ما إن لامست لدانة ثيابهم, حواف فتحة مستطيلة تركتها، بدفعة خفيفة من قبضات خشينة, ظلفة ذات ثقوب وعواميد رفيعة مستدقة, لترتطم بحاجز أسمنتي من الداخل, وترتد صائتة بنحولة, حتى فزت عصافير، شابثة أعشاشها عمق زاوية ظليلة, أعالي السقف الحديدي، شاغلة الوقت قليلا, بأصوات بهيجة تلألأت في دواخل أفئدة كثيرة, تنتظر أن تساقط ظلالا جديدة على الأرضية المنمشة بالأسود، وئيدا هبطت خيالاتهم, ساحت على مربعات صغيرة, لبلاط متقادم. لم يتوزعوا الحجرات القليلة, الضاجة بالنزلاء, الى غرفة بعينها، الغرفة ذاتها التي يهابها الجميع, إذ ترتبك خطواتهم, حين يبلغهم حفيف أجنحة لأرواح تتخافق داخلها، سبعة كانت لهم هيئة واحدة. لحي جليلة, تفيض لتختفي أطرافها داخل فتحات ملابسهم, بيضاء, كقطن نديف, وجوههم مضيئة كما لو سرج تطاير في ظهيرة غبشة معصوبة رؤوسهم بعمامات خضراء، ملامحهم رائقة وتضمر أشياء كثيرة. في الأيام الأولى تشاغلوا بمطالعة كتاب ضخم, بصفحات عريضة وكتابة متداخلة بين خطوط مستقيمة وكثيفة, لم يره الآخرون في الصندوق الوحيد للكتب, الشاغل لركن عقيم بغرفة المسجد، كانوا يتداولونه, يثيرون لغطا يتطاول بجلال, ثم لايني ينخفض, إذ يتحول الى همس. أخذوا يتوزعون الحجرات, يقفون عند كل واحد، يتفحصونه, يجوسونه ببطء. تصطدم نظراتهم بحبيبات حمراء، في طراوة أجسامهم, بتلك الصفرة الشائنة, في رعشات عيونهم في البلغم يتهاوى كتلا وفيرة, تختلج حين ارتطامها بالحوض الأسمنتي، أسفل بزابيز المياه ذات الأيدي المكسورة, أو حين يسبح ثقيلا, من أعلى البلاطات الصغيرة لمنتصف الحمام هابطا فتجرفه دفقات الماء السخيفة الى ثقب وسيع, داكن قليلا وغائر، محفوف برخامة كبيرة مشغولة بخطوط, ذات تجويفات مستطيلة, تحقن رغوة الصابون وباقي الفضلات. أو ذلك الأنين الموجع, تصعده هياكل فخيرة, إذ تهمي على مسامهم فسمات باردة من ثقوب الشباك الحديدية فوق رؤوسهم. ينحني أحدهم على جيش النمال, إذ تخرج من مساكنها، شقوق صغيرة, تتركها انفراجات الأرضية, لتطفح بذرات ناعمة, لتراب رطب ودفيء خلال طرق متعرجة, يأخذ بتتبعها سائرة في حركة نشيطة, حتى يتعقبها سجين بدافق الماء، فتطفو فوقه متعالقة, في تشبث عشوائي، لتبتلعها فوهة كريهة, أسفل الحاجز الحديدي لبوابة العنبر.
" خراب للووح" قال أحد السبعة
بذات النشاط كان لغطهم مرة أخرى يتقايض, يندلق في حوض المسامع الشابثة بخيوط الكلام. أخرج أكبرهم صندوقا صغيرا، مزدانا بمسامير ذهبية مفلطحة, لسان نحاسي يتدلى من غطاء دقيق مسطح, بادية منه حلقة معووجة, رقيقة من النحاس, مختومة بقفل صغير زي نقش دقيق متداخل. بطويل أصابعه, ذات الشعر الكثيف اللامع, الساقط على ظاهر اليد البيضاء, واضحة المسام, راح يلمس الصندوق, تغيب ضالة القفل في تكئة كفه الفخيمة, تكة رقيقة, أرهفتها مسامعهم حين ولج, خفيفا مفتاح صفير, لا مرئي، بشق القفل نزعه رافعا اللسان الى الأعلى, لتضرع رائحة عتيقة.
دس يديه الجليلتين, عمق الصندوق, أخذ يناولهم أدوات نحاسية نحيلة, راحوا يحوطونها بعناية, يخفونها في طيات ملابسهم بحذر، الأداة التي كانت له, أكبرهم, غير ذات شبه بأدواتهم يخرج من ساقها ما يخيل أنها أغصان صغيرة وقصيرة جدا, تطول وتقصر بلمسة من إحدى أصابعه.
حين لا ينير الحجرة, غير ضوء شفيف,هالة لحاهم النديفة واذ لا يسمع سوى رسيف سجين, في قيده الحديدي عند تقلبه, لمس كبيرهم اداته, وبقامة مشيقة أخذ يخط في اتساع الحائط للحجرة. أصابعه خانية إذ تجول بخفة وخبرة ناثرة خطوطا وملامح بدهمة, في مستطيل شسيع.
