحو لا يسو غه تماما مقصدي في أن أضع داخل دائرة التأمل نفسها التناقض الأوغسطيني بين intentio القصد, الابتغاء و[distentio الانتشار, التبدد], والتناقض الأرسطي بين الحبكة muthos والقلب peripeteia . مع ذلك, هناك تسويغ معين لهذا العنف نجده في تفكير أوغسطين, حين ينصرف إلى الاهتمام بالزمن, فهو لا يشير إلى الأبدية إلا لكي يؤكد تأكيدا قطعيا طبيعة النقص الأنطولوجي في الزمن الإنساني, ولكي يصطرع مباشرة معا لالتباس الذي يشوب تصور الزمن في ذاته. ولتصحيح هذا الخطأ الذي أ رتك ب بحق نص أوغسطين إلى حد ما, سأعيد التأمل في الأبدية في مرحلة لاحقة من التحليل بغية البحث فيه عن تكثيف تجربة الزمن.
الثانية, وبمعزل عن التأمل في الأبدية, وبسبب مكر المنهج الذي أقررت به توا , فإن التحليل الأوغسطيني للزمن يضفي عليه خاصية تساؤلية إلى حد كبير, بل ملتبسة لم تقم بها أية نظرية قديمة في الزمان, منذ أفلاطون إلى أفلوطين, على هذه الدرجة من الدقة. ولا يقتصر الأمر على مواصلة أوغسطين, كأرسطو, الاعتماد على الالتباس الذي أقره التراث, بل أن كل حل لأي التباس في بحثه, يأتي بمصاعب جديدة لن تتوقف عن التطلع. وهذا الأسلوب الذي يتسبب بظهور معضلة فكرية جديدة مع كل تقدم فكري, يضع أوغسطين, على التناوب, في معسكر الشكيين الذين لا يعرفون, وفي معسكر الأفلاطونيين والأفلاطونيين الجدد الذين يعرفون, فأوغسطين يبحث (وسنرى الفعل »يبحث« quaerere يظهر مرارا في ثنايا النص). ولعل من الضروري الذهاب إلى القول إن ما ي سم ى بالقضية الأوغسطينية عن الزمن, وهي قضية أفضل عن قصد تسميتها بالقضية النفسية لكي أمي زها عن قضية أرسطو, بل عن قضية أفلوطين, هي أكثر التباسا مما يقر به أوغسطين. وهذا, في حالتي, هو ما سأحاول توضيحه.
لابد من دمج هاتين الملاحظتين الافتتاحيتين بعضها ببعض. فإقحام تحليل للزمان في داخل تأمل في الأبدية يضفي على البحث الأوغسطيني نبرة خاصة من ؛نشيج« مفعم بالأمل, وهذا شيء يختفي عن تحليل يعزل ما هو خلاصة الزمان إذا شئنا الدقة. لكننا بعزل تحليل الزمن عن استتاره في الأبدية نستطيع إظهار ملامحه الملتبسة. وبالطبع, يختلف هذا النمط الملتبس عن الالتباس لدى الشكيين في أنه لا ينكر وجود نوع معين من اليقين الثابت. لكنه يختلف أيضا عن الالتباس لدى الأفلاطونيين الجدد في أن جوهره القطعي لا يمكن الإلمام به في ذاته فقط بمعزل عن ضروب الالتباس التي يولدها.
هذه الخاصية الملتبسة للتأمل الخالص في الزمن ذات أهمية كبرى لكل ما سيلي في البحث الحاضر. ويتمثل هذا في ناحيتين:
الأولى, لا بد من الإقرار بعدم وجود ظاهراتية (فينومينولوجيا) خالصة للزمن لدى أوغسطين. ورب ما لن توجد. وبالتالي فإن النظرية الأوغسطينية في الزمن هي جزء لا يتجزأ من العملية الجدالية التي يجندل بها هذا المفكر رؤوس هيدرا النزعة الشكية التي تتولد ذاتيا باستمرار رأسا تلو الآخر. وبالنتيجة, لا وجود لوصف من دون نقاش. ولهذا السبب فإن من الصعب جدا – إن لم يكن من المستحيل – أن نعزل جوهرا ظاهراتيا فيه عن كتلة المحاججة. ورب ما لم يكن »الحل النفسي« الذي ن س ب إلى أوغسطين ؛علم النفس« ممكن عزله عن بلاغة المحاججة, ولا »ح لا« يمكن إزالته مرة واحدة وإلى الأبد عن ميدان الالتباس.
فضلا عن ذلك, يتخذ الأسلوب الالتباسي دلالة خاصة في الستراتيجيا الشاملة للعمل الحالي. وستكون قضية هذا الكتاب الدائمة أن يكشف أن التأمل في الزمن مراودة غير حاسمة لا تستجيب لها سوى الفعالية السردية. وليست هذه الفعالية ما يحل الالتباس عن طريق استبداله بسواه.
وإذا هي حل ت الالتباس, فبالمعنى الشعري لا بالمعنى النظري للكلمة. وإنني أزعم أن بناء الحبكة يستجيب للالتباس التأملي بإيجاد شعري لشيء ما قابل , بالتأكيد, على إيضاح الالتباس (وسيكون هذا هو المعنى الأولي للتطهير catharsis عند أرسطو), وليس على حل ه نظريا . وبمعنى ما فإن أوغسطين نفسه ينتقل نحو حل من هذا النوع. فانصهار الاستدلال بالترتيلة في القسم الأول من الكتاب الثاني – وهو ما سأعلقه بين قوسين في البداية – يفضي بنا أصلا إلى فهم أن التصوير الشعري وحده, ليس للحل وحسب, بل للسؤال نفسه أيضا , سيخل ص الالتباس من اللامعنى الذي يطوقه.
التباس وجود الزمان ولا وجوده
ليست فكرة روح الانتشار والتبدد distentio animi, باقترانها بفكرة القصد والسعي intentio سوى البقية المتنخلة بألم وبطء من الالتباس الأساسي الذي ينازعه أوغسطين, أعني فكرة قياس الزمن. لكن هذا الالتباس نفسه مسطور في دائرة التباس أكثر جذرية, أي التباس وجود الزمان ولاوجوده. لأن ما يمكن قياسه هو, بطريقة ما, ما يوجد. وقد نستهجن هذه الحقيقة إذا شئنا, لكن فينومينولوجيا أو ظاهراتية الزمن تنبثق من سؤال أنطولوجي: »ما الزمن, إذن? « )(quid est enim tempus? ما أن ي طر ح هذا السؤال, حتى تتدافع المصاعب القديمة بخصوص وجود الزمان ولاوجوده. ولكن يحسن بنا منذ البداية أن نعرف أن أسلوب أوغسطين التساؤلي يفرض نفسه. فمن جهة يميل البرهان الشك ي نحو اللاوجود, ومن جهة أخرى تدفعنا ثقة حذرة بالاستعمال اليومي للغة إلى القول, على نحو ما لا نستطيع أن نعرف كيف نفسره بعد, إن الزمان يوجد. والبرهان الشكي معروف: ليس للزمان وجود, ما دام المستقبل ليس بعد, والماضي لم يعد موجودا , والحاضر لا يمكث. لكننا مع ذلك نتحدث عن الزمان بوصفه ذا وجود. ونحن نقول إن الأشياء التي ستقع »ستكون«, وإن الأشياء الماضية »كانت«, والأشياء الحاضرة ؛تمر بنا«. والمرور ليس عدما . والملاحظ أن الاستعمال اللغوي هو الذي يضفي المقاومة مؤقتا على قضية لاوجود الزمان. فنحن نتحدث عن الزمان, ونتحدث عنه حديثا ذا معنى, وهذا ما يدعم دعوانا بوجود الزمان ويرج ح ها. »نحن بالتأكيد نفهم ما تعنيه الكلمة, سواء حين نستعملها نحن, أو حين نسمع الآخرين يستعملونها« (51:41). لكننا إذا صح أننا نتحدث عن الزمان بطريقة ذات معنى, وبألفاظ إيجابية (سيكون, كان, كائن), فإن انعدام حيلتنا عن تفسير كيفية حدوث هذا الأمر ينشأ عن هذا اليقين بالضبط. لا شك في أن الحديث عن الزمان يقاوم البرهان الشك ي, غير أن الفجوة بين »ماذا« و»كيف« تضع اللغة نفسها موضع السؤال والاستفهام. نحن نحفظ عن ظهر قلب صيحة أوغسطين التي أطلقها, وهو على أعتاب تأمله: »ما الزمن, إذن?, إنني لأعرف معرفة جيدة ما هو, بشرط ألا يسألني أحد عنه, لكن لو سألني أحد ما هو, وحاولت أن أفسره, لارتبكت« (17:14). بهذه الطريقة تضع المفارقة الأنطولوجية اللغة في تناقض ليس فقط مع البرهان الشكي, بل مع ذاتها. إذ كيف يمكن التوفيق بين الخاصية الإيجابية للأفعال »يحدث« و»يقع« و»يكون« وبين سلبية ظروف الزمان: »لم يعد« و»ليس بعد« و»ليس دائما«? هكذا يتم تضييق السؤال. كيف يستطيع الزمن أن يوجد, إذا كان الماضي لم يعد موجودا , وإذا كان المستقبل لم يوجد بعد, وإذا كان الحاضر غير موجود دائما ?
تتداخل بهذه المفارقة الأولية مفارقة مركزية ستنبثق عنها موضوعة الانتشار والتمدد والتبدد .distention كيف يمكن لنا أن نقيس ما لا يوجد? إن مفارقة القياس هي نتيجة مباشرة لمفارقة وجود الزمان ولاوجوده. هنا تكون اللغة دليلا أكيدا على نحو نسبي مرة أخرى. فنحن نتكلم عن زمان طويل وزمان قصير, ونلاحظ بطريقة ما طوله ونأخذ قياسه (انظر 19:15, حيث تخاطب الروح نفسها: »لأننا موهوبون بالقدرة على الإحساس بالفواصل الزمنية وقياسها. فماذا سيكون الجواب? «). وأكثر من ذلك إننا لا نستطيع أن نصف بالطول أو القصر إلا الماضي أو المستقبل. واستباقا لـ»حل« الالتباس, فإننا نقول حقا عن المستقبل إنه يقصر, وعن الماضي إنه يطول. غير أن اللغة محدودة بالشهادة على حقيقة القياس. لكن »الكيف« يروغ منه مرة أخرى: ؛كيف يمكن لأي شيء لا يوجد أن يكون إما طويلا أو قصيرا (sed quo pacto?)?« (18:15).
يبدو في البداية أن أوغسطين يدير ظهره ليقين أن الماضي والمستقبل هما ما نقيسهما. لكنه بوضع الماضي والمستقبل, في ما بعد, في داخل الحاضر, عن طريق استحضارهما في الذاكرة والتوقع, سيتمكن من تخليص هذا اليقين الأولي من نكبته الظاهرة بتحويل فكرة المستقبل الطويل والماضي الطويل إلى توقع وذكرى. لكن هذا اليقين باللغة, وبالتجربة, وبالفعل, لا يمكن استرداده إلا بعد تصنيعه وتحويله تحويلا عميقا . وبهذا الخصوص فإن من سمات البحث الأوغسطيني أن يتم توقع الجواب النهائي مرات عدة وبطرق شت ى بحيث إنه ي عر ض في البداية على النقد, قبل أن يتبلور معناه الحقيقي.
وحقا أن أوغسطين يبدو أو ل الأمر رافضا اليقين القائم على برهان واه جدا : »رب اه, يا نور وجودي, ألا تجعلنا حقيقتك نظهر حمقى في هذه الحالة أيضا ? « (18:15). لذلك فهو يلتفت أولا إلى الحاضر. أفلم يكن الماضي طويلا حين كان ما يزال حاضرا ? بهذا السؤال, أيضا , يتم توقع شيء من الجواب النهائي ما دامت الذاكرة والتوقع سيظهران بوصفهما جهتين للحاضر. لكن الحاضر, في هذه المرحلة من المحاججة, يظل في مقابلة مع الماضي والمستقبل. ولم تبزغ بعد فكرة وجود حاضر ثلاثي الأبعاد. وهذا هو السبب في وجوب طي حل قائم على الحاضر وحده. فإخفاق هذا الحل ينتج عن تصفية فكرة الحاضر, الذي لم يعد يت سم بكونه ما لا يمكث فقط, بل أيضا بكونه ما ليس له امتداد.
