شرف الدين ماجدولين
ينطلق هذا المقال من افتراض مركزيٍّ يرى أن البحث عن تجليّات «نظريّة نقدية عربية»، أو إمكانية وجودها، أو مقوّمات نهوضها، تفتقد كلها إلى مسوّغات وظيفيّة، تتضمن ما يبررها، في نوعية الإنجاز النقدي، وطبيعة تراكمه، وصيغ تأثيره. بالقدر ذاته الذي أضحى فيه البحث عن ملامح «نقد عربي» بما هو ممارسة متصلة برصيد الأجناس الأدبية العربية الحديثة، سؤالا «مُتَرحِّلاً»، عبر عقود التاريخ المعاصر، في مجمل الأقطار العربية، متخللا مختلف الاجتهادات النقديّة والنهج القرائيّة المستشرية في هذا المحيط القومي؛ باعتبار أن ما تأتّى عن هذه المواكبة التحليلية والتقييميّة من محصلات نظريّة ومفهوميّة، مجرد صدى لتبيئة غير سوية لنهج غربية، أو مواءمة تلفيقية بينها وبين مهارات نقدية بلاغية ونحوية مأثورة.
ولعل هذا الوضع غير المطمئن لمسارات العمل النقدي، في نظر المجتمع الأدبي العربي القلق، والضاج بعدد لا حصر له من المنتجات الشعرية والروائية والمسرحية والقصصية…، التي لا تكاد تعثر فيها إلا قلة قليلة من الأصوات والنصوص على منفذ إلى خريطة التداول والانتشار عبر الكتابات النقدية، هو ما جعل سؤال البحث عن «نظرية نقدية عربية» متكرّرا، والتشكيك في قيمة «النقد العربي» مسترسلا في الوجود، طالما ثمة دوما عدم اقتناع بمحصّلات اشتغال عملية الوساطة النقدية، وتبخيس لقاعدتها المنهجية والفكرية.
وبصرف النظر عن العدد الكبير من الأجوبة التي تواترت عبر العقود الأربعة الأخيرة عن ممكنات «النظرية النقدية العربية» أو ملامح «النقد العربي» وقاعدة اختلاله المفترض، التي استجلبت عددًا معتبرًا من التحاليل والتصانيف المراوحة بين التطرف العقائدي(1)، المناهض لكل أشكال الصلة بالمعارف الغربيّة، وتلك التي تبرز التعارض بين مفهوم «النظرية» وحدود العرق واللغة والجنس، (إذ إن محتوى هذا المفهوم يتسم بانطباقه على مطلق الإبداع الإنساني)(2)، فإن استثارة جديدة لسؤال «نظرية نقدية عربية» من شأنه، على الأقل، أن يضع في بؤرة التأمل، «تاريخية» الأطروحة، وجدواها، بصرف النظر عن شرعيتها.
-1 التنظير النقدي والتأصيل النظري
في هذا السياق يجدر الالتفات إلى عنوانين مركزيّين في مسار النقد العربي المعاصر، في اقترانهما بصراع التقليدية والحداثة، متصلان بشكل مباشر بماهية «النظر النقدي العربي»، ومسائلان معا لاحتمالات وجوده، ومبررات البحث عن آفاق تحقيقه لجوهر آلية الوساطة القرائية والتحليلية، في صلتها بجوهر العقيدة الثقافية، الأول هو كتاب «محمد مندور وتنظير النقد العربي» لمحمد برادة، والثاني كتاب: «النقد العربي، نحو نظرية ثانية» لمصطفى ناصف، وهما يشكلان إجابتين متعارضين، ويُمثلان لحظتين فارقتين من «تاريخية» التساؤل بصدد «نظرية نقدية عربية».
