«في الدماغ منطقة نوعية يمكن تسميتها بالذاكرة
الشعرية، تسجل كل ما يفتننا ويؤثر فينا. هذا ما
يمنح حياتنا جمالها»
خفة الكائن التي لا تحتمل
(ميلان كونديرا)
«نعيش نصف حياة، النصف الآخر ذاكرة»
ديريك والكوت
«الذاكرة ليست مجموعا، إنها فوضى بإمكانات لا نهائية»
بورخيس
إن موضوع الذاكرة متشعب ومتنوع، تناولته الدراسات النفسية، والفلسفية، والدراسات التجريبية والمختبرية؛ وقد ظل هذا الموضوع ينمو ويتطور في اتجاهات عديدة ويتجلى في ميادين مختلفة، تاريخية واجتماعية وسياسية وأدبية. وما ذلك إلا للأهمية الكبرى التي تشكلها الذاكرة في تحديد هوية الإنسان. «فالذاكرة هي التي تصنع الإنسان. فهو يبدأ حياته مثل طفل فرويدي، مصاب في الظاهر بفقدان الذاكرة، كبت في لا شعوره كل جراحاته. ثم يكبر كشاب برغسوني تصلح ذاكرته للفعل والحركة، فهي ذاكرة عملية تتوجه نحو المستقبل، بودليريا يستعيد الماضي في عطر، وموسيقى من خلال التراسل بين حواسه الخمس، وبتقدمه في السن يصير بروستيا، تعيد له انخطافات الذاكرة اللاإرادية حياة الماضي المنفلتة من الزمن. بعد أن يشيخ يصير مثل شاتوبريان، لا تسليه ذكرياته بتاتا».1
تنسج الذاكرة مع مجموعة من القضايا علاقات وثيقة كالنسيان، والإحساس والحلم والذكرى والعادة والتكرار والإدراك والتداعي والعاطفة. وهذا ما يجعل تناولها بالدراسة والتشريح يتشعب ويتيه في ظلال كهف الذكريات الغافية في مكان ما من الدماغ. إضافة إلى أنه، نتج عن هذه الشبكة من العلاقات بين الذاكرة وعوالم الإحساس الباطنية، أنماط متعددة من الذاكرة. من بينها الذاكرة الشذرية la mémoire fragmentaire ، فنحن نعثر بدواخلنا على شذرات من ماضينا، عن مراحل قصيرة من الزمن، وبينهما فراغات، نستعين بالخيال لملئها، هذا النوع من الذاكرة تحدث عنه كتاب كبار من أمثال أكاتاكريستي في سيرتها الذاتية التي تساءلت عن الشيء الذي يتحكم في اختيار ذكرياتنا لتجيب بأن الحياة مثل فيلم سينمائي، عبارة عن لقطات. وقد ندم جون جاك روسو عن نسيانه لتفاصيل أسفاره لأنه لم يدونها في يوميات. أما بروست فإنه صرح «بأنه لم يكن يملك في ذاكرته سوى سلسلات عن البرتين، مفرقة، غير كاملة، متقطعة»2. هناك الذاكرة العاطفية la mémoire affective، فالتحليل البرجسوني للذاكرة يبدأ من الإحساس أن هناك شيئا ما يثير إحاسيسنا فيتحول إلى صورة واعية، وبعد ذلك ستسمح الذاكرة بإعادة إنتاج هذه الصورة، حتى ولو أن الشيء اختفى من حقل إدراكنا. فالجسد هو العنصر اللازم والمركز لهذه الإدراكات. «إن