ترجع علاقة الفيلم بالرواية الى سنوات بعيدة. وبرغم ظهور السيناريو كنص مكتوب للسينما، إلا أن هذه العلاقة مهيأة للاستمرار، وتحمل معها أسباب ديمومتها، لاعتبارات التلاقي بين لفتي كل من الرواية والفيلم، ثم بسبب كون السينما فنا يشكل ملتقى لكل الفنون الأخرى، بما فيها فن الرواية.
ولقد كان كل من جورج ميليه وجريفث أول من وطد أوامر هذه العلاقة وعمل على تطويرها منذ مطلع هذا القرن وقد تلاهما عدد كبير من مشاهير المخرجين ومن ضمنهم بود وفكين وفورد وكير وسوا وريفيه كلير، فنقلوا الى الشاشة أعمالا روائية معروفة. وهكذا استطاع المتفرج أن يشاهد أفلاما عديدة، كانت كابات أدباه كبار مثل تولستوي وهمنجواي وديكنز وجيس جريس على سبيل المثال أساسا لها.
وكذلك الحال على الصعيد العربي، إذ أخذت أواصر هذه العلاقة تتوطد مع الزمن واتجه عدد كبير من المخرجين الى كتابات أدباه مثل نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس وغسان كنفاني وغيرهم. وفي الواقع فان السينما في مصر سبقت غيرها في رسم حدود هذه العلاقة وتعميقها بحكم الكم الانتاجي أولا، وأسبقية مصر في معرفة صناعة السينما ثانيا، وهناك عشرات الأفلام المأخوذة عن روايات، ليس هذا ميدان حصرها.
بيد أن مخرجي السينما، والنقاد على حد سواء لم يتوقفوا عن إبداء الرأي بشأن هذه العلاقة. وجريفث الذي اعترف بأن العديد من تجديداته في السينما تعود الى ما اوحته اليه روايات تشارلز ديكنز على
وجه التحديد، أشار الى ما يمكن ان تكون عليه هذه العلاقة. وليس بغائب عن الاذهان الاشكال الروائية الحديثة، واستفادتها من السينما، والعكس كذلك صحيح وقد حدث بالفعل. ولا عجب في هذا، اذ كما يقال فان هناك قواعد للغة السينمائية، ولها أسلوبها كذلك. وكما نعرف ايضا، فلقد جرت محاولة تعريف بعض عناصر هذه اللغة بالرجوع الى المصطلح الادبي، بغية ايجاد المعادلات بين الفيلم والرواية. فالمقطع على سبيل المثال في السينما، يواجهه الفصل في الرواية. والمشهد تواجهه الجملة، والحبكة يواجهها المونتاج، والكلمة تواجهها الصورة… الخ.
اي انها علاقة حميمة، قائمة على مبدأ الافادة والاستفادة. مبدأ الاخذ والعطاء، واستيعاب الفنون لبعضها، بحثا عن صيغ جمالية جديدة، تتوافر على اسباب اكثر قدرة كوسيط تعبيري للوصول الى المتلقي، الذي هو القارىء (في الرواية ) والمشاهد (في الفيلم ).
ولكن هذه العلاقة ظلت تطرح معها اشكالاتها الفنية والنقدية. وتمتد الاشكالات الفنية لتشمل التقنية كذلك، اي تقنية الرواية والفيلم. وتكثر التساؤلات حول الكلمة المكتوبة والكاميرا، الادب والمعادل السينمائي. وظهرت جراء ذلك مصطلحات جديدة، كالأعداد غير المشدود، والامين، والاعداد الحرفي(1). ولا تبتعد بالتالي الاشكالات النقدية عما سبق. وهي معنية بالدرجة الاساس بالبحث عن المعادل السينمائي، انطلاقا من مبدأ المقارنة فيما بين الفيلم والرواية، وصولا الى قناعة تنفي امكانية مناقشة الفيلم بالطريقة نفسها التي تناقش بها الرواية.
صحيح ان هذه الدراسة معنية بالعلاقة على مستوى الاقتباس، الا انه من الضروري الاشارة الى ان هذه العلاقة لا تنحصر في هذا الجانب، وأية نظرة ترى العلاقة في هذه الحدود، انما هي نظرة متخلفة تماما. فهي علاقة فيها التقاء وفيها اختلاف. علاقة تحتم معها صيغا للتأثير المتبادل. وبالتالي فالمنهج النقدي المقارن بين لغتي هاتين الوسيلتين التعبيريتين، يجب ان يعنى بالكشف عن الخصائص الفنية التي تتمتع بها الرواية كنص مكتوب وما يراد منها في السينما كاداة "سمعبصرية ". واذا ما حدث مثل هذا، فان الروائي، أمام حالة يفتني فيها اسلوبه، باستخدام جماليات السينما وما فيها من ايجاز وقطع وارتداد زمني، كما ان اللغة تفتني بقوة تعبيرها في استخدام الصورة الموحية والرمز القائم على عنصر اختزال الصورة وابعادها (2).
