في الأدب, تنقل اللغة للعالم: عالم الأشياء والناس والعلاقات والأفكار والتخيلات والمشاعر والأحاسيس, وتداخلاتها وتوالداتها وظلالها.. وفي الأدب تتحول كل هذه الظواهر البالغة التشكيل والمتفاعلة، مادية كانت أو معنوية إلى كلمات.. ولا يستثنى من ذلك الأدب الواقعي, بل ربما كان هو الأجدر بهذه الفضيلة، من حيث اتخاذه الواقع الانساني بكل تجلياته وفي كل أحوال تجسيد الوجود الإنساني والفعالية الإنسانية، مادة له ومصدرا لالهامه.
فنحن نفترض أن التفاعل بين كل تلك الظواهر، هو نفسه ما نسميه: الواقع الإنساني, الواقع كما يصنعه الناس, وكما يعيشونه, وكما يبصرونه وكما يتخيلونه وكما يحلمون به..فالواقع الذي يعنينا هنا، بعيدا عن التفلسف المتخصص, هو الواقع من خلال العين الإنسانية، والذهن الإنساني, المرتبطين مرة أخرى بواقع اجتماعي – تاريخي وثقافي – بعينه.
إن كلام الناس في الحياة المعاشة، جزء من هذا الواقع الإنساني. وهو جزء يفترض دائما أنه يعبر – من زاوية نظر ما – عن "كل " هذا الواقع يتحول فيه هذا "الكل " الي كلمات بينها علاقات معينة، تكفل نقل رسالة المتكلم, وبينها وبين الواقع الذي تخاطب,"عنه " و"تخاطبه " علاقات معينة أيضا. سواء كان هذا الواقع متمثلا في علاقات, أو أفكار أو تخيلات, أو كان متجسدا في "آخرين " يخاطبهم المتكلم.
وقد يكون هذا هو عين ما يحدث في الابداع الأدبي, الذي يستخدم اللغه – مثل التكلم أو الخطاب الشفاهى – في نقل رسائل من المؤلف إلى الآخرين: نحن القراء. قد يكون هو عين ما يحدث, ولكن مع فوارق أساسية: على رأسها أن اللغة في الابداع الأدبي, كمفردات أو صياغات أو تراكيب أو سياقات لا تتوالى في نوع تلقائي كما في حالة التكلم التي تتمتع بقدر كبير من تلقائية الصياغة والتركيب.. إلخ.. انما تختار الكلمات, وتنظم في العمل الأدبي, وفقا لمنظور مسبق, كونه المؤلف واعيا, وهو منظور لا يتعلق أولا بالدلالة ولا بالمعنى، ولا يتعلق أولا بالرسالة التى يريد المؤلف توصيلها،لكنه منظور يتعلق أولا بنوع المفردات وهجائها ونطقها أي في شكل كتابة الكلمة،وطريقة وشكل استخدامها على اللسان معا.. ثم هو منظور يتعلق – ثانيا – بالتراكيب التي تصنعها علاقات المفردات, والايقاع الناشىء عن هذه التراكيب, والصياغات, وإلسياقات التي تؤلفها علاقات الايقاعات والمعانى الناشئة.
إن المؤلف الواقعي, يختار كل ذلك, وفقا لتصوره عن لغة المجتمع التي – يستخدمها، ولكيفية استخدام الناس لها في الواقع, وللاستخدام الأدبي للغة في تراث هذه اللغة (أو في المجتمع الذي يستخدم هذه اللغة بالذات ).. وللرسالة التى يريد أن ينقلها، ولطريقته في النقل.
فاللغة في العمل الأدبي, تنقل الواقع – بما فيه اللغة نفسها -نقلا قاصدا واعيا بما يفعله, وفقا لتصور المؤلف المسبق عن التوظيف الأدبي للغة – في اتفاق أو في اختلاف – مع ما تواضع عليه الناس من المعاني والدلالات.