والحق أن كتاب محمد برادة عن «محمد مندور وتنظير النقد العربي»، بصرف النظر عن محصلاته بصدد المجهود التنظيري للناقد المصري، فإن منطلقه الأساس يلتفت إلى أحد الانشغالات الأساسية التي رافقت التفكير في نظرية نقدية عربية، وتحديدا منها تلك المتعلقة بالارتهان المسترسل في الزمن للمناهج النقدية والفكرية في الغرب، حيث يقول في مقطع من مقدمة الكتاب:
«من بين الأسباب التي حدت بي إلى اختيار دراسة أعمال الناقد محمد مندور، ما لاحظته من تفاوت مستمر بين النقد العربي المعاصر والنقد الغربي، ذلك أن ثقافتنا تتأخر دائما في التعرف على الاتجاهات والمذاهب الأجنبية، وكثيرا ما يتم التعرف بعد أن تصبح تلك الكتابات مستنفذة لأغراضها عند من صاغوها. يضاف إلى ذلك أن هذا التعرف قلما يكون تاما ودقيقا، ويلزمه الكثير ليصبح مبنيا على فكر نقدي قادر على التمثل والاستيعاب»(3).
ولعل هذا المنطلق هو ما جعل التفكير في «النقد العربي» منصهرا في مأرب التأصيل النظري لمساعي المواءمة التي أنجزها رواد النقد العربي بين المفاهيم والنهج الغربية وممارساتهم النقدية، سيما في حالة مندور الذي مثل نموذجا مؤثرا في المنتصف الثاني من القرن الماضي، من هنا كان «التنظير» محاورة لأسس الفكر النقدي في علاقته بعدّته المفاهيمية، وإن كان عبر تجربة فردية، بقدر ما شكل صيغة لترسيخ بداهة الاستلهام من المعرفة النقدية الغربية، ما دامت تمثل وضعا متقدما في التفكير بصدد الأدب وأجناسه والعلوم المواكبة له؛ من اللسانيات إلى سوسيولوجيا الأدب إلى البلاغة الجديدة إلى السرديات والسيميائيات، إلى الدراسات الثقافية المقارنة… وإنما يبرز الخلل في الفاصل التاريخي الذي يحول دون المساهمة النقدية العربية في تطوير تلك النهج والمعارف، ويقلص من أثرها في المجتمع الثقافي العربي.
والشيء الأكيد أن أطروحة «التنظير»، في هذا السياق، تتخذ لها عمقا سجاليا، تجاه أنماط التفكير التقليدي، في الممارسة النقدية المتناولة للنصوص الأدبية، القائمة في أغلبها على «الشرح البلاغي بمعناه القديم»(4) أي أنها تنطلق من قاعدة الانتصار لفكر الحداثة، التي تمثلها الدراسات النقدية الغربية، بهدف اختراق نقيضها المستقر والسائد، والمتحكم في قلاع الأكاديمية العربية، بما يتوفر عليه من سلطة نابعة من: «كونه متلاحما ومشخصا في قوى وبنيات اجتماعية سائدة»(5). ولا يعزب عن النظر في هذا الصدد أن «التنظير» يكاد يناقض مسعى الانشغال بـ«نظرية نقدية عربية»، بل إن هذه العبارة لا تجد تعريفها هنا إلا بوصفها تصالحا مع المكتسبات المفهومية والمنهجية التي كفلتها الدراسة في أوروبا لرواد النهضة من طه حسين إلى محمد مندور؛ إنها الترجمة الثقافية بالمعنى الواسع لحصيلة «التعلم» والاستكشاف النقدي، وتصريفه في الجامعة وفي المشهد الإبداعي، لارتياد أفق مختلف، لن يكون في النتيجة إلا أحد علامات: «النهضة»، وبتعبير أكثر اختصارا لن يشكل «التنظير»، بما هو غاية، إلا الوجه النقيض لذهنية التقليد.
