أحمد الأغبري *
تُمثِل الحربُ الخطر الأكبر تهديداً للتراث الثقافي، وخاصة المادي منه كالمواقع الأثرية والمُدن التاريخية والمعالم الدينية والمخطوطات؛ فالحربُ، هنا، تستهدفُ ذاكرة وهُوية وثقافة الإنسان، بموازاة ما ترتكبه من جرائم قتل وتجويع وتنكيل وتدمير؛ فوحشية الحرب في اليمن، التي دخلت عامها السادس، لم تستثنِ شيئاً، وخسائر التراث هناك تفوق ما تنقله وسائل الإعلام بكثير.
المتاحف.. الصورةُ قاتمة!
ولكَ أن تعرف -على سبيل المثال- أنه في ظرف ثوانٍ أزالت غارتان للطيران متحفاً إقليمياً للآثار وسوّته بالأرض؛ فخسرَ اليمن في تلك الغارتين (12500) قطعة أثرية، من خلال الاستهداف والتدمير الكلي لمتحف ذمار الإقليمي (وسط) في 21 (مايو) عام 2015، أي بعد أقل من شهرين من اندلاع الحرب. تلك كانت خسائر متحف واحد فقط، وبينما الخسائر تتضخم، ما زال العالم، كأنه يصُمّ أذنيه ويُغلق عينيه عن مأساة هذا البلد النازف!
«أدعو من خلالكم العالمَ للالتفات إلى التراث اليمنيّ قبل فوات الأوان»، يقول رئيس الهيئة العامة للآثار والمتاحف بصنعاء مُهنّد السياني.
في المرتبة الثانية من خسائر متاحف اليمن خلال هذه الحرب بعد متحف ذمار الإقليمي كانت محافظة تعز (جنوب غرب)، وتسببت غارات للطيران والمواجهات الأرضية أيضاً، في تدمير وحرق وإتلاف ونهب محتويات متاحفها الثلاثة، وكانت خسارة كبيرة. يقول مدير عام المتاحف بالهيئة العامة للآثار والمتاحف عبد المنان العبسي، متحدثاً عن استعادة نحو سبع مئة قطعة تقريباً في وقت لاحق من جماعة مسلحة هناك «وما زال البحث جاريًا عن المنهوب والتالف من القطع الأثرية»، موضحاً لـ»نزوى» أن الطيران ألحق، أيضاً، بعض الأضرار بمباني المتحف الوطني ومتحف الموروث الشعبي بصنعاء والمتحف الوطني بعدن (جنوب) ومتحف عتق بمحافظة شبوة (جنوب)، فيما تمّ إنقاذ بعض محتويات مخزن صرواح بمحافظة مأرب (شرق)، كما دمرت غارات جوية مخزن البعثة الإيطالية بمدينة براقش (مأرب)؛ وهي المدينة التي شهدت مؤخراً مواجهات، وما زالت الخسائر هناك على صعيد التراث غير معلومة.
بالإضافة إلى المتاحف الأربعة المدمرة بشكل مباشر جراء غارات الطيران، تَحدّثَ العبسي عن آثار غير مباشرة للحرب على المتاحف؛ إذ بسبب الحرب ما زال (19) متحفاً تابعاً للهيئة مغلقة في ظل عدم توفر إمكانات الحراسة والحفظ والتخزين مع طول أمد الحرب.
كما أن محتويات متحف قسم الآثار بجامعة صنعاء من المومياوات تعرضت للتلف نتيجة الافتقار إلى إمكانات الحفاظ خلال فترة الحرب. وغير بعيد، مخزن المتحف الوطني في عدن، ما زال مغلقاً بأمر قضائي منذ عام 2009، ولم يتم فتحه حتى اليوم: «ولك أن تتصور حال مخزونه بعد عشر سنوات من الإغلاق دون أي شكل من أشكال العناية»، يضيف العبسي.
وحسب رئيس هيئة الآثار السياني: «عند بدء الحرب عملنا على نقل محتويات بعض المتاحف إلى مناطق آمنة داخل المتاحف نفسها اعتقاداً منا أن الحرب ستدوم شهوراً، بينما تدخل الحرب اليوم عامها السادس، ما فرض علينا واقعاً صعباً كنا فيه ملزمين بعمل ما يمكن عمله من أجل حماية مخزون المتاحف من تأثير الرطوبة والقوارض وسوء الأحوال المناخية»، متحدثاً بمرارة عن خسائر متاحف ومخازن الآثار في البلاد لا سيما أن بعض المخازن لا يمكن الوصول إليها، وجميع المتاحف تفتقر إلى إمكانات الحفظ بالإضافة إلى ما لحق بها من خسائر جرّاء الاستهداف المباشر وغير المباشر.
وكانت حروب وصراعات مسلحة شهدتها اليمن في فترات سابقة ألحقت أضرارًا ببعض المتاحف والمخازن، كتدمير وتلف معظم محتويات متحف زنجبار بمحافظة أبين (جنوب) وتدمير وتلف محتويات مخزن صَبِر بمحافظة لحج (جنوب) في الحرب التي شنها الجيش اليمنيّ على تنظيم «أنصار الشريعة» التابع لتنظيم القاعدة عام 2011م.
بل إن استمرار الحرب الراهنة يمثل تهديداً كبيراً لمتاحف ومخازن آثار البلاد لما تفتقر إليه هذه المنشآت من إمكانات حماية وعناية وتوثيق؛ وهذه الأخيرة في غاية الأهمية؛ فاليمن، حتى الآن، لا يمتلك رقماً وبيانات لمجمل مخزونه الآثاري متحفياً ومخزنياً.