ثم ان الكلمات في العمل الأدبي, تستخدم وفقه لعلاقة يصممها المؤلف فيما بين الكلمات نفسها، وبين التصميم العام للعمل الذي تجرى كتابته, أي وفقا لتصميم مسبق للعلاقة بين الكلمات, وبين ما ستخلقه الكلمات من تراكيب وسياقات, وما ستخلقه تلك بدورها من بناء عام للعمل, حامل الرسالة:النهائية، أو الكلية.
وفي مصر، أو في العالم العربي كله كانت مسألة اللغة المناسبة للكتابة الأدبية تمثل إشكالية أساسية من اشكاليات الابداع والنقد – كليهما – منذ بدأ نشر الأعمال الابداعية في وسائل الاعلام الجماهيرية – الصحافة – خصوصا، ثم ازدادت الاشكالية حدة مع انتشار توزيع هذه الوسائل الاعلامية، فبأى لغة يكتب الأديب المبدع ؟ بالدارجة العامية الشائعة (وأحيانا: بأي نوع من أنواع الدارجة العامية) أم بالفصحى الموروثة التى كانت قد تجمدت طويلا وأصابتها علل أسلوبية وتعبيريةكثيرة، لقد كنا ومازلنا نواجه اشكالية ازدواجية اللغة (المشكلة القريبة من تلك التي أبرزها علم اللغة الحديث وأن كانت قديمة نسبيا في عالم الكتابة الأدبية العربية) أي مشكلة الانضمام,والاشتباك بين لغة الكتابة ولغة الكلام.
وتتضاعف هذه الاشكالية حدة, على المستوى العملي الابداعى, وتعقيدا على المستوى النظري, حين تصبح مشكلة البحث عن اللغة المناسبة لنقل الواقع الإنساني نقلا محملا برسالة لا شك أنها تنبع من اشتباك فكر المبدع مع هذا الواقع الإنساني.
إن المشكلة لا تقتصر – بالنسبة لنا – علي عناصرها النظرية التقليدية: أي العلاقة بين الأصول الاجتماعية للغة وبين تجلياتها الفردية عند الكاتب, وانما هى تمتد إلى طرح قضية الاختيار بين مستوى من اللغة لم يحمل تراثه, ولا يحمل وجوده الحالى أي فكر متطور من أي نوع تقريبا، وهو المستوى الدارج العامي, وبين مستوى آخر، حمل مثل هذا الفكر ومايزال يستطيع أن يستوعب وأن ينتج الكثير، ولكن الناس في الواقع الذي سينقله المؤلف, وسيخاطبه, لا يستخدمونه, وهو مستوى الفصحى الذي يحتوى بدوره عدة مستويات, تنتمى الى عصور مختلفة وإلى مدارس بلاغية متباينة.
وإذا كان هدف الأديب, عموما، والأديب الواقعي بشكل أكثر تحديدا، هو أن يثير ردود أفعال معينة لدى قارئه من خلال نقل صورة بعينها – ترسمها الكلمات – للواقع, فكيف يمكن نقل رسالة (هي فكر متطور في جوهرها) بلغة لم تحمل مفرداتها وتراكيبها فكرا متطورا أبدا تقريبا (باستثناء الحكمة المباشرة التي يمكن أن تحملها الأمثال الشعبية والأزجال وما شاكلها).
لقد كان نجيب محفوظ صاحب احدى المحاولات الهامة لحل هذه الاشكالية وربما برجع ذلك لأسباب عديدة ة ربما لأنه كان مولعا بالسينما حتى قبل أن يحترف الكتابة لها، وربما لأنه قرأ منذ فترة مبكرة في شبابه الكثير من النصوص الأدبية -الروائية والقصصية – الهامة في الأداب الغربية التى طمحت دائما إلى نقل الواقع الاجتماعي أو النفسي, السياسي أو الفنى أو الفكري, بمستوى من الأداء اللغوى المعقول في سلامته أو في بساطته واقترابه من اللغة اليومية للناس.
ولابد لنا أن نرصد – أولا في هذه المحاولة الناجحة -تاريخها، وهو تاريخ شيق.