وبرغم كل ما سبق، الا ان هذه العلاقة ظلت دوما تتعرض لاجتهادات متضادة، وان لم تصل حد القطيعة الكاملة. لقد اختلف المخرجون، فقال بعضهم بأفضلية الاعتماد على نصوص أدبية ضعيفة وذلك لامكانية تجاوزها عند المعالجة الفيلمية، بينما قال البعض الآخر بأفضلية الاعتماد على نصوص أدبية مرموقة لها شهرتها، ذلك لانها من وجهه نظرهم سترتفع بالفيلم الى اعلى المستويات. وسواء اخذنا بهذا الرأي او ذاك، فانه من المعلوم بعد ان اتضحت حدود لغة السينما، فإن أي فيلم يطب له النجاح، إنما بسبب السيناريو، سواء أعد هذا عن رواية، ام كب خصيما لاخراجه بدون الاعتماد على رواية معينة.
وبسبب هذا السيناريو المعد عن رواية ما، كيرا ما نشب الخلاف بين الروائي والسيناريست والمخرج على حد سواء. احيانا بسبب التغييرات التي يجريها هذا على النص الروائي، وفي أحيان أخرى لأسباب أشد. وتبقى المشكلة متعلقة بالمعادل السينمائي، وكيفية اعادة انتاج العمل الروائي وتحويله للشاشة بدون اية تشويهات. بيد ان ما قد يرده المؤلف تشويها، قد لا يكون كذلك من وجهة نظر السيناريست والمخرج. لذا كيرا ما تغيب التفاصيل والاحداث الجانبية في الرواية من الفيلم، بيد ان هذا لا يمنح السيناريست في حالة الاعداد الامين، حرية الابتعاد عن روح المصدر الاساسي -الرواية. ويشبه اندريه بازان المعد الامين بالمترجم الذي يحاول ان يجد المعادلات التعبيرية للاصل، ويمكن ان نضيف الى قول بازان : ان الفيلم ليسر مجرد تصوير للرواية، كما أن المد الامين لا يعني التنازل عن الحرفية السينمائية تحت ذريعة الامانة في الترجمة، والا، فما هو مصير تلك المقولات الهامة : «ان السينما فن قائم بذاته »، و«ليست السينما مجرد تصوير للرواية » و«للادب معادله السينمائي».
يقول ارنست لند جرن «لا يمكن للسينمائي ان يعتمد عل الوصف كما يفعل القصصي، بل انه يجب عليه ان يقدم عرضا خلاقا لاحداث تقع فعلا، ولا يكفي ان يصف الشخصيات، بل يجب ان يقدمها من خلال أعمالها"(4).
والآن، كيف يمكن للناقد السينمائي ان يقوم بمهمة خلاقة في ضوء اشكالية اعمل هذه ؟ وقبل الاجابة تجدر الاشارة الى المنهج النقدي الاصح في تعامله مع افلام كهذه. فليسى هو المنهي التاريخي اولا، ولا هو بالتنظيري الصرف. ومن الممكن ان تكون فيه سمات المنهب الوصفي، وكذلك التنظيري، وما دام هذا النقد يقع ضمن ما يعرف بالنقد المقارن، فعل الناقد السينمائي الذي يتصدى لافلام من هذا النوع، ان يكون على دراية تامة، بالرواية وادواتها من خطاب وسرد… الخ، كما عليه ان يمتلك الدراية نفسها فيما يختص بالفيلم وجمالياته وطريقة تشريحه.