الذاكرة العاطفية هي التي تجعلنا نجرب، حين استحضارنا لذكرى، شعورا وانطباعا وإحساسا. لكن تحت هذا الاسم تتجمع مظاهر مختلفة جدا من الدوافع. والأصالة، والكثافة لما نحس به انطلاقا من ذكرى، فالذكرى لا يمكنها إلا أن تأتينا ببعض الصور فارغة من كل ايحاء عاطفي لأن الزمن قد دمر جودة الحياة. الذكرى يمكنها أن تكون مشحونة بالتأثر الأولى. يمكنها أن تجلب للوعي ليس فقط، الحدث، والسياق والمشهد المدرك في السابق. لكنها أيضا تجعلنا نستشعر إحساسا بمناسبة هذا الاستدعاء»(3). وهناك الذاكرة الرومانسية la mémoire romantique، هذه الذاكرة أولا عاطفية، تقوم على الإحساس بدل الاستدعاء، «تتجسد أولا في موضوعة العودة. فالعودة إلى الأماكن التي عشنا فيها في السابق هي وسيلة لإعادة اكتشاف ذكريات الطفولة. لكن هذه الأماكن تسمح باسترجاع السياق الماضي، وهي فارغة من الحياة»(4) هذه الذاكرة الرومانسية يمكن أن نصف بها الجوهر الذي قام عليه الشعر العربي القديم لاسيما في الفترة الجاهلية، حيث المعنى المشترك أو الرحم الذي انبثقت منه هو التذكر والذكرى حين الوقوف على المنازل المهجورة.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. (امرؤ القيس)
إنه البكاء عن الزمن الجميل الذي ولى، وبقيت أطلاله لتذكرنا بأن حياة مرت من هنا وعفا عنها الزمن «اخنى عليها الذي اخنى على لبد» (النابغة الذبياني) فالوقوف على الأطلال يولد هذه الذكرى العاطفية التي تعود إلينا، ونعيد خلق الإحساس الذي نعتقد أننا جربناه في اللحظة التي انتج فيها عبر الخيال. لكن الذاكرة قد دمرت كل الشحنة العاطفية لهذا الحدث.
فالذكرى التي نعتقد أننا جربناها هي متخيلة في جملتها من قبلنا، وربما ليس لها أي شبه بالزمن السابق، فشخصيتنا قد تغيرت، وحقيقة الحدث قد تعدلت مع مرور السنين، فالإحساس الذي نعيشه أثناء انبثاق هذه الذكرى هو نتاج محض لخيالنا، فالذاكرة المتخيِلة تبني لنا ذكريات متخيٌلة.
إن أسئلة الذاكرة ظلت تواكب الإبداع منذ فجره إلى اليوم، إذ يمكننا أن نستخلص مما تراكم من إبداع، تاريخا أدبيا للذاكرة، إذ لولا الذاكرة، لما تولدت هذه الآداب وهذه النصوص الخالدة. وسنحاول أن نثير بعض قضايا الذاكرة من خلال مجموعة من النصوص تناولت الذاكرة بطريقة أمثولية مستخلصة نظرة مغايرة لمفهوم الذاكرة باعتبارها وعاء لتخزين الذكريات والمعلومات. سنرى كيف تعامل بورخيس مع مسألة الذاكرة من خلال ثلاث حكايات خصصها لهذا الموضوع وهي: «فونيس أو الذاكرة» و «ذاكرة شكسبير»، و» الظاهر» Zahir.