لم تكن المشكلة ببساطة هي مجرد الاختيار بين اللهجة الدارجة المصرية، وبين الفصحى، وانما كانت المشكلة أكثر تركيبا وتعقيدا، فالاختيار كان بين – أولا – أنواع عديدة من اللهجة الدارجة الشعبية: هناك الدارجة الشعبية بألوانها المحلية العديدة غير المتأثرة بأي نوع من المعرفة العلمية أو الفكر المتطور: هناك دارجة المتعلمين التي لقحها الفكر والمعرفة بقدر من التحكم المنطقيفي بناء التعبير ذات قدرة أكبر على التركيب المتسلسل والمتصاعد ومن الوعي بالعلاقة بين المعلومات والتفكير والاعراب عن العملية الذهنية المترتبة على توظيفهما سويا.
ثم كانت هناك الفصحى القديمة (الكلاسيكية) التي بعثها من العصر العربي الذهبي, كتاب وشعراء "النهضة" من البارودي الى شوقي وحافظ ومصطفى كامل وحتى الجيل التالي وتلامذته من لطفي السيد إلى محمد حسين هيكل وطه حسين ومحمد الزيات, والكواكبي وجورجي زيدان, في "أغراض " الابداع الأدبي بأنواعه, أو "الفكر" أو بمجالاته, أو الكتابة الصحفية والاعلامية بأصنافها: تلك الفصحى التي كان لابد ان يؤتي بها، من مرحلة تمتد بين القرن الثامن والقرن الثالث عشر تقريبا، لاعادة توظيفها في التعبير عن متطلبات وحساسية عصر جديد تماما، وأفكار متطورة، فلم تستطع أن تستوعب هياكلها البنائية ولا اساليبها ولا تركيباتها- الموروثة – كثيرا من متطلبات تلك الحساسية والأفكار رغم الجهد العظيم الذي بذله أبناء هذا الجيل, ولم تستطع بالطبع أن تملأ الفجوة بين الفكر المتطور والمعرفة العلمية وبين جماهير الناس الخارجة لتوها من قمقم التاريخ الوسيط, فظلت معزولة تماما عن الكتلة العظمى من المجتمع, الكاملة الأمية او شبه المتعلمة، لا تؤثر فيها أبدا رسائل تلك "الفصحى" الجزلة القوية، وان اعجب الناس بايقاعاتها القوية المنغمة.
ثم كانت هناك الفصحى الأكثر سلاسة وسهولة، في المفردات والأدوات الأسلوبية، التي دعا اليها واستخدمها من زوايا مختلفة نوع آخر من المجددين: كسلامة موسى صاحب الثقافة الغربية (الانجليزية) أو أحمد أمين التأصيلي المتطور والنقدي المستنير، أو. عباس العقاد، الذي جمع بين الاستغراب والتأصيل, صحيح ان هذه الفصحى الجديدة هى التي سيكتب لها الانتشار والتأثير – بعد ذلك – من خلال الصحافة أساسا،ولكن الفصحى الكلاسيكية هى التي كانت تسيطر على التعليم وهى المثل الأعلى الذي تسعى حتى الفصحى الجديدة الى الوصول لمستواه.
كان على نجيب محفوظ ان يجد لطاقته التعبيرية اختيارا بين كل تلك العناصر اللغوية وتنويعاتها المحتملة، وان يكتب باللغة المتكافئة مع كل من ضرورة التعبير عن المعطيات الاجتماعية، وعناصر تكوينه هو، الشخصية، وضرورة الوصول الى كل من عامة المتعلمين – على الأقل والى "المثقفين -" المشتتين بين أنواع عديدة من الثقافات الاصولية او المستحدثة.. أي أنه كان عليه أن يصوغ "لغة واحدة" تخاطب مجموعة كاملة من اللغات, وتخاطب عنها في الوقت نفسه.
ولقد مر نجيب محفوظ, أو مر ابتكاره اللغوي بمراحل عديدة، تجمعها في النهاية سمات ثابتة – او شبه ثابتة -مشتركة.