وثمة الى جانب ما سبق، سؤال هام تنبغي الاجابة عليه : لمن يكتب هذا الناقد؟ فمن المؤكد ان النقد الذي ينطلق من البناء العام للعمل الفني السينمائي، لدراسة وسائله التعبيرية فحسب، انما سيصطدم – اذا كان هذا غرضه الوحيد – بتبعات تلك المقولة الشائعة (السينما فن الجماهير)، ذلك انه يتوجه الى نخبة معينة، تمتلك ثقافتها السينمائية، وهي اقرب ما تكون الى الاختصاص. كما أن توجها كهذا من شأنا أن يجعل من النقد أحادي التوجه. وعليا يمكن القول ان النقد يجب ان يتوجه الى الجمهور كذلك. ولكن اي جمهور هذا الذي سيجيب الناقد على تساؤلاته ؟ اهو الجمهور الذي شاهد الفيلم ولم يقرأ الرواية ؟ ام انه الذي قرأ الرواية وشاهد الفيلم ؟ وايضا، فلن ننسى بانه على سبيل المثال، ثمة نسبة كبيرة ربما لم تكن قد قرأت «ثرثرة فوق النيل » ولكنها شاهدت الفيلم. هذه حيرة حقيقية امام الناقد، ولذا فالامر ليس بهذه السهولة، اذا اردنا ان نؤسس لنقد سينمائي فاعل وخلاق، بيد انه امر لا يقع ضمن دائرة الاستحالة النقدية. من هنا فان القالب النقدي الاصح في اعتقادنا، انما يجب ان ينطلق من داخل كل من الرواية والفيلم، لرسم حدود العلاقة بينهما، ضمن المواصفات السابقة – لكل لغته – وبما يحقق شرط التوجه الى الجمهور (بمختلف مواقعه السابقة ) والى النخبة المثقفة وذات الاختصاص السينمائي والروائي من جهة اخرى.
وباتجاه تحقيق هدف هذه الدراسة، علينا أن نشير الى الحقائق التالية لأهميتها:
1- إن الرواية متوالية (لغوية ) تنطوي على حكاية، بينما الفيلم متوالية (صورية ) تنطوي على حكاية ايضا.
2- في حين تحتمل الرواية الوصف، بل انه اهم مكوناتها، فان الفيلم ليسر من شأنه هذا، ذلك لان الوسيلة الخطابية في الرواية هي الالفاظ، بينما تنحصر الوسيلة في الفيلم بالصورة وملحقاتها.
3- إن صدمة الصورة (في الفيلم ) تختلف عن صدمة اللغة (في الرواية )، وبالتالي فان شروط التلقي تختلف بينهما، وكل منهما يستلزم عمليات ادراكية وتخيلية متباينة.
في الوسيلة الخطابية
بين (الألفاظ ) في الرواية و(الصور) في الفيلم، هناك عشرات الافلام الاجنبية والعربية يمكن ان نقدمها نماذج لاجراء التطبيقات على نمط العلاقة بين الرواية والفيلم.
وعلى سبيل المثال، فان تولستوي في روايته الخالدة ( الحرب والسلام ) يصف معركة بورد ينو في صفحات عديدة، تستغرق قراءتها زمنا طويلا، كما انها تستدعي صورا تخيلية متعددة لدى القراء. اما المخرج السينمائي سيرجي بوندرتشوك فقد قدم لنا مشهد المعركة دفعة واحدة، وفي زمن اقل، بحيث ان الجهد الذي سيبذله المتفرج اقل من ذاك الذي سيبذله القارىء. وثمة ايضا رواية (آمال كبار) لتشارلز ديكنز، التي تقع في حدود الخمسمائة صفحة، وقراءتها تستغرق ما لا يقل عن عشر ساعات متواصلة، في حين ان المخرج ديفيد لين قدم لنا فيلما في حدود ثلاث ساعات فقط. صحيح ان (لين ) حذف عدة شخصيات، كما انه اختصر كثيرا من الاحداث، إلا أن السبب الجوهري يرتبط بقدرة الصورة على التعبير عن مشات الكلمات، ومثال ذلك وصف ديكنز لغرفة طعام "مس هافيشام "، وما رأيناه في الفيلم. ان ديكنز يملأ صفحة كاملة، ولكن الفيلم يرينا مس هافيشام عندما يدخل هيب الغرفة.
ويمكن أن نشير الى ان رواية "بين القصرين" لنجيب محفوظ، حيث يسهب محفوظ على سبيل المثال في وصف شخصية احمد عبدالجواد، مما يدفع الى تكوين عدة صور متخيلة لدى القراء، بينما قدم لنا حسن الامام ملامح محددة، وفي وقت أقل. وبينما استخدم غسان كنفاني ضمير الغائب في روايته "عائد الى حيفا" لتقديم شخصيتيه الرئيسيتين، إلا أن (قاسم حول ) استخدام ضمير المتكلم، اي انه يقدم ما يحدث من وجهة نظر الكاميرا، بينما في الرواية من وجهة نظر سعيد. وهو هنا لا يعتمد عل الوصف كما يفعل الروائي، بل انه يقدم لنا عرضا خلاقا لاحداث وقعت. قد يكون للروائي عذره في استخدام فن الوصف بالكلمة، لكن المخرج (قاسم حول ) استطاع التخلص من اشكالية الوصف الخارجي، مستوعبا الابعاد الفكرية التي ارادها غسان.
