علي حسن الفوّاز*
أنا أتصَعلكُ، إذًا أنا موجودٌ..
هذا الكوجيتو الافتراضي يمكنُ أنْ يكونَ تعبيرًا عن المجاهرةِ بحضورٍ فائقٍ للأنا الساخطة المطرودة والنافرة، أو محاولة للإبانةِ عما تهجسُ به، أو ما تتماهى فيه مع الغائبِ من المعنى، أو مع الصورةِ المُتخَيّلةِ لوجودِ تلك الأنا وهي تمارس طقوس تمرّدها وهروبها من النسق الجمعي..
الأنا المتصعلكةُ هي قناعٌ للأنا المتمرّدة، والرافضة للعبة الانغمارِ في السياق الذي تصنعه السلطة والجماعة والحزب، وحتى الايديولوجيا والثورة/ الانقلاب كما في ثقافتنا العراقية، مقابلَ قبولِها بالانخراط اللذوي او الهروبي/ الاستمنائي مع مرآوية صورتها المطمورة في اللغة، والمشغولة بفضاء هائل وكثيف من الاستعارات والتوريات والمجازات، تمرّدا وفضحا- سيميائيا- لماهو خبئ في خطاب “المقموعِ والمسكوتِ عنه”. وبقدرِ ما تُثيره هذه الأنا المتصعلكة من اغترابٍ عن الواقع، ومن شجنٍ إزاء منظومة القرابة والأصل، فإنها تحوز على مظاهر اجتماعيّة وسلوكيّة، لها علاقة بالظاهرةٍ السايكوباثية، والصراع والتناشز، حيث تتكشف من خلالها ترسّباتُ الوعي الاجتماعي وأنساقه المضمرة إزاء السلطة والاجتماع، عبر العصاب والعنف والتمرد في السلوك، وعبر المجاز والاستعارة في الكتابة، حيث تضمر في أنساقها حمولاتٍ رمزيةً ولسانيّة، ليست بعيدة عن طبيعةِ النظامِ البطرياركي العربي المهيمن تاريخيا في الصحراء وحاضرا في المدينة، فعند كليهما يظلّ الشاعر المتمرد والنافر والمعارض محاصرا ومرعوبا وسَط ثنائية ضاغطة بين القوى المهيمنة، والقوى الخاضعة، وروحُ التصعلكِ لا تعدو أن تكون هنا سوى التعبيرِ عن الرفضِ لهذه الثنائيةِ النسقيّة القامعة والماحية..
صورةُ الصعلوكِ ظلّتْ- تاريخياً- قرينةً بصورةِ الكائنِ الفضائحي، النافرِ، غيرِ المُتسقِ مع الجماعةِ، وهي صورةٌ ليستْ صالحةً للحائطِ، أو للعائلةِ الثقافيّةِ والاجتماعيةِ، إنها صورةٌ ناتئةٌ للشخصيةِ المناوئةِ، الخارجةِ، صاحبةِ الإشهارِ اللغوي والسلوكي، والمسكونةُ باستيهاماتِ التمرّدِ والرفضِ، والتفكير بصوتٍ عالٍ، وربما بالتلذذ بايحاءات ما تتوهمه..
الادّعاء بأنَّ تاريخَ الصعلكةِ الشعريةِ العربيةِ متعلّقٌ بنظامِ القبيلةِ العربيةِ ظلّ موضوعاً مُثيرا للجدلِ والخلافِ، فرغمَ أنّ طبيعةَ هذا الارتباطِ واضحةٌ في سيرةِ عديدٍ من الشعراءِ وفي مدوّناتِهم، إلّا أنها تحتاجُ أيضا الى فحصٍ نقدي وإلى قراءاتٍ سسيولوجية موسعةٍ، فبعضُها يتعلّقُ بالمسكوتِ عنه في ذلكَ النظامِ، والبعضُ الآخر يتعلقُ بـ(أنوياتٍ) ثقافيةٍ/ شعريةٍ فيها كثيرٌ من شغفِ التمرّدِ على الفكرةِ الجامعة، بما فيها فكرةِ المقدسِ، وأوليغارشيةِ الجماعةِ العصابيةِ والقرابيةِ، فضلا عن ما تحملهُ من الوصفيةِ، والنرجسيةِ، مثلما تحملُ أيضاً خصوصيةَ أنموذجها الشعري المتمرّد، إذ ظلَّ هذا الأنموذج متخارجاً عن القبيلةِ والجماعة، ومتمرداً على سياقِها، ومطروداً من نظامِها العُصابي المهيمن، فهو حاملٌ لقضيتهِ الحياتيةِ بوصفها قضيةً وجوديةً تُشكِل على مفهومِ الانتماءِ، وتنخرطُ في غوايةٍ صاخبةٍ للاستنماء الوجودي داخل التهميشِ، والتلذّذ بوهم ما تستدعيه من استيهامات بالحرية وأحلامها..