يحكي بورخيس في قصة Funès el memorioso التي ترجمت إلى الفرنسية بعنوان Funès ou la mémoire (Funès le mémorieux) قصة شاب هندي لديه 19 سنة، من وسط بسيط وفقير، تعرض لحادثة سقوطه من فوق فرس، فأصبحت لديه ذاكرة لا تنسى شيئا، ذاكرة من الدقة بمكان إلى درجة أنه قادر على حفظ ما قرأه لأول مرة. وإعادة بناء كل ما شاهدته عيناه أو تخيله بتفاصيل دقيقة. له ذاكرة تتجاوز كل حدود الخيال، ومع ذلك فهو عاجز أن يجعل ذاكرته فعالة وذكية. هي ذاكرة الذاكرات التي ستقتله، إذ يشبهها بقوله: «ذاكرتي شبيهة بنفايات مكدسة». سيموت فونيس رازحا تحت ثقل ماض بتفاصيله لم يستطع تحمله. وهذه الملكة العالية مع الأسف لم تجعل منه شاعرا. بعيدا عن الهواجس الخفية لدى بورخيس لكتابة هذه القصة (هو الآخر قد تعرض لحادث في رأسه وخشي أن يفقد ذاكرته)، فإن الذاكرة المطلقة منذورة للإخفاق والموت، الموت الرمزي طبعا حين يعيش الإنسان رهينة لذاكرة ماضوية، لأن الذاكرة الحقيقية والفعالة هي المتلبسة بالنسيان، نسيان يفسح المجال لاستمرار الذاكرة إبداعيا. «فأن ننسى كلمة، هذا يجعلنا نستشعر أن إرادة نسيانها جوهرية للكلام، نتحدث لأننا قادرون على النسيان، وكل كلام يشتغل ضد النسيان يخاطر بأن يصير أقل كلاما، فالكلام لا ينبغي أن ينسى علاقته السرية بالنسيان، هذا يعني أن يتوجب عليه أن ينسى بعمق… وحينما ندرك أننا نتكلم لأننا قادرون على النسيان، ندرك أن إرادة النسيان هذه، لا تنتمي فقط للإمكانية فالنسيان قوة، نستطيع النسيان، لذلك يمكننا أن نعيش، أن نتصرف أن نعمل وأن نتذكر(5)». لقد كتب بورخس قصة « بيير منيار مؤلف الكيخوطي» كي يحتفي بذاكرته التي كان قد اعتقد أنها ضاعت منه جراء حادث، وكتب «فونيس أو الذاكرة» كي يشفى من الأرق، يقول: « كنت مدفوعا لكتابة هذه القصة لأنني عشت مراحل طويلة من الأرق، كي أتحرر من كل هذا كتبت قصة فونيس التي هي نوع من مجاز الأرق والصعوبة واستحالة النسيان، نسيان الهوية»
إن قصة فونيس هي قصة الذاكرة التي أصبحت جحيما، مكانا للتكرار الكبير والحاد. إنها قصة الذاكرة المطلقة المشتغلة أخيرا باعتبارها ذاكرة مستحيلة. في قصة «ذاكرة شكسبير»، يحكي بورخيس أن الأدب يشتغل باعتباره نظاما للذاكرة القابلة للانقسام والوحدة في الآن نفسه، مثل المزج الحميم والعابر للذكرى والنسيان. إنها قصة الذاكرة المنقولة Transmissible. يقول: «الذاكرة مازالت لم تدخل إلى وعيك، لكن يتوجب عليك اكتشافها. ستنبثق في أحلامك، في لحظات أرقك، حينما تقلب صفحات كتاب أو حينما تعبر زاوية في الطريق»(6) إنها صورة انبعاث الأدب تحت أنواع ذاكرة، فعمل شيكسبير يهدد بأن يأخذ معه كل شيء: اللغة والهوية الشخصية.
وقصة الظاهر «Zahir» هي من بين كل القصص حول تجلي المطلق، الظاهر، هي عملة واسم لهاجس الذكرى، للواقع الذي يصب في الحلم. الظاهر هو عملة مزيفة مثل الأدب.
هذه القصص الثلاث هي عبارة عن تحذير من الكمال ومن خطر كتابة أدب ظاهري zahirienne يحمل معه كل انهمام بالواقعي. فبورخيس للخروج من متاهة ذاكرة مطلقة ما تفتأ تعود، يرى بأن الأدباء الذين سبقوه والذين يقتسم معهم الذاكرة هم الذين سرقوه بطريقة استباقية «Plagiat par anticipation».