ولنتوقف أمام رواية " صخب البحر" لعلي خيون. فاذا كان البحر فيها قدرا وصراعا، فأين تكمن العناصر السينمائية في التعامل الروائي معه ؟ وبالتالي، هل ان رواية خيرن تقدم لنا «وصفا» بالاعتبارات السينمائية و«تمثلا» بالدلالات الادائية الدرامية ؟ لنتوقف اولا امام ذلك السرد الذي يأتي عل لسان طارق سعدون احد ابطال الرواية «ما أقسى البحر، انه يبدأ في اللوحات الصامتة وديعا هادئا شديد الزرقة، كم هو مائج، بدائي وجامح ».
هنا على سبيل المثال، سيجد السينمائي نفسه امام رؤية يصبح التعبير عنها بواسطة الكاميرا هاجسا ابداعيا، فطارق سعدون يرى البخر من زاويتين : الأولى تبحث فيها الكاميرا عن صمت البحر وهدوئه وزرقته، والاخرى تبحث فيها عن هيجانا وعنفوانه. واذا كان من حق القارىء ان يرسم الصورة التي يتخيلها، فان السينمائي مضطر لتقديم خلق ابداعي محدد. والمخرج صيح عبدالكريم لم يستطع هنا تحديدا ان يواكب الدلالات في الرواية. وباتجاه مقارنة اشد وضوحا، لنقف امام هذه الجملة : اصدر أمر الكاسحة اوامره : اترك السفينة، الى الماء.. الى الماء.
قد تفي هذه الجملة بغرضها المحدد في الرواية، الا ان الفيلم بحاجة الى لغة اخرى، او الى وسيلة سردية اخري. فهل يختار مدير التصوير لقطة، عامة ام متوسطة، يصرخ فيها الأمر طالبا النزول ال الماء؟ وكما نعرف فان قرارا صعبا ينطوي على تحول في حياة الموجودين على ظهر الزورق الحربي بعد اصابته، يفرض صيغة من التعبير السينمائي، تشير الى ضخامة القرار. فاذا كانت اللقطة المتوسطة لا تعبر عن الحالة بمفردها، فإن لقطة عامة لطارق سعدون على ظهر الزورق لن تفي بالغرض، بل إن أي عمق في الكادر السينمائي سيضيع الصرخة، لذا فإن عنصر الخلق ظهر من خلال استخدام مكبرة الصوت في لقطة انقضاض (روم ان )(5).
ولعلنا الأن ندرك اسباب هذه الفوارق في العلاقة بين الرواية والفيلم. فالوسيلة الخطابية تتأسس في حالة الرواية من خلال الجملة، بينما تتأسس في حالة الفيلم من خلال اللقطة، وهما اصغر الوحدات الخطابية فيهما، ولما كانت الجمل في الرواية مترابطة مع بعضها على نحو معين، فان اللقطات في الفيلم مترابطة عل نحو أخر يحقق شرط سرد الفيلم، لذلك رأينا كيف ينحو الفيلم في تعامله مع رواية معينة عند اعدادها للسينما، وبقدر الاختلاف، ثمة تداخل كبير بين سردية الخطابين.
