الاحتفاء بالدكتور صادق جلال العظم وأبحاثه احتفاء بعقلانية مطلقة العنان في قراءة التاريخ باعتباره سرديّة تقدم وارتقاء. وما يثيره هذا الضرب من العقلانية من قضايا خلافية يذكرني بعمل للفنان «غويا» وهو من مجموعة أعمال نفّذت بأسلوب (الروسمة) Etching ويعود تاريخها إلى عام 1799. ويمثل العمل رجلاً يُعتقد أنه «غويا» نفسه نائماً أو مكبّاً على مكتبه بينما تحتشد من خلفه وحوله أسراب تمثل كائنات متوحشة تندفع بلا هوادة من أعماق الظلام.
وهناك تحت الصورة عبارة تفسيرية نقشت بالإسبانية على سطح المكتب وصيغت على نحو يجعل تفسيرها إشكالياً. فهي تحتمل حسب النقاد قراءة من قراءتين:
الأولى يمكن صياغتها وفقاً للعبارة التالية:
«نوم العقل يطلق الوحوش من عقالها».
وفي الثانية: «حلم المرء بالعقل يطلق الوحوش من عقالها».
للوهلة الأولى تبدو القراءة التنويرية الأولى متناقضة مع القراءة الثانية التي ترى أن الوحوش نفسها هي الموضوع الذي يحلم به العقل.
وهكذا لا يغدو العقل مجرّد ضوء معاكس لظلمة الفانتازيا بل يبين أن له جانبه المظلم الخاص به.
ولكن هذا التناقض يظل تناقضاً ظاهرياً على أي حال.
في «نقد الفكر الديني» و«ذهنية التحريم» يجمع صادق جلال العظم بين القراءتين. فنحن هنا لسنا إزاء نصوص تنتمي إلى النقد (criticism)، بالمعنى العاديّ المألوف، بل تطفُر إلى ما هو أبعد منه، إلى النقد التأسيسي الشامل (critique)، النقد المسلّح بمحمول معرفي متعدد الأنظمة، المشفوع بطاقة حجاجية تقوم آليات تدخلها السجالي بترويض الكائنات المتوحشة (التي تمثل الأفكار المناهضة للفكر العقلاني)، وتتجنب في مخاطبتها القارئ العام لغة الفلسفة الاختصاصية قدر المستطاع.
ولكن خلف هذا الحشد الهائل من المحاجات، وتدفقها العفوي الذي يجعلها أقرب إلى النص المنطوق منها إلى النص المكتوب، تكمن عقلانية العظم الغائيّة في قراءة التاريخ، وهي عقلانية تصف نفسها عادة بأنها صانعة سردية التقدم المستمر بامتياز.
ولكن هل ثمة حقاً عقلانية في قراءة التاريخ كحتمية تاريخية صانعة للتقدم؟
تاريخ من؟… ووفقاً لأي نموذج (باراديم)؟
وما القول عندما تسير الحتمية التاريخية في الاتجاه المعاكس؟
وهل يتعين علينا نحن العرب المعاصرين المرور عبر «طقوس العبور» لكي نحقق التقدم وفقاً للنموذج الأوروبي المسبق الصنع؟
وأخيراً وليس آخراً: هل المركزية الإثنية وضع يمكن أن نتجنبه فعلاً أم أن وجودها لا خيار لنا فيه؟
هذه الأسئلة الخلافية تبدو غائبة عن الطروحات المتضمنة في الكتابين المشار إليهما والتي يعلو فيهما صوت الداعية على صوت الباحث بين الحين والآخر. وفي تقديري أن ذلك ربما يعود إلى كونهما يمثلان فكراً تأسيسياً جريئاً ومبكراً للمواجهة بين العقل والدين في بلادنا.
كتاب: «الإستشراق والإستشراق معكوساً» الذي أتيحت لي فرصة قراءته بالانجليزية لدى ظهوره في مجلة يسارية قبل سنوات، أثار استغرابي الشديد آنذاك. فهو ليس نقداً لكتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد بقدر كونه تفنيداً يبدو وكأنه صمم لأداء هدف محدد هو نسف فكرته من الأساس. وقد اخترت هنا كلمة استغراب عن عمد لأنني أتحدث عن مفكر وأستاذ فلسفة لامع لا يمكن أن يغفل أو يسهو عن أن أحد أعمدة «الاستشراق» الرئيسية يتمثل في طرح إدوارد سعيد لمفهوم «فوكو» في العلاقة بين السلطة والمعرفة، وكذلك نقد سعيد المهم للفكر الليبرالي من موقع التلازم بين السلطة والمعرفة، فضلاً عن استخدامه العملي لفكرة الخطاب بحيث يصبح الاستشراق بهذا المعنى خطاباً تنميطياً سلبياً للآخر.
لا شكّ عندي أن لدى مفكرنا العظم الكثير مما يقوله في هذا الموضوع. ولكنه لم يفعل. وهذا هو مدعاة الاستغراب.
وإذا أردنا استعراض بعض جوانب الدور الذي لعبه كتاب ادوارد سعيد في أكثر من مجال معرفي، وهو دور ينبغي ألا يكون مصيره الإغفال أو التجاهل، يمكننا الإشارة على سبيل تعداد القلة لا الحصر، إلى أن سعيداً قدم نقداً بالغ الأهمية لفكرة شائعة في نظرية المعرفة والعلم الاجتماعي في أمريكا وهي انفصال الحقائق عن القيم وحياد العلم. كما قدم الأساس لتطوير مفهوم الـOtherness ومشكلة الآخر في الثقافات الإنسانية، وهذا المفهوم أثر – كما هو معروف – في الدراسات النسوية والسوداء وما بعد الحداثة.
وأخيراً لابد من التنويه بدور سعيد في بلورة ميثودولوجيا النص لاتجاهات جديدة في تحليل الظاهرتين التاريخية والاجتماعية.
————————————————-
خلدون الشمعة