يمثل الشعر العماني المعاصر في جل انتاجه قطيعة معرفية وجمالية مع الشعر العماني الكلاسيكي، قطيعه لا تعني انكار القديم ونبذه بقدر ماهي تطور طبيعي يرتكز علي الماضي ويستمد منه بالقدر الذي يبتعد عنه ويتجاوزه. فالقصيدة العمانية الحديثة أو بالأحرى المعاصرة ـ لا اريد هنا ان اقع في مأزق التأطير الذي يستوجب تحديدا دقيقا للنطاق الزمني للقصيدة الحديثه والكلاسيكية ، لذا سالتزم بوصف المعاصرة لتحديد الفضاء الرأسي الذي سنحلق فيه لسبر اغوار النص المراد في هذا المقال-ـ هي مشروع فكري وجودي استمد جذوره من تجارب الشعر العماني القديم خاصة ومن تنوع تجارب الشعر عبر الازمان عامة، مما أثرى لحظته الانية وأغنى اشكاله التعبيرية فتنوعت بين عمود الشعر وحره ونثره.
لقد استطاعت القصيدة المعاصرة ان تقفز قفزات نوعية من حيث تشكلها واسسها الفنية واشكالها التعبيرية اللتي ارتبطت بالواقع وراعت تحولاته الثقافية والسياسية والاجتماعية واهتمت بالفرد كعنصر فاعل في كليه التجربة الانسانية، واتسعت فضاءاتها الفلسفيه واسئلتها الوجودية لتسبر عتمة الكائن كجوهر فريد مسؤؤل مسؤولية مطلقة عن تكوين معنى الحياة، تكوينا من شانه ان يمس عمق حركة الوجود الانساني ويسهم في تشكيل وعيه الجمعي.
هذا التطور الذي طرأ على القصيدة المعاصرة لا يشكل نبذا للماضي بقدر ما يحاول تفكيكه لا بغرض هدمه ولكن لاعادة تركيبه وتشكيله مراعاه للتحولات الجديدة والطارئه التي تمس الفرد المهمش. فالفرد هو نواة التجربة وعمادها. ولم تعد الاسئله الفلسفية الكبرى عن الحياه والوجود طرفا في لعبة النص ـ وان استمرت عند الكثير من الشعراء المعاصرين ـ الا بقدر ما تتقاطع مع الفرد. فالتفاصيل اليومية في القصيدة اشارة الى حدث اكبر من شأنه ان يمد جسورا من الوعي بين ما هو يومي وما هو رؤيوي، هي محاوله لاعاده صياغة العلاقات المتشابكة اللتي تشكل في جوهرها رؤى تتقاطع مع رؤى الشاعر لنفسه وللاخر كفرسي رهان .
راوحت القصيدة المعاصرة بين شعر الحدث اليومي وذلك الشعر الذي يتجاوز المادي والواقعي ويهرب من الواقع الى منطقة الحلم او ما يمكن ان نطلق عليه (شعر الرؤيا) ، فهي قصيدة تتجاوز حدود المكان والزمان ، تضرب عميقا في كليه تجربة الوجود الانساني تستدعي تجلياته واحداثه ورموزه وتسبر اغوار علاقاته المتشابكة، الذات الشاعرة فيه هي المركز الذي تدور حوله وتقدسه بكل ما تحمله من قلق وتوتر واحساس بالغربة والفجيعة ، فهي تحاول دائما ( الكشف عن عالم يحتاج ابدا للكشف) كما يرى الشاعر الفرنسي رينيه شار. محاولة الكشف تلك هي التي اعطت لكل تجربة من تجارب الشعر المعاصر خصوصيتها وعمقها اذا جاءت محملة بوعي الشاعر وقدرته على الغوص عميقا في هذا الكون متجاوزا الظاهر الى الباطن ليمنح قصيدته القدرة على اعادة ترتيب الاشياء في اطار رؤيته الخاصة واللتي تميزه عن غيره من الشعراء.
