خالد البلوشي
ناقد ومترجم عماني
تشهد السّاحة الثّقافيّة في عُمان نشاطًا ترجميًّا لافتًا؛ فهناك ترجماتٌ يتوالى صدورها في مجالات مختلفة كالفكر والعلم السياسة. على أنّنا إن أردنا لهذا النشاط أن يتحوّل إلى حراك ثقافيّ فاعلٍ فلا بدّ من أن يرافقه تحليل الترجمات ونقدها على مستويي الخيارات والأثر الذي تتركه في تفكيرنا. فالموادّ المترجَمة الآتية من ثقافات أخرى تزوّدنا برؤًى بعضها يعزّز فروضنا المسبقة وبعضها يتحدّاها، وبعضها يجعلها تتأرجح بين هذا وذاك.
سأتناول في هذه الورقة كتابين مترجَمين تجمعهما على مستوى المنطلق نظريّة التطوّر، وعلى مستوى الجمهور المستهدف عوامّ القرّاء: “أشكال لا نهائيّة غاية في الجمال، علم الإيفوديفو الجديد وصناعة مملكة الحيوان” لشون كارول1 و”العاقل، تاريخٌ مختصر للنوع البشري” ليوفان نوح هراري.2 تنقسم الورقة إلى جزأين أقدّم في أوّلهما نبذة عن الكتابين وفي الثاني ما ينطويان عليه من رؤًى ومواقف.
نبذة عن الكتابين
يبدأ الكتاب الأوّل بعلمَي التطوّر والجينات. الأوّل فسّر لنا بالانتخاب الطبيعي تنوّع الكائنات الحيّة، والثّاني وضّح بالحمض النووي توارث الصفات في الأنواع المختلفة، إلّا أنّهما عجزا – في رأي الكاتب- عن تبيان كيف تكوّن شكل الكائن الحيّ، مظهرًا وبنيةً وهيئةً، وكيف تطوّر عبر الأزمنة. وهنا يأتي دور علمَي أحياء النموّ وأحياء النموّ التطوّري أو ما يسمّى -اختصارًا- علم الإيفوديفو. فهذا بحوزته “عُدّة الأدوات” الشارحة للتكوّن والتطوّر، وهي عبارة عن “مجموعة من الجينات والبروتينات موجودة في كلّ حيوان وطريقة ترتيبها تصنع الفرق بين الفراشة والذبابة، بين الإنسان والجمل…”3
أمّا “العاقل، تاريخٌ مختصر للنوع البشري” فيمكن إدراجه تحت ما يسمّى “التاريخ الكبير”، فهو يؤرّخ لنموّ الإنسان، بادئًا بالانفجار العظيم وتشكّل الذرّات والجزيئات وكوكب الأرض، ومرورًا بظهور أنواع بشريّة مختلفة وظهور الإنسان (العاقل) وتشكيله لمنظومات معقّدة تسمّى الثقافات، وانتهاءً بـ”الحيوان الذي أصبح إلهًا”. الكتاب- باختصار- هو عرض ما يسمّيه الكاتب الثورات الثلاث التي استطاع بها الإنسان العاقل التفوّق على غيره من الكائنات البشريّة وغير البشريّة. الأولى كانت ثورة ذهنيّة تمثّلت بقدرتنا على نقل ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما هو ممكن تخيّله حتّى إن لم يكن له وجود في الواقع. وهذه القدرة مكّنتنا من اختراع كيانات ليس لها وجود مادّيّ ملموس، من ذلك الإمبراطوريّات والأموال والمؤسّسات والقوانين والأديان والأقوام والقبائل، وتطوّرُ ذلك كلّه صاحب الزراعة، فكانت الثورة الثانية.
