إنها المفاجأة ذاتها التي تداهمنا ونحن نتصفح أعمال الفيلسوفين المغربيين عزالدين الخطابي وإدريس كثير. المفاجأة التي تترصدنا في كتبهم متأهبة بين السطور ومخترقة فراغ الكلمات الذي منه تتاح فضيلة الإنصات، متقلبة بين جدل المحو والكتابة، النسيان والتذكر. منبعثة بغثة حيث لا أحد ينتظرها ومنتصبة في انثناءات قد لا تنبسط إلا لتخلق انثناءات أعقد.
إنها مفاجأة الصداقة أي ذاك التواطؤ الضمني مع عشق الحكمة السابق لكل عمل مفهومي أو مهمة تأملية والتي لن تقود إلا إلى ورطة التفلسف والانشداد إلى متاهة مسار مقلق وممتع في نفس الوقت قد لا تكون له نهاية.
وهي الصداقة نفسها التي تدبرها مكيدة الوجود حاملة إياهم على الشغف بذلك «النداء الآتي من الأصول البكماء للأشياء، نداء أبكم هو الآخر لكنه مبدع لأصداء لا يجوز للكاتب إغفالها «(1). أليس عز الدين الخطابي وإدريس كثير هما من اعتبرا « قضية الوجود بمثابة قصيدة تحتضن كل المسارات الممكنة والمنفتحة أمام الفكر. فهي دعوة مستمرة إلى التفكير وإلى الانسياب داخل مسالك المعرفة ومجاهلها »(2)
هذه الدعوة تصوبها نحونا أعمالهما لتنأى بنفسها عن أن تكون مجردة تآليف معتادة في تاريخ الفكر أو مجرد مجهود بيداغوجي لتوضيح احتياطي القول البشري المودع في المكتبات والخزانات. بالعكس فقد كان الفيلسوفان حاسمين في انخراطهما. لأن الفلسفة كما أكدا ذلك بلا تردد مجال للإبداع الفكري ودعوة للتفكير والمساءلة والإنصات إلى نداء الوجود الذي ينادينا »(3)
إنهما يدركان الإبداع كحاجة مفعمة بالتوتر اللازم لإنتاج التاريخ الذي لن يكون متاحا من دون تمزق وقطع وانفصال. يمكننا أن نتساءل من خلالهما عن طبيعة هذه الحاجة المطالبة بالإبداع الفلسفي، وعن شروطها وحيثياتها.
إنها في عمقها حركة مؤسسة لعطش لا يروى ولبياض لا يملأ ولا يختزله أي كتاب، ولصمت لا يتجاوز ولا يختصره أي معنى. وليست هذه الحركة طبعا سوى السؤال الذي ينفتح كرغبة لا تنطفئ. إن ذلك لا يعني في نظرنا سوى إن إدريس كثير وعزالدين الخطابي لا يدركان الفلسفة كتعليق للرغبة بل كتورط فيها. إنها جسد حي متوثب ينزع من خلال الشروخ والثغرات التي يحدثها في هيكل التاريخ، إلى استدعاء المستقبل.
يستعمل صديقانا في خلاصة عملهما الموسوم بـ«في الحاجة إلى إبداع فلسفي «عبارة التاريخ الميتافيزيقي الذي يؤلف إلى جانب اللغة والتاريخ حيثيات خارجية للإبداع الفلسفي تنضاف إلى شروطه الداخلية كبناء النظريات وصياغة المفاهيم واقتراح الأفكار. هذا التاريخ لا يمكن البحث عنه فقط في تعاقب غبر منتظم للدهنيات واشكال من الحكم غير مفهومة الأساس وتعمل كموجه يفلت من سيطرة العقل، أو تشتغل كخلفية غامضة تحرك من حيث لا ندري مضامين تسكننا وتتحكم فينا. بل هو تاريخ يقبع أيضا في مسار الأسئلة المقموعة والاستفهامات المكبوتة التي غدّت عصورا بكاملها بما يكفي من الحيرة غير المعلنة التي تؤسس للتوق الضمني لاستعجال نهاية هذه العصور. إن التاريخ الميتافيزيقي في النهاية لن يكون سوى تاريخ رغبة مؤجلة لن تشبع نفسها إلا في انتفاضة مستقبلية لسؤال مقموع أو استفهام منسي.