ولابد لنا أن نقرر ملاحظة أولية هامة، هي تلك الدرجة الملحوظة من الارتباط بين التطورات السياسية والاجتماعية للواقع المصري – وبين التغيرات الاسلوبية من ناحية، وتنوع مصدر المادة الموضوعية – أو مصدر الاستلهام – لأعمال نجيب محفوظ: ان الكتابة الابداعية هنا، تكاد تبدأ من مراقبة "الواقع الاجتماعي /السياسي / الفكري / النفسي " مراقبة حميمة منفعلة لاقطة وعاكسة، تنعكس نتائجها – من فورها تقريبا – على حساسية الكاتب, سواء من حيث تنويع مصادر المادة الموضوعية أو الاستلهام بين ماضي المدينة القريب, أو ماضيه هو نفسه المستعاد من عالم طفولته الشخصية تقريبا في الحي العتيق من المدينة، وبين المدينة المعاصرة الحالية في أحيائها الجديدة وأناسها الجدد وأساليب حياتهم, ومن ثم تفكيرهم -الجديد او من حيث الاسلوب والسمات والتكتيكات الاسلوبية وأنواع البلاغة التعبيرية المستخدمة. يمكننا القول بأن كتابة نجيب محفوظ قد مرت بخمس مراحل, متمايزة ولكنها متداخلة: من: همس الجنون (38 9 1) إلى كفاح طيبة (1944) ومن: القاهرة الجديدة (1945) إلى: السكرية (1957) ومن. أولاد حارتنا (1959)الى: ميرامار (1967) ومن: خمارة القط الأسود (1969)الى: أفراح ألقبه(1981) ومن: ليالي ألف ليلة وليلة (1982) الى: الآن (1994) يقول الدكتور محمد عناني, في الدراسة الوحيدة المنشورة،المخصصة لتأصيل البحث عن ملامح لغة القص عند نجيب محفوظ.
لا يستطيع أحد ان يصدر أحكاما عامة حول لغة كاتب متنوع وغزير دون المخاطرة بالتبسيط الزائد على الحد.والحاصل هو أن محفوظ قد تطور عبر السنين من تقليدي,يكافح ضد، أو على الأقل, يرفض قيود "بلاغته " هو الخاصة،إلى حداثي يجرب في اللغة وينجح في النهاية في ترويض تلك البلاغة وتكييفها لتتناسب مع أغراضه. لقد كان موقفه الأول,هو موقف التقليدي الذي يعني بأن تتصف كتابته بصفات العربية الحقيقية, باستخدام البلاغة الكلاسيكية، التي لا يمكن تمييزها الان عن قواعد أي أسلوب "جيد" اكثر مما يعني باحتياجات فنه, ولمدة تزيد على العقد من السنوات ظهرت على لغته علامات الصراع, فيما كمان يتردد، وغالبا ما يتأرجح بين طرفين متقابلين وغالبا ما يستخدم أكثر من "انموذج اسلوبي "واحد. كانت الفصحى العربية الحديثة في الثلاثينات, حينما نشر رواياته الأولى، قد ترسخت بوصفها لغة المثقفين. بينما كانت الفصحى النموذجية القديمة قد حصلت على الاعتراف -من قديم -بأنها هي لغة المثقفين ولكن يجب أن نضيف على عبارات د. عناني هنا، أن التضارب بين النموذجين للفصحى:القديم والجديد، كان على أشده مايزال. كان طه حسين هو صاحب الأسلوب النموذجي الأول, وهو أسلوب مستمد مباشرة من القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي, فيما كان المجددون مايزالون يصوغون اسلوبهم, وكان الصراع قد بلغ ذروته بين طه حسين وبين رؤوس المجددين – سلامة موسى من جانب والعقاد من جانب آخر، ولم يكن مشروع التعاون بين طه حسين وبين المجدد الأصولي, أحمد أمين, أن يستمر بسبب اختلاف المناهج وتضارب الأساليب.. ولكن الأنموذج الكلاسيكي لم يكن قد استبعد بشكل نهائي (الصحيح أنه كان هو الغالب ما يزال ): فقد استمر بوصفه مثلا أعلى، وهو الذي غذي الأساليب الأولى لمحفوظ.
وهذا في مجمله توصيف سليم وصحيح تماما للخريطة العامة للمبادىء التي حكمت التطور اللغوي – أو البلاغي بتعبير د. عناني – عند نجيب محفوظ. ولكن المبدأ الرئسي الحاكم لذلك التطور كان هو العلاقة الخاصة والفريدة بين ذلك التطور وبين التطور الخارجي في الواقع, السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري.