ترتبط هذه التصفية, التي تبلغ بالمفارقة أقصاها, ببرهان شكي مشهور: هل يمكن لمائة سنة أن تكون حاضرة دفعة واحدة (19:15). (يتوجه البرهان, كما نرى, إلى نسبة الطول للحاضر فقط). السنة الحالية فقط حاضرة, وفي السنة الشهر, وفي الشهر اليوم, وفي اليوم الساعة: »وحتى الساعة الواحدة تتكو ن من دقائق تنقضي باستمرار. والدقائق التي انصرمت ماض , وأي جزء يتبقى من الساعة هو مستقبل« (20:15).
لذلك كان لا بد أن يخلص إلى ما خلص إليه الشكيون: »في الحقيقة, إن الزمن الوحيد الذي يمكن أن يسم ى حاضرا هو »الآن« instant, لو تمكنا من إدراكه في ذاته, وهو ما لا ينقسم إلى أجزاء أصغر وأدق … وحين يكون حاضرا لا تكون له ديمومة spatium)). وفي مرحلة لاحقة من النقاش سيضيق تعريف الحاضر أكثر بحيث ينحصر في فكرة الآن الشبيه بالنقطة. في البداية ينعطف أوغسطين انعطافة مثيرة إلى النتيجة القاسية للمكيدة الاحتجاجية: »كما رأينا سابقا بوضوح بالغ, فليس بالإمكان أن تكون للحاضر ديمومة«.
ما الذي يبقى صامدا أمام انقضاض النزعة الشكية إذن? إنها, كما هي العادة دائما , التجربة التي تصوغها اللغة ويضيئها الوعي: »رباه, نحن برغم ذلك ندرك مدد الزمان. نقارن بعضها ببعض, ونقول إن بعضها أطول وبعضها أقصر. بل إننا نحسب كم تطول مدة على أخرى وكم تقصر عنها« (21:16).
إن الاحتجاج الذي تنقله المفردات: (ندرك) sentimus, و(نقارن) comparamus, و(نحس ب) metimur هو احتجاج فعالياتنا الحسية والعقلية والعملية فيما يتعلق بقياس الزمن. لكن عناد ما ينبغي أن ي صط ل ح عليه بالتجربة لاحقا لا يمضي بنا إلى أبعد من هموم السؤال ؛كيف«. فاليقين الزائف ما زال يختلط بالبرهان الأصيل.
قد نعتقد أننا نخطو خطوة حاسمة باستبدال فكرة الحاضر بالانقضاء والعبور والانتقال, متابعين خطى الحكم السابق: »إذا قسناها بوعينا للزمن, فيجب أن نفعل ذلك, وهي تنقضي وتنصرم )praetere untia(«. ويبدو أن هذه الصيغة التأملية تطابق يقيننا العملي. ولكنها أيضا ستكون عرضة للنقد قبل العودة إلى مواصلة السؤال, تماما كما حصل مع التمدد والتبدد distentio, بفضل جدل الحاضر ثلاثي الأبعاد. وما دمنا لم نكو ن فكرة عن العلاقة التمددية distended بين التوقع والذاكرة والانتباه, فنحن لا نفهم ما نقوله فعلا حين نكرر للمرة الثانية: »النتيجة هي أننا نستطيع أن ندرك الزمن ونقيسه في أثناء انقضائه«. وهذه الصيغة استباق للحل ومأزق مؤقت في الوقت نفسه. لذلك لم يكن من المصادفة أن يتوقف أوغسطين في الوقت الذي يبدو فيه أكثر يقينا : »أبتاه, إن هذه لنظريات حائرة, وليست تأكيدات صريحة« (22:71). والأكثر من ذلك أنه لا يستمر بمتابعة هذا البحث, بدافع من فكرة الانقضاء هذه, بل بالعودة إلى نتيجة البرهان الشك ي: »ليس بالإمكان أن تكون للحاضر ديمومة duration«. فمن أجل تمهيد الطريق لفكرة أن ما نقيسه هو في الحقيقة المستقبل, الذي ي فهم لاحقا بوصفه توقعا , والماضي الذي ي فهم بوصفه تذكرا , لا بد من البرهنة أولا على وجود الماضي والمستقبل اللذين أ نكر وجودهما بسرعة بالغة, ولكن يجب البرهنة عليهما بطريقة لم نتوصل إلى صياغتها حتى الآن.
باسم ماذا يمكن أن ي منح الماضي والمستقبل الحق في أن يوجدا بطريقة أو أخرى? مرة أخرى باسم ما نقوله أو نفعله بخصوصهما. فماذا نقول ونفعل بهذا الخصوص? إننا نقص الأشياء التي نعتقد أنها حقيقية, ونتوقع الأحداث التي تقع كما تنبأنا بها. لذلك ما زالت اللغة, بالإضافة إلى التجربة والفعل اللذين تصوغهما اللغة, هي ما يصمد بوجه هجوم الشكيين. فالتوقع تنبؤ, والقص تمييز بالعقل .cernere يتكلم كتاب »عن الثالوث« (15, 21:12) بهذا المعنى عن »شهادة« ذات شقين (مايجرنغ, ص67) للتاريخ والتوقع. ومن هنا, وبرغم البرهان الشكي, يخلص أوغسطين إلى أن »الماضي والمستقبل كليهما يوجدان sunt ergo)).22:17(
وليس هذا التصريح مجر د تكرار للتوكيد الذي سبق أن رفضه في الصفحات الأولى, ألا وهو أن المستقبل والماضي يوجدان. إذ يظهر اللفظان الخاصان بالماضي والمستقبل من الآن فصاعدا بوصفهما صفتين: المستقبلي futura والماضي .praeterita ويتيح هذا التحو ل الضئيل إلى حد ما, المجال لنكران المفارقة الأولية حول الوجود واللاوجود, وبالنتيجة, حول المفارقة المركزية الخاصة بالقياس أيضا . وفي حقيقة الأمر, فنحن مهيأون لأن ن ص ف بالوجود, ليس الماضي والمستقبل وحسب, بل الخصائص الزمانية التي يمكن أن توجد في الحاضر, من دون الأشياء التي نتحدث عنها, حين نرويها أو نتوقها, وكأنها ما زالت موجودة, أو هي موجودة أصلا . لذلك لا نستطيع أن نكون في غاية اليقظة مع تحو لات التعبير لدى أوغسطين.
حين يكون على وشك الإجابة عن المفارقة الأ نطولوجية, بصمت مرة أخرى: ؛رب اه, يا رجائي, اسمح لي أن أوغل في البحث (amplius quaerere))).81:32) ( وهو لا يقول هذا على سبيل التأثير البلاغي, أو ورع الابتهال وحسب. فبعد هذه الوقفة, تأتي خطوة متهورة ستفضي إلى التأكيد الذي ذكرته سابقا , وهو أطروحة الحاضر ثلاثي الأبعاد. غير أن هذه الخطوة, كما هي العادة في مثل هذه الحالات, تأخذ شكل سؤال: »إذا وجد المستقبل والماضي, فأنا أريد أن أعرف أين يوجدان«. لقد بدأنا بالسؤال »كيف? «, وها نحن نواصل السؤال عن »أين? «. وليس هذا السؤال بالسؤال الساذج. فهو يكمن في البحث عن موضع للأشياء المستقبلية والماضية من حيث هي مروية أو متوقعة. وستنضوي البرهنة التالية في حدود هذا السؤال, وستخلص إلى موضع الخصائص الزمانية التي ينطوي عليها القص والتوقع »في داخل« النفس. وهذه الانتقالة, عن طريق السؤال »أين? «, أمر جوهري, إذا أردنا أن نفهم فهما صائبا الإجابة الأولى: »وبالتالي فأينما كانت الأشياء المستقبلية والماضية, ومهما كانت, فإنها لا توجد إلا في كونها حاضرة«. يبدو أننا ندير ظهورنا للتأكيد السابق في أن ما نقيسه هو الماضي والمستقبل فقط, بل يبدو أننا ننكر ما أقررنا به, وهو أن ليس للحاضر ديمومة. لكن الحاضر المشار إليه هنا, حاضر مختلف تماما , حاضر صار صفة جمعية (الأشياء الحاضرة praesentia), إلى جوار الأشياء الماضية praeterita, والأشياء المستقبلية futura, وهو حاضر يمكن له أن يقبل بالتعدد الداخلي. ويبدو أننا قد نسينا أيضا تأكيد أننا »نقيس الزمان, في أثناء انقضائه« (21:16). لكننا سنعود إلى هذه النقطة فيما بعد, حين نعود إلى سؤال القياس.
إذن ففي إطار السؤال »أين? «, نتبنى مرة أخرى فكرت ي القص والتوقع, بغية مزيد من التوضيح لهما. ونحن نقول إن السرد يعني الذاكرة, وإن التنبؤ يعني التوقع.
والآن, ما الذي يعنيه التذكر? إنه يعني أن تملك صورة عن الماضي. كيف يمكن ذلك? لأن هذه الصورة هي الانطباع الذي تركته الأحداث, الانطباع الذي يظل عالقا في الذهن.
لا بد أن القارئ لاحظ بعد الوقفات المحسوبة السابقة أن كل شيء بدأ يتسارع فجأة.
وليس تفسير التنبؤ بالأمر المستغلق. فبفضل التوقع الحاضر تكون الأشياء المستقبلية موجودة لدينا بوصفها أشياء ستأتي. ولدينا إدراك سابق (praesensio) لما ي مك ن نا من أن نتنبأ بها ونستبقها .(praenuntio) وهكذا فالتوقع هو نظير الذاكرة. إذ يكمن في صورة توجد سلفا , بمعنى أنها تسبق الحدث الذي لم يوجد بعد (nondun) لكن هذه الصورة ليست انطباعا تركته الأشياء الماضية, بل هي »علاقة« أو »إمارة« على أشياء مستقبلية, يتم على هذا النحو استباق ها, أو التنبؤ بها, أو تصورها, أو توقعها, أو تخيلها سلفا (لاحظ ثراء معجم الحياة اليومية عن التوقع).
وهذا الحل رائع, ولكن ما أجهده, وما أفدح ثمنه, وما أشد هشاشته! حل رائع, لأننا بائتماننا الذاكرة على الأشياء الماضية, وائتماننا التوقع على الأشياء الآتية, فإننا يمكن أن نكون قد حصرنا الذاكرة والتوقع في حاضر ممتد وجدلي, لا ينحصر هو نفسه في الطرفين اللذين رفضناهما سابقا , فلا هما من الماضي, ولا من المستقبل, ولا من الحاضر الشبيه بالنقطة, ولا حتى من انقضاء الحاضر. ونحن نعرف الصيغة الشهيرة التي نعاين بسهولة ارتباطها بالالتباس الذي ي فت رض أن تأتي لتحله: »رب ما صح القول إن هناك ثلاثة أزمنة: حاضر الأشياء الماضية, وحاضر الأشياء الحاضرة, وحاضر الأشياء المستقبلية. وتوجد مثل هذه الأزمنة المختلفة في العقل, لا في أي مكان آخر يمكن لي أن أراه« (26:20).
وحين يقول أوغسطين ذلك, فإنه يعي أنه ينأى, نوعا ما, عن اللغة العادية, التي دعم بها موقفه, إن كان ذلك باحتراس, في مقاومة برهان الشكيين: »ليس من الصائب تماما القول ان هناك ثلاثة أزمنة: الحاضر والماضي والمستقبل«. لكنه يضيف كأنها في حاشية هامشية: »إن استعمالنا للكلمات غير دقيق على العموم, ونادرا ما يكون صائبا , وإن كان المعنى الذي نقصده مفهوما «. ولكن ليس هناك ما يمنعنا من الاستمرار في التحدث, كما نتحدث الآن, عن الحاضر والماضي والمستقبل: »لن أعترض أو أحاجج, ولن ألوم من يتحدث عن هذه الألفاظ, بشرط أن يفهم ما يقوله«. وهكذا تعاد صياغة اللغة اليومية, ولكن على نحو أكثر انضباطا .