وبقطعِ النظرِ عن المعجميةِ اللغويةِ لـ(الصعلكة) وما تشيءُ بهِ من مظاهر للدونيةِ والفقرِ والطردِ، فإنَّ حضورَها في السياقِ التاريخي والثقافي ارتبطَ بدلالاتٍ لها تمثّلاتُها في الاجتماعِ الثقافي والسياسي، وفي كشوفاتِ النظامِ الطبقي العنصري والعصابي الحاكمِ، وفي طبيعةِ تداولِ مفاهيمهِ وشيوعِ نظرتِهِ لجماعاتٍ وطبقاتٍ خارجةٍ عن القرابةٍ الاجتماعية..
لقد أعطى شعراءُ الصعلكةِ في (الجاهليةِ) هامشًا للحديثِ عن هذا المفهومِ بوصفه علامةً للتمردِ على الجماعةِ، وللإبانةِ عن سلوكٍ نافرٍ لايقبلُه السياقُ، والتصريح بما يناقضُ العلاقاتِ القرابيةَ الخاضعةَ لنظامٍ تراتبي إخضاعي، ووظيفةُ الشاعرِ فيهِ بعيدةٌ عن الميلِ الى ما تفرضه تلك العلاقاتٌ، وما تثيره من نزوعٍ للحريةِ، ولشراهتِها في تسويقِ فكرةِ التمردِ، وفي أنْ يكونّ الشاعرُ أنموذجاً للبطل الفاتك، او للشاعر الذي يواجه خيار طرده بنوع من التمرد الشعري، وبسبب “” عدم إلحاقهم بأنساب القبيلة بسبب أمهاتهم الإماء (السّليك بن السّلكة، وتأبّط شراً، والشنفرى)، أو خلعهم خلعاً عن قبائلهم بسبب جرائم ارتكبوها (مثل أبي الطمحان القيني) أو احترافهم الفروسية التي تقاسموا عبرها مع الفقراء ما كانوا يسلبونه (عروة العبسي مثالاً). وفي شعرهم أرفع المعاني وأعمقها كما هو الحال في معلّقة طرفة بن العبد. في العصور العباسية كان الشطط في السلوك يصنّف تقريبا في خانة الخمريات، أو في إشراقات الجنون التي تلامس الحكمة أيضاً”.(1)
مرجعيّات في اللغة..
أورد ابن منظور في معجمه لسان العرب، وفي مادّة صعلك تعريف الصعلوك بأنه (الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري، ولا اعتماد، وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك)/
ويقول يوسف خليف بأن (صعاليك العرب ذؤباتها، وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك، لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنَم)(2)
كما يحدّد الدكتور شوقي ضيف معنى الصعلوك في اللغة بأنه (الفقير الذي لا يملك المال الذي يساعده على العيش وتحمّل أعباء الحياة، وأن هذه اللفظة تجاوزت دلالاتها اللغوية وأخذت معاني أخرى كقطّاع الطرق الذين يقومون بعمليات السّلب والنهب)(3)
