أحمد مجاهد
لم يكن غريبا أن تحمل إحدى قصائد حجازي بديوانه (كائنات مملكة الليل) الذي كتبه في باريس اسم لوحة بيكاسو الشهيرة (جيرنيكا)؛ لكن الغريب هو عنوان القصيدة نفسه (جيرنيكا أو الساعة الخامسة). فإذا كان المدخل الصحيح لقراءة قصيدة يبدأ بعنوانها، فإن الصياغة اللغوية لهذا العنوان جعلته يمثّل مشكلة أولية للقارئ عند تلقّي النص، بدلًا من أن يمثّل مصباحًا يُضيء له الطريق.
فحجازي يضع عنوانين لقصيدته، الأول: يشير إلى دائرة المكان، متمثّلا في الإشارة إلى لوحة الجيرنيكا التي تصوّر آثار الدمار الوحشي على القرية الإسبانية الصغيرة «حين قصفت الطائرات الألمانية بإيعاز من فرانكو، قرية الجيرنيكا الصغيرة في إقليم الباسك الإسباني بطريقة وحشية» (1).
أما العنوان الثاني: فيشير إلى دائرة الزمان، متمثّلا في عبارة (الساعة الخامسة).
ولكن ما علاقة هذه الحادثة بالساعة الخامسة؟ هل هي الساعة التي بدأ أو انتهى فيها قصف القرية؟ وما فائدة هذا التوقيت بالنسبة للمتلقّي المصري/ العربي الذي يختلف المدلول الرمزي لهذه الساعة في نفسه عنه في نفس الإسبانيين؛ نظرا لاختلاف التوقيت وتباين ساعات الشروق والغروب؟
إن عطف الشاعر للعنوانين بأداة العطف «أو» التي (تساوي) بين الطرفين في المرتبة النحوية، وتقتضي (اختلاف) المعطوف عن المعطوف عليه، تجعل علاقة الجزء الأول من العنوان بالجزء الآخر منه علاقة جدلية، حيث يتفق الجزءان في الإشارة إلى مغزى عام موحّد تنتجه القصيدة من جهة، وينتج كل جزء منهما دلالته المستقلة بالتفاعل مع وحدات النص من جهة أخرى.
إذن ليس أمام المتلقّي سوى أن يشرع في قراءة النص.
تتألف القصيدة من أربعة مقاطع تحمل العناوين الآتية: «خطبة لوسياس الأخيرة، بحارة ماجلان، بابلو نيرودا، المشهد الأخير من فيلم زد».
في المقطع الأول يتحدث الشاعر عن المحامي والخطيب الإغريقي الشهير لوسياس، وقد أشار حجازي إلى اشتغال لوسياس بالمحاماة في قوله: «أغنياته للحق»، كما أشار إلى اهتمامه الخاصّ بالأفكار في قوله: «الكف التي كم رفرفت فوق رؤوس الناس بالحكمة»، داخل المقطع الذي يبدأ بقوله: «كان لوسياس على سجادة البهو قتيلا»، وينتهي بشرح الأبعاد الدرامية لهذا المشهد التراجيدي المفجع:
في الستين يا لوسياس
لن تحسن تلك المهنة الأخرى،
ولو صرت اشتراكيا،
وقاسمت أرقاء أثينا الخبز والخمر.
وهل كنت أخذت القصر بالسيف،
لكي تمنعه بالسيف؟
لا بأس إذن
أن يقتل الجند خطيبا،
تحت سقف البرلمان!
يرى الشاعر أن تحوّل لوسياس من استخدام الكلمة التي يجيدها، إلى استخدام السيف الذي لا يجيده، هو الذي تسبب في قتله. فقد شارك لوسياس بالفعل في النضال ضد مجموعة الثلاثين الإسبرطية حتى سقطت، وعاد مرّة أخرى إلى أثينا بعد نجاح الثورة الديمقراطية، ولكن في صفوف السلطة هذه المرة.
ويمكن للقارئ أن يخرج بمجموعة من الإشارات الدالّة عن لوسياس تساعده في اقتحام المقاطع التالية من النص، وهي: الموت قتيلا، على أيدي الجنود، تحت سقف البرلمان، في سبيل الدفاع عن الاشتراكية.
يحمل المقطع الثاني عنوان: «بحّارة ماجلان»، وعلى الرغم من التباين الواضح بين شخصيتي لوسياس الخطيب وماجلان الملاح، فإنّ الشاعر قد عثر على رابط خفيّ بينهما علينا أن نتحسس طريقه في هدوء، حيث يقول في بداية المقطع:
كانت الشمس التي تلفحنا فوق مدار السرطان
زهرة مقرورة
فوق مدار الجدي
إنها التفرقة الطبقيّة التي تجعل نصف الكرة مقرورا وادعا، والنصف الآخر يصطلي في جحيم الشمس.