ولكنّنا أدركنا لاحقًا أنّنا وإن أقمنا كلّ هذه الكيانات فإنّ ثمّة عوالم جدّ كثيرة نجهلها، فكانت الثورة الثالثة في أوروبّا، الثورة العلميّة بمناهجها وفتوحاتها وإنجازاتها في مختلف المجالات. وقد تواطأ هذا العلم مع المشروع الإمبراطوري، فكانت النتيجة أنّ الأوروبّيّين اكتسحوا جميع القارات وغزوا الفضاء، وابتكروا أشكالا جديدة لزيادة الطّاقة ورأس المال. ورافق ذلك ظهور مجتمعات متخيّلة جديدة مثل الدول الحديثة والتكتّلات الاقتصاديّة و”قبيلة” المستهلكين. ويستند الكتاب في رؤاه لا على التاريخ وحسب وإنّما على علوم مختلفة مثل الأحياء ولاسيّما الأحياء التطوّري والجينات والأديان والآداب والسياسة والتجارة، ويستنبط من خلال ذلك كلّه أنماطًا عامّة لتاريخ الأمم والشعوب.
مناقشة الكتابين
المجال العامّ للكتاب الأوّل هو علم الأحياء. على أنّه ليس كتابَ علمٍ وحسب، وإنّما هو كتاب عالِمٍ مسحور بما تزخر به الطبيعة من أشكال وهيئات في نموّ وتشكّل دائمَين. ويؤكّد لنا هذا الجانبَ الشّعوريّ الجماليّ عنوانُ الكتاب الرئيس: أشكال لا نهائيّة غاية في الجمال، هو كتاب عالِمٍ موجوع بكون هذه الأشكال اللانهائيّة الأكثر عرضةً للخطر. ولعلّ الفقرة النهائيّة من الكتاب تُعَدّ أبلغ تجسيد لهذا الوجع: “السؤال الذي يواجهنا الآن ليس عظمة إنجلترا أو أمريكا، بل عظمة الطبيعة. أيُّ سخرية مأساوية تلك، فكلما ازداد فهمنا للأحياء نقص ما بحوزتنا منها لنتعلّم منه ونستمتع به…”4 ولما كان الإعجاب والتوجّع شعورين ينطويان على حكم قيمة، فإنّ الكاتب لا يتردّد في أن يصدر أحكامًا أو يقف مواقف. فهو يقتبس-باستحسان بادٍ- يوهان جوته: “يجب أن تتخذ موقفًا إن اقتنعت بأمر ما، وإلاَّ فإنك لا تستحق النجاح”.
وانطلاقًا من ذلك يتطرّق الكاتب في الفصل الحادي عشر إلى موقفه تجاه من يرفض نظريّة التطوّر من منطلق دينيّ. ويمهّد ذلك بإخبارنا بأنّ دارون، استشعر بعد نشر الطّبعة الأولى من كتابه، “أصل الأنواع”، امتعاض بعض المؤمنين بالدين، فحدا به ذلك لتعديل فقرة شهيرة في الطبعة الثانية. فقد أعاد صوغ جملة الطبعة الأولى: “هناك عظمة في هذه النظرة إلى الحياة، وقواها المتعدّدة، التي نُفثت 5 أصلًا في أشكال محدودة أو في شكل واحد، وأنه بينما كان الكوكب يواصل دورانه حسب قانون الجاذبية الثابت، تطورت ولا تزال تتطوّر، من بداية بالغة البساطة، أشكال لا نهائية غاية في الجمال والروعة”، فبنى فعل “النفث” على المعلوم، وجعل “الخلق” فاعلا له: “التي نفثها الخلق أصلًا في أشكال محدودة أو في شكل…” ويضيف معلّلًا أنّ دارون أراد بهذا التعديل “استرضاء النقّاد” ليضمن ذيوع أفكاره. ثمّ يأتي على موقفه الشخصي، فيقول معلنًا: “أريد أن أكون واضحًا جدا في موقفي. أعتقد أن تدريس التطوّر والعلم يخدم بالطريقة المثلى عبر ترويج المنهج العلمي والمعرفة العلمية وليس عبر مهاجمة الأفكار الدينية. إن الأسلوب الأخير عقيم، ويفضي إلى نتائج عكسية”.6