ولكي يمك ننا أوغسطين من فهم معنى هذا التصحيح, يعتمد على موازنة ثلاثية, يبدو أن ها بي نة بذاتها: »حاضر الأشياء الماضية هو الذاكرة, وحاضر الأشياء الحاضرة هو الإدراك المباشر (ستتحو ل هذه الكلمة فيما بعد إلى الانتباه attentio التي تتطابق مطابقة فضلى مع الانتشار والتبدد distentio), وحاضر الأشياء المستقبلية هو التوقع« (26:20). كيف نعرف ذلك? يرد أوغسطين باقتضاب: »إذا تحدثنا بهذه الألفاظ, فأستطيع أن أرى (video) ثلاثة أزمنة, أقر بأنها توجد«. هذه الرؤية, وهذا الإقرار يشك لان بحق , الجوهر الظاهراتي للتحليل بأسره, لكن الإقرار (Fateor) القرين بالرؤية (video), يحمل شهادة على نوع من الحوار تكون الرؤية خلاصته وخاتمته.
حل رائع, ولكنه جاهد أيضا .
فلنتأمل الذاكرة. لابد من أن تتوافق بعض الصور مع قوة الإحالة على الأشياء الماضية (لاحظ حرف الجر اللاتيني de), وهي قوة غريبة حقا . فمن ناحية, يوجد الانطباع الآن, ومن ناحية أخرى, فهو يمثل أشياء ماضية, ما زالت في ذاتها موجودة في الذاكرة. وهذه الكلمة: »ما زالت« (adhuc) هي حل للالتباس, ومصدر لغز جديد في الوقت نفسه: إذ كيف يمكن أن تكون الصور الانطباعية )vestigia(, التي هي أشياء حاضرة منقوشة في النفس, متعلقة بالماضي في الوقت نفسه? وتمث ل الصور المستقبلية صعوبة مشابهة: حيث يقال عن الصور العلامية إنها موجودة سلفا .(18:25) (jam sunt) لكن ؛سلفا« تعني شيئين: ؛كل ما يوجد سلفا , ليس بمستقبل, بل هو حاضر«. وبهذا المعنى, فنحن لا نرى أشياء مستقبلية هي نفسها ما لم يوجد بعد .(nomdum) غير أن »سلفا«, مع ذلك, تشير بالإضافة إلى الوجود الحاضر للعلامة, إلى خاصيتها الاستباقية, فالقول عن شيء إنه »يوجد سلفا«, يعني القول إنني أعلن عن وجود علامة على شيء سيأتي, وأنني أتنبأ به, وبهذه الطريقة يقال المستقبل مقد ما (ante dicatur) فالصورة الاستباقية ليست أقل إلغازا من الصورة الانطباعية.
وما يجعل من هذا لغزا يكمن في بنية صورة, تمث ل أحيانا انطباعا عن الماضي, وأحيانا علامة على المستقبل. ويبدو أن أوغسطين يرى هذه البنية خالصة ومجردة كما تقدم نفسها.
والأمر الأكثر إلغازا هو اللغة شبه المكانية, التي يصاغ بها السؤال والجواب عنه: »إذا كان المستقبل والماضي يوجدان, فأنا أريد أن أعرف أين هما« (23:18).
ويأتي الرد على هذا السؤال: »توجد بعض الأزمنة المختلفة في العقل, لا في أي مكان آخر يمكن لي أن أراه« (26:20). هل لأن السؤال أثير بألفاظ »مكانية« (أين هي الأشياء الماضية والمستقبلية?), نحصل على إجابة بألفاظ »مكانية« (في النفس, في الذاكرة)? أفليست اللغة شبه المكانية عن الصورة الانطباعية والصور العلامية, المنطبعة في النفس, هي ما يستدعي التساؤل عن موضع الأشياء المستقبلية والماضية? هذا ما لا نستطيع أن نورده في هذه المرحلة من بحثنا.
وحل التباس وجود الزمان ولاوجوده, عبر فكرة الحاضر الثلاثي الأطراف, يستمر هشا , ما دام لغز قياس الزمن لم يحل بعد. ولم يتلق بعد الحاضر ثلاثي الأطراف الختم المحدد لروح الانتشار والتمدد distentio animi حتى الآن, كما لم نتعرف في هذا الثالوث نفسه على الانزلاق الذي يسمح للروح نفسها بأن تتوافق مع امتداد من نوع آخر غير الذي أ نكر في الحاضر الشبيه بالنقطة. وتظل اللغة شبه المكانية, من ناحيتها, في حالة تعليق وإرجاء, ما دام هذا الامتداد في النفس البشرية, الذي هو أساس قياس الزمن, لم يتجرد عن الأساس الكوني. فانضواء الزمن في النفس لا يكتسب معناه الكامل ما لم تتم إضاءة كل القضايا التي يمكن أن تضع الزمن في دائرة الحركة الفيزياوية عبر نقاش مستفيض. وبهذا المعنى, فإن عبارة »أراه, وأقربه« في (26:20) لا تتأسس تأسيسا ثابتا ما دامت فكرة روح الانتشار والتمدد لم تتشكل بعد.
قياس الزمن
عندما يحل أوغسطين لغز قياس الزمن, يصل إلى هذا التحديد الأخير لسمات الزمن الإنساني (31:12).
يتم إشهار سؤال القياس, حيث تركناه في الفقرة (21:16): ؛لقد قلت توا إننا نقيس الزمن وهو يتقضى (praetereuntia)).(12:72) ) والآن ها هو التأكيد الذي يتكرر بقوة (إنني لأعرفه, لأننا نقيس الزمن فعلا . ونحن لا نقيس شيئا لا يوجد), يتحو ل مباشرة إلى التباس. فما يتقضى, في الواقع, هو الحاضر. لكننا أقررنا بأن الحاضر ليس له امتداد. ويجدر بنا أن نحل ل تحليلا مفصلا هذه المحاججة التي تعيدنا مرة أخرى إلى الشكيين. فهي ت همل في الدرجة الأولى الفرق بين الانقضاء والحضور, بمعنى أن يكون الحاضر ؛آنا« غير قابل للانقسام (أو ؛نقطة« كما سيرد لاحقا ). ففي جدل الحاضر الثلاثي الأطراف فقط, متأو لا على أنه انتشار distention, يمكن إنقاذ توكيد يضل سبيله في متاهة الالتباس. لكن الأمر الأكثر أهمية, هو أن المحاججة العكسية تنهض على وجه التحديد بمصادر الخيال شبه المكاني الذي يتم فيه أخذ الزمان على أنه حاضر ذو ثلاثة أطراف. فالانقضاء, بالنتيجة, هو الوجود في طور الانتقال. لذلك يكون من المشروع أن نتساءل: »من أين يأتي (unde), ويتقضى من خلال ماذا (qua), وإلى أين يذهب (quo?) «. وكما نرى, فمصطلح الانقضاء (transire) هو الذي يلزمنا بالسكنى على هذا النحو في شبه – المكانية. الحال أننا إذا تابعنا نزوع هذا التعبير المجازي, فلابد لنا أن نقول إن الانقضاء يأتي من (ex) المستقبل, ويتقضى من خلال (per) الحاضر, ويتجه إلى (in) الماضي. وهكذا يؤكد هذا الانتقال أن قياس الزمن يتم بالنسبة إلى فترة ما قابلة للقياس (in aliquo spatio), وأن جميع العلاقات بين الفواصل أو الزمن لها علاقة بـ»فترة معينة« (spatia temporum) ويبدو أن هذا يفضي إلى مأزق كلي: وهو أن الزمان ليس بممتد في المكان, و»لا نستطيع أن نقيس ما ليس له ديمومة«.
عند هذه النقطة يتوقف أوغسطين كما توقف عند اللحظات الحاسمة السابقة. وهنا أيضا ينطق لأول مرة بكلمة (حيرة) أو (لغز): »إن عقلي ليلتهب لحل هذا اللغز العصي« (28:22). حقا أن أفكارنا اليومية عويصة, كما عرفنا ذلك في مطلع هذا البحث, ولكن مرة أخرى, وعلى خلاف الشكيين, هناك إقرار بوجود لغز تصحبه رغبة وق ادة, هي عند أوغسطين شكل من أشكال الحب: »هبني ما أ حب , لأن من عطاياك أن تجعلني أحبه«. هنا يتضح الجانب التسبيحي في البحث, مبي نا كم يدين التدقيق في الزمن إلى حصره في إطار التأمل في الكلمة الأبدية. وسنعود إلى هذا لاحقا . ولكن دعونا نكتفي الآن بالتشديد على الثقة العصماء التي يهبها أوغسطين للغة اليومية: ؛كم يستغرق منه القيام بذلك? منذ كم وهي موجودة..! نحن نستعمل هذه الكلمات ونسمع الآخرين يستعملونها. وهم يفهمون ما نعني, ونحن نفهمهم« (28:22). لهذا السبب, سأقول هناك لغز, لا جهل. ولحل هذا اللغز, لا بد من رفض الحل الكوني, حتى ينصرف التحقيق في داخل النفس وحدها, وبالتالي ينهض على أساس البنية المتعددة للحاضر ثلاثي الأطراف, أي إلى أساس الامتداد والقياس. وهذا النقاش حول علاقة الزمن بحركة الأجرام السماوية, وبالحركة على العموم, لا يشك ل استطرادا ولا انعطافا .
ويصعب القول إن رؤية أوغسطين هنا مستقلة عن الجدال الذي يمتد تاريخه الطويل من »طيماوس« أفلاطون, و»طبيعيات« أرسطو, حتى ؛تساعية« أفلوطين الثالثة. حيث تتكب دروح الانتشار distentio animi آلاما عظيمة, وتهزم في سياق المحاججة, وعند نهايتها الموغلة في العقلانية, التي تنطوى على البلاغة اللاذعة للبرهان بالخلف .(reductio ad absurdum)
الحجة الأولى: إذا كانت حركة الأجرام السماوية هي الزمن, فلم لا يصح هذا على حركة جميع الأجسام الأخرى أيضا ? (29:23). تستبق هذه الحجة الأطروحة القائلة بأن حركة النجوم قد تختلف, فتشتد أو تبطئ, وهذا شيء مستحيل عند أرسطو. وهكذا يتم إرجاع النجوم إلى مستوى الأشياء الأخرى في الحركة, سواء أكانت هذه الأشياء دولاب الخزاف, أو سيل المقاطع الصوتية التي يطلقها الصوت البشري.
الحجة الثانية: إذا توقفت أنوار السماء عن الحركة, واستمر دولاب الخز اف بالدوران, فلابد في هذه الحالة أن يقاس الزمن بشيء آخر غير الحركة. ومرة أخرى, تفترض هذه الحجة أن قضية ثبات الحركات السماوية قد ثلمت . ويمكن التنويع على هذه الحجة, بأن الحديث عن حركة دولاب الخزاف, يستغرق هو نفسه زمنا , زمنا لا ي قاس بحركة النجوم التي ي فت رض أنها تغيرت أو توقفت تماما .
الحجة الثالثة: ينطوي تحت المسلمات السابقة اعتقاد اشاعة الكتاب المقدس, وهو أن النجوم ليست سوى أنوار ي قصد بها الإشارة إلى الزمن. فإذا قلنا بذلك, فإننا نكون قد جر دنا النجوم من هذا المقصد, فلا تعود تشكل الزمن بحركتها.
الحجة الرابعة: إذا سأل أحد: ما الذي يشكل القياس, وأجبناه بأنه »اليوم«, فإننا نفكر تلقائيا بأن الساعات الأربع والعشرين من اليوم تقاس بحركة الشمس من خلال دورة كاملة. لكن لو استدارت الشمس أسرع, وأكملت دورتها في ساعة واحدة, فلن ي قاس »اليوم« بحركة الشمس (30:23).ويؤكد مايجرنغ كيف ينتقل أوغسطين, من خلال افتراض سرعة متحولة تنسب للشمس, وينأى عن جميع أسلافه. إذ لم يستخدم أرسطو, ولا أفلوطين, برغم أنهما يميزان أيضا بين الزمن والحركة, مثل هذه الحجة قط . ففي رأي أوغسطين ما دام الله سيد الخليقة, فإنه يستطيع أن يغي ر سرعة النجوم, تماما مثلما يغير الخزاف سرعة دوران دولابه, أو مثلما يغي ر المتكلم سرعة مقاطعه الصوتية (ويتبع إيقاف يوشع الشمس هذه الخطوط نفسها, ما دام افتراض تسريع حركتها مستقلا عن اللجوء للاحتجاج بالمعجزة).
