ترجمة: حسونة المصباحي
في نهاية الستينات من القرن الماضي، عرف الكاتب النمساوي بيتر هاندكه المولود عام 1942، والحائز على العديد من الجوائز المرموقة آخرها جائزة نوبل للآداب عام 2019، شهرة عالمية واسعة بعد صدور روايته «الشقاء العادي» التي يروي فيها مأساة والدته التي انتحرت. وبعدها أصدر العديد من الروايات التي مكنته من أن يكون من ألمع الأسماء في عالم الرواية العالمية. من بين تلك الروايات، يمكن أن نذكر: «المرأة العسراء»، و«قلق حارس المرمى عند ضربة الجزاء»، و«رسالة قصيرة للوداع الكبير»، و«كاسبار»، و«ظهيرة كاتب» وغيرها. كما أنه كتب مسرحيات عرضت في أشهر المسارح الأوروبية، أشهرها:»العاصفة دائما» التي يروي فيها فصولا من سيرة عائلته التي يختلط فيها الدم السلوفيني (نسبة إلى سلوفينيا) من ناحية الأم، بالدم النمساوي من ناحية الأب.
ومنذ سنوات، قرر بيتر هاندكه العاشق للسفر والموسيقى، الإقامة في بيت قديم في ضواحي باريس، يفصله عن محطة القطار درب ريفي تغطيه الأوراق الصفراء في الخريف، والثلج في الشتاء.
هنا حوار معه أجرته «المجلة الأدبية» الفرنسية في عددها رقم 531 الصادر في شهر مايو-أيار 2013
خلال السنتين الماضيتين، أصدرت سبعة نصوص في ترجمة فرنسية، هل تعتقد أنك تكتب كثيرا؟
كنت قد كتبت «العاصفة دائما» قبل أربع سنوات، وحوار:» الأيام السعيدة لأرانجواز» قبل سنة، أحيانا أنقطع عن الكتابة لفترة طويلة.
بين النَّصَّين، هل تشعر أنك تعمل؟
أنا في الطريق باتجاه مشروع ما، من دون مشروع ستكون الحياة كئيبة حقا، بالنسبة لي يعني المشروع نورا وحركة، نورا خارجيا وداخليا والحركة التي تربط بينهما تؤثر فيهما، وتمنحهما نغما وفيهما تبثّ الحيوية. لكني أحبّ أيضا ألاّ أفعل أيّ شيء، مع ذلك لم أتمكن من إنجاز هذا الوعد. شيء رائع أن تكون لدى الإنسان قضية يتوجب عليه معالجتها، خصوصا حين تكون هذه القضية ملحمية: في أيّ وضعية تكون هذه الشخصية أو تلك، وعلى أي إيقاع تكون القصة. أين الدراما؟ وأين التراجيديا» وأين الفرح؟ وحالما نعثر على الإيقاع، تستبدّ بنا السعادة. لكن علينا أن نعمل طويلا لكي نمسك بها. الملحمي هو طبيعتي العميقة. وأنا كنت قد أصدرت ثلاثة كتب تنسجم معي تماما، وهي: «سنتي في خليج لا أحد»، «فقدان الصورة»، و«الليلة المورافية».
ماذا تعني ب«الملحمي»؟
أنا أعيش عصرنا هذا من خلال ملاحم القرون الوسطى. عندما قرأت «كريتيان دو ترويس»(1) وفولفرام اشنباخ(2) أو غوتفريد فون سترازبورغ(3)، اكتشفت الإيقاع الأكثر اتساعا. كما عثرت على أماكن وشخصيات تنسجم مع طريقتي في أن أحلم بالحاضر. أنا أطوّر شكل رواية تلقيتها من أجدادي الذين عاشوا في العصور الوسطى في نور وريح الزمن الحاضر، بشخصيات من الزمن الحاضر أيضا. وأنا أضع هذه الشخصيات في المفازة، وفي السهوب، وفي أطراف الغابات على حافة مجازة هناك حيث وضع كريتيان دو ترويس ملاحمه.
هل تفضل الأماكن؟
أنا كاتب الأمكنة. والأماكن هي التي تبتكر الشخصيات وتختارها، الناس يتغيرون، ويتخذون أبعادا أخرى. وأنا أرى الناس بوضوح عندما أضعهم في الغابة مثلا، وبنفس الطريقة أنا أشعر بالثلج وهو يتساقط حين أكون في الغابة.