لنعد إلى كتاب «في الحاجة إلى إبداع فلسفي» الذي يعلن فيه الرجلان عن خيارهما قائلين: «لذا فمغامرة السؤال بمفردها هي التي حملتنا على السير في دروب مشروع فلسفة بالقدر ما تبدي فيه ملامحها، بنفس القدر تخفي رسوم معالمها. تجمع كالمفرقة بين الثني والضمر، الانكشاف والظهور، تعلن هويتها دون أن تصاب بالعمى وتسكن في اللغة دون غلواء التمسك بالمقام وتهيم بالميتافيزيقا دون استلاب عشق المفهوم..» (4) ربما هو ذات المسار الذي دفع بإدريس كثير إلى بلورة مفهوم الإسرار الفلسفي في كتابه الذي يخمل نفس العنوان، مختبرا فيه شكل الانطولوجيا التي يدافع عنها لأنه يشير إلى الظاهر والخفي في آن معا، وجود مفارق ظاهريته تجمع بين مستويين من الوجود لا يستساغ جمعهما عادة. وهو يعزز اختيارهما لمنطق المفارقة الذي يقولان يصدده: «منطق المفارقة هو ما نرشحه عوض عدم التناقض والثالث المرفوع ليبرز لنا التكرار بما هو اختلاف، والمغايرة الاستثنائية بما هي الآخر العائد أبدا. منطق الإضمار المفارق هذا هو الذي يمتح من اللغة مواربتها ومن المنطق ملفوظيته المعقولة ويفيد من الاتجاهين الممكنين للمعنى ويتوجه نحو المعنيين في آن واحد» (5) فوحدها فلسفة غبية تمنح نفسها دفعة واحدة. تعرضها وتبسطها بجرة قلم لأنها مبتلعة بكاملها في مبدأ عدم التناقض ومختزلة في مطلب الانسجام. في حين أن الفلسفة الحية تتأرجح مابين البسط والثني، مابين الإظهار والإضمار، تستدعي التنافر ولاتتنكر للملتبس والغامض. إذاك فقط نتأكد أن الوجود يتحدث من خلالها، وأن مكره يصرف نفسه في فضيلة المفارقة مبدأ غنى الفكر التي لا تضاهيها سوى فضيلة الكذب التي تحدث عنها الفصل الأخير من كتاب» إدمون جابيس أو حوار الفلسفة والأدب»(6). إذ لا وجود لكتابة بدون كذب والكتابة هي طريق الإله. فالصدق في نهاية المطاف ليس سوى حالة محترمة من الكذب. ألم يقل نتشه ذات يوم: أن نكون صادقين معناه أن نكذب وفق تقليد ثابت. فإذا كان السؤال «سخرية إلهية» (7) فالإنسان نفسه لن يكون سوى كذبة إلهية كما يرد ذلك في كتاب جابيس. (8)
يفهم عز الدين الخطابي وإدريس كثير إقامتهما ببيت الفلسفة كانتماء لمسار لن تتيح الالتحاق به سوى المغامرة. إنه سبيل لا توجهه حقيقة مسبقة نحو الصواب بقدرما هو انقذاف لا يعد بشيء لأن غايته هي الطريق نفسه. انفتح هذا الطريق مع بارمنيدس ومع دعوته للإنصات لنداء الوجود لكنه كذلك فتح هذا المسار لأنه حقق قيمة الانفصال. فقد قطع بارمنيدس مع إشكالية الأصل «تلك الإشكالية المؤسسة للفكر الفلسفي في بدايته»(9) وهي القطيعة التي شكلت فعلا تدشينا للميتافيزيقا والانطولوجيا(10). إن الانفصال ليس فقط علامة بزوغ التاريخ، لكنه كذلك عتبة تدشين فعل الحرية. فذلك الانقطاع الذي يحرم الزمان من استرساله هو ما يجعل منه فضاء تحرريا. والمكان لن يكون أبدا مجالا للحرية إلا من حيث هو سؤال للزمان أي كمستقبل يكرس الانفصال ليس كاحترام للحدود وإنما كاختراق لها أي كحركة تتنكر للهنا في ثوق دائم للهناك. إنه سؤال رغبة.
في كتاب إدمون جابيس الذي ترجمه الأستاذان ليشكل إهداء أنيقا لفضائنا النظري والإبداعي، ترد العبارة التالية في ما يشبه الوصية:» لا تنس بأنك نواة الانفصال» (11) فالإله نفسه انفصل عن ذاته ليترك لنا فرصة الكلام والاندهاش والاستفهام (12). والسؤال الذي لا يقطع لن يكون سوى جواب مقنع. فالوجود لم ينبثق كسؤال إلا لأنه انفصال دائم.