مواقع الآثار
ما سبق كان حديثاً موجزاً عن خسائر متاحف ومخازن آثار اليمن جراء الحرب، وفيما هنا الشقّ الثاني من الصورة الأكثر مأساوية والمتعلق بمواقع الآثار والمُدن التاريخية والمعالم الدينية وغيرها.
في تاريخه المعاصر شهد اليمن عدداً من الحروب؛ وللأسف كانت المواقع الأثرية والمعالم التاريخية في معظمها عُرضةً للاستهداف؛ وهي المخاطر التي زادت مع وجود تلك المعالم في مناطق الصراع وتحولها إلى ساحات مواجهات أو مناطق تَمترُس؛ وهو ما ألحق بها خسائرَ كبيرةً. لكن مهما كانت الخسائر التي ألحقتها الحروب السابقة في المعالم التاريخية فهي لا تُقارن بما ألحقته الحرب المستعرة منذ مارس 2015، إذ ألحقتْ أضرارًا بالغة بمواقع التراث باعتبارها شملت معظم البلاد؛ وبالتالي كان التراث الثقافي في جميع اليمن جزءاً من مسرح الحرب أو متضررا غير مباشر منها، كما أن استهدافه بغارات الطيران جعل خسائره كارثية؛ لأننا نتحدث هنا عن معالم تتأثر بالقوارض فما بالك بانفجارات الصواريخ الذكية.
يُقسّم مهنّد السياني الأضرار التي ألحقتها هذه الحرب بالمواقع الأثرية والمُدن التاريخية وغيرها في اليمن إلى نوعين، الأول: أضرار مباشرة لغارات طيران التحالف وتسببت، وفق إحصائية أولية للهيئة العامة للآثار والمتاحف، في استهداف (66) موقعاً أثرياً ومعلما تاريخياً نال بعضها دماراً كلياً وبعضها دماراً جزئياً، وشملت مُدنا وقرًى تاريخية ومواقعَ أثرية ومعابدَ وقلاعًا وحصونًا وقصورًا ومساجدَ وسدودًا ومتاحفَ وغيرها، «وهي إحصائية أولية -يقول مهند- بمعنى هي ما استطعنا الوصول إليه، بينما هناك مناطق بما فيها مناطق اشتباكات لم تتمكن الهيئة من الوصول إليها، وتوثيق ما لحق بها من دمار كمحافظتي صعدة وحجة ومناطق أخرى كمدينة براقش، مثلاً، حيث يتطلب النزول إليها مخاطبة لجنة نزع الألغام من أجل مسحها وتأمينها بما يضمن سلامة الفريق الأثري».
أما النوع الثاني فهي الأضرار التي لحقت بالمعالم والمزارات الدينية، والتي استهدفتها التنظيمات الإرهابية التابعة لتنظيميْ القاعدة وداعش خلال الحرب. وهنا تحدث مدير حماية الآثار في الهيئة العامة للآثار عبد الكريم البركاني عن توثيق (28) معلماً ومزاراً دينياً تم تفجيرها وهدمها كلياً وجزئياً في مناطق مختلفة من البلاد، لكنه أضاف لمجلة نزوى إن «هناك عددا كبيرا من المعالم والمزارات والأضرحة تم تفجيرها وهدمها في مناطق شريط الساحل التهامي، ولم يتمّ توثيقها لعدم التمكن من الوصول إليها كون المعارك هناك لم تتوقف تماماً».
ويضيف السياني نوعاً ثالثاً من الأضرار التي لحقت بالآثار والمُدن التاريخية والمعالم الأثرية وغيرها؛ وهنا يقول: «يعاني اليمن من ظاهرة تهريب الآثار منذ القرن التاسع عشر، لكن أصبح تهريب الآثار الآن أكبر بكثير مما كان عليه قبل الحرب، ونتيجة لذلك زادت أعمال النبش والتخريب لمواقع الآثار إضافة إلى ظهور ظاهرة جديدة متمثلة في تزوير القطع الأثرية، ومعها اتسعت أعمال البحث عن الكنوز، وفي سبيل ذلك يتمّ تدمير وتخريب مواقع ومعالم مهمّة».
على صعيد المُدن التاريخية ألحقت غارات الطيران أضراراً بالغة بمدينة صنعاء القديمة (ضُمّت إلى قائمة التراث العالمي عام 1986) جراء استهداف مباشر وغير مباشر من الطيران، إضافة إلى ما فرضه واقع الحرب من إهمال وفساد إداري زاد معه عدد المخالفات المعمارية داخلها ما كرّس من وضعها ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر في قائمة «اليونسكو»، كما تسببت الحرب في إلحاق بعض الأضرار بمدينة شِبام حضرموت (ضُمّت إلى قائمة التراث العالمي عام 1982)، وهنا أنزلتها «اليونسكو» إلى قائمة التراث المهدد بالخطر، وقبل صنعاء وشِبام حضرموت كانت «اليونسكو» أنزلت مدينة زبيد التاريخية (ضُمّت إلى قائمة التراث العالمي عام 1993) منذ سنوات إلى قائمة التراث المهدد بالخطر، وقد تعرضت المدينة لأضرار، وخاصة جراء الغارات الجوية، زاد من تهديدات معمارها ومعالمها التاريخية. كما أسهمت الحرب في تدهور وتراجع جهود حفظ وحماية واقتناء المخطوطات ما عزّز من ظاهرة تهريبها.
ما زال التراثُ الثقافي في اليمن ينزف، والعالم ما زال لا يأبه لخسائر هذه الحرب الملعونة في بلدٍ يُعدّ من أهم المراكز الحضارية القديمة في العالم!