مكان تظهر فيه الشخصيات.. هل هكذا تبدأ الكتابة؟
لكن لا بد أن تكون هناك حبكة، إلاّ أني أميل إلى إخفائها. وأنا استعملها لكي أحصل على الحركة، ليس لي رغبة في أن تسير القصة على نفس الخط. في النمسا، ليس هناك منعرجات لأن البلاد جبلية، ولا بد من الاحتياط من مخاطر الفيضانات، ومن تغيير مجرى الأنهار، وأنا أحب المنعرجات. لكن حين أشعر أنه يتوجب أن يكون كل شيء واضحا، فإني أختار خطا مستقيما محاولا أن أصل إلى أكثر ما يمكن من الوضوح لكي أكتب بالطريقة الأكثر صفاء ووضوحا مثل قاض، أو طبيب، أو جيولوجي.. أحيانا أتوصل إلى ذلك.
أليست الصورة أيضا نقطة بداية الكتابة عندك؟ في دفاترك أنت تكثر من وصف الصور..
-أنا لا أصف، بل أروي صورا. أنا لا أحب الأوصاف. أحب أن تكون هناك حركة، أن تكون هناك ملحمة.
المشاهد الطبيعية، السماء، الأنور في دفاترك دقيقة جدا. ماذا تفعل لكي تحتفظ في ذاكرتك بالتفاصيل؟ هل تأخذ صورا؟ هل تكتب مباشرة انطلاقا من الصورة؟
أنا أرسم كثيرا، لكن ليس لكي أستعمل الرسوم في كتبي ولا لكي أحولها إلى كلمات، وإنما لكي تظل في الزمن الحاضر، ولكي أكتشف أنا ماهية المكان وخصوصيته. صورة فوتوغرافية تسمح لي بأن أربط علاقة بالمكان، وأن أعاين أين يمكن أن أؤكد على شيء ما. لكني أفضّل الرسم، وهو شكل مُهمل لكنه لا يزال يسمح بالمغامرة. وأظن أن الفن التشكيلي استنفد امكانياته وأنا أتثبّت في الصور في الصباح، ثم أترك الليل يمر . كنت مسافرا. تحت قدميّ أرض إضافيّة كي أروي صورا، ومواجهات، وما يدخل فيّ ينْفَعلُ ، ويواصل إثارة انفعالات.
في وقت ما كنت قد كتبت أن السفر وهو الوقت المميز لإدراك هذا الصنف من الأحاسيس..
خصوصا عندما يكون السفر مشيا على القدمين، ونحن لا نعلم شيئا. عندما كنت شابا، كنت أشعر بالذنب لأني لا أعرف. مثلا في بيران، وفي سلوفينيا. وفيما بعد فقط أدركت كم هو رائع ألاّ أعرف، وألاّ ألاحظ في ميناء بيران كل الأشياء الصغيرة التي هي في الحقيقة أشياء كبيرة. الآن أنا أعرف أكثر من اللازم بعد أن بلغت سن السبعين. أعرف الأشجار، لكني لا أعرف جيدا الزهور، خاصة الزهور المزروعة، وأعرف الأحجار، وبإمكاني أن أشعر بنغمات ما تحت الأرض. أحيانا، أرغب في أن أعرف أقلّ مما أنا أعرف..
-أي أنك تعثر من جديد على روح الطفولة..
بيتر هاندكه: نعم لكن في نفس الوقت أرغب في أن يكون ذلك مرفقا بموسيقى تلك السنوات التي عشتها. وتلك التجربة، وتلك المادة، وتلك المعرفة، كم أود لو أحتفظ بكل هذا حتى وفاتي. تلك الموسيقى من الزمن القديم، في علاقة مع الزمن الحاضر والتي تثير البكاء أحيانا…إنه شيء بديع، لكن ليس بديعا أن نعرف وأن نفكر وأن نقول أكثر من اللازم… علينا أن نكتب وكأننا لا نعلم شيئا، وكأن الإنسانية لا تزال في الزمن البكر…
أي إعادة اكتشاف العالم..
نعم.. وهذا ما حدث فعلا في ملاحم العصور الوسطى..
بالنسبة لك، هل الكتابة مغامرة؟
ليس مع كل أنواع الكتابة.. مع الشعر، ومع الرواية التي هي تتويج لكل الفنون. لكن ليس الرواية المجانية التي لا هدف لها سوى أن تباع بأكثر عدد ممكن. ما أعنيه هي الرواية التي تنبثق من الداخل، والتي تتضمن مفهوما من غير رأي الكائن الإنساني. الرواية الحقيقية-حين يُظهر الخيال ما وقع في الماضي، وما يقع في الحاضر، وما سيقع في المستقبل-هي شكل من أشكال النعمة. وهي نادرة جدا لكي تكون حدثا. إنها شرعية الكتابة. وهي ما لا يُمارس اليوم، إذ أننا نخلطُ كل شيء. يمكن أن نتحدث عن مغامرة حين نكتشف، ونحفر عميقا في القصة، وفي المواجهات، وفي الثلج، وفي الريح، وفي الكائن، وفي نظرة الآخر، وفي الحب بطبيعة الحال. الأناجيل كُتبت، لكن يمكننا أن نجد ما يتفرع عنها. أنا لا أؤمن أبدا بالطليعة، وبالتجديد، لكني أؤمن بالحركة التي تخترق الزمن، بتفرّدات وتنوعات من ملحمة جلجامش إلى هوميروس، إلى تولستوي، إليّ أنا(يضحك)..