وبعد أزيد من ثلاثة عقود على إنجاز محمد برادة لأطروحته، صدر للناقد المصري مصطفى ناصف كتاب «النقد العربي: نحو نظرية ثانية» وهو المحاولة التي تمثل الوجه المقابل «لتنظير محمد مندور» بالنظر إلى رهانه على التراث النحوي والبلاغي لإعادة إنتاج نقد أصولي (حتى لا نقول تقليدي)، وتظهر فيه دعوى «النظرية» ملتبسة بصياغة تأويلات مستحدثة لمقولات: «اللفظ» و«المعنى» و«النظم» و«البيان» وغيرها، في صلتها بالمدار الثقافي للأسلوب العربي، وبحواضنه المعرفية والأخلاقية؛ لينتهي إلى خلاصات تحليلية تتخذ لها من اللسان العربي، وما ارتبط به من أسباب التبيين وطرائق التبليغ، المرجع والمقصد معا، يقول في مقطع دال من الفصل الرابع الموسوم بـــ: «الكلمات بين التغير والثبات»:
«إن رؤية الكلمة من جوانب متعددة درس قيّم ورثناه عن تقاليد الأجداد في ميدان التفسير. لقد أدركوا أن رؤية الكلمة من جوانب متعددة هو نفسه مبدأ الحوار. كان مبدأ التصويب والتخطئة محكما في دائرة التشريع، وكان المجال في خارج التشريع فيّاضا بالحوار، يعني يتجنب الصدام المسموع بين الكلمات، ومن أجل تجنب مبدأ الصدام بحث الأجداد في النص وإشاراته وتورياته ولوازمه القريبة والبعيدة»(6).
يتأسس جوهر الاعتقاد في هذه المقاطع كما في مجمل مباحث الكتاب على قاعدة استيضاح دلالات نقدية غير مألوفة، نابعة من عدة «التفسير» (وهو ممارسة قرائية قصاراها استجلاء المعاني)، وطرحها مجدّدًا للتداول النقدي، بوصفها منفذًا لخصوصية نقديَّة تستند على فرادة اللسان العربي. بيد أن ما لا يتيسر استيعابه عبر مختلف مفاصل الأطروحة النقدية، هو كيفية تحول تلك الدلالات المستبطنة في المأثور عن «الأجداد» إلى «تنظير» للأدب (بغير معناه الكلاسيكي)، وللمعارف الأدبية، التي تخطت عتبات النحو والبلاغة، كما أن معايير «الخطأ» و«الصواب» وحتى «الحسن» و«القبيح» لم تعد كافية بما هي تشريعات تضمر قواعد يستوعبها المنطق، من هنا يمكن فهم الوازع الذي يدفع بعدد كبير من المتحمسين لقواعد «التفسير»، بما هو مدخل لتشييد هوية نقدية عربية، إلى لا انحياز لأجناس مخصوصة من الإبداع الأدبي، في طليعتها الشعر العربي الفصيح المبني على أساس نظرية العمود، وهو الانحياز الذي يُفسّر مذهب مصطفى ناصف في كتابه عن النقد العربي؛ حيث لا يوجد في أي من مباحثه ما يسوغ عدم الكلام عن الرواية والقصة والمسرح وغيرها من الأجناس، بل وتكرار الإحالة في كل مرة إلى مرجعيات نقدية ألّفت قبل قرون، دون سواها.
-2 النقد والهوية واللسان
في كتاب «بدايات» لإدوارد سعيد، وهو المكرس في مجمله لإشكال «البداية» بمختلف مستوياتها البنائية وأبعادها الرمزية في الأدب الغربي، يخصص بعض الصفحات في مطلع الفصل المعنون ب: «الرواية باعتبارها قصدا لبداية» للحديث عن الرواية العربية، وسيرة طه حسين «الأيام»، في هذا الفصل يقوم بـ: «التنظير» للبدايات من حيث هي ماهية تعبيرية وقاعدة سردية ومرتكز تخييلي جوهري في الخطاب الأدبي، بالاستناد إلى خصائص متصلة بالسرد العربي الحديث، بما يتواءم وإعادة تركيب اشتغالات فعالية «البدء»، حيث يرد في مقطع من مستهل الفصل، ما يلي:
«يتضمن الأدب العربي الحديث روايات، لكنها تقريبًا من هذا القرن [أي القرن العشرين]. إذ لا يوجد تقليد مأثور تطورت منه الأعمال الحديثة؛ ومن الواضح أن الأمر ليس بهذه البساطة، بيد أنه من المهم أن نفهم أن الرغبة في إنشاء أساليب بديلة، كانت لزيادة منسوب الواقعي في التعبير، على الرغم من أن فعل الكتابة (وهو أحد الدوافع الكامنة وراء التقاليد الروائية في الغرب) معاد لوجهة النظر الإسلامية تجاه التعبير… فلفظ «هرطقة» في العربية مرادف لفعل «ابتدع» أو «بدأ». فالإسلام ينظر إلى الإبداع بوصفه نسقا مكتملا، لا يمكن الزيادة فيه أو النقصان»(7).
