الى أمي العودة
طوال سبع سنوات ونصف بكيته ، وكنت متيقنة خلالها بأنه لم يمت . وأقنعت نفسي بأنه غائب عن عيني ليس إلا. وبأنه بين يوم وآخر سيدخل البيت ، وسيجدني كالعادة عند زاوية الدهليز الشرقية غير بعيدة عن قاطور "الجحلة " المعلقة على وتدم يبعد عن وأسي بذراع واحد الى اليمين وعلى ارتقاع قامة . أعرف بأنه لم يمت ، ولذلك بكيته ليل نهار، حتى مل مني أحفادي وبناتي وسائر أهل قريتي. ولكن الفجيعة كانت أقوى مما أحتمل . ويدي وحدها كانت في النار، أما الباقون فقد هفتهم ´ حرارتها قليلا. مثلهم مثل الذي يتفرج على حريق كبير يشعر بحرارته من بعيد، أما هناك في قلب النار فلا أحد يعرف سوى . الذي يتفحم . وأنا بعد هذا العمر وجدت زرعي وقد أتت عليه : النار. وأن الأيام أخذته دونما ثمن . أنا التي عرفت مجاعة الحرب الثانية . ومرت علي الرباءات كلها، ورأيت الموت يحدق في: مرات كثيرة . وحتى تلك العصرية كنت أفكر فقط في كيفية مقابلة ربي بهدوء وثبات وطمأنينة . ولكن أن تنقلب الآية وأجد من سيورثني هو من يثاوى قبلي ، وأكون من يكفنة ، فتلك سكين في خاصرة أيامي الأخيرة ،. هو لم يمت ، بل أنا مت على قيد الحياة ،وهو بعث داخلي وسيظل حتى يسدل ستاري الأخير.
ولكنني الآن وبعد ليلة الجمعة وفي العشرين هن شهر جمادي الأول لعام ألف وأربعة وأربعة عشر، علي أن أكفكف دموعي وأبكي بصمت . تلك الليلة فقط تيقنت ورأيت بحواسي . التي لم يذررها كبري، موته الثاني. موته الحقيقي. ليلتها فقط تأكدت بأنه لن يعود، وبأنه ليس هناك من داع لانتظاري طوال الليالي ، علي أرى طيفه بجانب أحدى الحجرات ، أو أسمع . غمغماته خلف جدار البيت الذي ربيته فيه ولعب بين جنباته ، حتى أصبح رجلا وشمعة تدفي ء شتاء عمري. كان علي أن أنتظر .. وأن أصبر على أطنان الدقائق والساعات بقلب جمل . كنت لا أصدق ما يقصه البعض بأنهم راوه مرة يشرب من بئر "الحضاري" ، ومرة يحوم حول بيت واحدة كانت خليلته فيما مضى. لم أصدق كل هذا ، ولكنني وطيلة السنوات التي مرت
كنت أنتظر، وكنت أفسر الظواهر الصغيرة وغير المألوفة لي ، وأربطها بأحداث مرت علينا معا، كل هذا مضى مثلما العمر، حتى تلك الليلة التي سكن النصل فيها تماما داخل أحشائي ولم يعد يتململ .
ليلتها بكيت كعادتي وأنا أقلب صور حياتي بذاكرة تقاوم تعرية الزمن ، تطل على نظراته الصافية الحنونة من جذوع السقف ، وتنبعث ضحكاته من مسامات الجدران . أرى مشيته المتمايلة في لسان القنديل المنعكس ظلا ضخما على الجدار. بكيت حتى جفت مدامعي. أخيرا قمت فصليت ركعتين ودعوت بالغفران مطولا له . بعدها أحسست بالاعياء يدب في مفاصلي اليابسة ، فتوسدت يدي وتخطيت بلحافه الذي لم أغسله لتبقر وانحته عالقة به . لا أدري كم من الوقت غفوت ، ولكنني عندما أفقت وجدت موجات متتالية مدن القشعريرة تبدأ من رأسي وتنتهي عند أطراف تدمسي . كانت كل موجة أشد من سابقتها .. تعوذت من الشيطان وقرأت آية الكرسي ، ولكن الموجات تزداد حدة .. وبدون ارادة مني وجدتني أجتاز الدهليز لأجلس على احدى درجاته قبالة الحوش ، لم يكن قد تبقى من قرص القمر سوى ربعه . كانت قرون السطه ترتسم ظلا على الحوش تبالتي، بينما "الغافة " النابتة وسط الحوش يمتد ظلها حقي خارج البيت مغطيا المدخل وبابه الخشبي. موجات القشعريرة تزداد حدة داخلي وأصوات الليل مألوفة ،والكلاب تتناوب النباح من مواقع مختلفة . وفجأة صمتت الكلاب وازدادت قشعريرتي ووقف شعر رأسي وأحسست ببدني ينتفخ ، ثم سمعت أنينا من بعيد.. أنين آدمي يعذب ويستغيث بصوت واهن .. أصخت السمع جيدا وقد تحولت حواسي الى أذن كبيرة ، وعرفت أنه صوته .. نعم كان صوت سعيد ، الذي لن أنسى رنة حباله ما دام هناك عرق ينبض في جسدي. قمت من جلستي كممسوسة أريد تتبع الصوت ، درت الحارة كلها، فتشت ظلال البيوت ، ومسحت بنظري العتمة كلها، ولكنني لم أر ما تمنته نفسي ، فرجعت أسوق لوعتي الى البيت ، لحظتها سمعت نباح الكلاب يعود الى وتيرته ، وبكيت بحرقة حاضنة لحافه ، ونمت كأنما لم يحدث شيء، ولكنني حلمت ليلتها بأنني وسط حوش البيت أزرع جذره موز يدب العطش فيه ، بينما تهطل سحابة دموعي راوية جذعه الصغير.
عبدالله أخضر (قاص من سلطنة عمان)