يمارس صديقانا الخطابي وكثير مغامرتهما الفلسفية عبر مساءلتهما للمسار البرمنيدي. لنستمع إلى نبض سؤالهما قليلا: «أما يزال الطريق الذي سلكه برمنيدس على حاله ؟ أهو نفس الطريق الذي قاد أوكتافيو باث إلى أطلال غالطا وقاد هيدغر إلى مساءلة ثني الوجود واختلافه ؟ ألم تكتنفه معيقات وتمحي معالمه الرياح والرمال ؟ كيف يمكننا اليوم وقد لعب الزمان والنسيان لعبتهما أن نعود إلى تلك الطريق ؟ وما السبيل إلى العثور على عليها ؟»(13)
إنهما يختبران ضرورة السفر والارتحال والهجر كاستجابة لنداء الوجود حيث يظهر أن رحلتهم ستأخذ ـ كما يقولان ـ لنفسها مسارين:» مسار العودة إلى البراءة الفلسفية وذلك بالتطهر من العادة والأحكام المسبقة وتطهير الطريق لبدء البحث عن الطريق. لذا يجب يجب أن نشرب من ماء طاليس ثم نبدأ الرحلة مع برمنيدس وننصت إليه وبعد ذلك نقوم بمساءلته..» (14)
قد يكون السفر والترحال ضرورة للانخراط في المسار الفلسفي. لكن ذلك لا يعني انتزاع الذات من ألفة الطمأنينة وترك كل الثوابت وإعادة التأسيس في اللاأساس. وبذلك فكثير والخطابي ينعطفان بقوة نحو ما أسماه زميلهما عبدالعزيز بومسهولي في كتابه «الفلسفة المغربية سؤال الكونية والمستقبل» بتجربة الفكر، أي تلك «العملية الضرورية التي تفضي إلى فك ارتباط التفكير بالمعرفة التي غدت تنميطا للفكر واختزالا لتجاربه داخل مذاهب وتيارات فكرية، أي أنها تضع ركون الفكر إلى سكونه موضع إقلاق وتساؤل. ففي تجربة الفكر تولد اللا طمأنينة تلك الدهشة التي تمكن من التخلص من السبات الدغمائي. أي من سلطة المعرفة الكليانية التي تحول دون الوثبة التي تجعل الانفصال ممكنا» (15) فتجربة الفكر هي الشرط الضروري لأية حياة فلسفية ممكنة.
إننا نتحدث اليوم عن إدريس كثير وعز الدين الخطابي ونحن نضع نصب أعيننا أن عصرا ما لم يكن ليتحدد بالأجوبة التي يلثئم حولها، وإنما بالأسئلة الجديدة التي يثيرها. أي تلك الأسئلة المحدثة للفراغات الممزقة للاستمراريات والمشتتة لكل اتصال والتي تعيد اكتشاف الذات كطارئ خارجي والمعنى كاستحالة والحقيقة كإمكانية للخطأ.
وربما تلك هي المهمة التي يقوم بها إثنان من الأسماء البارزة من الجيل الفلسفي الجديد بالمغرب كعز الدين الخطابي وإدريس كثير..
الهوامش
1ـ عز الدين الخطابي وإدريس كثير «في الحاجة إلى إبداع فلسفي» منشورات الزمن. الدار البيضاء 2006. ص 8
2ـ نفسه ص 4 3- نفسه ص 9 4ـ نفسه ص 56
5ـ نفسه ص150 6ـ نفسه ص 149
7 ـ جاك ديريدا في كتاب «إدمون جابيس: أسئلة الكتابة أو حوار الفلسفة والأدب» ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي.دار مابعد الحداثة فاس 2000. ص 112
8 ـ نفسه ص 113
9 ـ في الحاجة إلى إبداع فلسفي ص 9
10 ـ نفسه ص15
11ـ جاك ديريدا مرجع سابق ص112 ـ
12ـ نفسه: ص 112
13 ـ في الحاجة إلى إبداع فلسفي ص 9
14 ـ نفسه ص 9 ـ 10
15 ـ عبد العزيز بومسهولي: الفلسفة المغربية سؤال الكونية والمستقبل. منشورات مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب. مراكش 2007 ص 9.
عبد الصمد الكباص
كاتب من المغرب