سعيد سلطان الهاشمي
بين ربيع عام 2000 وربيع 2022 حكاية يتوجب على ذاكرتي الآن أن تتعهدها بعناية خاصة. عناية تليق بمحبة إنسان عاش جميلًا وغاب كريمًا. غمر أهله وأصدقاءه بأنفس ما يمكن أن يمنح مُحِبٌّ لأحبته؛ السماحة والكرم. دون أن تُنسيه رحلته القصيرة في هذه الفانية، ومشاغله المهنية المعقدة كطبيب، الإخلاص إلى البسيط والعميق والمهمش من البشر والأفكار والصور والكلمات. وهو الذي أودع كل ذلك في نصوص بديعة تُقرأ أبدًا، وقبل أن يفعل ذلك، كان قد ترجم كل ما سبق؛ مسلكًا عاشه لأجل خير الناس وعافيتهم.
لم أزل أتذكر تلك الصدفة السخية في ربيع عام 2000، التي أكرمتني بالتعرف على طالب طب عماني، جاء إلى القاهرة لقضاء جزء من تدريبه في مستشفى “القصر العيني”، كنتُ لغاية تدريبية كذلك في مجلس الشعب. زميلي فهد، أخبرني بأن مجموعة من طلبة كلية الطب العمانيين ومنهم صديق دراسة له يقضون شطرًا من برنامج امتيازهم الطبي في مستشفيات القاهرة. لم نتردد كثيرًا، عقدنا العزم على زيارتهم للتعرف عليهم. لم تكن إلا سويعات حتى التقينا برهط من الشباب في شقة بسيطة في حي شبرا العتيق، المكتظ بروح مصر. ومنذ لحظة التعريف بالأسماء كان الشاب عبدالعزيز الفارسي الشجرة التي تختزل غابة بأكملها. حيويته اللافتة، ثقافته الواسعة، ثقته بنفسه وبالحياة، والأهم من كل ذلك ابتسامته الحنون، تلك الابتسامة التي لا تُنسى، والتي تعقد مع أول من يتلقاها صفقة العمر؛ صداقة ممتدة، للتو قد بدأت، ولا نهاية منظورة يمكن أن تكدر صفوها. بعد ذلك اللقاء التعارفي السريع، كان عبدالعزيز المبادر بجولات مشي عديدة، على ضفتي النيل وعبر أكشاك الكتب المتوزعة على جسورها طوال أسبوع كامل. في ذلك الأسبوع البعيد في الزمن، القريب من الذاكرة الآن؛ كان عبدالعزيز العين التي رأيتُ فيها أجمل ما في شوارع القاهرة ومكتباتها وميادينها ومقاهيها، مشاهد مشفوعة بشروحات وضحكات لم يزل صداها يدوّي في دهاليز القلب، كلما عبر طيف عبدالعزيز الذاكرة. ذاك الربط البديع بين شخصيات نجيب محفوظ وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني وبين البشر الذين كنا نصادفهم لمرة واحدة في أحياء السيدة زينب أو خان الخليلي، وأزقة وسط البلد والقاهرة القديمة، ربطٌ كان عبدالعزيز ينسجه في براعة منقطعة النظير. تلك التحليلات العميقة لتناقضات النفس الإنسانية ومحاولات فهمها بأسئلة توسع الحيرة المحفزة للفضول. “ما الذي ينقصنا لكي نكتب عن قُرانا وحاراتنا وعُمياننا ومجانيننا؟“ كان يسألني. “لماذا نَفَس أهل السرد قصير لدينا؟ بعد نشر مجموعة أو مجموعتين، يتوقفون عن الكتابة أو النشر؟ رغم أن البلاد منجم زاخر بحكايات لا تنتهي، تستحق أن تروى”. ثم، ما يلبث أن يلاحق أنفاسه: “انتظر أسماء عمانية قادمة في عالم السرد، فقط انتظر واقرأ لهم. عندما نعود إلى مسقط، سأهديك بعضًا من نصوصهم وسأعرفك عليهم”. انتهى ذلك اللقاء على وعد من عبدالعزيز بأن يأخذني إلى تلك الأصوات القادمة من القرى والأودية والسواحل، روح الأرض ووجيب ضميرها. كان مؤمنًا بأهمية الزخم الجماعي لأي فعل إبداعي، وبأن العمل الفني بقدر جمالياته في التفرد وإنجاز الفرد إلا أن التشجيع والدعم الجمعي يدفع بالإبداع إلى مراحل متقدمة.
لم يكن عبدالعزيز حينها قد نشر أيًا من مجموعاته بعد. غير أن المسّ الذي كان يسكنه للكتابة والتقاط أكبر وأجمل ما باستطاعته من حكايات لأجل تخليد شخصيات متعددة، مسرحها مسقط رأسه شناص، ومداها الأفق الإنساني الشاسع، كان مما لا يمكن أن تخطئه عين أي قريب من عوالم عبدالعزيز. لم يكتفِ هذا الطبيب المطحون بأعباء يومية في عمله بطرح أسئلة الشكل والمضمون واللغة وإطلاقها في الهواء. بالأحرى لم يكن لديه امتياز الفراغ الذي كان يتمتع به غيره، بل اختار الدرب الأكثر مشقّة؛ الكتابة والإصغاء إلى كل صوت يناديه من داخله المحتشد بالأسطوري والمتخيل والواقعي في نفس اللحظة. من ذاك القلق المُمِضّ وبكثير من المثابرة والدأب، أسس هذا الشاب الشناصي مذهبه السردي الخاص في مسار الحكاية العمانية المعاصرة، مذهبٌ، قوامه صوت الناس، ومادته آلامهم المخنوقة، وأوهامهم المُعقدة، كل ذلك سيّله عبدالعزيز بأحاسيس رهيفة، كُتبت بالقليل والكثيف من الكلمات المنسابة كنبع ماء رقراق.