صدمه التلقي والادراك هل ثمة اختلاف حقيقي بين ما اسميناه صدمة الصورة وصدمة اللغة ؟
هل هو خلاف وهمي ام جوهري وما هي حدوده ؟ لقد وقفنا امام خلافات هامة في وسيلة الخطاب، فماذا عن التلقي؟ لكل خطاب كما نعرف غايته، في الوصول الى التلقي، فماذا عن الخطاب الروائي والخطاب السينمائي؟ الرواية تقدم مسرودا، والفيلم المأخوذ عنها ربما يقدم المسرود نفسه وبأمانة المترجم التي تحدث عنها بازان، فاين تكمن الاختلافات التي تحمل معها التباين في لغتي الرواية والسينما عل مستوى التلقي؟
يقول فيليني "ان الايقاع الادبي للكتابة مختلف عن لغة السينما، فالكلمات مغرية ولكنها تضيع في المساحة المحدودة، التي تتطلبها صورة الفيلم (6) ولما كان الايقاع بتأثيراتا على التلقي يختلف، فمعنى ذلك أن طاقة التوصيل بين الرواية والفيلم مختلفة كذلك. ولنفترض الأن مقطعا من رواية يقول فيا المؤلف «امتطى احمد حصانه، ولكزه مخترقا ازقة القرية لتنفتح امامه البراري الواسعة، حيث في البعيد يقبع جبل المنطار، بارتفاعه الخرافي الشاهق ". هنا نجد ان صدمة التلقي ترتبط بالفعلين «امتطى ولكز». واذا كان القارىء لم يمتط حصانا من قبل، فانه بحاجة الى ان يستحضر او يتخيل كيف يكون فعل الامتطاء، وكذلك في كيفية اللكز. ومن جهة اخري، فانه ان لم يكن قد شاهد جبل المنطار، فهو بحاجة الى ان يتخيل هذا الجبل، وطبيعي ان يختلف التخيل في الحالات الثلاث بين قارىء وآخر. لكن السينمائي وهو يعالج هذا الذي قرأناه، سيجد نفسه امام التوزيع التالي :
– لقطة لاحمد وهو يمتطي الحصان.
– لقطة له وهو يلكز الحصان.
– لقطة، او عدة لقطات له وهو يخترق بحصانه ازقة القرية.
– لقطة عامة للبراري الواسعة، من وجهة نظره، وربما عدة لقطات. لقطة عامة بعيدة لجبل المنطار تبين ارتفاعه.
هذا على مستوى المعالجة البصرية، لكن ثمة كذلك المعالجة السمعية، فالمخرج سيضيف اصواتا مختلفة منها على سبيل المثال "صرخة احمد وهو يلكز الحصان – دي – ثم صهيل الحصان، ووقع حوافره، وربما نباح كلاب، او موسيقى تصويرية… الخ ".
هنا التلقي يجري بواسطة حاستي البصر والسمع معا ولان السينما كما لاحظنا في المثال تنغمر في الجانب الفيزياوي لمكان الحدث، فإن المخرج بعكس الروائي يقدم للمشاهد صورة حية وناطقة، لذلك فإنه – المشاهد – لا يحتاج الى عملية تخيلية لاستحضار الصورة، وهذا يشير الى اختلاف الصدمتين «صدمة الصورة وصدمة اللغة ».
ولنتوقف امام رواية «رجال في الشمس » لغسان كنفاني مثلا. فالسرد عند غسان يبدأ بالتدرج من خلال الحصار. كلمات وجمل تستدعي الحالة، وعلى القارىء ان يتخيل الخزان وما يحدث للفلسطينيين الثلاثة فيه. اما عند المخرج توفيق صالح في فيلمه الأخوذ عن الرواية باسم «المخدوعون»، فان السرد يبدأ بمشاهد مختلفة للصحراء، تنزل فوقها كلمات محمود درويش :
وابي قال مرة
الذي ما له وطنه
ما له في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر
فالتأويل والفهم باعتبارهما الغاية عند كل من الروائي والمخرج يختلفان. فالتلقي البصري للكلمات في الرواية، يقود الى حالة من التأويل والفهم، تختلف عن التلقي البصري والسمعي في الفيلم، حيث الصحراء عند توفيق صالح بطلا رابعا، واضحة المعالم، واسعة، مترامية، صاخبة برمالها، حارقتا في العرق الذي يتصبب من اجسام الرجال الثلاثة في الخزان، الضيق، المحدود المساحة… الخ.
ان المشاهد امام عدد من الصور وكذلك الاصوات، وكلها تخلق صدمة مغايرة، تقود الى التوتر منذ البدء، والترقب، والفهم الدقيق للحالة.
لذلك لن نستغرب تأثر الناقد روجر مانفيل بفيلم «ملكة الميسر» للمخرج ثور ولد دكنسن المأخوذ عن قصة لبوشكين، اكثر من تأثره. بما س بوشكين. ومثلا، فان بوشكين يضع القارىء في جو حفلة بجمل قليلة قصيرة، حادة، تبدو انها لا تعطي شيئا اكر من الهيكل العظمي المجرد للموقف، بينما الفيلم قدم لنا مشهدا يجري في حانة للفجر، حيث الموسيقى والرقص الفجري، مما كان من شأنه ان يضع المتفرج في حالة من التوتر المستمر منذ البدء. صحيح ان ظهور الشبح في غرفة هرمان كان مروعا في القصة، لكنه في الفيلم اصبح اشد ترويعا. لذا فحالة التلقي تختلف. واذا كانت السينما هي لغة الايجاز كذلك، فإن اللقطة المكبرة لليد التي تحمل ورقا في مشهد الافتتاح، كان اشد تأثيرا مما تركا بوشكين برغم براعته هو الآخر.