فلا يتجرأ أحد سوى أوغسطين على القول بأن في وسع المرء أن يتحدث عن وحدة قياس الزمن – كاليوم والساعة – دون العودة إلى مرجع فلكي. وسوف تكون فكرة روح الانتشار distentio animi على وجه التحديد, هي البديل عن هذا الأساس الفلكي لوحدة قياس الزمن.
وإنه لأمر جوهري حقا أن نلاحظ أن أوغسطين يقد م فكرة الانتشار distentio, للمرة الأولى عند نهاية المحاججة التي تفصل تماما فكرة »اليوم« عن فكرة الحركة السماوية, وهو يقوم بذلك دون أية استفاضة أخرى: »لذلك أرى الزمن امتدادا (أي تمددا وانتشارا distentio) من نوع ما. لكن هل أرى ذلك حقا , أم أبدو وكأنني أراه? ستوضح ذلك لي, يا نوري وحقي« (30:23).
لماذا هذا التحفظ, وهو على وشك إحداث قطيعة? في الحقيقة أننا لم ننته بعد من الكونيات, برغم الحجج السابقة. لقد نبذنا فقط القضية المتطرفة التي تقول: »إن الزمن تشكله حركة جسم مادي« (31:24). غير أن أرسطو أيضا فن دها بتأكيده أن الزمن هو شيء متحرك, وإن لم يكن ذاته حركة, أي أن الزمن هو قياس الحركة بقدر ما يمكن قياس الحركة. فهل يستطيع الزمن أن يكون قياسا للحركة, دون أن يكون هو ذاته حركة? ولكي يوجد الزمن, ألا يكفي أن تكون الحركة قابلة للقياس بالقوة? يبدو في الوهلة الأولى أن أوغسطين يمنح أرسطو هذا الامتياز الأساسي حين يكتب قائلا : ؛من الواضح, إذن, أن حركة جسم ما ليست هي نفسها ما نقيس به ديمومة حركته. فإذا كان الأمر كذلك, فلا بد من أن يتضح أي الأمرين يحسن أن يسم ى بالزمن«. لكن إذا ظهر أن أوغسطين يسل م بأن الزمن هو قياس الحركة, وليس الحركة نفسها, فليس ذلك لأنه يفكر بالحركة المطردة للأجرام السماوية, مثلما كانت الحالة عند أرسطو, بل بقياس حركة النفس الإنسانية. وفي حقيقة الأمر, أننا إذا أقررنا بأن الزمن يقاس بوساطة المقارنة بين زمن أطول وزمن أقصر, إذن فنحن بحاجة إلى طرف مقارنة ثابت. ولا يمكن أن يكون هذا الطرف الثابت هو حركة النجوم الدائرية, ما دمنا قد اعترفنا بأن تلك الحركة تتغير. إذ يمكن للحركة أن تتوقف, لكن ليس الزمن. ألسنا إذن نقيس السكون, كما نقيس الحركة?
ألا يفضي هذا التردد, الذي لن نفهم سببه, بعد هذه المحاججة المظفرة ضد المطابقة بين الزمان والحركة, بأ وغسطين إلى أن يعود مرة أخرى إلى اعتراف بجهله العميق: ؛أعرف أن خطابي عن الزمان موجود في الزمان, ولذلك أعرف أن الزمان يوجد, وأنه يقاس. لكني لا أعرف ما هو الزمان, ولا كيف يقاس. »إنني في حالة يرثى لها, لأنني لا أعرف ما لا أعرفه« (32:25).
لكنه سرعان ما يعود في الصفحة التالية إلى إطلاق الصيغة الخادعة الآتية: »إذن (inde), يبدو لي أن الزمان هو مجرد انتشار وتمدد distentio, وإن لم أعرف انتشار ماذا, ولعل ي أتساءل عما إذا كان انتشار العقل نفسه وتمدده« (33:26). لماذا تجيء هذه الـ»إذن« – ونتيجة لأي شيء? ولماذا هذا الأسلوب الملتوي »لعلي أتساءل عما إذا كان… « في تأكيد القضية? مرة أخرى, إذا كان هناك من جوهر ظاهراتي لهذا التأكيد, فلا يمكن فصله عن البرهان بالخلف reductio ad absurdum الذي أقصى الافتراض الآخر: مادمت أقيس حركة جسم ما بالزمن لا بشيء سواه, أي مادام يمكن قياس زمن طويل بزمن قصير, وما دامت الحركة الفيزياوية لا تقدم وحدة قياس للمقارنة, وقد افترضنا تغير حركة النجوم, فيبقى إذن أن امتداد الزمن هو تمدد الروح وانتشارها. وبالطبع, لقد قال أفلوطين ذلك قبل أوغسطين, لكنه كان يفكر بروح العالم, أو بالنفس الكلية, لا بالنفس الإنسانية. وهذا هو السبب في أن كل شيء قد تمت تسويته, وكل شيء ترك في الفضاء المفتوح, بمجرد أن أطلقت هذه العبارة المفتاحية: روح الانتشار .distentio animi وما دمنا لم نقرن انتشار النفس وتمددها بجدل الحاضر ثلاثي الأطراف, فإننا لم نفهم أنفسنا بعد.
يتوجه الجزء الأخير من الكتاب الثاني بأسره (33:26 – 37:28) لتأسيس هذه الرابطة بين الموضوعتين الأساسيتين للبحث: بين الحاضر ثلاثي الأطراف, الذي حل اللغز الأول, أي لغز الكينونة التي تفتقر إلى الكيونة, وقضية انتشار العقل, التي تأتي لتحل اللغز الثاني, لغز امتداد شيء ليس له امتداد. ما يبقى, إذن , هو إدراك الحاضر ثلاثي الأطراف بوصفه انتشارا , وإدراك الانتشار بوصفه انتشار الحاضر ثلاثي الأطراف. تلك هي ضربة العبقرية في الكتاب الثاني من »اعترافات« أوغسطين, التي سيتابع أثرها كل من هو سرل وهيدغر وميرلوبونتي.
القصد والانتشار
لكي يخطو أوغسطين خطوته الأخيرة, فإنه يعود إلى تأكيد سابق (21:16 و27:21), لم يكن قد بقي معل قا حسب, بل بدا كأن هجمات الشكيين قد أطاحت به, ألا وهو أننا نقيس الزمن عند انقضائه, لا المستقبل الذي لم يوجد بعد, ولا الماضي الذي لم يعد موجودا , ولا الحاضر الذي ليس له امتداد, بل ؛انقضاء الزمن«. وفي هذا الانقضاء نفسه, في هذا الانتقال, يجب البحث عن تعدد الحاضر وتلاشيه معا .
إن وظيفة الأمثلة الثلاثة المحتفى بها عن صوت يتردد صداه, وصوت تردد صداه, وصوتين يترددان الواحد تلو الآخر, إنما تهدف إلى جعل هذا التلاشي يبدو وكأنه تلاشي الحاضر ثلاثي الأطراف.
تحتاج هذه الأمثلة إلى مزيد من الانتباه, لأن التنوع من أحدها إلى الآخر بالغ الدقة واللطافة.
المثال الأول (34:27): تأمل صوتا يبدأ بالتردد, وصوتا يستمر بالتردد, وصوتا يكف عن التردد. كيف نتحدث عنه? لكي نفهم هذا المرور, من المهم أن نلاحظ أنه مكتوب برمته في الزمن الماضي. فنحن لا نتحدث عن تردد صوت ما, إلا بعد أن يتوقف عن التردد. وفي هذه الحالة يتم الحديث عما »ليس بعد« (nondum) المستقبلي بصيغة الماضي ).future erat( وهكذا يتم الكلام عن اللحظة التي يتردد بها, وبالتالي عن حاضرها, بعد اختفائه, أي لا يمكن قياسها إلا بعد أن تكون قد تواصلت: »ولكن حتى حينئذ (sed et tunc), لم تكن ساكنة (non stabat), بل كانت تعبر (ibat) وتتحرك باستمرار (praeteribat) «. وهكذا فنحن نتحدث عن انقضاء الحاضر نفسه من خلال الزمن الماضي. وبدلا من الاحتماء بإجابة مريحة لحل اللغز, يبدو أن المثال الأول يعم قه. ولكن الاتجاه نحو البحث عن الحل يكمن, كما هي العادة دائما , في اللغز نفسه, تماما مثلما يكمن اللغز في الحل . وإحدى مزايا المثال أنه يمكننا من التوجه في هذا الاتجاه: »حقا , إنه ليحصل على امتداد في الزمن, وهو ينتقل من حال إلى حال, وبهذا الامتداد يمكن قياسه, لكن ليس في الزمن الحاضر, لأن الحاضر ليس له امتداد«. إذن, يجب البحث عن المفتاح فيما يتقضى, طالما أنه يتميز عن الحاضر الشبيه بالنقطة.
يستثمر المثال الثاني هذا الانقطاع, ولكنه يستثمره بالت-نويع على الافتراض (34:27). سوف يتم الحديث عن مرور الزمن, لا في الماضي, بل في الزمن الحاضر. فها هنا صوت آخر يتردد. دعونا نفترض أنه ما زال (adhue) يتردد: »إذا كان علينا أن نقيسه, فيجب أن نقيسه, وهو مستمر«. ها نحن إذن نتحدث عن توقفه في زمن المستقبل التام, وكأننا نتحدث عن مستقبل ماض : ؛إذ ما أن توقف الصوت عن التردد, حتى كان سيصير شيئا من الماضي, وإذا كان لم يعد موجودا , فلا يمكن قياسه«. إذن ي طرح سؤال »كم من الوقت« (sit quanta) في صيغة الحاضر. أين هي الصعوبة, إذن? إنها تنتج عن استحالة قياس المرور والانقضاء, وهو ما زال (adhuc) مستمرا . إذ من الضروري لشيء ما حين يتوقف أن تكون له بداية ونهاية, وبالتالي أن يكون هناك فاصل يمكن قياسه.
لكن لو كنا نقيس فقط ما توقف عن الوجود, فإننا نهوي مرة أخرى إلى الالتباس السابق. وسنكون قد عمقنا هذا الالتباس أكثر, إذا لم نكن نستطيع قياس الزمن الذي يمر , لا حين توقف, ولا حين يستمر . وإذا وضعنا هذه الحجة جانبا , فإن فكرة الزمن الذي يتقضى نفسها تبدو تراجعا نحو الظلال نفسها, كما تفعل فكرة المستقبل والماضي والحاضر الشبيه بالنقطة: »لذلك نحن لا نقيس المستقبل ولا الماضي ولا الحاضر ولا الزمن الذي يتقضى«.
من أين إذن نطمئن إلى أننا نقيس الزمن (الاحتجاج: »نحن, مع ذلك, نقيس الزمن« يظهر مرتين في هذا المقطع المثير), إذا كن ا لا نعرف كيف? وهل هناك طريقة لقياس الزمن الذي يتقضى حين توقف, وحين يستمر معا ? إلى هذا الاتجاه يوجه المثال الثالث خطى البحث حقا .