في صيف عام 2000، فور عودتنا إلى مسقط، عبدالعزيز هو من بادرني بدعوة لزيارته في غرفته المكتظة بالأوراق والكتب بسكن الجامعة. ورغم كثافة انشغاله في السنة الأخيرة لتخرجه من كلية الطب، أخذني في جولة راجلة، للتعرف على أجنحة المستشفى الجامعي، وفي كل لون من ألوان تلك الأجنحة كان لعبدالعزيز حكايته الخاصة، فتارةً يخبرني عن مريض ألهمه فكرة أو حكمة، وتارة يلفت انتباهي إلى سرير فارغ إلا من البياض كان قصةً تستوجب التدوين. يومها كان عبدالعزيز يُذيب الخط الفاصل الشفيف بين السارد وشخصياته، يحيا كل واحدة منها بكل تناقضاتها وآمالها. دون أن ينسى أن يعرفني على رفاقه في الجامعة، يدق أبواب غرفهم في السكن الداخلي، احتفاءً بهم وفخرًا بمثابراتهم في الدراسة والكتابة. أصدقاء لم أكن قد تعرفت عليهم لولا عبدالعزيز، رفاق درب طويل، أعتز بصداقتهم حتى اليوم، كسليمان المعمري ويحيى سلام المنذري وهلال البادي وخميس قلم.
مر الزمن سريعًا وخاطفا. وفي أقل من عشرين عامًا حفر عبدالعزيز طريقه الخاص في الكتابة والطبابة والصداقة بدماء قلبه وبماء عينيه. حاز أغلب جوائز المنتديات الأدبية التي شارك فيها، وطنيًا وإقليميًا. نصًا وراء نص وهو يتحدى ذاته، مخلصًا للحكاية وما تفعله من سحر في الوعي والوجدان. وعلى نحوٍ موازٍ؛ كان يحرز النجاحات اللافتة في تخصصه الطبي، حتى غدا الاسم الأبرز والمرجع الموثوق لكل من يلجأ إليه. وكغيمة كريمة بالمزن كان يعامل مرضاه وأهلهم المرعوبين من أخبث الأمراض ومن عواقبها الوخيمة. حتى رحلته الدراسية الأخيرة إلى كندا، والتي كان متوقعًا فيها أن ينقطع تمامًا إلى العلم والتخصص، لم تنسِه الناس ولا حكاياتهم التي كانت تنتظره دومًا ليصوغها كصائغ حاذق بصنعته. في كل مرة أقرأ لعبدالعزيز كان يدهشني اجتراحه عوالم جديدة وأصواتًا نادرة، كيف له كل هذه القدرة على التقاط إبرة المعنى من أكوام قش الحياة المتراكمة. منذ مجموعته الأولى “أحلام منفضة السجائر” في العام (2003)وحتى مجموعته الأخيرة “رجل الشرفة صياد السحب” عام (2017)، مرروا بروايته “تبكي الأرض يضحك زحل” (2007) والأخرى المشتركة مع سليمان المعمري “شهادة وفاة كلب” (2016) بقي عبدالعزيز مُخلصًا إلى المألوف والعادي متحديًا إياهما في إبداع غير مألوف ونادر.
التقيته، بعد سنين من الترحل. كان ذلك في غداء سريع، بمعية الأصدقاء على شرف عودة يحيى سلام من مهام عمله من ماليزيا واحتفاءً بميلاد (دار نثر) للعزيزين حمود الشكيلي ومازن حبيب، قبيل إغلاقات جائحة كورونا في خريف العام 2020. وكأنه اللقاء الأول، ذات الطفولة الشغوفة بالمعنى عن وجود لا معنى له، هي ذاتها لمعة العين عند التبسم، ذات الروح المنشغلة بعوالمها، المسكونة بشخصياتها البسيطة، ذاته الإنسان المهجوس بمرضاه واتصالاتهم ومواعيدهم وتطمينات أحبتهم. سألته كيف يوازن بين كل هذه الواجبات والكتابة، لم يحر جوابًا كعادته، وهو يطوي أكمام دشداشته على عجل قال: “أعيش كل لحظة كأنها اللحظة الأخيرة” وأردف: “وفيها عليّ أن أقوم بكل شيء أرغب فيه وأحبه دون تعقيد”.
نعم، لم يتسنَ لكثيرين الاقتراب من عبدالعزيز الفارسي، لأنه كان منشغلًا بإنجاز مهمته التي نذر حياته القصيرة لأجلها: عافية مرضاه ومحبة قرائه. بيد أن ما تركه لنا من أثر عاطر وعطاء غامر؛ أبًا وطبيبًا وكاتبًا، وصديقًا وإنسانًا، ما يكفي لأن نتطبب به لاجتياز صدمة فقده التي هبطت علينا كمقصلة في أبريل ٢٠٢٢. أما الحنين الذي يودي بنا إلى حلكة لا قعر لها، والحزن الذي ما فتئ يقطّع أنياط القلب لغيابه المبكر والمفاجئ فدواؤهما سنجده دائمًا في كلماته الصادقة وخيالاته البديعة، وفي السيرة الطيبة التي تركها لنا وغادر بهدوء النسيم.