ويضع المبروك المناعي توصيفًا مدرسيّا للصعلكة انطلاقا مما أوردته دائرة المعارف الإسلامية، حيث يحدّد هذا التوصيف ترسيماته عبر وظائفية الدلالة وتداولية المفهوم، إذ يقول (إنّ ربط الصَّعْلَكَةِ بالفَتْكِ والموهبة الأدبيّة والسّفر والموقفِ). وبهذا أخرج المفهوم من الدائرة الاجتماعية والماديّةِ إلى دائرة أرحب اكتسب فيها المصطلح أبعادًا جديدةً فيها قدْرٌ من التّنزيهِ والتّصحيح للمفهوم ممّا علق به من معانٍ مُسْتَهْجَنَةٍ وأبعده عن التّصوّر السّاذجِ الذي نفّر من المفهوم لدلالاته السلبيّةِ. فالصعلوك ليس مجرّد شخصٍ شكّاءٍ بل هو موْهُــــوبٌ وصاحبُ موقفٍ في الحياةِ ينأى عن مألُــوفِ الرّؤى. ففي خروج الصعلوكِ شاهِرًا سيفهُ يطْوِي الفجاجَ والفلواتِ ووعْثِ الصّحارى متربّصا بأعدائه ممن منعوا عنه العطاءَ يعبّر عن حركة رفْضٍ .وفعْلهُ فعلٌ مجازفٌ مآله جمع المالِ لدفع الحاجةِ. ولعلّ الدافع نفسيٌّ بالأساسِ يتجلّى في ثورة على أشحـّــاء جمعوا المال ومنعوا العطاءَ ومساعدةَ الجِيَاعِ. هذه الصعلكة ماهي إلاّ رحلةٌ – ثورةٌ مجازيةٌ – قصاراها: لفظةٌ شَـــــرودٌ أصيدها وكلمةٌ بليغةٌ استزيدها”(4)
روح التمرّد والسخط والطرد هي العلامات الفارقة في صورة الصعلوك، لكنها وتحت سطوة النظام الاجتماعي تبدو وكأنها خروج عن السلطة والقيم، لذا تغيب أمام هذا التفسير صور النقائض الاجتماعيّة والطبقية، ومظاهر الانسحاق الاجتماعي والسياسي، وهو ما يعني إخضاعَ الشاعر لسلطتها، وبخلافه فإنّ الخروج عن واجب الطاعة يعني” سببا في تمزيق وحدتها، أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل، أو تحميلها ما لا تطيق، ومن هنا فرضت وحدة القبيلة، وتحمّل المجموع لتبعات الفرد، وعلى سادتها أنْ يمارسوا نوعاً من الإدارة البوليسية، فإذا ارتكب فرد جرماً رفضت القبيلة أن تتحمّل نتائجه، وإذا اخطأ في حق قبيلته نفسها، فإنه يُطرد منها، ويُسمّى هذا الطرد خلعاً، ويُسمّى الطريد خليعا)”(5)
لقد ظلت المرجعيات اللغوية القديمة محصورةً في سياق توصيف الجانب الوظائفي الاجتماعي لمفهوم الصعلكة، وانحصرت معالجاتها النقدية في إبراز هذا المفهوم، من خلال سياق ما تفرضه العلاقات المهيمنة، وطبيعة النظرة السياسية والطبقية للشعراء الصعاليك، والتي كثيرا ما تضع الشاعر الصعلوك بوصفه قاطع الطريق واللص والغازي وصاحب الإغارة، وبقطع النظر عن جماليات الإبداع الشعري لقصائدهم، فإن غَلبَة القيمة الاجتماعية والقبائلية تظلُّ هي القوة الفاعلة في تفسير علاقة الشاعر بنظامه الاجتماعي وبقيمة شعريته.
الشاعر الصعلوك والمدينة..
سعت الدراسات المعاصرة إلى تجاوز هذه النظرة القاصرة، وإلى اجتراح مقاربةٍ أكثر عمقا لصورة الشاعر الصعلوك في التاريخ، وفي المدينة وفي النظام الاجتماعي، إذ لم تعدْ صورته خارج النظام الثقافي، أو بعيدا عن يوميات المشهد الثقافي بجماعاته وتمثّلاته، فالشاعر بدا وكأنه بطلٌ اجتماعي، أو بُهلول مبارك، أو حتى أنموذجٌ للشاعر المتمرد على ما هو نمطيٌ وتقليدي.