المثال الثالث(35:27) – ويدور حول إلقاء قصيدة عن ظهر قلب, ولكي نكون دقيقين فهي قصيدة »الله خالق كل شيء« (Deus creator omnium) المأخوذة من ترتيلة القديس أمبروز – يقدم تعقيدا أكبر من مثال الصوت المتواصل, وهو تحديدا تعاقب أربعة مقاطع طويلة وأربعة مقاطع قصيرة في داخل تعبير واحد, هو بيت شعري .(versus) وتعقيد هذا المثال يتطلب إعادة تقديم الذاكرة والاسترجاع اللذين حذفهما تحليل المثال السابق. هكذا يتم الربط في المثال الثالث وحده بين سؤال القياس وسؤال الحاضر ثلاثي الأبعاد. فتعاقب أربعة مقاطع قصيرة وأربعة مقاطع طويلة يقدم في الحقيقة عنصر مقارنة يلجأ مباشرة إلى الحواس: »أستطيع أن أقول ذلك, لأنني بنطق هذه المقاطع, أجدها جوهر الأمر بقدر ما أستطيع الاعتماد على الدليل الجلي في سمعي (quantum sensitur sensu manifesto )«. لكن أوغسطين يقدم الإحساس فقط, لكي يشحذ الالتباس, وينتقل إلى الحل, لا لكي يمو ه عليه بعباءة الحدس. فلو كان القصير والطويل لا يتحققان إلا عند المقارنة بينهما, فلن نكون قادرين على تركيبهما, كما نركب نبضتين على نبضة. يجب أن نكون قادرين على استبقاء (tenere) القصير, وأن نطابقه مع الطويل. لكن ما نستبقيه شيء كان قد توقف? وسيبقى الالتباس قائما بمجمله, إذا تحدثنا عن المقاطع نفسها, كما تحدثنا من قبل عن الصوت نفسه, أي بوصفها موجودات ماضية ومستقبلية. وينحل الالتباس لو تحدثنا, لا عن المقاطع التي لم تعد توجد, ولا التي لم توجد بعد, بل عن انطباعاتها في الذاكرة, وعلاماتها في التوقع: »لذلك لا يمكن أن تكون المقاطع هي نفسها (ipsas) ما أقيسه, مادامت لم تعد توجد. ولا بد من أنني أقيس شيئا ما يظل ثابتا (in-fixum manet) في ذاكرتي«.
ها نحن نجد مرة أخرى حاضر الماضي, الموروث من التحليل الذي انتهى به اللغز الأول, ومع هذا التعبير نجد مصاعب الصورة الانطباعية, أو الأثر (vestigium) جميعا . لكن الفائدة التي اجتنيناها, مع ذلك, مهولة. ونحن نعرف أن قياس الزمن لا يدين بشيء إلى الحركة الخارجية. فضلا عن ذلك, فقد وجدنا في داخل العقل نفسه العنصر الثابت الذي يسمح لنا بأن نقارن بين مدد طويلة من الزمن, ومدد قصيرة من الزمن. ومع الصورة الانطباعية لم يعد الفعل »يتقضى« (transpire) هو المهم – بل الفعل »يبقى«.(manet) وبهذا المعنى ينحل اللغزان معا : لغز الوجود واللاوجود, ولغز قياس ما ليس له امتداد. فمن ناحية لقد عدنا إلى أنفسنا: »في داخل عقلي, إذن, أقيس الأشياء« (36:27). كيف ذلك? بقدر ما يبقى الانطباع, بعد انقضاء الأشياء ومرورها, قائما في العقل من أثر الأشياء التي تتقضى: ؛فكل ما يحدث يترك فيه انطباعا , وهذا الانطباع يبقى, بعد أن يكف الشيء نفسه عن الوجود. فما أقيسه هو الانطباع, ما دام حاضرا , لا الشيء نفسه الذي ي حد ث الانطباع, وهو يتقضى ويعبر«.
يجب ألا نظن أن اللجوء إلى الانطباع ي نهي البحث. إذ لم تسدد فكرة روح الانتشار distentio ما عليها من ديون, ما دامت سلبية الانطباع لم توضع في مقابل فاعلية العقل الممتدة في الاتجاهات المعاكسة, بين التوقع والذاكرة والانتباه ولا يمكن أن ي ن ش ر وي مد إلا عقل ممتد في اتجاهات مختلفة كهذه.
ويدعونا الجانب الفعال من العملية إلى أن ننظر مجددا في المثال السابق عن الإنشاد, ولكن في حركيته هذه المرة. فالتأليف يعني أصلا الثقة بالذاكرة, يعني البدء, يعني الاستمرار, وهذه كل ها عمليات فعالية تعتمد على سلبية الصور العلامية والصور الانطباعية. لكننا قد نخطئ في تقدير دور هذه الصور, إذا أخفقنا في التأكيد على أن الإنشاد فعل ينتقل من توقع يلتفت في البداية إلى القصيدة بأسرها, ثم يتحول نحو ما يبقى من القصيدة, حتى (donec) تكتمل العملية. وفي هذا الوصف الجديد لفعل الإنشاد يغي ر الحاضر معناه. فهو لم يعد نقطة, ولا حتى نقطة عبور وانقضاء, بل هو قصد حاضر .(27:36) (praesens intention) فإذا استحق الانتباه أن ي دعى بهذه الطريقة قصدا , فذلك بقدر ما يصير المرور من خلال الحاضر مرورا فع الا . فليس الحاضر معبرا وحسب, بل هو »عقل الإنسان اليقظ, الذي هو حاضر, حين يحيل المستقبل إلى الماضي, فيزداد الماضي اتساقا كل ما تقلص المستقبل, حتى يتم امتصاص المستقبل امتصاصا كاملا , ويصير كله ماضيا« (63:27). وبالطبع لم تلغ الصورة شبه المكانية للحركة من المستقبل إلى الماضي من خلال الحاضر. وليس من شك في أن لها ما يسو غ السلبية التي تصحب العملية بأسرها. لكننا لم يعد يضل لنا تمثيل مكانين, يمتلئ أحدهما كل ما فرغ الآخر, ما دمنا قد نسبنا سمة حركية لهذا التمثيل, ومي زنا بين تداخل الفعل والانفعال الذي يتخفى فيه. إذ لا يمكن في واقع الأمر, أن يكون هناك مستقبل يتقلص, ولا ماض يتسع, دون وجود »العقل الذي ينظم هذه العملية« (37:28). هناك ثلاثة وقائع فعلية actions تصحب ظل السلبية, وتعب ر عنها الآن ثلاثة أفعال لغوية .verbs فالعقل »يؤدي ثلاث وظائف, هي وظائف التوقع (expectat), والانتباه adtendit(, وهذا الفعل يذكرنا بالقصد الحاضر intention praesens), والذاكرة (meminit) «. والنتيجة هي أن »المستقبل الذي يتوقع, يمر من خلال الحاضر (transeat), الذي ينتبه له, نحو الماضي, الذي يتذكره«. فالإحالة تعني أيضا المرور من خلال تواصل المفردات هنا تذبذبها بين الفاعلية والسلبية. يتوقع العقل ويتذكر, لكن التوقع والذاكرة هما ؛في« النفس بوصفهما صورا انطباعية وصورا علامية. وتظهر المقابلة في الحاضر. فالحاضر, من جهة, بمقدار ما يتقضى, يتقلص على نقطة. وهذه هي الصورة القصوى لافتقار الحاضر إلى الامتداد. ولكنه بمقدار ما يحيل يمر عبر الانتباه, الذي ينبغي عليه المرور به, ليصل إلى الحالة القصوى التي ليس بعدها من مزيد. وإذن يصح القول إن »انتباه العقل يتواصل«.
لا بد من تمييز هذا التفاعل بين الفعل والانفعال في التعبير المعقد: »توقع طويل للمستقبل« الذي يجعله أوغسطين بديلا للفكرة العبثية عن »مستقبل طويل«. ويصح الشيء نفسه على التعبير: »تذكر طويل للماضي« الذي يحل محل فكرة »ماض طويل«. ففي النفس وحدها, يمتلك التوقع والذاكرة, بوصفهما انطباعين, الامتداد. غير أن الانطباع لا يكون في النفس إلا حين »يفعل« العقل, أي حين يتوقع وينتبه ويتذكر.
إذن, أين يكمن الانتشار? يكمن في المقابلة بين التوترات الثلاثة. فإذا كانت الفقرات (33:26 – 40:30) تشك ل الكنز في الكتاب الثاني, فإن الفقرة (38:28), دون سواها, هي جوهرة التاج في هذا الكنز. ومثال الأنشودة, الذي ينطوي على كون الصوت يستمر ويتوقف, وعلى المقطعين الطويل والقصير, هو هنا أكثر من مجرد تطبيق ملموس. فهو يؤشر النقطة التي تقترن فيها نظرية الانتشار بنظرية الحاضر ثلاثي الأطراف. ونظرية الحاضر ثلاثي الأطراف, التي تعاد صياغتها من خلال فكرة القصد ثلاثي الأطراف, تجعل الانتشار distentio ينبعث من القصد intention الذي يتشظى إربا إربا . ولا بد لنا من اقتباس القطعة برمتها:
؛لنفترض أنني أ ريد إنشاد مزمور أعرفه. قبل أن أبدأ, تنشغل ملكة توقعي به كله. لكني ما أن أكون قد بدأت, حتى يكون جزء من المزمور قد أزيح من منطقة التوقع وأحيل إلى الماضي, الذي صار يشغل ذاكرتي الآن, وحتى ينقسم مجال الفعل الذي أقوم بتأديته بين ملكتين: الذاكرة والتوقع, تلتفت إحداهما إلى الجزء الذي فرغت لتوي من إنشاده, وتتطلع ثانيتهما إلى الجزء الذي لم أنشده بعد. غير أن ملكة الانتباه لدي حاضرة كل هذا الوقت, ومن خلالهما يمر ما كان مستقبلا في عملية صيرورته ماضيا . وحين تستمر العملية (agitur et agitur) تنتشر منطقة الذاكرة في الانسجام, وتتقلص منطقة التوقع, حتى يتم امتصاص توقعي برمته. ويحدث هذا حين أكون قد فرغت من إنشادي, وانتقل كله إلى نطاق الذاكرة« (38:28).
موضوعة هذه الفقرة كلها هو جدل التوقع والذاكرة والانتباه, حيث لم يعد ي نظ ر إلى أي منهم منعزلا عن البقية, بل يتفاعل كل منهم مع الآخر, وهكذا لم تعد القضية مسألة صور انطباعية أو صور استباقية, بل قضية فعل ي قص ر التوقع ويمد الذاكرة. وينقل لنا مصطلح الفعل (action), والتعبير الفعلي: يستمر (agitur), اللذان يتكرران تكرارا صريحا , الباعث النابض الذي يغطي العملية بأسرها. ينشغل التوقع والذاكرة معا , فينصرف التوقع إلى كامل القصيدة قبل بداية الأنشودة, وتنصرف الذاكرة إلى الجزء الذي تقضى توا من الأنشودة, أما الانتباه فيكمن انشغاله, بالتمام والكمال, في »النقلة« الفعالة لما كان مستقبلا باتجاه ما سيصير ماضيا . و هذا الفعل المؤلف من التوقع الذاكرة والانتباه هو وحده الذي »يستمر«. فليس الانتشار, إذن, سوى التحو ل في تفاوت جهات الفعل الثلاث: ؛ينقسم مجال الفعل الذي أقوم بتأديته بين ملكتين: الذاكرة والتوقع, تلتفت إحداهما إلى الجزء الذي فرغت لتوي من إنشاده, وتتطلع الثانية إلى الجزء الذي لم أنشده بعد«.
هل يرتبط الانتشار distintio, أي نحو من الارتباط, بسلبية الانطباع? قد يبدو الأمر كذلك, إذا قيس هذا النص الجميل, الذي يبدو أن الانفعال اختفى عنه, بالمخطط التحليلي الأول لفعل الإنشاد(36:27). يبدو الانطباع هناك وكأنه ما زال ي فهم على أنه الجانب المعكوس السلبي لـ»توتر« الفعل نفسه, أي الإنشاد, حتى حين يكون صامتا , فيتبقى شيء ما, ما دمنا نستطيع أن نستظهر القصائد والأشعار والكلمات من أي نوع في عقولنا. »فالحاضر فعلا هو عقل الإنسان اليقظ, وهو الذي يحيل المستقبل إلى ماض« (36:27).
وهكذا, إذا قارنا سلبية التأثير بسلبية روح الانتشار, وأعتقد أننا نستطيع ذلك, فلابد من أن نقول إن المقاصد الزمانية الثلاثة منفصل بعضها عن بعض, بحيث تجد الفاعلية القصدية نظيرها في السلبية التي تتولد عن هذه الفاعلية نفسها, وسنسميها بسبب افتقارنا إلى اسم أفضل, بالصورة الانطباعية أو الصورة العلامية. فليست هذه الأفعال الثلاثة هي التي لا تتطابق حسب, بل أيضا الفاعلية والسلبية, التي تعارض إحداهما الأخرى, حتى لا تقول شيئا عن التنافر بين السلبيتين, أي كون إحداهما ترتبط بالتوقع, والثانية بالذاكرة. ولذلك كل ما زاد العقل في جعل نفسه قصدا (intentio), زادت معاناته من الانتشار .(distentio)
هل تم حل التباس (aporia) الزمن الطويل والزمن القصير? نعم, إذا قبلنا جملة أمور:(1) إن ما نقيسه ليس الأشياء المستقبلية ولا الأشياء الماضية, بل التوقع والتذكر لهما, (2) إن هذه التأثرات والانفعالات تقدم مكانية قابلة للقياس ذات نوع فريد, (3) إن هذه التأثرات تشبه الجانب المعكوس من فاعلية العقل الذي يستمر , (4), وأخيرا , إن هذا الفعل نفسه ثلاثي الأطراف, وبالتالي فهو ينتشر حيثما وأينما يتم الانشغال به بتوتر.