لا شك أن ظهور الرواية العربية من خارج التقاليد التراثية يمثل ظاهرة مغرية لتحليل خلفيات «البداية» ودوافعها، سيما أنها تنهض على مرجعية مناقضة لأصول الكتابة التراثية، كما أن «ابتداعها» يمثّل، بمعنى ما، تجديفا أدبيا، وخروجا عن نسق الكتابة العربية المكتمل الأركان، إن هذا الافتراض يتجانس إلى حد كبير مع الصدى الذي خلفته الإصدارات الروائية الأولى التي اعتبرت فنا هامشيا وقولا مارقا. بيد أن ما يهمّنا في هذا التحليل أساسا، هو جوهر عملية «التنظير»، التي تجعل الظاهرة المنتسبة للثقافة العربية، جزءا مركزيا من مرجعيات بناء «نظرية نقدية» لــ: «البدايات» في الخطابات الأدبية، بما يجعلها غير «غربية»، على نحو كلي، على الأقل في هذا الحالة.
لكن لنعد إلى المنطلق، فالثابت أن إدوارد سعيد ناقد أمريكي من أصل فلسطيني، وهو ملم بالعربية وبأدبياتها ومنتجها الأدبي، وتلقى جزءا معتبرا من تكوينه في مصر ، كما أن الثقافة الإسلامية هي عنصر مهم في مقومات هويته، لكنه في النهاية يكتب بالإنجليزية ومن داخل التقاليد الأدبية الغربية. غير أن ما يميزه، ضمن خريطة مُنظّري الأدب المعاصرين على الصعيد العالمي، هو تعدد مرجعياته اللسانية وازدواجية هويته؛ من هنا يمكن اعتبار تنظيره بالنسبة لمن يُؤرقه سؤال «النظرية النقدية العربية» حالة مثالية، فالأساس هو الانطلاق من القاعدة الإبداعية لصوغ المفاهيم والتحليلات ثم التنظير للظواهر والأبنية. هل يحل هذا النموذج المشكل؟ أم يعقده أكثر ؟ إذ ما العلاقة التي يمكن أن تنهض في حقول الجماليات والتعابير بين النقد والهوية واللسان؟.
ما تعلمنا إياه القراءات التاريخية لتطور النقد العربي، أن الطفرات الأساسية في فهم النصوص الأدبية التراثية والحديثة كانت مقرونة بالانتماء لمجتمع المعارف الغربية، من بدايات الاعتناء الاستشراقي بالمخطوط العربي، إلى إعادة قراءة التراث السردي والشعري من منطلقات منهجية تطورت في ممارسات النقاد الأوربيين والأمريكيين، لهذا يمكن فهم القطائع التي أحدثتها كتب من قبيل «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، و»من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده»ل محمد خلف الله، و»جدلية الخفاء والتجلي» لكمال أبو ديب، و»ألف ليلة وليلة في أصوله العربية الأولى» لمحسن مهدي، و»المقامات: السرد والأنساق الثقافية» لعبد الفتاح كيليطو، و»النقد المزدوج» لعبد الكبير الخطيبي، وبعض هذه الإصدارات كتب بغير العربية، في الأصل، وبعضها الآخر كتب داخل الوسط الثقافي الأوربي أو الأمريكي، كما أن بعض مؤلفيها أمضوا حياتهم أساتذة في بعض أرقى الجامعات الغربية. وفي مقدمات عدد من تلك المؤلفات يتجلى التطلع الدائم للناقد العربي إلى تبيئة «الأدب» و»التعبير» العربيين ضمن خارطة الإنتاج المعاصر، التي تتحول فيه الهوية واللسان إلى مجرد منطلق (أو «بداية» بتعبير إدوارد سعيد)، بينما الهدف هو «المنتج الأدبي» بروافده المتعددة. في هذا المستوى من التحليل يمكن أن نستوعب إلى حد كبير مدى إسهام التعدد اللساني / الثقافي، والهجانة الهوياتية، في تشييد صرح «النظرية الأدبية المعاصرة» التي لا تدين لعرق محدد أو لسان أو جغرافيا، بدءا من الإسهام اللامع لكل من «تزفيطان تودوروف» و»جوليا كريستيفا» (الوافدين من أوروبا الشرقية) في صناعة مجد النقد الفرنسي المعاصر، وانتهاء بأثر إدوارد سعيد (ذي الأصل الفلسطيني) وهارولد بلوم (ذي الأصل اليهودي الأوربي) في الوسط النقدي الأمريكي.