إن كان دارون أراد بإضافة الخلق “استرضاء النقّاد” فإنّ موقف كارول يمكن وصفه بأنّه “براجماتي”، فهو مبنيٌ على ما تعقب المواقف من نتائج لا على ما تنبني عليه من مبادئ. فهو يدعو إلى المصالحة بين العلم والدين على اعتبار أنّ في ذلك فائدة لكليهما. والدين الذي في ذهنه قريب روحًا من نظرية التطوّر، ذاك المطواع لـ” ترقية تعاليمه وعقائده وتطويرها”، ذاك الذي لا يعادي العلم، وإن فعل كان ذلك “قطعا استراتيجية خاطئة”.7 والمترجمان يشيدان بكتاب كارول قائلَين إنّه “سيفتح الأبصار والبصائر على القوانين التي تحكم تحوّلات الحيوان من نوع إلى آخر”.8
ولكنّ البادي أنّهما على وعي أنّ شريحة كبيرة من القرّاء سترفض الكتاب المترجَم، فيجهران بأنّ القول بمخالفة النظريّة للدين إنْ هو إلّا “تهمة”. فالمجزوم عندهما أنّه “ليس ثمة شكّ في اتفاق” هذا العلم “مع الوحي”. والقائل بخلاف ذلك مدفوعٌ إمّا بـ”الأهواء والمصالح”، وإمّا بسوء فهم الدين والعلم.9 ولعلّنا نلمس هنا فارقًا جذريًّا بين الموقفين، فالتوافق بين الدين والعلم عند كارول أداةُ نفع، وعند المترجِمَين أمرُ مبدأ. والمبدأ هذا قوامه أنّ الدين ليس تأويلًا، وإنّما هو جوهر، وأنّ ذلك الجوهر ينسجم مع نظريّة التطوّر، ومن ثمّ كان كلّ قائل بخلاف ذلك حائدًا عن جادّة الصواب.
وهذا الموقف مثير للفضول إن لم نقل إنّه يلوي النظرية ليّا. ولعلّي أبين ذلك بالإحالة على موقف عالِم رائد معاصر في علم الأحياء التطوّري من الدين. يقف ريتشارد دوكن- على خلاف دارون وكارول- موقفًا غير مهادن تجاه فكرة أنّ للكون خالقًا أو مصمّمًا ذكيًّا. فهو يرى أنّ الانتخاب الطبيعي -مدعومًا بعلم الجينات- يحلّ لنا ألغاز التشابك والتعقيد الدقيقين اللذين نراههما في الحيوانات (بما فيها الإنسان). فنحن لسنا بحاجة إلى أن نفترض وجود خالق للكون، وإن فعلنا كان ذلك مثار إشكال من نوع آخر: أيّ خالق نعني؟ أذاك الذي يؤمن به اليهود أم المسيحيّون أم الهندوس؟ من هنا يشنّ من خلال كتبه ومحاضراته ومناظراته وأحاديثه في الجامعات والمراكز الفكريّة العالميّة حملة شعواء لمحاربة فكرة المصمّم الذكي الرائجة كثيرًا في أمريكا. ولعلّنا نجد تعبيرًا واضحًا مباشرًا لهدف حملته في كتابه “وهم الإله”10، إذ يقول في استهلال كتابه هذا إنّه يسعى إلى رفع وعي الناس أنّ الإلحاد منظومة أخلاقيّة لها القدرة على أن تحقّق للمرء حياة صحيّة على مستويي الشعور والفكر. وتطرق آذاننا طيلة الكتاب نبرته الصاخبة المتحمّسة جدًّا للعلم والساخرة بالمقدار ذاته للغيبيّات بل المزعوجة منها. وإذا فاتت القارئَ هذه النبرة فعليه أن يستمع إلى النسخة المسموعة من كتابه على اليوتيوب. فهو يقرؤه نفسه مع الممثّلة والكاتبة الإنجليزية، لالا وورد، بحماسة لا تكلّ ولا تفتر لأكثر من عشر ساعات.11
ودوكن ليس وحيدًا في محاربة فكرة الخلق والقائلين بالتوفيق بينها وبين العلم.12 يرى هراري أنّه ليس ثمّة -حسب علم الأحياء- من خلق الكون لهدف محدّد، إذ لا (توجد سوى عملية تطورية عمياء، خالية من أي غرض، تعمل على ولادة الأفراد. لذا يجب أن نترجم جملة “وهبهم خالقهم” ببساطة إلى “وُلِدوا”).13 وإذا كان كلام مترجِمَي”أشكال لا نهائيّة غاية في الجمال” في محلّه فنحن هنا أمام خيارين: إمّا أن نقول إنّ دوكن وهراري وأمثالهما لا يفهمون علم الأحياء وإمّا أن نقول إنّ لهم منافع ومآرب ذاتيّة. وإذا كان التخصّص والمكانة العلميّة والشّهرة العالميّة مقياسًا فإنّ بعد من تبنّى منّا الخيار الأوّل عن الصّواب مثل بعد من تبنّى الخيار الثّاني.