لكن أية مرحلة في هذا الحال, إذا أردنا الحقيقة, تستمر لغزا .
كيف نستطيع قياس التوقع والذاكرة دون الاستناد إلى ؛نقاط الإحالة« التي تمي ز المكان الذي قطعه الجسم المتحرك, وبالتالي, دون أن نأخذ بالاعتبار التغير الفيزياوي الذي يولد مسار الجسم المتحرك في المكان?
أي نمط مستقل من المدخل لدينا هنا إلى تمدد الانطباع, بحث صار يعتبر خالصا ؛في« العقل?
هل لدينا أية وسيلة أخرى للتعبير عن الارتباط بين التأثر (affectio) والقصد (intentio), خارج التحريك التطوري لاستعارة الأمكنة التي يقطعها التوقع والانتباه والذاكرة? من هذه الناحية تبدو استعارة نقلة الأحداث والأفعال عبر الحاضر أمرا لا يمكن تخطيه. وهي استعارة جيدة, واستعارة حية, حيث إنها تمسك معا بفكرتي »الانقضاء« passing away, بمعنى التوقف, و»الانسراب« passing through, بمعنى الإحالة. وما من مفهوم, فيما يبدو, »يتخطى« (aufhebt) هذه الاستعارة الحية.
تشك ل القضية الأخيرة, إذا جازت لنا تسميتها قضية, أكثر الألغاز استغلاقا , وهي بأي ثمن يمكننا أن نقول إن أوغسطين يحل التباس القياس: أي كون النفس »تنشر« نفسها, حين تشغل نفسها – هذا هو اللغز المحير.
غير أن حل التباس القياس يكون ثمينا بقدر ما ي فلح في أن يكون لغزا بالضبط. واكتشاف أوغسطين الذي لا يقدر بثمن, أنه باختزاله امتداد الزمن إلى انتشار النفس, قد قرن هذا التمدد والانتشار بالانزلاق أو الانسراب الذي لن يكف أبدا عن العثور على طريقة في قلب الحاضر ثلاثي الأطراف – بين حاضر المستقبل, وحاضر الماضي, وحاضر الحاضر. وبهذه الطريقة يرى التنافر يظل ينبثق عن انسجام مقاصد التوقع والانتباه والذاكرة.
وعن لغز التأمل في الزمن هذا, يجيب الفعل الشعري في بناء الحبكة emplotment. لكن كتاب فن الشعر« لأرسطو لا يحل هذا اللغز على المستوى التأملي, بل هو في الحقيقة لا يحله على الإطلاق. بل يشغله – شعريا – بتوليد صورة مقلوبة عن التنافر والتوافق. وبخصوص هذا الحل الجديد يترك لنا أوغسطين كلمة تشجيع. إذ يتحول فجأة المثال الهش عن إنشاد الأنشودة عن ظهر قلب, مع نهاية البحث, إلى نموذج قوي للأفعال الأخرى, التي تجرب فيها النفس, من خلال انشغالها بنفسها, الانتشار: »ما يصح على المزمور بمجمله, يصح أيضا على جميع أجزائه, وجميع مقاطعه. يصح على أي فعل أطول زمنا يمكن أن أنشغل به, ولا يشك ل إنشاد المزمور سوى جزء صغير منه. بل يصح على حياة الإنسان بأسرها, التي تشكل أفعاله كل ها أجزاءها. يصح على تاريخ الإنسانية كله, الذي تشك ل حياة الإنسان جزءا منه« (38:28). هكذا يمتد نطاق السرد هنا, بكل ما ينطوي عليه من إمكانات, من قصيدة بسيطة, إلى قصة حياة كاملة, ثم إلى تاريخ كوني. وبهذه الاستنتاجات التي تم اقتراحها هنا فقط, ي عنى العمل الحاضر.
المقابلة مع الأبدية
علي أن أجيب عن الاعتراض الذي تم ت صياغته عند بدء هذه الدراسة. كان الاعتراض يفن د قراءة الكتاب الثاني من ؛الاعترافات«, الذي يعزل عزلا مصطنعا المقاطع (17:14 – 37:28) عن التأمل الكبير في الأبدية الذي يؤطرها. ولم آت إلا بإجابة جزئية عن هذا الاعتراض, حين أكدت الاستقلال الذي يمتلكه هذا البحث بسبب مواجهاته المتكررة مع المحاججات الشكية التي كانت معنية في الجوهر بقضية الزمان. من هذه الناحية, فإن أطروحة كون الزمان »في« النفس, ويعثر »في« النفس على مبدأ قياسه, هي أطروحة كافية في ذاتها بقدر ما تجيب عن الالتباسات الكامنة في قلب فكرة الزمن. ولا تتطلب منا فكرة »روح الانتشار«, لكي نلم بها, سوى أن نقابلها بالقصد intentio الكامن في »فعل« العقل. لكن شيئا ما يضيع من المعنى الكامل لروح الانتشار (distentio animi), الذي تحمله المقابلة مع الأبدية وحدها. لكن ما يضيع لا يهم ما سوف أسميه بالمعنى الكافي لروح الانتشار. وأعني المعنى الذي يكفي للإجابة عن التباسات اللاوجود والقياس. فما يضيع ينتمي إلى رتبة مختلفة. وأنا أمي ز ثلاث طرق رئيسية يؤثر فيها التأمل في الأبدية على التفكير في الزمن.
وظيفته الأولى أن يضع التفكير بالزمن داخل أفق فكرة محد دة تكرهنا على التفكير بالزمن وبما ليس زمنا . ووظيفته الثانية أن يكثف تجربة الانتشار على المستوى الوجودي. ووظيفته الثالثة أن تدعو هذه التجربة إلى تجاوز نفسها بالانتقال في اتجاه الأبدية, وبالتالي أن تكشف عن تراتبية داخلية تتعارض مع افتناننا بتمثيل الزمن الخطي المتتابع.
وليس من ريب في أن تأمل أوغسطين يهتم اهتماما لا يقبل الانفصام بالأبدية والزمن. إذ يبدأ الكتاب الثاني من ؛الاعترافات« بالسطر الأول من »سفر التكوين« (في إحدى النسخ اللاتينية التي كانت معروفة بأفريقيا في الزمن الذي كتبت فيه »الاعترافات«: »في البدء كان الله… « (in principio fecit Deus…) أضف إلى ذلك أن التأمل الذي يغطي الفصول الأربعة عشر الأولى من الكتاب الثاني يربط على نحو لا فكاك منه الثناء على ناظم المزامير بنوع من التفكر الذي هو في الجزء الأكبر منه أفلاطوني وأفلاطوني جديد. ولا يترك مثل هذا التأمل أي مجال لاستمداد الأبدية, بأي معنى مفهوم للكلمة, من الزمن. وما ي قد م, ويعت رف به, وي فكر فيه, هو بجر ة قلم, مقابلة الأبدية بالزمن. ولا يتناول عمل الفكر على الإطلاق قضية هل توجد الأبدية أو لا توجد. إن أسبقية الأبدية على الزمن – بمعنى أن تظل الأسبقية أمرا محسوما – معطاة في المقابلة بين شيء ما »يوجد ولم ي خلق«, وشيء آخر له قبل وبعد, أي أنه عرضة »للتغير والتجدد« (6:4). وتجيء هذه المقابلة على شكل صيحة انذهال: »الأرض والسماء أمام أعيننا. والحقيقة أنهما تدلان على أنهما مخلوقتان, لأنهما عرضة للتغير والتجدد«. ويؤكد أوغسطين: »ونحن نعرف ذلك«. ما أن يقول لنا ذلك حتى نرى أن عمل الفكر ينتج من المصاعب التي تتولد من هذا الاعتراف بالأبدية: »دعني أ نصت لأفهم معنى هذه الكلمات: في البدء خلقت السماوات والأرض« (5:3). (تكررت هذه المسألة في بداية 7:5). بهذا المعنى تشبه الأبدية الزمن شبها تاما . ليست هناك أية مشكلة في كونها توجد, لكن ما يحي رنا هو كيف توجد, وكيف تتصرف. ومن هذه الحيرة تنبعث الوظيفة الأولى لتوكيد الأبدية في علاقتها بالزمن: وظيفة الفكرة المحد دة.
تنتج هذه الوظيفة عن اقتران الاعتراف بالتساؤل طوال الفصول الأربعة عشر الأولى من الكتاب الثاني من »الاعترافات«. فبالإضافة إلى السؤال الأو ل: »لكن بأية كيفية خلقت السماء والأرض? « (7:5), يأتي الجواب, وبروح الثناء نفسها: »بكلمتك وحدها خلقتهما«. ومن هذا الجواب يثار سؤال جديد: »لكن كيف تكلمت ? « (8:6). ويكون الجواب, وبالاطمئنان نفسه, بأبدية الكلمة: Verbum (في كلمتك يقال كل شيء (omnia) في وقت واحد ومرة واحدة (simul), لكن في الأبد والسرمد .(sempiterne) ولو لم يكن الأمر كذلك, لكانت كلمتك عرضة للزمان والتغير, ولما كانت أبدية حقا , وخالدة حقا« (9:7). ثم يعترف: »إني لأعرف ذلك, يا رباه, وأحمدك على هذه المعرفة« (9:7).
دعونا إذن نتفحص أبدية الكلمة هذه. حيث يتم الخوض في مقابلة مزدوجة هنا هي مصدر للسلبية فيما يتعلق بالزمن, قبل أن تكون مصدر مصاعب جديدة في الدرجة الأولى, يعني القول إن الأشياء مخلوقة بالكلمة إنكارا لكون الله قد خلق الأشياء على نحو ما يخلق الفنان الأشياء من أشياء أخرى سواها: »لم تخلق العالم في عالم , إذ لم يكن حتى لحظة خلق العالم, مكان يمكن أن يخلق فيه« (7:5). هنا يتم التهيؤ للخلق من العدم (exnihilo), ومن هنا فصاعدا , يصيب هذا العدم الأصلي الزمان بنقص أنطولوجي.
مع ذلك, فإن المقابلة الخادعة, التي تولد سلوبا جديدة, ومصاعب جديدة, هي التي تضع الكلمة الإلهية (Verbum) في مقابل الصوت البشري (Vox) (فالكلمة)« الخالقة ليست كالصوت البشري الذي يبدأ وينتهي, أو ليس كالمقاطع الصوتية التي تسمع ثم »تتطاير« (8:6). يتعذر إرجاع »الكلمة« والصوت إلى بعضهما, تماما كما يتعذر في الوقت نفسه تجزئة الأذن الداخلية التي تسمع الكلمة وتتلقى تعاليم المعلم الداخلي, والأذن الخارجية التي تسمح للكلمات (verba) بأن تدخل, وتمر رها إلى الفكر اليقظ. فالكلمة (Verbum) تبقى, والكلمات البشرية (Verba) تتلاشى. وبهذه المقابلة (والمقارنة المصاحبة لها) يوصم الزمن مرة أخرى بالطبيعة السلبية: فإذا كانت »الكلمة« (Verbum) تبقى, فلا ؛وجود للكلمات البشرية (verba) على الإطلاق, لأن ها تتطاير وتضيع« (8:6). وبهذا المعنى تتداخل وظيفتا اللاوجود.
من هنا لن يتوقف توالي السلب عن مصاحبة توالي التساؤل الذي يعتمد بدوره على الاعتراف بالأبدية. وفي واقع الأمر, فإن السؤال ينبثق مرة أخرى من الإجابة السابقة: »لقد خلقتهما بكلمتك وحدها, لا بطريقة أخرى. لكن (nec tamen) الأشياء التي تخلقها بكلمتك لا تأتي إلى الوجود في زمن واحد ووحيد, وليست بأبدية أيضا« (9:7). بعبارة أخرى, كيف يمكن خلق كائن زمني بالكلمة الأبدية ومن خلالها? ؛لم الأمر كذلك, يا إلهي ومولاي? إنني لأفهم بعض الفهم, لم هو كذلك, لكنني لا أستطيع الإعراب عنه بالكلمات (10:8). فالأبدية, بهذا المعنى, مصدر لا يقل ألغازا عن الزمن.