-3 مفارقات التمركز النقدي
ألا يفسر هذا التشابك اللساني والهوياتي الواسم للحداثة النقدية إلى حد كبير صدور أغلب دعوى «النظرية النقدية العربية» عن عروبيين أو مُعَرَّبين (غير مُلمّين أو منفتحين على لغات أجنبية)؟، إذ الخلفية الرافدة لجوهر الانحياز إلى «الخصوصية» هنا، بصرف النظر عن القصور اللغوي والمعرفي، هي التوظيف الإيديولوجي له، في مجابهة مترحّلة، عبر الزمن العربي المعاصر، بين طرفين متقاطبين، بمجازات متبدلة؛ إنها الوجه العرقي للتمركز العقائدي الأصولي الذي أنتج وسما دينيا لمختلف الفنون التعبيرية، جُمعت كلها تحت عنوان: «نظرية الأدب الإسلامي» الذي يشمل الإبداع المسرحي والشعري والروائي والقصصي، فضلا عن النقد والتنظير للأدب، ولعل عددا كبيرا من الأدبيات التي أنتجها دعاة «النظرية النقدية العربية» تتقاطع في استنادها إلى قاعدة التمركز الثقافي مع دعاوى الوسم العقائدي للإبداع، فكلاهما يلتقيات في «تقديس الأصول»، وإغلاق منافذ التقاطع والجدل مع التيارات الفكرية والنقدية والإبداعية العالمية. ومن ثم أضحى الانتقال بديهيا، في «الأصوليتين» معا، من الضوابط النوعية في الخطابات الروائية والقصصية والمسرحية والشعرية في المشهد الإبداعي العربي المعاصر، إلى مقومات الهوية العقائدية والقومية، أي الانتقال من قواعد ذات طابع جمالي إلى قيم ذات كنه إيديولوجي.
في مقطعين من كتابين مثل أولهما الخلفية العقائدية والثاني الخلفية القومية يتضح التقاطع في قاعدة التّمركز حول الهوية، لتبرير اصطناع «نظرية خاصة»، لا تخلوا، في العمق، من جوهر عنصري، والسعي إلى ابتداع معرفة أدبية بمواصفات مغلقة. المقطع الأول لعماد الدين خليل، وهو من أكثر الدعاة لنظرية الأدب والنقد الإسلاميين توازنا، إذ يقول في معرض التعقيب على دعوى كاتب إسلامي آخر هو «محمد إقبال عروي» بصدد طبيعة التمثل النقدي للمناهج النقدية الغربية، ما يلي:
«إننا بإزاء فرص للتوظيف [يقصد المناهج الغربية] في سياق حركتنا الأدبية تزيدها نموا وخصبا واكتمالا، وتقربنا أكثر من لغة العصر ومن الوصول إلى الآخرين خارج الدائرة الإسلامية نفسها، لكي تقنعهم بمعطياتها في هذا الجانب أو ذاك من جوانب النشاط الأدبي: إبداعا أو تصورا أو دراسة أو تنظيرا أو نقدا… وسيكون من فضول القول التذكير بان الاندفاع غير المبرمج باتجاه الأخذ عن النشاط الأدبي الغربي، دونما ضوابط ولا معايير إسلامية تفرز وتعزل وتميز وتختار، سيكون نوعا من الانتحار الثقافي، لأنه يقود إلى فقدان الهوية والذوبان في منظور الآخر»(8).