سأحلّل الآن بشيء من التفصيل كتاب هراري “العاقل، تاريخ مختصر للنوع البشري”، فقد ذاع صيت هذا الكتاب، وتُرجِم إلى أكثر من ستّين لغة. تقول الترجمة العربيّة في أعلى غلافها الأمامي -قبل اسم المؤلّف، وقبل العنوان، وقبل اسمَي المترجمَين- إن الكتاب بيعت منه “ملايين النسخ”. وهناك تقريظان يعدّان تجلّيًا لهذا الانتشار وسببًا له في آن: الأوّل لرجل الأعمال الثري وأحد مؤسّسي مايكروسوفت بِل غيتس في أسفل الغلاف الأمامي، والثاني للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في أعلى الغلاف الخلفي. ثمّة في رأيي عاملان رئيسان وراء هذا الانتشار العالمي. أوّل هذين هو أنّ الكتاب يعيد تعريف “الإنسانيّة” على نحو جامع لكلّ الكائنات.
فنحن نعلم أنّ عصري النهضة والتنوير في أوروبّا رفعا شأن الإنسان الفرد، أفكاره ورؤاه، وركّزا على دوره الرائد في تحقيق السعادة والحرّيّة، وتبنّيا المنهج العلمي القائم على الملاحظة والدليل. ونعلم أيضًا أنّ العصر الحديث اعتنق إلى جانب ذلك الديموقراطيّة وحقوق الإنسان واستقلال الفرد والعدالة والسلامة البيئيّة. لعلّنا نلحظ هنا أنّ جلّ هذه القيم تتمحور حول الإنسان مركزًا للكون، ولكنّ اللافت في كتاب هراري أنّه يتضمّن في طيّاته دعوةً إلى تواضع لا يتأتّى إلّا بالتخلّص من هذا الشّعور. فنحن لم نكن في أوّل النشأة سوى “حيوانات عديمة الأهمّيّة لا يتجاوز تأثيرها على بيئتها تأثير الغوريلات أو اليراعات أو قناديل البحر”.14 كما أنّنا لسنا أنبل المخلوقات إذا أريد من النبل السّموّ على غيرنا من الكائنات، فنحن ننتمي إلى فصيلة حيوانات صاخبة تدعى النسّانون الكبار، وهي تشمل الغوريلات والأورانجوتانات، والشنابز، وتُعَدّ هذه الأخيرة “الأقرب إلينا، فقبل ستة ملايين سنة فقط كان لنسّانة أنثى ابنتان؛غدت إحداهما سلفا لجميع الشنابز أما الأخرى فهي جدّتنا”.15
على الرغم من هذه القرابة فإنّنا لطالما منحنا أنفسنا حقّ الانتفاع ببقيّة الكائنات، بل تمادينا في استغلالنا لها، فكان لنا دور كبير في انقراض كثير منها. ويعبّر هراري عن ذلك بلغة كلّها حسمٌ وجزم: “فنحن المذنبون، ليس هناك طريقة للالتفاف حول الحقيقة وحتى لو حرَّضَنا تغيرُ المناخ فإن مساهمة البشر كانت حاسمة”.16 والظاهر أنّ وراء تنبيهه لنا إلى دورنا السلبي هذا دعوة لأن نعامل بقيّة الكائناب بـ”إنسانيّة”، بالتآخي والتوادّ والحنوّ والرأفة والمشاركة الوجدانيّة. قد يقول أحدهم إنّ الإنسانيّة بهذا المعنى قيمة تبنّتها كلّ الثقافات في شكل من الأشكال وبدرجة من الدرجات في فترات التاريخ المختلفة، ومن ثمّ لا جديد هنا. إلّا أنّ ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار أنّ هذه القيم دائمًا ما أتت من علٍ، فالإنسان لطالما رأى نفسه خليفة الخالق على الأرض، ومن ثمّ كان له من الحقوق عليها ما لخالقها، ولكنّ الذي نراه هنا هو أنّ العناية بالكائنات الأخرى منبعها أنّها منّا ونحن منها، وإذا ما تبنّينا منطقًا ذكوريًّا كان لنا أن نقول إنّ بيننا وبينها اللحم والدم. وشتّان ما بين الموقفين.