ما هي المكانة التي تحتلها الصورة في هذه المغامرة؟ في كتابك «فقدان الصورة»، شخصيتك الرئيسة «نظمت حياتها وليس فقط مهنتها، ووجودها كـ«أميرة المال»، بارتباط بالصور التي تنبثق فجأة (…) كما أنها كانت تعيش بمصير أن تكون صورة بجميع معاني الكلمة، وكانت تعيش لنفسها أيضا». هل أنت تشبه هذه الشخصية؟
حين تنبثق الصورة في داخلي، أحسّ بها كعنصر من عناصر الوجود، وليس فقط كعنصر من عناصر وجودي الشخصي. وربما يكون هذا الإحساس شكلا من أشكال الغطرسة أو الاعتقاد الباطل، لكن الصورة تبدو لي كونية. وهذا ما يمنحني حيوية المواصلة، والقدرة على البحث عن البنية بهدف أن أروي، لكن أيضا حيوية أن أحيا، وان أحب، وأن أعمل. ما أرويه في فقدان الصورة» هو أيضا ما شعرت به في وقت ما: الصور التي تنبثق من داخلي كانت في طور الذبول والشحوب. الصور الخارجية التي تقصفنا طوال النهار تقود إلى تدمير الصورة الداخلية. وقد يعود ذلك أيضا إلى بداية الشيخوخة. على أية حال، أحسست أن الصور التي تبرز لي لم يكن لها نفس البريق القديم. وكان ذلك بمثابة الصدمة بالنسبة لي. لذلك كتبت ملحمة فيه أروي مأساة الصور التي تختفي من الكائن البشري.
ألم تكن تلك الصور مرئية؟
ا لم تكن كذلك بطبيعة الحال.. إنها تَمَثُّلات للآخر. أنا أرى أني والآخر معا. تلك هي الصورة بالنسبة لي. ونحن ندرك ذلك من خلال المثلث: الطبيعة، أنا، الآخر. وإذا ما غابت إحدى قمم المثلث، فإن كل شيء يتوقف، ويتعطل. وهذا ما يدفعني إلى السير في الطريق. أشرع في القص، وأمامي فصول، وشخصيات، ومواجهات، وتمزقات، واتحادات، وتلك هي حياة الكاتب. نحن أنفسنا نتفاجأ بما يحدث. ونحن يمكن أن نجد في الكتابة، ما لا يمكن أن نجده في الحياة لأننا نفقد الحياةَ في الحياة دائما. لذا نحن لا نتحدث عن الوقت الضائع، بل عن الحياة الضائعة. وهذا أمر موجع للغاية. الكتابة بالنسبة لي هي الحياة مُكَثّفَة، وأيضا مأوّلة. كل جملة شاهدة على الوج ود؟.. لا، ليس كل جملة، من المهم أن نكتب أحيانا جملا لا قيمة لها، يتوجب عليها فقط أن تظل في الإيقاع لأن الإيقاع هو الذي يتضمّنُ المعنى. وإذا ما قرأتهم بالزاك، فإنكم تلاحظون ان كل جملة مليئة بالصور، وبالتفاصيل، حتى أننا نفقد التنفس أحيانا. عند بالزاك، كل جملة تشبه المطرقة. وهو يضرب على مسمار لكي يُثَبّت صورة. وعندما أعمل، ألاحظ أني لا أحتاج إلى مسمار لكي أثَبّتَ صورة ما، بل يجدر بي أن أكثّفَ، وأن أربط الكلمات ببعضها البعض أكثر مما يمكن. في قصص تشيكوف حيث لا يحدث شيء، نحن يمكننا أن نستشفّ أن شيئا ما يحدث رغم ذلك من خلال الإيقاع. ونحن نحسّ بكل شيء.
إن بحثك هو أيضا ّبحث للآخرين» كما لدى المرأة في «فقدان الصورة»…
إنه الوهم. لكن أحيانا يمكن أن يحدث ذلك. كل شيء وهم. ونحن نجد أنفسنا أحيانا مُخْتَرقين من قبل الآخر، لكن ليس دائما بأفضل طريقة. وأنا أشيخ، أصبح المعنى الجمالي وكأنه ظاهرة مرضية عندي. عندما أكون طوال اليوم في البيت، أو في الغابة، وفي المساء أركب القطار، أشرع في التفاعل مع كل الأصوات، ومع كل الوجوه، مثل فنان مهووس بالجمال. الوحدة لم تُثْرني. أو على الأقل ليس دائما. أما العمل فقد أثراني، وأيضا الايقاع، والكلمات. عندما لا نركز على الإيقاع ، فإننا نستسلم لأنفسنا، وإلى أعصاب الفنان الغبي المغرم بالجمال. وأظن أن كلمة» غبي» هي التي تصحّ هنا. نحن نشعر أن البشاعة تعتدي علينا، والبشاعة هي أيضا رواية، وبناء شخصي.