بينما يشير المقطع الثاني للناقد المصري عبد العزيز حمودة المستند إلى خلفية لسانية/ قومية إلى النزعة ذاتها مع فارق في الوعي بالقضايا الجمالية للأجناس الأدبية؛ حيث يقول:
«إن الأصالة التي نتحدث عنها، في مواجهة المعاصرة، لا يقصد بها، ولا ينبغي أن يقصد بها، العودة للتراث ودراسته وقتله بحثا، ثم تجميده فوق رف من رفوف الذاكرة الثقافية البعيدة والمنسية؛….إن ما نتحدث عنه هو الأصالة التي تمكن العقل العربي اليوم من تطوير «هوية واقية»… في مواجهة الأخطار القادمة مع النقل عن الغرب دون تمييز»(9).
كلمة «خطر» وما يتصل بها من قرائن وإبدالات وصفية، تنهل من مدونة الصراع الثقافي، من قبيل «التهديد» و»الغزو» و»الاستلاب» و»التبعية» و»الذوبان» و»التغريب»، هي منافذ فهم ذهنية «التنظير» التي تتحدث عن «أدب» و»نقد» لا وجود لهما، إلا على نحو افتراضي، وإلا فما هي الترجمة العملية لـ: «نقد عربي يطور هوية واقية»، ولمَ حصر النقد، من الأساس، بدائرة القيم؟، والحال أن طموح التنظير يكمن في تخطي لا عقلانية الهويات المغلقة . لكل هذا لا يمكن النظر إلى ثقافة «التنظير» المتمركز في عدد كبير من خطاباته تجاه ثقافات العالم إلا بوصفه تجليا من تجليات النزعة الانعزالية المترحّلة المناهضة لمفاهيم الانفتاح والتعدد والحوارية، وهي الانعزالية التي يمكن أن تتشظى مع مرور الزمن إلى دوائر أكثر انغلاقا ولا تستند إلى رصيد إبداعي، لتنشا تدريجيا مسميات دون كنه من قبيل: «نظرية نقد مغربية» و«نظرية نقد مشرقية» وغيرها من الأوصاف المفرغة من المعنى.
-4 تركيب
تأسيسا على كل المقارنات التي انتهجها المقال في إبراز صيغ تداول سؤال «نظرية نقدية عربية»، وأنحاء توظيفه في تغذية سجالات مترحّلة عبر الزمن، لا تخلو من مضمون زائف، يمكن الانتهاء إلى كون مسعى التنظير مثل لحظة فارقة في المواجهة بين قطبي الحداثة والتقليد النقديين في الثقافة العربية المعاصرة، في سياقات تكاد تكون متماثلة ومتكررة، أعيد فيها، دوما، طرح سؤال الجدوى من النهل من مفاهيم ومناهج النقد، ونظرية الأدب، في الغرب، لتبرير تقوقع هوياتي لا يستند إلى مسوغات أدبية وجمالية، في الآن ذاته الذي مثل فيه النقد العربي المكتوب بلغات أجنبية والإسهام الأوروبي والأمريكي في دراسة الآداب العربية تجربة لامعة ونافذة الأثر، هذا وتكاد تجمع أغلب القراءات التاريخية لمسار النقد العربي الحديث والمعاصر، على أن أي محاولة لتشييد قواعد «نظرية عربية» لم تخلف أي صدى في الوسط النقدي والأكاديمي العربي من المحيط إلى الخليج، وما لبثت أن تلاشت مزاعمها أمام تراكم صيغ الاسترفاد المعرفي من المنجز النقدي العالمي، المؤسسة على مبدأ التثاقف والعمق الإنساني للأدب.