فالذاكرة عند بورخيس ليست خزانا محدودا للذكريات، وليست مجموعا منظما ومغلقا يستخدمه الفرد متى شاء، مثل الكتب التي يرجع إليها في مكتبته، ليست مساحة سفلية تمارس عليها اللوحة السحرية للاشعور لعبها الحلمي، إنها قوة جلية ونشيطة، حيوية وميتة بطريقة احتمالية في الآن نفسه، هي طاقة قابلة للانقسام، قابلة للنقل، تتجاوز حدود الفرد، وتمتلك بعدا ابتكاريا حينما تقتسم مع النسيان. وبقدر ما الذاكرة ذات أهمية كبيرة، كذلك النسيان، ولذلك كلما تم الحديث عن الذاكرة إلا ويستدعى النسيان، فهما وجهان لعملة واحدة. «إن كل ذكرى ملطخة بغموض، وبمحو، وثغرة، يعني بأشكال من النسيان»(7)، هناك العديد من تمظهرات الذاكرة أو بالأحرى غياب الذاكرة، فمرآة النسيان،بحيرة عميقة ومظلمة.
إن أحد أشكال النسيان، هي هذا الاقتطاع لحدة الإدراك الأصلي. وقد وصف هذا الشكل بدقة الشاعر Supervielle في قصيدة تحت عنوان «الذاكرة التي تنسى »oublieuse mémoire وقد تعامل بلانشو في كتابه «الحوار اللانهائي» مع هذا النص بتأمل عميق.
يقول الشاعر في هذه القصيدة:
شاحبة شمس النسيان، يا قمر الذاكرة
ماذا تحمل في أعماق أماكنك الصماء؟
هذا هو إذن هذا القليل الذي تعدينه للشراب
هذه القطرات من الماء، من الخمر، الذي أعطيها لك؟
لكن مع الكثير من النسيان كيف تصنع وردة
مع الكثير من الرحلات كيف يصنع الرجوع
آلاف الطيور التي تطير لا تصير واحدا يحط
وكثرة الظلام لا تخفي جيدا النهار
ماذا ستفعلين أيضا بهذا اليوم الجميل من الصيف
انت التي تغيرين لي كل شيء حين لا تدللينه
ليكن، لا تردينهم لي كما منحتهم لك
هذا الجو الثمين جدا، ولا هذه الشخوص العزيزة.(8)
الذاكرة التي تنسى هذه الصيغة التي جمعت بين النقيضين، هي بالفعل مساعد على تحرر الذات وتحرير المعنى. لقد حدد فرويد في حديثه عن ذاكرة النسيان Mémoire d’oubli بأن هناك ذاكرة خاصة باللاشعور، حيث الأحداث الحاسمة المحتفظ بها هي منسية بالمرة بالنسبة إلى الذات، التي تكبدتها حتى يستشيرها العلاج النفسي، هذا الشكل من الذاكرة هو وحده الذي يسلم من التأثير السلبي للزمن الذي يمضي، لأن اللاشعور لازمني.
إن الذاكرة مستودع الزمن الماضي، والماضي، حتى الماضي البعيد، ليس ميتا le passé, même le plus lointain, n’est pourtant pas trépassé.(9)
إن الماضي حاضر بطريقة ما، يحضر بطرق متعددة، إذ هناك التاريخ الموجود في الكتب، هناك التحف المودعة في المتاحف، هناك الآثار والصروح، وهذه الذاكرة جماعية، وهي جزء من التعليم المدرسي. لكن هناك الذاكرة الفردية، إذ كل واحد منا يمتلك ماضيه الخاص، هاتان الذاكرتان تسهمان في توازننا في الحياة، والشعر يمتح من كلا الذاكرتين، «لأن الشعر ذاكرة» كما تأكد منذ القديم. إن الماضي المكون من سنواتنا الأولى – التي يدعوها بودلير – «الجنة الخضراء للحب الطفولي»- يمكنها أن توحي إلينا بحنين مؤلم ورغبة حارة لإعادة بناء هذه الأزمنة البريئة وعيشها ثانية. هذا المعنى عكسه بقوة عمل مارسيل بروست في رائعته «في البحث عن الزمن الضائع» الذي يعد اركيولوجية شخصية حقيقية. يقول Michel Tournier: «إن مارسيل استعمل رافعة قوية، هي الذاكرة العاطفية التي انبتقت أثناء إحساس طفيف، -مذاق المادلينة المغموسة في كأس شاي، أعاد من جديد وبحيوية قوية زمنا ماضيا بأكمله»(10)
حسب برغسون، هذا النشاط للذاكرة خاص بالذهن، لكن الماضي يمكنه أن يترسخ في الجسد الذي لا يحتفظ إلا بالعناصر المحركة والنافعة، ودور الدماغ هو بالتحديد بلورة الماضي بالنسبة إلى حاجات الحياة الحاضرة.