وبعد، فان اختلاف الصدمة في كل من الرواية والفيلم، متأتية ايضا من الايقاع السريع الذي يجب ان يتمتع به الفيلم. وهو ايقاع اسرع من الايقاع في الرواية، لاسباب عديدة يأتي من بينها طبيعة المونتاج، وتحديدا المونتاج التبادلي منه.
خاتمة
يلاحظ القارىء ان الحديث حول علاقة الرواية بالفيلم،. انحصرت في مجالي الوسيلة الخطابية وصدمة التلقي، ولم يتطرق لأي جانب آخر، ذلك انه عند افتراض تشابه الخطاب، واهدافه، فان اية فوارق في العلاقة لا يمكن النظر اليها بمعزل عن المجالين السابقين. فحذف شخصيات، او اضافة غيرها، وحذف احداث، او اضافة احداث جديدة، انما ترتبط بالسرد، او الوسيلة الخطابية. واذا كانت الدراسة قد اختارت البحث في نوع العلاقة بين الرواية والفيلم المأخوذ عنها، وليس البحث في نوع العلاقة بين الرواية كنوع ادبي مجرد، والسيناريو كنوع ادبي مغاير، فانه يهمنا توكيد التباين بين لفتي الرواية والفيلم، ولقد اكدت النماذج السابقة هذا التباين وكشفت عنه.
واذا كنا نعرف السينما على انها «فن الصور المتحركة » فإن ابتشين كان محقا عندما قال : «ان الحركة تكون حقا القيمة الجمالية للصور على الشاشة. فعندما نريد تصوير شخص يطعن آخر، فإننا نصور في البداية اشهار السيف، ثم نصور في لقطة أخرى الشخص المطعون يسقط ارضا، وبالجمع بين الصورتين بواسطة الربط المونتاجي، نحصل على التأثير المطلوب – فعل الصدمة – لحركة السقوط المستمرة. فالكاميرا لا تلاحق الحركات في الطبيعة كما هي، مل تختار نقطتين في الحدث، وتترك ما بينهما ليستكمله خيال المشاهد".(6)
لقد اشرنا الى ان السينما هي لغة ايحاء وايجاز كذلك، ومعجز تها كما يؤكد وينيه شورب تكمن في "كونها تبدو وكأنها لا تظهر لنا سوى (7) المظهر، بينما هذا المظهر ليس في حقيقته سوى تعويذة سحريه ". انها ليست رسما للمرئي، بقدر ما هي رسم لما وراءه، فهي التي تدخل بنا الى البساطة السرية للخليقة. إن السينما تخاطب الحواس أولا، والحاسة السمعية او البصرية ليست بحاجة الى وسيط ليفلسف ما كتقطه أي من الحاستين، لذا فإنها تؤثر مباشرة على الروح، وعلى كل من يشاهد فيلما، بصرف النظر عن وعيه، وهذا واحد من اسباب تمايزها عن الرواية.
وبعد فإن الامكانات التعبيرية لكل من الرواية والفيلم لا يمكن ان تتطابق، برغم ذلك الحبل السري، الذي يجمعهما في علاقة أغلب الظن انها لن تنتهي، ما دامت هناك عقلية بشرية تؤمن بالحكاية والتعبير عنها ادبيا او فنيا.
المراجع
1- للمزيد: فهم السينما – لوي دي جاينتي – ترجمة جعفر علي – دار الرشيد للنش – بغداد – ص ا 48- 493.
2- الرواية والسينما – التأثير المتبادل – سامي محمد – مجلة الاقلام العراقية – العدد الثالث 1985.
3- للمزيد: جاينتي – المصدر نفسه ص 489. 4- للمزيد: السينما العراقية والحرب – يوسف يوسف – دار الشؤون الثمانية العامة – بغداد 1992.
5- عناصر العلاقة بين الفن السينمائي والادب – مجلة الاقلام – العدد الرابع 1988.
6- سامي محمد – المصدر نفسه.
7- علم جمال السينما لم منوي أجيل – ترجمة ابراهيم العريس – دار الطليعة – بيروت ص 21.
يوسف يوسف( كاتب من فلسطين)