فقد حفلت المدينة العراقية بالكثير من هذه النماذج، ووجد الشاعر نفسه أمام واقعٍ جديد، يؤانسه، ويألف إليه، ويجد فيه مثالاً اخلاقيا وثقافياً من الصعب إخضاعه لهيمنة الأدب الرسمي، وللسياق العام المحكوم بسلطة الأعراف أو القوانين الوضعية.. فأنموذج لشعراء مثل معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وأحمد الصافي النجفي وعبد القادر رشيد الناصري يمثلون وعيًا مفارقًا للشاعر المديني، إذ يجدون في التمرد على السياق الاجتماعي وعيا بالتعالي، وبالأنوية الفائقة، وربما تلذّذا بالرفض لما هو سائد من قيم ضاغطة، ومن أنماط تتكرس فيها-عادة- قيم الطاعة والخضوع، والتي تشبه في بعض جوانبها قيم الطاعة المسؤولة عن طرد الشاعر(الصعلوك الجاهلي)
فإذا كان هروب الشاعر من الصحراء الى التخوم يُبرّره تمرده، أو جندره، أو سلوكه، أو انحطاط أصوله وشخصيته، فإن هروب الشاعر المديني يعكس أزمته الوجودية، أزمة الانتماء والغرور والرثاثة والفشل، وهو ما يجعل نظير الصحراء التي يهرب اليها الشاعر الجاهلي هي الأمكنة الجماعوية، حيث المقهى، والحانة، والجريدة والرصيف والملهى، وهو ما كان يفعله شعراء مثل حسين مردان ورشدي العامل، وفي مرحلة لاحقة جان دمو وعقيل علي وكزار جنتوش وعدنان العيسى وغيرهم..
هذا الهروب لم يكن طائشا، بل فيه الكثير من المغالبة مع الواقع، او ربما التعالي عليه ورفضه، فما عاشه الرصافي يعكس وعيًا سياسيًا مفارقًا، واحتجاجًا على مظاهر الخنوع السياسي ومظاهر الجهل والفشل، وحتى الخنوع للخرافة أو للنمط الثقافي الذي ظلَّ يصنعه التاريخ الغامر بالأوهام والشعوذة، كما أنّ الشاعر الزهاوي الوريث السلالي لمشيخة الفتوى الدينية في العراق وجدَ في التمرد والعزلة والمجاهرة بوجوديته خروجا على ما هو مألوف، وتعبيرًا عن خصوصيته في النظر الى الأشياء، بما فيها نظرته للحرية ومنها حرية المرأة، ولضرورة العلم والمعرفة والتعليم، هو لم يكن صُعلوكا بالمعنى الاجتماعي، بل بهواجس صاخبة للروح الثقافية ذي التخيلات العلموية التي كانتْ تسكنه، والتي منحنه ما يشبه الطاقة العميقة للمجاهرة بتلك المواجهة، وللتعبير عن رفض التماهي مع ما هو سائد في بيئة المدينة الفقيرة والجاهلة والباحثة عن هويّة ما للتحديث..
وحتى الشاعر أحمد الصافي النجفي ساكنه شغف التمرد على الواقع، ورفض قيمه الاجتماعية والقبلية، ومهيمناته الأخلاقية، فبدت قصائده وكأنها هاجسه الشخصي، قصائد مسكونة بالشغف ونشدان اللذة، والسخرية من الظلمة الفكرية التي تتكرّس في ظلها عادات اجتماعية بالية، لاسيّما تلك التي تخصّ حرية المرأة، وحرية الشاعر في الحديث عن الجمال واللذة..
غربة هذا الشاعر وضعته في سياق تاريخي وثقافي مضطرب، كاشفة قصائده عن هوسٍ بالتمرد (مُفصحةً عن الروح المتعالية، والنبرة المتذمرة التي تقارب النزعةَ العدائيةَ تجاه محيطه الثقافي والاجتماعي، وملامح بقدرٍ واضحٍ لنزعة سايكوباثية، أو مايمكن أنْ يُسمّى بـ” الجنون الأخلاقي” أو”التحلل المتفوق”) او تمثيل صورة الشاعر الهروبي، أو النسق الكحولي الذي يعيش الشاعر اوهامه ورثاثته..
الصعلكة والوعي الشقي..