لقد تفتق وعي الذات الشاعرة العمانية المعاصرة على حضور فقدت فيه ايجابية الفعل وقوة التاثير والقدرة على تغيير الواقع سياسيا وثقافيا واجتماعيا ، تغييرا من شأنه ان يوجد عالما افضل يكون فيه الانسان مركز الكون لا عنصرا من عناصره المهملة ، فأتت محملة بالكثير من الاسئلة : ما هو الانسان؟ كيف يري نفسه ؟ وماهي وظيفته الدنيوية؟ ، كيف يرى الانسان موقعه من الوجود؟ واين هو من التراث العماني بشكل خاص والانساني بشكل عام، اين المفر من جحيم الارض؟ ما هي المسافة الفاصله بين التفسير الالهي والتفسير الدنيوي وهل هناك نقطة التقاء؟ وكيف يرى الانسان موقعه بين هذين التفسيرين؟ اسئلة الاغتراب والتشظي والعقيدة، تلك الاسئله وغيرها اللتي نجدها حاضرة بشكل او بآخر عند عدد كبير من الشعراء المعاصرين على اختلاف تجاربهم وتباعد اجيالهم فهي حاضرة في نصوص المتقدمين كزاهر الغافري وسماء عيسي وصالح العامري وسيف الرحبي كما انها حاضرة في تجارب جيل الوسط من المعاصرين (جيل التسعينيات) كعلي الرواحي وعبدالله المعمري وخميس قلم ومحمد الشحي وحسن المطروشي وناصر البدري، وبدر الشيباني وغيرهم ، مرورا الى تجارب اكثر حداثة ـ من حيث الزمن ـ كتجربة اسحاق الخنجري ومحمد السناني وعبدالله العريمي وعوض اللويهي وزهران القاسمي انتهاء بتجارب غضه لا تزال في طور النمو والتشكل.
لقد فتح هذا البعد الرؤيوي النص المعاصر على مستويات عدة من الدلالة وشكل عنصرا مهما من عناصر الدلالة المركزية الموجه لبقية العناصر كاللغه والصورة والايقاع بشقيه الداخلي والخارجي ، ان لم يكن هو العنصر الاهم على الاطلاق فهو بمثابة قائد الاوركسترا الذي يوجه ويقود عناصر فرقته الموسيقية بكل اقتدار لتعزف لحنا شديد التجانس، متماسك البناء ، شجي النغمات. هذا النص الرؤيوي يحتاج الى قارىء مختلف لا يرضى ان يكون خارج نطاق التجربة ولا يقبل بالقوالب الجاهزة بل هو قارئ يمتلك حس المغامرة والبحث والقدرة على التأويل وهو عنصر فاعل في التجربة الشعرية تتداخل رؤاه مع رؤى النص ويتقاطع معها في مواضع كثيرة.بل هو المنتج الحقيقي لدلاله النص حسب ما يمتلك من ادوات ووعي ودربة شعرية تعينه على تفكيك النص واعادة تركيبه. ولا نغالي ان قلنا ان القصيدة المعاصرة ساهمت في تشكيل هذا الوعي عند القارئ العماني وادخلته التجربة بقوه وأكسبته الدربة وشجعته على المعرفة. وعلى الرغم من وجود عدد ليس بالقليل يدور في فلك القديم ويرفض القصيدة المعاصرة بل ويتهم اسئلتها من منطلق ديني وتحت تأثير الكثير من الافكار التي ترتكز على اوهام المحافظة على الهوية وحماية التراث الا ان هذا العدد لم يبتعد بقدر ما اقترب، وقد ساهمت القصيدة المعاصرة في تشكيل وعيه حتى وان كان وعيا مناهضا للقصيدة المعاصرة.
ان المتتبع لتجربة الشعر المعاصر في عمان لا يخفي عليه وجود الكثير من التفاصيل اليومية او ما يمكن ان نطلق عليه ( قصيدة الحدث اليومي) والتي شكلت تحولا مهما في المنتج المعاصر قد يبعده ظاهريا عن قصيدة الرؤيا الا انه في باطنه امتدادا له يطرح نفس الاسئلة ولكن بشكل مختلف، اذ يطرحها من الخارج الى الداخل بصورة اكثر طرافة وعمقا وبلغة تقترب من لغة اليومي فهو اكثر انغماسا من شعر الرؤيا في الحياة اليومية بكل تفاصيلها وهو تعبير عن كل ما هو مهمش في الحياه مهما بدا تافها. وفي نفس الوقت يتفق مع شعر الرؤيا في كون الانسان هو مركزه وان اختلفت زاوية التناول. وقد ارتبط هذا الشعر اكثر بقصيدة النثر ربما لان قصيدة النثر في اصل تكوينها ثورة على عناصر الشعر التقليدية من موسيقى رنانة ولغة تعتمد على الابهار والصنعة اكثر مما تعتمد على استنطاق مكنوناتها التعبيرية. وهي بذلك اقرب الى تناول الحياة اليومية بكل تفاصيلها وأصدق تعبيرا عن المهمش في حياة الفرد.ولكن هذا لا يعني خلو قصيدة التفعيلة او القصيدة العامودية من محاولات مناقشة الحدث اليومي ومداعبة تفاصيله فهي وان كانت اقل قدرة من قصيدة النثر على الغوص في هذه التفاصيل او لنكن اكثر دقة، هي اقل رونقا الا انها اقتربت من هذا العالم كثيرا.