تلعب الذاكرة دورا حاسما في حياة الإنسان اليومية، إذ هي جزء أساس لتحديد هويته، وكذلك هي الوقود الحي لشعلة الإبداع إذا ما خالطها النسيان، فنصوص محرومة من ذاكرتها الخاصة سواء كانت ذاكرة نصية، أي ما تراكم فيها من نصوص إبداعية، أو ذاكرة حدثية، أي ما علق بها من أحداث لاسيما ما تلقاه الإنسان في طفولته، وظل قابعا في المنطقة النشيطة للذاكرة، هي نصوص فاقدة للبوصلة، هشة ومنذورة للزوال فهي الوجه الثاني لذاكرة فونيس الغاصة والقاتلة.
إن الذاكرة في علاقتها بالكتابة الشعرية كانت حاضرة منذ فجر السنين، تناولتها الأسطورة، والفلسفة والنقد، ففي النقد العربي القديم كان مصطلح «الشاعر الراوية» لديه حظوة كبيرة لدى القدماء، إذ اكدوا على ثلاثة أمور اعتبروها حجر الزاوية لبناء مجد الشاعر وشهرته، هي الموهبة أو الطبع، والثقافة أو الرواية، ثم الممارسة أو الدربة، يذهب أمجد الطرابلسي «إلى أن الطبع الذي اعتبر أساس كل إبداع شعري لا يكفي وحده ليجعل الإنسان مبدعا أو فنانا بل لابد أن يرهف بثقافة تصحبه، فتعينه في عملية الخلق. وهي ثقافة ليست من قبيل الاستعداد الفطري مثله، وإنما هي شيء بإمكان كل واحد منا أن يكتسبه ويتعلمه، دون أن يضمن لنفسه مرتبة الشاعر»(11)، مضيفا : «أن النصح الذي وجهه الناقد العربي للشاعر المحدث، والذي حثه بموجبه على أن يغني ذاكرته بما خلف المتقدمون من شعر جيد، لم يكن في الحقيقة سوى تكريس لأمر واقع، ودعوة إلى ثقافة آمن بها الناقد نفسه، ونشأ بين ظهرانيها»(12). فالحكاية التي ترويها كتب النقد عن أبي نواس «انه استأذن خلفا الأحمر في نظم الشعر فقال له: «لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطع للعرب، ما بين ارجوزة وقصيدة ومقطعة. فغاب عنه مدة وحضر إليه فقال له قد حفظتها، فقال: أنشدينها فأنشد أكثرها في عدة أيام، ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف ارجوزة كأنك لم تحفظها. فقال له: «هذا أمر يصعب علي، فإني قد اتقنت حفظها». فقال له: «لا أذن لك إلا أن تنساها، فذهب إلى بعض الأديرة وخلا بنفسه، وأقام مدة حتى نسيها. ثم حضر، فقال، قد نسيتها حتى كأن لم أكن قد حفظتها قط. قال له الآن انظم الشعر»، علق الطرابلسي على هذا الخبر بقوله: «نعم، قد يكون هذا الخبر موضوعا، ولكنه بالرغم من ذلك لا يفقد دلالته فيما يخص اعتماد الشاعر على ملكة الحفظ التي اعتبرناها الأداة الأساسية لتكوينه الثقافي، ثم إنه إلى جانب ذلك، يسلط بعض الضوء على أسباب تواتر معاني الشعر العربي القديم وتكرارها، لقد كان الشاعر العربي مضطرا، بحكم التكوين الثقافي إلى أن يحفظ قسطا وافرا من اشعار المتقدمين، ثم يعمد إلى تناسي هذه الأشعار في وقت تشبع فيه بشعر غيره، واغتنى شعوره الباطني بمعاني من سبقه، ولذلك فإنه حين يروم القول يجد نفسه من جهة بازاء أغراض شعرية محددة، ثم بأزاء معاني تنهال عليه بشكل لا إرادي، وهو ما يجعله ينظم أبياتا جديدة مشتملة على معان قديمة»(13). ومعنى هذا أن السرقة التي اهتم بها النقاد القدماء اهتماما خاصا لم تكن ظاهرة باستطاعة الشاعر أن يتفاداها لأنها مرتبطة في أغلب الأحوال بما يفوق طاقته ويخرج عن إرادته. لقد تمحورت المؤسسة الأدبية العربية حول إنتاج الشبيه، وإعادة إنتاجه، استيهاما منها أن في ذلك وحدة ما يحقق التماسك أي الحفاظ على وحدة الأمة/ الهوية.