وإذا قلنا إنّ قوام تمايزنا عن غيرنا هو قوانا العقليّة فإنّ الكاتب يقوّض هذا الاعتقاد بطريقة كاشفة لبلادتنا. فنحن بالثقافة -أديانًا وآلهة وأقوامًا وقبائل وعادات وتقاليد ودولًا وأقطارًا ومؤسّسات ماليّة- نظّمنا أمورنا على نحو فصلنا عن محيطنا، وذلك على خلاف الصائدين الجامعين، أولئك الذين نراهم أقلّ تمدّنًا منّا، فأغلب هؤلاء كانوا أرواحيّين يرون أنّ للكائنات غير البشرية مثل الحيوانات والنباتات والصخور والأشجار مشاعر وأحاسيس، فكانوا يخاطبونها بكلامهم وأغانيهم وطقوسهم ورقصاتهم. لذا لم يشعروا بأنّهم بحاجة لأن يؤمنوا بقوًى وراء الطبيعة- بل وراء أنفسهم- لتحميهم وتوفّر لهم الأمن والأمان.17 وإن كانت الثقافة تجلّيًا لقدرتنا العقليّة على الإتيان بما لا وجود له أصلًا -كما يقول الكاتب في كتابه هذا ومحاضراته- فإنّنا إن قاتل بعضنا بعضًا لأجلها كنّا كمن بذل نفسه ونفيسه في مقارعة طواحين الهواء. والاستنتاج المخيف -بل ربّما لنا أن نقول المخزي حالما كان كلام هراري في محلّه- الذي يتبع من كلّ ذلك هو أنّ تاريخنا شيءٌ يُخجَل منه لا يُفتَخر به.
أمّا العامل الثاني فهو أنّ الكتاب فيه من الإثارة والتشويق ما في أيّ قصّة محكمة فنًّا. فنحن نرى فيه خيولا تجري، ونسمع سيوفًا تصلصل، ونشمّ رائحة الأصداف والسجائر، ونلمس الأموال في الأسواق وأردية الحجّاج في مكّة وهي تفوح برائحة القرنفل والكركم والهيل؛ ثمّة أهرامٌ تبنى، وذاكرةٌ تُحرَق، وأناسٌ تتطاحن، وآلهةٌ تتدخّل، وضحايا تتساقط، وعيونٌ تتوهّج، وقلوبٌ تنتشي. والشخصيّة الرئيسة في هذه القصّة المثيرة لكلّ حواسنا هي حيوان لا حول له ولا قوّة في بداية الحبكة، ولكنّه في سعيه إلى البقاء يقف على قدميه منتصب القامة، ويطول مع مضيّ الوقت عمره، فينحني ظهره، فيحسّ بضعفه، فيخترع قوًى يشكو إليها أوجاعه وأحزانه ويلتمس منها العون والغوث، ويأتي في سبيل ذلك بطقوس تقرّبه إليها من جهة وتعزّز صلته بمن حوله من البشر من جهة أخرى، وتتوسّع رقعة ابتكاراته، فهناك القوم والقبيلة وهناك الرمح والبندقيّة، فتتطوّر الأحداث وتتعقّد الحبكة، وتتحوّل الشخصيّة الرئيسة من خليّة واحدة في البداية إلى إله مطلق القوّة في النهاية، النهاية المرعبة، النهاية المفزعة.