تنوعت مظاهر الحدث اليومي في القصيدة المعاصرة وان كانت في جلها تنبع من مشاعر العزلة والاغتراب الذي غلفت تجربة الشاعر المعاصر، وهي عزلة اختيارية جاءت كرد فعل على القبح الذي اصبح يلون وجه الحياة وينخر ساسها ،و طغيان المادي على كل ما هو معنوي، طغيانا جعل الشاعر ينفر من الحياة ويجابها، فلجأ للتفاصيل المهمشة واستنطقها ليدخلها في اللعبة الشعرية كمعادل موضوعي لشعور الغضب والرفض اتجاه المجتمع والتطور التكنولوجي المجنون الذي يقود العالم الى الهاوية. ففي العزلة يولد الوقت ، والوقت هو ما يحتاجه الشاعر المعاصر لتامل الحياه تاملا دقيقا من شأنه ان يوقف عقارب الساعة عند الكثير من التفاصيل فالجلوس تخت نخلة وتناول فنجان القهوة الساخنة كفيل ان يكون حدثا في حد ذاته ينطلق منه الشاعر لمواجهة الزمن فتتلبسه لحظة كشف اقرب ما تكون للحظات الكشف الصوفي ، وتتكشف الاشياء تباعا، عندها تتولد القدرة لدى الشاعر على اعادة ترتيب العلاقات بين الاشياء، فالنخلة ليس مجرد نخله بل هي حيوات والقهوة( أخت الوقت) كما يقول درويش خمر تقود الى عالم الحقيقة. عندها لا يكون سطح البئر مجرد حيز تسبح فيه ذرات الغبار والقش ، بل مرآة تكشف عمق العلاقة بين قاعه والسماء، فيفيض المعني ويلبس الكون ثوب الاشراق، وتكتسب المفردة على بساطتها شعريه عميقة استمدتها من وجودها كلبنة في كيان شعري يوحي ولا يصرح تاركا المجال لقارئ حذق ان يتجول في عتمة النص وفي يده فانوسه . هذه المعادلة الشعرية شديدة التعقيد اجادها اكثر من شاعر معاصر مثل محمد الحارثي وزاهر الغافري وسماء عيسى وزهران القاسمي وخميس قلم وغيرهم وان تفاوتت قدرتهم على تحويل المهمش الي قصيدة. وعلى الرغم من حداثتهم الشعرية شكلا ومضمونا، نجد انهم ارتبطوا بتفاصيل الحياة اليومية البسيطة في القرية بشكل وثيق، هذا الارتباط يكشف لنا تللك العلاقة المتوترة بين الشاعر المعاصر والمدنية الجوفاء، ويفسر سبب العزلة والشعور بالغربة.
الحدث اليومي وشعر الرؤيا في الشعر العماني المعاصر كلاهما وثيق الصلة بالاخر وان اختلفوا ظاهريا، فاليومي ينطلق من التفاصيل الصغيرة ليبني عوالم من الرؤى التي تتمركز حول الانسان، وشعر الرؤيا ينطلق من اسئله فلسفية ليبني رؤاه حول ماهية الكون والانسان والعلاقة بينهما، وكلاهما قضيته الخالدة هي الانسان. ربما لم يحظى الكثير من الشعر المعاصر بدراسات نقدية جادة خصوصا جيل الوسط من المعاصرين والاجيال التي تلتهم ، لرصد التطور المعرفي والشعري لهذه التجارب ولكن هذا لا يقلل من أهمية تجربة الشعر المعاصر وتفردها. فهي تجربة أضافت لبنه مهمه في بناء الشعر العماني الحديث.
—————————————
خالد العريمي