وقد حاول ماجلان الذي يبدو اشتراكيا من هذه الزاوية أن يوحّد العالم، ويثبت أن البشر كافة يعيشون في سلّة واحدة فوق ظهر الكرة الأرضية، لكن الواقع المؤلم لم يسمح له بإكمال هذه المحاولة النبيلة:
ليست هذه الأرض إذن تفاحة،
بل صخرة تفلت منا
في التقاويم التي لم نكتشف إيقاعها الصعب،
فمن يوقف هذا الدوران
ساعة،
ندفن ماجلان فيها،
ونشم الريح هل تحمل طعم الشاطئ الآخر؟
إن ماجلان «قد قتل في جزيرة سيبو يوم 27 أبريل عام 1521»، فصحيح أنه قد «نجح في إثبات ما فشل فيه كولومبس، وبرهن على أن الأرض كروية»(2)، لكنه لم ينجح قطّ في التوحيد بين قلوب البشر وعقولهم:
كم تبعد شيلي عن نيويورك،
وعن موسكو؟
وكم قبر من الساحل للساحل؟
كم ميل ترى بين الكلاشينكوف والأيدي؟
كم يبعد مبنى البرلمان
عن سلاح الطيران!
إن مدافع الديكتاتورية أقرب ما تكون إلى ساحات الديمقراطية، والنظام الرأسمالي في نيويورك أبعد ما يكون عن النظام الشيوعي في موسكو حينها، والطريق بين المدينتين/ النظامين مفروش بقبور المناضلين.
فليس غريبا أن يشترك لوسياس مع ماجلان في أن كلًا منهما قد مات قتيلا في سبيل الدفاع عن الاشتراكية.
يبدو أن النص قد بدأ في ترسيخ ملامح مشتركة بين مجموعة الشخصيات الموظّفة داخله من خلال تراكم بعض الصفات المعينة، لكن علينا مواصلة الرحلة قبل أن نقطع بهذا الحكم.
إن المقطع الثالث من النص يحمل عنوان «بابلو نيرودا»، شاعر شيلي الذي قضى حياته مدافعًا بفنّه عن الاشتراكية في بقاع الأرض كافة. فقد وقف بجانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية من خلال ديوانه (إسبانيا في القلب)، كما ساند المقاومة الروسيّة في ديوانه (نشيد ستالين جراد)، ثم كلل أعماله بـ (النشيد الأممي) الذي هاجم فيه طغاة العالم بوجه عام.
إن حجازي يبدأ حديثه عن الشاعر الاشتراكي قائلا:
ها هو الثور الخرافي
يقوم الآن من لوحات بيكاسو،
ومن أشعار لوركا
بينما أصبحت شيخًا،
عاجزا عن أن ترى روعته الوحشيّة البكر،
وتلقاه بذات العنفوان
في الثلاثين التي لم تتكرر أبدا،
كنت تناديه،
وتغويه بزخات السهام الحمر أن يأتي،
وتعطيه الأمان.
إذا كانت عبارة «لوحات بيكاسو» ترتدّ بالقارئ العادي إلى النصف الأول من العنوان (الجيرنيكا)، فإنه يمكن لعبارة «أشعار لوركا» أن ترتدّ بالناقد المتخصص إلى النصف الآخر منه (الساعة الخامسة)، حيث تذكره بقصيدة لوركا «نشيد جنائزي من أجل إيناسيو سانشيز ميجاس» التي يرثي فيها مصارع الثيران الإسباني الشهير»، حيث تعد «الساعة الخامسة» عبارة محورية بارزة يبدأ بها لوركا قصيدته، ويكررها 27 مرة في المقطع الأول الذي يتألف من 48 سطرًا فقط(3).
وتجدر الإشارة إلى أن قصيدة لوركا تتّفق بنائيّا مع قصيدة حجازي أيضا في أنّها تتكون من أربعة مقاطع يستقلّ كل مقطع منها بعنوان فرعي، ودلاليًّا في أنّها تصور (لحظة موت) هذا المصارع العظيم. كما أنها تتفق مع هذا المقطع من نص حجازي، ومع لوحة بيكاسو أيضا، في الاهتمام البارز بالثور، وتوظيفه فنيّا بوصفه رمزا للقاتل المعتدي.