يجيب أوغسطين عن هذه المعضلة بنسبة ؛عقل أبدي« للكلمة, يضع بدءا ونهاية لوجود الأشياء المخلوقة. لكن هذه الإجابة تنطوي على بذرة لمعضلة كبرى سوف تشغل أوغسطين طويلا وهو يتأمل فيما كان قبل الخلق. وفي الحقيقة, فإن الطريقة التي يضع فيها العقل الأبدية بداية أو نهاية للشيء المخلوق, تعني أنه يعرف اللحظة (quando) التي ينبغي فيها لهذا الشيء أن يبدأ أو ينتهي. وتتركنا هذه اللحظة الزمنية في بحر الأسئلة مرة أخرى.
لا بد أو لا من قبول السؤال- الذي أثار المانوييين وبعض الأفلاطونيين- واحترامه, وإن كان مفكرون مسيحيون آخرون قد وجدوه عقيما ومبعث سخرية.
هنا يواجه أوغسطين, إذن, محاججة خصمه ثلاثية الأطراف: »ماذا كان يفعل الله قبل (antequam) أن يخلق السماء والأرض? «, »إذا كان في راحة.. ولا يفعل شيئا , فلم لم يستمر في عدم الفعل إلى الأبد, مثلما كان قد فعل ذلك في الماضي? «, ؛لكن إذا كانت إرادة الله في إيجاد الخلق موجودة منذ الأزل, فلم لم يكن إيجاده الخلق أزليا أيضا ? « (12:10). سنهتم, ونحن نمضي في تفحص إجابات أوغسطين, بتطور السلبية الأنطولوجية التي أث رت في تجربة روح الانتشار والتمدد distertio animi, التي هي نفسها سلبية على المستوى النفسي.
قبل طرح إجابته الشخصية عن هذه المعضلات, التي تنتج, مرة أخرى, عن الاعتراف بالأبدية, يصف ي أوغسطين فكرته عن الأبدية للمرة الأخيرة. الأبدية هي »ما يبقى بلا انتهاء« (semper stans), في مقابل الأشياء التي »لن تبقى أبدا«. ويكمن هذا »البقاء« (stillness) في حقيقة أنه »لا شيء في الأبدية يتحرك نحو الماضي, بل كل ما فيها حاضر (totum esse praesens) في حين لا يكون الزمان حاضرا دفعة واحدة أبدا« (13:11). هنا تبلغ السلبية أقصى ذروة لها. فمن أجل دفع التأمل في روح التمدد والانتشار distentio animi إلى أقصى ما يمكن, باتجاه انسراب الحاضر ثلاثي الأطراف, لابد من مقارنتها بالحاضر الذي لا ماضي له ولا مستقبل. وهذا السلب المتطر ف يكمن في صلب إجابته عن المحاججة الواضحة الطيش.
إذا كان أوغسطين يتكبد هذا العناء في تفنيد هذه المحاججة, فلأنها تشك ل التباسا ناتجا عن قضية الأبدية نفسها.
الإجابة عن الصياغة الأولى للمحاججة صريحة: »قبل أن يخلق الله السماء والأرض, لم يكن قد أوجد شيئا« (41:21). ولا شك في أن هذا الجواب يترك افتراض وجود »قبل« سابقة بلا مساس, لكن الأمر المهم فيه هو أن هذه »القبل« يتخللها العدم. إن »عدم إيجاد العدم« هو »القبل« التي تسبق الخلق. لذلك لا بد من أن نفكر بالعدم, من أجل أن نفك ر بالزمن بوصفه بدءا وانتهاء . وعلى هذا النحو, فإن الزمان كان, وسيبقى, محوطا بالعدم.
الإجابة عن الصياغة الثانية للمحاججة أكثر لفتا للانتباه. ليس من »قبل« تسبق الخلق, لأن الله خلق الزمان مع خلق العالم: »أنت صانع الزمن كله« (15:13). لا بد من أنك وجدت ذلك الزمن, إذا لم يكن بمستطاع الزمن أن يتقضى قبل إيجادك إياه«. بضربة واحدة يتخلص الجواب من السؤال: »إن لم يكن هناك زمان, فلن يكون هناك »بعدئذ« (non erat tunc). وهذه »اللابعد« سلب خالص, مثل ؛عدم إيجاد العدم«. هكذا يؤتمن الفكر على مهمة تكوين فكرة غياب الزمن, بقدر الوسع, بوصفه ما يتقضى. ولا بد من التفكير بالزمن بوصفه انتقاليا , حتى تتم تجربته بوصفه انتقالا بالكامل.
لكن أطروحة كون الزمان قد خلق مع خلق العالم – وهي الأطروحة التي نجدها أصلا عند أفلاطون في »طيماوس« – تترك المجال مفتوحا أمام إمكان وجود أزمنة أخرى قبل الزمان. (يذكر »الاعترافات« (2, 40:30) هذا الإمكان إما بوصفه افتراضا تأمليا , أو للإبقاء على البعد الزمني الخاص بالكائنات الملائكية). ومهما يكن الأمر, فإن أوغسطين يلوي هذه الأطروحة ليا على حسب برهان الخلف, لكي يواجه هذا الإمكان. إذ حتى لو كان هناك زمان قبل الزمان, فإن ذلك الزمان سيكون مخلوقا بالضرورة, ما دام الله خالق الأزمنة كل ها. وهكذا فإن الزمان الموجود قبل الخلق كل ه أمر لا يمكن التفكير فيه. ويكفي هذا والبرهان لطرد افتراض عطالة الله قبل الخلق. فالقول إن الله كان عاطلا يعني القول بوجود زمن لم يفعل الله فيه شيئا على الإطلاق, قبل خلقه العالم. وبالتالي, فليس من المناسب استعمال المقولات الزمنية لوصف »ما – قبل – العالم«.
وتوف ر الإجابة عن الصياغة الثالثة لمحاججة الخصم لأوغسطين فرصة أن يضيف اللمسة الأخيرة لمقابلته بين الزمن والأبدية. فلطرد أية فكرة عن »التجدد« في إرادة الله, لابد من إعطاء فكرة »القبل« السابقة على الخلق معنى يستبعد كل زمانية. يجب التفكير بالسبق بوصفه تفو قا وامتيازا , بوصفه الذروة العليا: »ففي الأبدية التي تعلو celsitudine على الزمن, لأنها حاضر لا ينتهي, تجد نفسك قبل الماضي كله, وبعد المستقبل كله« (16:13). بل يزداد السلب حدة: »سنوات عمرك حاضرة كلها أمامك دفعة واحدة, لأن ها في »لبث« (simul stant) دائم«. وهذا اللبث, شأنه شأن اليوم الذي يتحدث عنه »سفر الخروج« يفترض معنى لازمنيا لما يتجاوز ولا يستبق. فالانقضاء أقل من التجاوز.
إذا كنت قد رك زت على السلبية الانطولوجية التي تكشف عنها المقابلة بين الأبدية والزمن في التجربة النفسية لروح الانتشار distentio animi, فليس ذلك بالتأكيد من أجل إلحاق فكرة أوغسطين عن الأبدية بوظيفة الفكرة المحد دة عند »كانط«. إن التقاء التراث العبراني بتراث الأفلاطونية في تأويل الإصحاح الثالث من سفر الخروج, حيث يقول الرب: [ (ego sum qui sum)أكون الذي أكون], بحسب الترجمة اللاتينية, لا يتيح لنا أن نؤول التفكير بالأبدية بوصفه تفكيرا يفتقر إلى موضوع. أضف إلى ذلك أن اقتران الثناء بالتأمل يشهد على كون أوغسطين لا يحصر نفسه بالتفكير بالأبدية. فهو ينكب على »الأبدي«, ويخاطب الأبدي باستخدام ضمير المخاطب. بينما ي علن الحاضر الأبدي عن نفسه في صيغة ضمير المتكلم, لا الغائب, أكون sum, وليس: يكون .esse هنا أيضا يكون التأمل جزءا لا يتجزأ من التعر فعلى من يعلن عن نفسه. وفي هذا يكون جزءا لا يتجزأ من الترنيمة. وبهذا المعنى يمكننا الحديث عن تجربة الأبدية لدى أوغسطين, ولكن مع بعض التحفظات التي سنأتي على ذكرها. لكن تجربة الأبدية هذه على وجه التحديد تكتسب وظيفة الفكرة المحد دة, حين يقارن الفكر الزمان بالأبدية. وأثر ارتداد هذه المقارنة في التجربة الحية لروح الانتشار والتمدد (distentio animi) هو الذي يجعل فكرة الأبدية فكرة محد دة أمام الأفق الذي تتلقى فيه تجربة »روح الانتشار«, على المستوى الأ نطولوجي, العلامة السلبية على النقص أو الخلل في الوجود.
والترجيع (le retentissement) – كما يعبر عنه يوجين منكوفسكي – في هذا السلب الذي يتم التفكير فيه بالتجربة الحية للزمانية سيقنعنا أن غياب الأبدية لا يمث ل حدا يمكن التفكير فيه حسب, بل هو نقص ي ح س في قلب التجربة الزمانية. وهكذا تصير الفكرة المحد دة أسى يليق بالسلب.
والمقابلة بين الأبدية والزمن لا تنحصر بإحاطة تجربتنا عن الزمن بالسلبية, كما هو الحال حين نقرن فكرتنا عن الزمن بما ليس زمنا . بل إن هذه التجربة ما برحت تتخللها السلبية. وبتكثيف تجربة الانتشار بهذه الطريقة على المستوى الوجودي, ترتفع إلى مستوى النحيب والنشيج (lamentation) وتنطوي الصلاة المحببة في (3:2) على خلاصة هذه المقابلة الجديدة التي ذكرناها سابقا . إن هذه الترنيمة تنطوي على العويل والنشيج, لتنقلهما »الاعترافات« معا إلى مستوى اللغة.
وعلى النقيض من غشاوة بقاء الأبدية, يعرض النشيج, دون شعور بالعار, لمشاعر المؤلف: »ما هذا النور الذي يقدحه وهجه النبيل في قلبي, فيجعلني أرتعد ويلا , ولكنه يلهبني بدفئه? أرتعد لشعوري بمقدار اختلافي عنه, لكني بمقدار ما أ شبهه أتوهج بناره« (11:9). وفي سياق قص »الاعترافات«, أصلا , وحين يسرد أوغطسين خيبة مسعاه في الانجذاب الأفلوطيني, يشرع بالنشيج: »واكتشفت أني في منأى عنك عند منطقة المباينة (in regione dissimilitudinis))(7) , 61:01). وهذا التعبير, المستمد من أفلاطون (السياسي 263), الذي انتقل إلى البيئة المسيحية من خلال الوسيط الأفلوطيني (التساعية الأولى, 13:8, 16-17) يصير ذا دلالة صادمة هنا. فهو لم يعد يشير, كما كان لدى أفلوطين, إلى السقوط في الحمأة المظلمة, بل هو يسم, بدلا من ذلك, الاختلاف الأنطولوجي الجذري الذي يفصل المخلوق عن الخالق, الاختلاف الذي تكتشفه النفس في حركة عودتها بالتحديد إلى مصدرها, وبجهدها نفسه لمعرفة أصلها.