كانت البلاغة الكلاسيكية، ونموذجها الأعلى المألوف آنذاك,أي القرآن الكريم هى التي مثلت النموذج والمثل الأعلى في المرحلة الأولى أي منذ صدور مجموعة همس الجنون عام1938 تلك وتستلهمها وحتى صدور روايته التاريخية الأخيرة كفاح طيبة عام 1944. ولكن نجيب محفوظ رجل, تسلل -باقتصاد بالغ وحذر شديد – تراكيب فصيحة مبسطة ذات دلالة متطورة وسامية، ولكنها ذات اسقاطات داخلية تشير الى أصلها العامي, فان سطرا حواريا من نوع. وهل يرضى الصحف أن تتزوج ابنة واحد باشا من كاتب بستة جنيهات ؟ (في صفحة145 من قصة. هذا القرن في: همس الجنون..) تركيباته العامية (واحد باشا، بستة جنيهات ).. لهو أمر نادر الحدوث جدا في هذه المجموعة، بل أن كل سطور الحوار نفسه في القصة نفسها-ويمتد لنحو خمس صفحات, لا تحتوي على آية تركيبة أخرى ذات اسقاطات داخلية عامية الأصل.
ولكن مثل تلك السطور النادرة تختفي تماما في الروايات الثلاث التالية، التاريخية، ذات الطابع الرومانتيكي دائما، والملحمي أحيانا، حيث يسود النموذج الكلاسيكي الخالص,ويسيطر المثل الأعلى القرآني, الذي مثلته خير تمثيل "مدرسة" "مجلة الرسالة" في الثلاثينات وحتي منتصف الاربعينات, والتي نشر نجيب محفوظ كل قصص مجموعته الأولى فيها،وانتمى اليها، فنيا، على الأقل.
في المرحلة الثانية (من رواية: القاهرة الجديدة (1945) الى رواية السكرية) وهي الجزء الثالث من الثلاثية المشهورة – عام 57 والتي انتهى من كتابتها فعلا في أوائل صيف عام 1952(ولهذا التاريخ اهميته التي لا تخفى على أحد) – في هذه المرحلة يحدث التطور الكبير الأول. ان البلاغة الكلاسيكية تتوارى بالتدريج, لا دفعة واحدة، ولكن بدفعات قوية، والواقع لا يوصف من الخارج باستمرار وانما يتزايد استحضاره من خلال عيون, أو من داخل أذهان الشخصيات وتحل "رموز" كثيرة من لافتات المحلات او الاغاني الشائعة الى النكات او القفشات المشهورة الي الاشارات المحفوظة لشخصيات محورية بارزة سياسيا وفنيا محل صفات كاملة من السرد أو الوصف.ومع ذلك فان التراكيب الفصحى الخالصة، يمكن أن تتسلل -ما تزال – حتى الى حوار بين امرأتين شعبيتين. في رواية "زقاق المدق " مثلا، تتحدث أم حميدة الدلالة، الأمية مع امرأة مسنة تطلب الزواج من العريس المرشح فتقول الست أم حميدة."ولقد تحدثنا طويلا فعرقت أمور عما في مرجوه " وترد عليها السيدة التي لا تقل أمية عن أم حميدة، وإن انتمت إلى فئة أعلى درجة أو درجتين – في ذات الطبقة عن الدلالة. وتقول. ترى ماذا في مرجوه ؟ وهذا تركيب لا يمكن ان ينتمي إلى العامية بسبب. ولكن الصفحة نفسها من الرواية، فيما يتلو من حوار المرأتين تحمل مفاجأة فالسرد الوصفي فصيح تماما مثل "في مرجوة" ولكن المرأة تهتف بأم حميدة قبل ان تغيب عن ناظريها على السلم "مع ألف سلامة. قبلي عني حميدة". والجملة الأولى، جملة من تلك الجمل الشائعة في الدارجة القاهرية – والمصرية عموما – ذات التركيب الفصيح, والتي تنطق كما ينطقها الفصحاء أما الجملة الثانية، فهى ترجمة الى الفصحى من العامية التي يجب أن تقول. "بوسي لي حميدة "وكان يحن لهذه الصياغة العامية أن تظهر وتظل فصيحة تماما أيضا، رغم أن كلمة "البوسة" الفصحية تكاد تكون قد هجرت الفصحى وظلت في العامية وحدها، واحتفظت الفصحى بالكلمة الأخرى القبلة، التي لم تستخدمها العامية أبدا.. ويبين اختيار نجيب محفوظ هنا أن حذره البلاغي, تصوره من ضرورة الاستغناء عما يمكن ان يكون في العامية من ابتذال, ما يزالان مؤثرين هامين في بلاغته..