وعلى الرغم من كل هذه الترشيحات التي ترجح أنّ المقصود بعبارة (الساعة الخامسة) في عنوان قصيدة حجازي هو الإشارة إلى قصيدة لوركا، فإن عبارة «فراي» ما زالت تؤرقني وتجلد مسامعي: «إنه من السخف اعتبار حكم الناقد الحكم الأخير على معنى القصيدة» (4)
فماذا عن تفاعل القارئ العادي الذي لا يعرف قصيدة لوركا، مع الجزء الآخر من العنوان؟ وماذا عن قدرته على إنتاج دلالة متفرّدة تنأى به عن أن يكون مرادفا شعريّا للوحة بيكاسو؟
إذن لنصبر قليلا على سبر غور هذا العنوان، ولنرجع مرّة أخرى إلى لوحة بيكاسو التي نعرفها.
إذا كان بيكاسو قد اهتمّ في الجيرنيكا/ اللوحة بشكل الثور بصفة خاصة، فإن حجازي قد منح الثور درجة مماثلة من الاهتمام في الجيرنيكا/ القصيدة، حيث يحتلّ الفقرة السابقة بالكامل، ويتكرر ثلاث مرّات أخرى في الجزء الباقي من المقطع. وقد ربط الشاعر بين نيرودا وبيكاسو ولوركا من خلال رمز الثور الذي يتردد كثيرًا في أعمالهم الفنية. ولكن هل يختلف المدلول الرمزي للثور في الجيرنيكا اللوحة عنه في الجيرنيكا القصيدة؟
إذا كانت الجيرنيكا اللوحة تحتوي على تسعة أشكال: أربع نساء، طفل واحد، تمثال المحارب، الثور، الحصان، الطائر؛ فإن آرنهيم يقول «إن بيكاسو قد اهتمّ بصفة خاصة بشكل الثور في اللوحة، فهو في اللوحة المكتملة شكل بارز وكل العيون مصوّبة نحوه: المرأة الصارخة، والطفل الميت، والمحارب، والحصان، وإحدى النساء ترفع المصباح ناحيته، والمرأة الصارخة تجري نحوه وتحدّق في الاتجاه العام، فقط المرأة التي تهوى ناحية اليمين في عزلتها هي المقابل المتناغم مع الثور المعزول. وبينما تعرض هذه المرأة حاجة شديدة إلى المساعدة، فإنّ الثور يظلّ في الطرف الآخر من الثبات والاستقرار. إنّه الشكل الوحيد الذي يقف بثبات على ساقيه. إن عزلة المرأة المتهاوية هي الكارثة النهائية، أمّا الثور فيبدو خارج المأساة؛ بل يبدو غير متأثّر بها ويفشل في الاستجابة، ليس بسبب نقص مشاعره (لأن حركة ذيله العنيفة تدلّ على المشاعر الداخليّة) لكنه يبدو غائبا عن المشهد رغم تناسب وجوده داخله» (5) .
وأرجو ألا أكون متجاوزًا إذا قلت إن هذا الثبات الغريب للثور الذي يبدو خارج المأساة، وهذا الحضور المكثّف له الذي يبدو أقرب ما يكون إلى الغياب، يذكرني على الفور بوجه الجينرال فرانكو الذي أوعز إلى الحكومة الألمانية بقصف قرية الجيرنيكا الوادعة.
ويبدو أن المدلول الرمزي للثور في الجيرنيكا القصيدة لا يختلف كثيرا عن هذا الفهم، حيث يقول حجازي في باقي المقطع:
من يغنيك النشيد الأممي الآن،
من يدنيك من أرض الهنود الحمر،
من رائحة النترات والخبز
ومن ليل المراعي،
لتشم النار في العشب الشتائي
ومن يعطيك أسماء الذين استشهدوا قبلك؟
في الستين يأتي الثور في هيئته العصرية النكراء
في حلته الصفراء،
يأتي
بينما أنت هنا وحدك
ملقى على فراش المرض الملعون
ماذا؟
قد تأخرت أيها الثور الخرافي
تأخرت كثيرا،
أيها الثور الجبان!
إن الثور في الجيرنيكا القصيدة جينرال قاتل يرتدي الحلة الصفراء أيضا، ولكنه يقيم هذه المرّة في شيلي التي ورد ذكرها بالمقطع السابق.
فندرك أن اختيار الشاعر لشيلي لم يكن من قبيل المصادفة، وأن قبر نيرودا واحد من تلك القبور الممتدة من الساحل للساحل، وأن ثمّة أميالا كثيرة بين فكر نيرودا الاشتراكي (مبنى البرلمان)، وبين عضلات الجينرالات اليمينيين الموالين لأمريكا (سلاح الطيران)، الذين اشتدّ ساعدهم في شيلي عام 1973، حيث استطاعوا بالإضافة إلى قتل نيرودا، الاستيلاء على الحكم بعد انقلاب عسكري قاده الجينرال بينوشيه ضد الرئيس الاشتراكي سلفادور اللندي.