يذهب أدونيس إلى أن هذا الاستيهام، نظريا، «يتمثل في المقوله السائدة التي تؤكد على أن الشعر ذاكرة جواب، أو بالأحرى ذاكرة لاستعادة الجواب المعطى، وعلى أن دور الشاعر أن يكتب متذكرا لا سائلا».(14) مضيفا: «إنها لدلالة بالغة أن يعد شوقي تعبيرا نموذجيا عن هذه المقولة، في ما سمي بعصر النهضة، عصر اللقاء «الحديث بين العرب والغرب الأوربي الحديث»(15) فبدءا من هذه الذاكرة تتحدد الأصالة، التي تفهم، في ضوء ما تقدم، دلالة اقترانها بالفطرة، واستنادها إلى مذهبية قومية سياسية، وفي هذا السياق ندرك أيضا كيف تصر تلك المقولة على «إفراد الشعر العربي، أي عزله عن الشعر الغربي، بحجة أنه من طبيعة مغايرة، رافضة أشكال تعبيره.
كقصيدة النثر مثلا، حاصرة حدود الشعرية في الوزنية الخليلية، وذلك صونا للأصالة من كل تغريب يشوش وضوح الهوية وتماسكها وخصوصيتها»(16). تأسيسا على ما سبق، فالشعر ذاكرة، وللشعر ذاكرة، غير أن ذاكرة الشعر ليست وراءه، إنها أمام، أي في المستقبل، وفي الذاكرة المنفتحة، المشرعة على الجهات الأربع، والذاكرة هي قوة استباق للممكنات كما أنها قوة إعادة إحياء ما كان. «لكنها أيضا، وعلى الخصوص، هي قوة تدميرية وهجاسية، يجدر بنا إذا استطعنا، أن نتخلى عنها»(17).
الهوامش
1 Le sens de la memoire, Jean- yves et Marc Tadié, Folio
Gallimard 1999 . P 9
2 – le sens de la mémoire, p 167
3 – Ibid p 167
4 – Ibid p .168
5 – Maurice Blanchot, l’entretien infini , p : 564
6 – Borges, « la mémoire de Shakespeare», p 20.
7 – le sens de la mémoire, p 201.
8 – le sens de la mémoire, p : 201
9- Rène le seine
10 – Michel Tournier, les miroirs des idées, P 68
11 – امجد الطرابلسي، نقد الشعر عند العرب، ص113
12 – نفسه ص 114
13 – امجد الطرابلسي نقد الشعر عند العرب ص 114.
14 – ادونيس سياسة الشعر ص 59
15 – ادونيس سياسة الشعر ص 59
16 – أدونيس سياسة الشعر، ص 61.
17 – Sombrer dans la mémoire, Emmanuel Bouju, magazine
littéraire, 520 ,juin 2012 p 56
———————
محمد آيت لعميم