ان نهاية هذه المرحلة، في الثلاثية عموما وفي الجزءين الاخيرين خصوصا اللذين كتبا فيما بين 1951 و 1952 – بين القصرين والسكرية – تشهد تطورا هاما فالواقع لا يستحضر فقط من خلال عيون وأذهان الشخصيات, وانما يتعدد "الواقع " نفسه, لكي يشمل العمق الذهني للشخصيات, بل وحالتها النفسية، وحديثها – أو مونولوجها – الداخلي ايضا،لقد هلل النقد المصري, الواقعى المتطور فرحا، حين جسدت كلمات اغنية كانت شائعة في العقد الثاني من القرن يطلب فيها الحبيب من حبيبته أن,"تزوره كل سنة مرة".. جسدت "داخل ذهن " الاب العائد توا من المشرحة حيث رأى جثة ابنه الذي استشهد في مظاهرة وطنية.. ولكن التهليل كان اكبر واشد يقظة وتحديدا، حين اصبح التقابل بين ما يجري في الخارج وبين مايدور في أذهان الشخصيات أو ما تستحضره ذاكرة كل منها، هو التكتيك الأكثر تأثيرا, وآن كان الاقل حضورا في الروايتين, وخصوصا حين ينهمر ذهن البطل المثقف في تداعيات داخلية تتصاعد حول موضوع الحب الضائع بسبب الفوارق الطبقية لكي تتحول في المونولوج الداخلي الى موضوع التحول من موقف الضياع الفلسفي التأملي اللامبالاة بـ "المجتمع " الى موقف اختيار "الثورة كضرورة لتغيير الأوضاع والمصائر".
ان السرد التقليدي يستمر مهيمنا، والجمل الجزلة التركيب وذات المفردات المهيبة القديمة ماتزال هى المسيطرة، ولكن العنامر التكتيكية الجديدة أو التي استخدمت بشكل نادر ف المرحلة السابقة (المونولوج الداخلي, تصوير الواقع من خلال عين أو ذهن الشخصية، الجمل ذات الإسقاط العامي.. إلخ) ستنتج ثمارا اخرى بالغة الأهمية في المرحلة التالية (الثالثة)..
إن "أولاد حارتنا" هى أول ما نعرف أن نجيب محفوظ قد كتب من روايات بعد 1952, والحوار ذو الجوانب والاطراف الثلاثة مستمر بين الكاتب وواقعه وثقافته – الاجتماعية أو الشائعة في مجتمعه – والشخصية معا، وتجربته الابداعية الخاصة. وكان لابد من لغة "جامعة" لتستطيع تلخيص تاريخ سعي العقل والروح الانسانيين الى العدل والكرامة والحرية – الحرية الاجتماعية والكونية معا – وتجسيد هذا التلخيص, في بناء روائي (وهذا في الحقيقة هو الهيكل العام لمضمون ؟ أولاد حارتنا). والمدهش ان يبدأ تحقيق هذه اللغة الجامعة، الحداثية وهي مغروسة في تربة التراث الشامل للفصحى الجديدة والقديمة والدارجة القاهرية سويا – في رواية تستمد مادتها من عالم اقدم أحياء القاهرة. وأكثرها أمية وبعدا عن الفكر المتطور أو المعرفة العلمية، ومن زمن غير محدد، ولكنه يبدو زمنا تاريخيا – بشكل ما – ينتمي إل العصور الوسطى أو نهايتها -بأكثر مما ينتمى إلى أي زمن آخر، ولكنها العصور التي امتدت – كما نعرف في مصر – لأكثر مما ينبغي, والتي تركت على الحياة المصرية آثارا ما تزال مستمرة إلى الآن وملحوظة.