إن نيرودا يشترك مع لوسياس وماجلان في أنّه قد مات قتيلا، على أيدي الجنود، في سبيل الدفاع عن الاشتراكية.
أما المقطع الرابع والأخير فيحمل عنوان (المشهد الأخير من فيلم زد)، ويقول في بدايته:
كان نوّاب الأقاليم يشدون على الأعين ظل القبعات
السود في خوف فكاهي
وينسلون في الليل فرادى.
تلك سياراتهم مذعورة،
تمرق كالفيران،
في منعطف الوادي الذي يمتدّ مثل الأفعوان
والرئيس الاشتراكي على سجادة البهو،
بنظارته، شيخ وحيد،
هجرته هيبة المنصب،
والحراس قتلى حوله،
والدم ما زال طريّا.
وجنود الانقلاب الجامد والأوجه،
يلقون على جثته القبض،
ويصطفون كالأعمدة الجوفاء في البهو
إنه قتيل اشتراكي جديد يموت تحت سقف البرلمان أمام «نواب الأقاليم»، وفوق «سجادة البهو» أيضا مثلما «كان لوسياس على سجادة البهو قتيلا».
فهذا الرئيس يشترك مع لوسياس وماجلان ونيرودا في أن كلًّا منهم قد مات قتيلا، على أيدي الجنود، في سبيل الدفاع عن الاشتراكية.
لكن مشاهدة الفيلم تكشف أن الشاعر لا يعرض المشهد الأخير من فيلم زد، بل يعرض رؤية موازية له. فالقتيل في الفيلم ليس رئيسًا، بل نائبا برلمانيا. ومكان القتل ليس مبنى البرلمان، بل ميدانا عاما. ووسيلة القتل ليست انقلابا عسكريا بل سيارة مسرعة.
إذن من أين جاء هذا (الرئيس) الذي يطالعنا في القصيدة؟
إذا كان المخرج قد اختار «ألا يحدد البلد الذي تدور عليه أحداث فيلمه، أو الزمان الذي وقعت فيه»(6)، مما حوّل رسالته إلى شفرة حرّة تصلح للتأويلات المتعددة»؛ فإنّ حجازي قد اختار التقنية نفسها، حيث تعمد إغفال اسم ذلك الرئيس الاشتراكي، حتى يمنح القارئ فرصة إكمال فضاء النص بمن يشاء من أسماء.
إن إشارة الشاعر إلى شيلي ونيرودا يرشّحان كون هذا الرئيس هو سلفادور الليندي، لكن إشارة الشاعر إلى (الساعة الخامسة) في عنوان القصيدة يمكن أن يطرح دلالة أخرى في ذهن المتلقي المصري/ العربي.
فإذا كانت جيرنيكا الشاعر قرية تضمّ الاشتراكيين، وتهتم تحديدا بتصوير تلك اللحظة التي قامت فيها الأنظمة الديكتاتورية بضرب دعاة الاشتراكية؛ فإن هذا هو ما حدث تماما في الساعة الخامسة، الخامس من يونيو عام 1967، عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية بدلا من الألمانية، أرض سيناء الحبيبة بدلا من الجيرنيكا، بإيعاز من الحكومة الأمريكية بدلا من فرانكو.
حيث يمثل هذا اليوم «5 يونيو» لحظة الانهيار الحقيقية للنظام الاشتراكي في مصر بزعامة جمال عبد الناصر.
وإذا كان بيكاسو قد ابتعد في لوحته «تماما عن أن تكون تقريرًا سياسيًّا، وقام مع ذلك بتصوير آثار الوحشية والدمار التي قد تحدث في أي مكان وتجلب الألم والمعاناة الإنسانية عمومًا(7)، فإن حجازي قد فعل الشيء نفسه في قصيدته، حيث قام بتصوير ضحايا الدفاع عن الاشتراكيّة في العالم عموما، وابتعد عن الإشارة إلى الواقع المحلّي مكتفيًا برمزية العنوان.
وقد يتساءل متلقى هذه القراءة: هل كان الشاعر يقصد اللندي حقا؟ وهل قصد بعنوان (الساعة الخامسة) التقاطع مع لوركا فقط، أم الإشارة إلى الخامس من يونيو أيضا؟
«إن معنى العمل الفنيّ لا يستنفد، بل لا يتساوى مع قصد الكاتب منه. فهو يعيش حياة مستقلة، بوصفه منظومة من القيم. كما أن المعنى الكليّ للعمل الفنى لا يمكن أن يعرف فقط بحدود معناه لدى الكاتب والمعاصرين له. إنه إلى حد كبير عملية تراكم، أي إن معناه يتحدد بتاريخ نقده على يد العديد من القرّاء في العديد من العصور».(8)