ويقف وراء ذلك كلّه راوٍ قطف من كل بستان غير زهرة، ونهل من الأدب والتاريخ والاقتصاد والسياسة، والأحياء والأموات والجينات والأحافير، نهل من كلّ ذلك ما يخاطب به قرّاءً ذوي اهتمامات شتّى، وعرض بلغة متقَنة السّبك جَناه عليهم، عارفًا خير المعرفة أين موضع الخبر وأين موضع الإنشاء، وأين موضع الانتقال من هذا إلى ذاك، عارفًا أين ينبغي له أن يحدّد معانيه وأين يجعلها عائمة.18 لذا لا غرو أنّنا لا نرى ضربةً أقضى من أن ينهي قصّه بسؤال أشبه برؤيا نبوئيّة: “هل هناك شيء أخطر من آلهة غير راضية، وغير مسؤولة، ولا تعرف ماذا تريد؟”19 سؤالٌ مثير لا ريبْ، ولكنْ لا لأنّه يفتح شهيّتنا لرسم مشاهد متساوية في درجة احتمال وقوعها، بل لأنه يضعنا وجهًا لوجه أمام مشهدٍ واحد، مشهدِ يومِ قيامةٍ على الأرض. فنهايتنا لن تكون -والمعذرة من رفات الشاعر تي إس إليوت- مع همسة بل مع دوي.
وأختتم هنا بتوكيد أمرين: أوّلهما هو أنّ كلّ ما قلته بشأن الكتابين يقتصر على الترجمة نتاجًا وليس عمليّة. فأنا لضيق المقام لم أتطرّق إلى منهج المترجمين وخياراتهم من حيث المفردات والبنى والجمل والأساليب، وكلّ ذلك له أثره -لا شكّ- في المعنى. أمّا الأمر الثاني فهو أنّ التوفيق بين فكرين يخالف أحدهما الآخر شأنه شأن الرفض المطلق، ولا فرق إن كان وراء مسعى التوفيق عقيدة خالصة أو منفعة مرجوّة، فنحن في كلتا الحالتين لا نتيح لفروضنا أن تتشابك مع المادّة المترجمة. لذا أقول إنّ تحليل ما ينطوي عليه النتاج الترجمي من تحدٍّ للمترسّخ هو الطريق إلى الإبداع، أو فلنستخدم كلمة يسخر منها علم الأحياء التطوّري، إلى خلق حياة جديدة. لنا أن نقبل هذه الحياة الجديدة أو نرفضها، ولكن علينا أن نعي ما يتأسّس عليه موقفنا، وإلّا فنحن على ما وجدنا عليه آباءنا، حقيقيّين كانوا أم روحيّين.
الهوامش
1 – شون كارول، أشكال لا نهائية غاية في الجمال، علم الإيفوديفو الجديد وصناعة مملكة الحيوان، ت. عبدالله المعمري وحمد الغيثي، (كلمة: 2016).
2 – يوفان نوح هراري، العاقل، تاريخٌ مختصر للنوع البشري، ت. حسين العبري وصالح بن علي الفلاحي، (منجول: 2018).
3 – عبدالله المعمري وحمد الغيثي، “مقدّمة الترجمة”، أشكال لا نهائيّة غاية في الجمال، مصدر سابق، ص: 7.
4 – أشكال لا نهائيّة غاية في الجمال، مصدر سابق، ص: 418.
5 – التظليل من عندي.
6 – المصدر نفسه، ص: 408.
7 – المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
8 – المصدر نفسه، ص: 8.
9 – المصدر نفسه، ص: 9.
10 – Richard Dawkins (2017) The God Delusion. London: Black Swan.
11 – شاهد: https://www.youtube.com/watch?v=1yW2pE2VvbE&t=266s
12 – من هؤلاء العالم البريطاني الرائد جون ماينارد سمِث (1920-2004). وإذا حاول أحدهم المواءمة فإنّه يفسّر الدين على نحو يستغني به عن الخلق مثل عالم الأحياء والكاتب الإنجليزي كولِن تَج (1943-). انظر:
https://www.theguardian.com/world/2003/sep/13/religion.science .
13 – العاقل، مصدر سابق، ص: 136.
14 – المصدر نفسه، ص: 14.
15 – المصدر نفسه، ص: 15.
16 – المصدر نفسه، ص: 93.
17 – المصدر نفسه، ص: 73.
18 – من هذه الوسائل ما ينطوي على اختزالات يضيق المقام لشرحها.
19 – المصدر نفسه، ص: 496.