ثمة شظايا دقيقة تتهامس، حين احتكاك الأداة بسماكة الحائط فتساقط وضيئة, ليكتفها بحوض يده الأخرى، يسحقها بحركة كتيمة. عند انتهاشه, قليلا تراجع للورا،, شحذ بصيرته, أخذ يرى صنيعه, خطوطا تتشابك في سحر وجلال, كاشفة عن جدارية مهيبة, عالقة بسقف الحجرة, متدلية فتلامس القاع, غامضة, لون فضي فقط, مزهو بامتداداته وتعرجاته, كثيف متروك في ساحة الحائط. وامض الآخرين بنظراته.
" من الغد نكسوها لحما ونتخ فيها الروح "
النزلاء,حين توامض الخطوط السحرية في الحجرة الظليلة, كان يتلكأ انتباههم, بنظرات رامشة, وقوفا يظلون, ما بداخل تلك الحجرة, يدفعهم حثيثا لافتضاض سره, عراء حياتهم وانفضاحها، داخل مربع الأسمنت, والأسلاك الناحلة المتينة, يقودهم الى مناطق ومساحات عقيمة, تعبث فيها خيالاتهم تدويرا. يكحتون الحبيبات الصديدة, حال تسديل الصهد، خلال أسلاك السقف, يمطون أعناقا أينعتها الرغبة في قطف شمس لا يملون وهيجها. فتتطهر أرواحهم من خرابها الشابث بتربتها. يصطدمون عنوة بأحد السبعة إذا ما خاط طريقا بجانبهم.
يرامقهم, فتمتد رقعة خضراء فسيحة, تتموج في قاحل صحرائهم,يتناهض خائر أحلامهم, يتواشج, فتدب الأنفاس الحارة فيها، لتطوف عليهم الأيدي الرحيمة, داسة في حناياهم العتيمة نثير ضوء لحظة أن تراعشت تلك الخطوط بباذخ الحياة, كان جهدا خرافيا قد بذله أولئك الرجال. أفواههم تفوه بنشيد ممطوط, تتعالى نبرته إذا ما أخذت الملامح تتكاثف متآزرة كاشفة عما يشبه السفينة البدائية, بصواريها وأشرعتها المشدودة,متأهبة لإبحار طويل, ثمة نحت صفير, لطفل يرفع عصا مشيقة, على قاعدة فخيمة بمقدمة السفينة فيما كانت المرساة تهبط عميقا في الأزرق المائج, شابثة بالقاع, نورسات قليلة تتناثر جائلة بأجنحة سمراء مائلة, أسفل الهيكل البدائي، جاعلة جامد الحائط, يتنابض بالروح. دفعات الريح السخية, تزيد في توتر الشراع, وتنفخ المدى الرحيب في خلفية الهيكل الجاثم. تهدمت ملامحهم بالبشر، يباشر كبيرهم إصلاحات صغيرة بإحدى يديه, ويجس بالأخرى، بخشوع, أجزاء السفينة النافرة فوق الأمواه, زرقاء رائقة, سماء كظيمة, وغيمات دكنا، عالقة بسقف هذا المساء. نثيث الغبار، اللابث فوق شبك الحديد، ينسرب اليهم يعابثهم, اختناقا يضجون, صواعق تلوت خيوطها الوضيئة على الداكن المتعرج, صدعت الجدران براعب صوتها. في الداخل كان السبعة يحزمون أمتعتهم. اصطخاب المويجات, وهدير البحر، يطاير نثيث القطرات المالحة في فضاء الحجرة, يلمس ملامحهم الرطيبة, تسيح القطرات, متعرجة, شاقة الانحناءات الرقيقة, لتجاعيد الوجوه الجليلة, حتى تغيب في جفيف لحاهم. السفينة لم تعد قارة على مستطيل الحائط, أخذت في حركات بطيئة, فيما الأشرعة تصطفق, دافعة النوارس بهباتها الجهيرة, الى مخابي، آمنة, في مهاضة أجنحتها من الابتلال. حال اكتظاظ الظلام مثل رداء أسود ثقيل ولدن, خرج الرجال بعماماتهم الخضراء, تفرقوا الحجرات, غابوا طويلا. الفتحات الضيقة وغير سوية تند عن أصوات تحتد، وأخرى ذات طمأنينة تجهد في تهدئتها. خرجوا، تتقاطر خلفهم طوابير قصيرة, تجرجر أمتعة محرومة, تصطدم بالقيود فتنثر طرقعات ملحوظة. تراصت أجسادهم تحت السقف الضيق, فاغرة أفواههم. الظلام يتكاثف, والصواعق تتقصف,متوترة, جالدة السماء بسياط حارقة, تتهامس الدموع, أسلاك فضية تتلامع, فتضاء الحجرة إضاءات متخاطفة, لتبدو السفينة على الحائط, شاهقة,غامضة, ومهيبة كأشباح طائرة… في الصباح كان ثمة ضجيج خافت, تصاعد حال طرقعات أقدام الحرس, لدخول عساكر بوجوه غريبة, تتوامض أكتافهم, مروا الحجرات, لبثوا كثيرا عند الحجرة, تلك الحجرة, التي تخافقت فيها أرواح الرجال السبعة, بعمائمهم الخضراء ولحاهم الثلجية كانت خالية, والسفينة قد اختفت من بياض الحائط, انزلقت مبخرة بهم, قبيل الفجر، وسط طبيعة جهيمة, مهاجرة الى شواطيء مجهولة تتناءى, يرافقهم رجال, يسكنهم شغف قديم لنجاة مديدة, تتجدد إذا ما تطاول الموج هادرا, دافعا إياهم بقوة رفيقة, الى الطرف الآخر من البحر.
أحمد زين (قاص من اليمن)