ولذلك فان الانتقال, بنفس اللغة الحداثية، تقريبا من تلك البيئة ومن ذلك الزمن, إلى بيئة القاهرة الجديدة المعاصرة،وفئاتها الاجتماعية الأكثر تأثيرا في الواقع – فئات الطبقة الوسطى المتعلمة والمهنية – لم يكن انتقالا متعسفا، كما أنه لم يكن انتقالا سلبيا. ان الجمل تتخلص من كل الحواشي, والسرد يتقلص بينما يكاد الوصف يتلاشى، أو على الاقل يتلاشى الوصف الخارجي – من وجهة نظر المؤلف – لكي يحل التصوير المركز عن وجهة نظر الشخصيات محله, وتتكاثر لحظات تداعى الأفكار واستنطاق عوالم الاذهان الداخلية، ليس فقط باستخدام تكنيكات المفاجأة الذاتية أو المونولوج الداخلي,بل من خلال الحوار نفسه, اننا نتعرف أكثر على شخصية "سعيد مهران " بطل اللص والكلاب أو على بيئته وتاريخه -مثلا – من خلال مواقف حوارية أساسا، تتركز فيها عبارات الحوار – تركيزا دراميا – إلى أقصى حد، بينما تتأثر صفحات تصوير الأماكن أو استدعاء الذكريات أو الدخول في تأملات أذهان الشخصيات لكي يتكون بناء متماسك محدود الحجج غزير الدلالات بدرجة كبيرة، ويتصاعد التحكم في هذا التكنيك لجديد، اللازم من أجل ضمان القدرة على توصيل الرسالة النقدية والمبشرة – أو المنذرة بما يستخلصه الكاتب من عملية مراقبته الحميمة للواقع الذي أصبح – أو تبين أنه – أكثر تعقيدا مما كان يخطر على بال أحد. أن اللغة، أو البلاغة الروائية الجديدة هذه لا تصبح فقط, مجرد وسيلة لتوصيل رسالة – أو معنى – بشكل نافذ ومكثف, وانما تبدو كما لو كانت أسلوبا للتفكير، يهدف إلى تحويل عناصر الواقع, البالغة التعدد والتداخل, إلى رموز أولية يسهل الامساك بها، وهي مع هذا ليست رموزا رياضية مجردة، وانما هى خصيات انسانية, متكاملة فنيا، وتواريخ ومواقف وعلاقات وصراعات ونتائج تترتب عليها علاقات أو صراعات جديدة.
ولن نستطرد الآن الى المرحلتين الباقيتين, حسب تصورنا المذكور – آنفا – (المرحلة من خمارة القط الأسود – 1969 الى أفراح القبة1981) أي من بعد هزيمة1967 وما اعقبها من صمت نجيب محفوظ إلى حادث اغتيال الرئيس السادات وما أحاط به من ملابسات وما سبقه من مقدمات تغير بها شكل وتوازن المجتمع المصري – وتوجه الثقافة المصرية – كلها ثم المرحلة من: ليالي ألف ليلة 1982 إلى الآن برواية قشتمر1989، التي يعاد فيها تقييم الماضي القومي والاجتماعي والشخصي, ويعاد فهمه حتى يمكن تثبيت قواعد للمستقبل..
لن نستطرد الآن الى هاتين المرحلتين الباقيتين لسبب جوهري, هو انهما شهدتا أساسا – على المستوى اللغوي, وتطوير الأدوات الأسلوبية والبلاغية – في التراكيب والسياقات – التي تم انضاجها في المرحلة الثالثة، والتي كانت تباشيرها,وليدة وساذجة ومترددة، وجدت فعلا في المرحلة التالية. بعد شىء كان كبداية الخلق بنبضه الضعيف في المرحلة الأولى.
سامي خشبة (ناقد ومترجم مصري، نائب رئيس تحرير الاهرام)