-هل تهتم بالآخرين؟
هناك كاتب نمساوي يدعى هايميتو فون دودرير كان قد كتب روايات من بين الروايات الأكثر ملحمية في النصف الأول من القرن العشرين، وهي :«الشياطين»، و»مدرج شترودلهوف»، و«سقطات سلوني»، مستعملا هذه الكلمة: زكانة (إدراك مميز). وهو لم يكن مهتما بالناس. وقد تركهم يدخلون إليه كما لو أن الأمر يتعلق بتأثير متبادل. وفي ما بعد ابتكر شخصيات لافتة للانتباه أكثر من ذي قبل وذلك من خلال إقباله على الألوان، وعلى الأشكال، وعلى الناس. وهكذا أصبح جنديّ الكائن الإنساني. وهذه مهنة. أحيانا يتوجب علينا أن نمضي من دون وجهة محددة لكن بطريقة مضبوطة لكي نصل إلى مكان ما. هذا أمر مهم للغاية. والحقيقة ليس هناك مبدأ يتحكّمُ في الكاتب.
رؤيتك للوجود متشائمة إلى حد ما.. ففي «كالي»، وفي «فقدان الصورة» أنت ترسم صورة للعالم بعد الحرب الكونية الثالثة…
أنا لست متشائما ولا متفائلا. ممنوع على الكاتب أن يتقيّد بوصف ما. علينا أن نسافر باتجاه النور. أنا لست تراجيديًا. في أوقات معيّنة، أجد نفسي مُخْتَرَقا من قِبَل ما هو تراجيدي في تاريخ البشرية. وأقول لنفسي إن زمننا هو زمن السواد الشامل. عندما أشرع في العمل، يحدث عندئذ تغيّرُ لون، وتظهر حيوية أخرى. كل حيوية تحارب الأخرى. وهي حرب عادلة بين الظلمة والنور. وأعتقد أن رؤية السواد الشامل موجودة، غير أني لم أتوصل إلى «تحقيقها» . من خلال الكتابة، في المعنى الذي عند الفنان سيزان الذي يعني بفعل الرسم ما يتحقق، ويُنْجز. ليس لديّ إيقاع لمثل هذه الرؤية. وعندما كنت أصف في «فقدان الصورة»، مكان حضارة معادية تحرّضُ على العنف، وليس فيها أي شيء، لا عقيدة ولا صورة، منحني كل هذا القدرة على أن أبتكر مكانا آخر في «سيارا غرادوس»، وهي مُسْتعرة تسمى «لا أندريانا» إليها يأتي الناس وكأنهم أغبياء ومفعمون بالرغبة. ثم يبدأون من جديد، ويبنون. أمر يشغلني دائما أن أكتب ملحمة فيها تتجلى الحياة كونية ولائقة، ومليئة بالرغبات، وبالروائح، وبالحركات والتحولات. الأمر يتعلق هنا برواية وليس بملحمة لكي نستطيع أن نقول : هذا ممكن لأن هناك عناصر كثيرة من زمننا الحاضر.
-أنت تواصل أيضا الحفر في التراجيديا في تاريخ أجدادك، ذلك الشعب السلوفيني من كورانثي، الذي تقوم بتكريمه في مسرحيتك: «العاصفة دائما»…
الشعب السلوفيني في كورانثي كان ضد التراجيديا، وكان ضحية التراجيديا. و ما حدث للأقلية السلوفينية خلال الحرب الكونية الثانية كان مأساة كونية إذ أصبح الشعب السلوفيني واحدا من الشعوب الملعونة من قبل الرايخ الثالث. وقد أجبر أبناء هذا الشعب على عدم التكلم بلغتهم الأم. عندئذ برزت حركة المقاومة التي لم توجد أبدا في أي فترة من فترات التاريخ السلوفيني على مدى خمسة قرون. ولم يكن السلوفينيون يعرفون فنون الحرب. وقد فروا من الجيش النازي ليجدوا أنفسهم في الغابة، يحاربون في الثلج. والطريقة التي بها ظلوا على قيد الحياة مأساة في حدّ ذاتها. وأنا أشعر بالأسف الشديد لأن المسرح لم يعد كونيا مثلما كان في عهد أونايل، وتينيسي ويليامز، وأرثر مولر.