لكن إذا كانت القدرة على تمييز الشبيه عن المختلف تنتمي إلى الفكر الذي »يقارن« (8:6), فإن ترجيعه يؤثر تأثيرا عميقا في مجال الشعور وعمقه. ومن وضع تحليل الزمن في تأمل العلاقة بين الأبدية والزمن (93:92 – 41:31) تقترح علينا تأويلا أخيرا لروح الانتشار تسمه بنبرة الثناء والنشيج نفسها, تماما كما تسمه الفصول الأولى من الكتاب. فلم تعد ؛روح الانتشار والتبدد« distentio animi لتقدم ؛حلا« لالتباس قياس الزمن. بل هي الآن تعب ر عن الطريقة التي تتمزق فيها النفس, المستمد ة من بقاء الحاضر الأبدي, إربا إربا : ؛لكن الظفر بعطفك أعز علي من الحياة نفسها. وأرى الآن حياتي وقد تبددت في الملاهي (distentio est vita mea9)) .(92:93) وفي الحقيقة فإن جدل القصد – التبدد – الابتغاء – الانتشار, السعي – التمدد: intentio-distentio], وهو الجدل الدائر في داخل الزمان نفسه, هو الذي يؤخذ مرة أخرى من خلال المقابلة بين الأبدية والزمن. وفي حين يصير الانتشار (أو التبدد distentio) رديفا للتبعثر لدى كثيرين, ولتشرد آدم القديم, يميل القصد (أو السعي intentio) إلى المطابقة مع انصهار الإنسان الداخلي (حتى أنصهر معك في واحد). ولذلك لم يعد القصد استباقا لمجمل القصيدة قبل إلقائها, وهو ما ينقلها من المستقبل نحو الماضي, بل صار رجاء آخر الكائنات, إلى حد أن الماضي, الذي يجب نسيانه, لا يكون مستودع الذاكرة, بل شعار آدم القديم, على وفق ما يقوله القديس بولس في رسالته إلى الفلبيين: ؛مبد دا , ناسيا ما تركته خلفي, أمتد وأتطلع إلى الأمام, (non distentus sed extentus), لا إلى ما يتربص أمامي في هذه الحياة, وسيتلاشى بالتأكيد, بل لغرض أبدي. إنني ساع (intent) نحو هذا الغرض الواحد من دون أن أبد د نفسي بأغراض أخرى (secundum distentionem)«. تتكرر الكلمات نفسها: [distentio الانتشار, التمدد, التبدد] و [intentio القصد, الابتغاء, السعي], لكنها لم تعد في سياق تأملي محض عن الالتباس والبحث, بل في جدل الثناء والنشيج. وبهذه النقلة في المعنى, التي تؤثر في روح الانتشار, يتم ضمنا اجتياز الحد الذي يفصل وضع الكائنات المخلوقة عن وضع الكائنات الساقطة: ؛إنني منقسم بين زمن ول ى, وزمن آخر سيأتي, ويشك ل مجراه لغزا بالنسبة إلي «. والتفجع والنشيج الذي تتقضى به أعمارنا لا ينفصل عن مناحات الخطاء والكائن المخلوق.
مرة أخرى, لن نلم حقا بمعنى كل هذه التعبيرات الموجودة في أعمال أوغسطين الأخرى التي تسبغ مصادرها الاستعارية عل الاستعارة المركزية عن [ distentio الانتشار, التمدد, التبدد], إلا من خلال علاقتها بالأبدية.
في مقالة مهمة بعنوان: ؛أصناف الزمانية لدى القديس أوغسطين: (Les Categories de la temporalite chez saint Augustin), يركز فيها ستانيسلاس بورو على رواية المزامير والمواعظ, يقف عند أربع ؛صور تركيبية« ترتبط جميعها بما سميته سابقا بأسى المتناهي والتغني بالمطلق: فترتبط الزمانية بوصفها ؛انحلالا« بصور الدمار والإعياء والغرق البطيء, والغرض الذي لم يتحقق, والانتشار والتشتت والتبدل والعوز المدقع, وترتبط بالزمانية بوصفها ؛عذابا« صور حراسة الموت, والمرض والضعف والحرب والأسر الموجع والشيخوخة والعقم, وتنطوي الزمانية بوصفها ؛عقوبة« على صور الابتلاء والمنفى, والسقوط بيد الأعداء, والتشرد والحنين, والرغبة المحبطة, وأخيرا فإن موضوعة ؛الليل« تغطي صور العمى والظلمة والعتمة. وليس من هذه الصور الأربع الأساسية أو من تنوعاتها ما لا يستمد قوة معناه من تناقضه مع رمزية الأبدية المقابلة لها في صور الاستذكار, والاكتمال الحي , والوجود في المنزل الأليف, والنور.
وبمعزل عن هذه الرمزية المتفرعة, التي يولدها جدل الأبدية والزمان, فإن روح الانتشار ليست سوى مخطط استجابة تأملية ينتقل إلى التباسات تتولد باستمرار عن المحاججة الشكية. فإذا أخذنا روح الانتشار في داخل حركية الثناء والنشيج, فإنها تصير تجربة حية تضفي لحما ودما على الهيكل العظمي للبرهان المضاد.
وليست الطريقة الثالثة التي يؤثر بها جدل الزمان والأبدية في تأويل روح الانتشار بأقل أهمية . ذلك أنها تولد, في صلب التجربة الزمانية, تراتبا لمستويات التحقيب الزماني, استنادا إلى كم تقترب أو كم تبعد تجربة معينة عن قطب الأبدية.
يقع التأكيد هنا على الانخداع أقل مما يقع على المشابهة بين الأبدية والزمن في ؛المقارنة« التي يعقدها الفكر فيما يخص كلا منهما (8:61). ويعب ر عن هذه المشابهة في قدرة الزمن على الاقتراب من الأبدية, التي ضمن ها أفلاطون في تعريفه للزمن, والتي بدأ مفكرو المسيحية الأوائل بإعادة تأويلها في ضوء أفكارهم عن الخلق والتجسد والتخليص. يضفي أوغسطين نبرة فريدة على هذا التأويل الجديد من خلال ربط موضوعات التعليم ب-؛الكلمة« والعودة. فبين الكلمة الإلهية الأبدية والصوت البشري لا يوجد اختلاف ومسافة حسب, بل علاقة تعليم وتواصل. ؛الكلمة« هي ذلك المع لم الباطني الذي ي بحث عنه, وي نص ت إليه في الداخل ( :(8:01) (intus) (حقا , إنني لأسمع صوتك (audio), يا ربي, وأنت تقول لي إن معلما واحدا يعلمنا حقا , ويتكلم إلينا حقا … ولكن من هو ذلك المعلم إن لم يكن الحقيقة التي لن تتغي ر?«. بهذه الكيفية فإن أول علاقة لنا باللغة لا تتمثل بأننا نتحدث, بل في أننا نسمع وننصت »للكلمة« الباطنية تحت الكلمات الخارجية. وليست العودة شيئا سوى هذا الإنصات, إذ ما لم ؛يكن المبدأ قد بقي كما هو, ونحن نتخبط في الخطأ, فلن يكون هناك ما نرجع إليه, لنسترد أنفسنا. لكننا حين نعود من الخطأ, نعود بمعرفة الحقيقة (Truth), وهو يعلمنا من أجل أن نعرف الحقيقة, لأن ه المبتدأ وهو أيضا يتحدث إلينا«. هكذا يقترن التعليم والتعرف والعودة معا . وبوسعنا القول إن التعليم يردم الهوة السحيقة التي تنفتح بين الكلمة الأبدية والصوت الزمني. فهو يرتقي بالزمن ويحركه باتجاه الأبدية.
هذه هي الحركة التي تسردها الكتب التسعة الأولى من ؛الاعترافات«. وبهذا المعنى يكمل السرد فعلا خط الرحلة الذي تنعكس ظروف إمكانه في الكتاب الثاني. حيث يشهد هذا الكتاب على كون جاذبية أبدية الكلمة, التي تحس بها التجربة الزمنية, لم تأت لتغمر القص, الذي ما زال زمنيا , في تفكر متحرر من قيود الزمان. وبهذا الصدد فإن خيبة مسعى الانجذاب الأفلوطيني, الذي يرويه الكتاب السابع, أمر حد ي. لا القلب الذي يسرده الكتاب الثامن, ولا انجذاب أوستيا (Ostia) الذي يسم أوج السرد في الكتاب التاسع, يقصيان الشرط الزمني للروح. فهاتان التجربتان النهائيتان لا تضعان حدا إلا للتجوال, وهو الصورة الساقطة من روح الانتشار. لكن هذا يتم للإيحاء بوجود ارتحال يرسل الروح مرة أخرى في مسالك الزمن. والارتحال والقص يقومان على اقتراب الزمن من الأبدية, الذي لا يقضي على الاختلاف بينهما, بل لن يتوقف عن الإسهام فيه. وهذا هو السبب الذي يجعل أوغسطين يسخر من طيش أولئك الذين ينسبون لله إرادة متجددة في لحظة الخلق. وحين يقارن الطريقة التي تلتوي بها أفكارهم وتعود, بالعقل »الثابت« لمن يصغي للكلمة الإلهية (13:11) يشير إلى هذا الثبات, المشابه لثبات الحاضر الأبدي, فقط ليكرر الاختلاف بين الزمن والأبدية: ؛لكن لو أن عقولهم استوثقت وبقيت ثابتة (ut paululum stet), لكانت قد بقيت برهة, ولكانت, في تلك اللحظة الوجيزة, قد ألم ت ببهاء الأبدية الباقي أبدا tis).(semper stan قد يقارنها بالزمن الذي لا يبقى أبدا , فيرون عندئذ أنها م ما لا ي قارن«. وبانفتاح هذه المسافة, يكرر الاقتراب أيضا الوظيفة المحددة للأبدية في علاقتها بالزمن: ؛وددت لو استوثقت عقول الناس وبقيت ثابتة, لكانت إذن قد رأت كيف تحدد الأبدية, التي لا ماضي فيها ولا مستقبل, كلا من الزمن الماضي والمستقبل«.
بالطبع حين يتشبث جدب القصد – الانتشار [الابتغاء – التبدد, السعي – التمدد] intentio-distentio بصورة قطعية بجدل الأبدية والزمن, فإن توكيدا أكثر اطمئنانا يحل محل السؤال المخذول الذي تكرر مرتين (من يبقى ثابتا ?): »إذن فسوف أصاغ وأتصلب في قالب حقيقتك« (40:30). لكن هذا الرسوخ والتصلب يظل في المستقبل, زمن الأمل والرجاء. فهو ما زال في حضن تجربة التبدد والانتشار التي يصرح فيها برغبته في الدوام: »حتى (donec) أتطهر وأذوب بنار حبك, وأنصهر معك في واحد« (39:29).
بهذه الطريقة, ودون فقدان الاستقلال الذي أضفته مناقشة الالتباسات القديمة بخصوص الزمن, فإن موضوعة التبدد والانتشار (distentio) والقصد والسعي (intentio) تكتسب من خلال وضعها في داخل التأمل بالأبدية والزمن تكثيفا سيتردد صداه في كل ما سيأتي من الكتاب الحالي. ولا يكمن هذا التكثيف في كون الزمن يتم التفكير فيه بوصفه ملغيا بالفكرة المحد دة لأبدية تضرب الزمن بالعدم. كما لا يمكن إرجاع هذا التكثيف إلى دائرة التفجع والنشيج على ما كان حتى ذلك الوقت مجر د محاججة تأملية. بل يهدف, وعلى نحو أكثر عمقا , إلى أن ينتزع من تجربة الزمن نفسها المصادر الخارجية الخاصة بتراتب داخلي, لا تكمن فائدته في إلغاء الزمن, بل في تعميقه.
وأثر هذه الملاحظة الأخيرة على تناولي بمجمله جدير بالتأمل. فإذا صح أن الميل الكبير في نظرية السرد الحديثة – في كتابة التاريخ وفلسفة التاريخ كما في السردية – هو نزع الزمانية عن السرد, فإن الصراع ضد التمثيل الخطي للزمن لا ينطوي بالضرورة, على حصيلة واحدة لا يتجاوزها, هي تحويل السرد إلى »منطق«, بل إنه بالأحرى يعم ق زمانيته. فالكتابة الزمانية التاريخية Chronology – أو الكرونوغرافيا – ليس لها نقيض واحد فقط هو اللازمانية في القوانين والنماذج. بل إن نقيضها الحقيقي هو الزمانية نفسها. وكان حقا من الضروري الاعتراف بما هو غير زمني, من أجل اتخاذ موقع ينصف تماما الزمانية الإنسانية, والتقدم, لا باقتراح إلغائها, بل بسبر غورها, وتنضيد تراتبها, وبسطها بمتابعة مستويات التحقيب التي ما تبرح تقل انتشارا وتبددا، وتزداد ثباتا وسعيا.
ترجمة: سعيد الغانمي
ناقد ومترجم من العراق