قد تكون للتحولات الثقافية والسياسية والاجتماعية الحادثة والصادمة في الشارع العراقي أثرها على صناعة شخصية الصعلوك الثقافي، فأغلب هؤلاء الشعراء ينتمون إلى المرجعيّات اليسارية، والمزاج الثوري، وأن فشلهم وخيبة أحلامهم في الحرية، أو خوفهم من السلطة، جعلهم أكثر استعدادا لتمثيل صورة الشاعر الهروبي، او الشاعر الكحولي، او الشاعر الفوضوي الذي يتماهى مع “شعراء السأم” من المدينة، مثل بودلير ورامبو، وحيث تبدو صورة هذا الصعلوك تتشكل وكأنها تعبير عن مفارقة تاريخية وثقافية، وأنّ الطابعَ العنفي والاحتجاجي لهذه الشخصية يستدعي قراءة للكثير من الأنساق المجاورة، بدءا من نسق الشارع والمقهى والسوق والمكتبة، وانتهاء بنسق الحزب والسلطة والاستعمار والتظاهرة وغيرها من تمظهرات(السيميولوجيا الاجتماعية)(6)..
ظاهرة الصعلكة الثقافية هي ظاهرة علاماتية في واقع مأزوم، أو في ظلِّ علاقاتٍ مسكونةٍ بسلسلةٍ غير متجانسة من العلامات، والتي تستدعي بالضرورة (نصيات اجتماعية/ أدبية كما يسميها د. محسن بو عزيزي، تلك التي تجعل من الشاعر المتصعلك متأهباً لدور مغاير وصارخ في المجال الاجتماعي والثقافي بشكل خاص، فالشاعر حسين مردان كان مهووسا بالصورة الاجتماعيّة المتعالية للمثقف، إذ يتوهمه كائنا خارقا، وخارجا عن السياق، يمارس دون ضابط كل الموبقات والأخطاء والعلاقات المنفلتة وتحت الإيهام بحريته الفائقة، أو بأنويته الآخذة بالتضخّم (فجأة قررت هجر المدرسة والتوجّه الى بغداد، كنت حينذاك في العشرين من عمري كتلة نار وسيوف، وتلقّفني شارع الرشيد، البساتين الملونة والزجاج، وقلت لنفسي: من هذا الرصيف الرمادي ستبدأ مسيرتي الصعبة نحو الجبل)(7)..
كان حسين مردان أحد أشقياء الوعي وأسئلته، مثلما هو الشاعر الموهوم بذاته، وهذا ما استغرقه بنوه من البوهيميا، وبنوع من الغلو في مواجهة الآخرين وقدحهم، مقابل الاستئثار بنفسه بوصفه المجال الرمزي للقوة واللذة والحضور، ولعل اهداءه كتابه الأول(قصائد عارية) الى نفسه دليل على هذه النزعة، إذ يقول في الإهداء: (لم أحب شيئاً مثلما أحببت نفسي، فإلى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب، إلى الشاعر الثائر المفكر الحر، إلى: حسين مردان).
شقاوة الوعي قد تكون باعثا على مواجهة رعب السلطة والجماعة، والتي تضع الشاعر الصعلوك في سياق مضطرب، وفي مجال تمارس فيه السلطة رهابها الأيديولوجي والعُصابي، وتُخضِع هذا الشاعر الى حدودها، أي ترهنه في سياق قهري، فهو المجنون والمطرود والفاقد للأهلية، وربما سيكون عرضة للموت غيلة كما حدث مع الشعراء عقيل علي وهادي السيد وحامد الموسوي..
الشعراء الصعاليك خارج الأدب الرسمي..
ثمّة من يضع توصيفًا رسميا للأدب، ولصناعته، ولأهلية المشتغلين في مؤسساته، لكن هناك أيضا من يضع توصيف الأدب في سياق قيمته الإبداعية، وفي أثره، وفي سياق منظومته السيميولوجية، حيث تكون العلامة هي الدال على خصوصية هذا المثقف وحضوره، وحتى طبيعته الشخصية ومزاجه، وقابليته للاندماج والتعايش والقبول، ورغم أن أغلب الشعراء العراقيين لديهم مرجعيات سياسية وعضوية بالمعنى الغرامشوي للمصطلح، إلّا أن طبيعة المتغيرات التي حدثت في العراق وخلال أكثر من نصف قرن انعكست على الصورة والوظيفة الاجتماعية للمثقف، حتى باتت صورة المثقف الصعلوك تعبيرا عن تلك المتغيرات، وعن هاجس هذا المثقّف شاعرا أو غيره في رفض السائد، أو التعبير مجازا عن خذلانه، وعن كراهيته للسلطة بكل رمزيتها وقيمتها..
يمكن تقسيم الشعراء الصعاليك مع جواز التسمية في المشهد العراقي ومنذ السبعينات الى ثلاثة أقسام:
الصعلوك السلوكي وهو الذي يتصفُ بسلوكٍ نافرٍ يستبطنُ موقفا خبيئا، حدّ أنّ هذا السلوك يكون غطاءً لمواقفه أو لتمرده أو خجله مثل نصيف الناصري وخالد خنجر، كاظم غيلان، مهدي علي الراضي وهشام العيسى وغيرهم.
الصعلوك اللغوي وهو الذي يبدو أكثر وعيًا لمغامرته الشعرية، ولوضع القصيدة بوصفها لعبة فائقة الخطورة، وغامرة بالاستعارات والصورة الحسية أو المفارقة، تلك التي تتمثل هواجسه ومواقفه ورغبته في أنْ تكون وسيلته للتورية والهروب، وأنْ يكون- بالمقابل- حاضرا من خلالها في صلب التحولات الشعرية، ومن أبرز هؤلاء الشاعر حسين مردان، وعبد القادر رشيد الناصري، وعبد القادر الجنابي وكمال سبتي وكزار حنتوش وغيرهم.
الصعلوك الكحولي وهو الأنموذج الذي يعيش رهاب الانسحاق الاجتماعي والخوف والخيبة والاحباط، والذي يجد في فضاءات السكر نوعا من التوازن الداخلي الذي يُحفّزه على الكتابة ومن أبرزهم عبد الأمير الحصيري وجان دمو وخليل الأسدي وقيس لفته مراد وعبد اللطيف الراشد، وهادي السيد وصباح العزاوي وطالب السوداني وجمال حافظ واعي وغيرهم..
الشعراء الصعاليك الهاربون من الحرب، وهي ظاهرة غرائبية، تُعبّر عن حساسية الشاعر وكراهيته للحرب، أي كراهيته للسلطة، وقد تحوّلت مقاهي شارع الرشيد- حسن عجمي والبرلمان والشابندر والبرازيلية والزهاوي- وحانات شارع ابي نواس وليالي اتحاد الأدباء الى فضاءات للتعبير الصاخب عن ” الاوجاع والمسرات” التي تسكن هؤلاء، وكأنّهم يخوضون حربا عميقة وضدّية مع ذواتهم المضطربة والخائفة والكارهة، فكانت قصائدهم المُهرّبة تنزف مثل أرواح مذبوحة، وأحيانا تخرج كأصوات مجروحة، وكان بعضهم يُهرّبها مثل أية بضاعة ممنوعة، تجد ملاذها عند ” دكاكين الاستنساخ” التي لجأ اليها باعة الكتب الممنوعة في منطقة باب المعظّم..
هذا التقسيم هو اجتهادٌ توصيفي لقراءة المشهد الشعري الصاخب، ولتوصيف الظاهرة الاجتماعية والسلوكية، لكنه لا يعني تغييبا للجهد الشعري المميز لهم، فأغلب شعراء هذه الصعلكة هم جزء من ” أجيال شعرية” لها أثرها الفاعل في تحولات الشعرية العراقية، لكنهم أيضا كانوا ضحايا للظلم السياسي والاجتماعي، وللتهميش الذي عاشوه في بيئات شاحبة، وفي ظلّ قهر نفسي وعوز، فضلا عن الخيبات السياسية والتي لعبت دورا نكوصيا في تخريب الحلم وتعويق الحرية.
الهوامش
1 – شاكر لعيبي/ الشعراء الصعاليك الجدد/ جريدة المدى العدد 47336 في 24/8: 2012
2 – د. يوسف خليف/ الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي/ دار المعارف/ القاهرة/ ط3/ 1966 ص22
3 – د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ ط22 دار المعارف/ القاهرة 2011
4 – ( المناعي مبروك/ الشعر والمال/ أطروحة دكتوراه/ منشورات مركز النشر الجامعي/ تونس..
5 – د. يوسف خليف/ الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي/ دار المعارف/ القاهرة/ ط3/ 1966 ص92-93
6 – محمد مظلوم/ الغربة الكبرى/ دراسة في أشعار أحمد الصافي النجفي/ مجلة الكوفة/ العدد7 سنة 2014
7 – شاكر الانباري/ جريدة المدى/ العدد 1457 في 30 تشرين الاول 2008