فكري عمر
كاتب مصري
رأى نفسه في الكتاب التاريخي المُلّون، تحولت عيناه إلى كاميرتَيْ مراقبة ثابتتين على الصفحة المفتوحة، فوق رأسه دبيب عقارب الساعة الكبيرة، إنها هدية أبيه التي يحب الجلوس أسفلها إذا ما بدأ القراءة، في قلبه تدب أيضًا مشاعر بهجةٍ وحيرةٍ وذهولٍ. مَدَّ إصبع السبابة المنتصب إلى الجبهة العالية المرسومة بإتقان، هبط بنانه بنعومة على الأنف الرفيع الواسع من ناحية فتحتيه كحصان يستنشق مزيدًا من الهواء بعد جولة شاقة من السباق، توقف على الشفتين الممتلئتين، بعدها راح إصبعه الطليق يمينًا ويسارًا لمسافة قصيرة يتحسس عرض الفم المحدود، يدور في دوائر فوق الخدود البيضاوية، وعظمتي الجبهة شبه البارزتين، تكاد نهايات أعصابه الحسية تحت الجلد الناعم تستشعر صلابتهما، هبط إلى الرقبة الطويلة تحت ياقة معطف وبري أسود اللون، أزاحه آملًا أن يطاوعه نسيج القماش السميك في الصورة؛ ليشاهد تلك البثور الحمراء الصغيرة في الوجه الحليق.
الكتابُ مفتوحٌ على راحة يُسراه، أرجع يده للوراء بحركة تلقائية موسعًا المسافة بينهما؛ ليدقق في طول الجسد وعرضه بمقياس الصورة. هو الآن في الثلاثين من عمره، متوسط الطول، والبنية أيضًا، يميل إلى الرشاقة بكتفين عريضين، وصدر واسع عالٍ، وفخذين متينين تحملان جذعًا مصبوبًا في جسد قوى، ولمعة الصحة والعاطفة تتوهج في عينيه البنيتين الواسعتين.
السهر إلى منتصف الليل يدلق على كلمات الكتب التي يطالعها سائلًا غامقًا يحجب السطور، أو يمزق الكلمات بسكين حادة وينثرها، فتموج الحروف أمام عينيه حينها، أو ينتبه بين إغفاءة وأخرى على لغة موصولة أحرفها بالعرض وبالطول، يغرق حينئذٍ بأعماق بحيرة من صمت الذاكرة، تهوى من رأسه الحكايات، تختلط أزمنة ووجوه، فيعرف أن لحظات الراحة قد فات موعدها، رغمًا عنه يستجيب ويلحق بعربتها الأخيرة، لكنه يطمح الليلة إلى مزيدٍ من الحكايات، والتجوال خصوصًا وهو يسكن مدينة صغيرة لا يغادرها إلا نادرًا. ربما تكون الصورة المفرودة أمامه الآن علامة أيضًا على أن إغماض العيون والاستسلام لصور الذاكرة قد حان موعده، ولا وقت للمساومة. يشق طريقه إلى مطبخه حيث يُعِدُّ فنجان القهوة المضبوطة غامقة اللون بعيون مُحمرَّةٍ مُنتفخةٍ، ليس الوقت مناسبًا للغفلة، يشربها على مهل عائدًا إلى مرآته الورقية.
***
قَصَّ حدود الصورة متجنبًا رقمها، والكلمات التعريفية المطبوعة أسفلها، ثم ألصقها على ورقة مصقولة بيضاء، فاستيقظ الطفل بداخله.. كان يرسم حينها ساحة المعركة على الورقة البيضاء المستطيلة لكراسة الرسم: البنادق والدبابات والعَلَم، الطائرات تهبط منها الصواريخ المُدمِّرة، الأسلاك الشائكة مثل تلك التي يتحاشاها في طريقه إلى المدرسة الابتدائية وهي تحيط حديقة بيت مهجور كبير، يضعها الآن حول الخنادق، ثم يصنع دوائر الدخان باللونين الرمادي والأزرق صاعدًا إلى السماء. حين تتهيأ أدوات المعركة بكاملها كان يُنحِّي الصفحة جانبًا، ليرسم عساكره على أوراق مصقولة بأوضاع قتالية مختلفة يُقلِّدها من كتب مصورة، أو ينسخها على ورقة شفافة يثبتها بعد ذلك على قطعة من الفلين، أو الكرتون، ليحزَّ حدودها ويفرغها بإتقان، ثم يُلوِّنها ويثبتها بنقطة من لاصق وراء أسلحة القتال. كراسته المنبعجة لهذا السبب لفتت أنظار أبلة «هدى» مُدرِّسة الرسم الجميلة ذات الشعر الأسود القصير المفروق على جانبي وجهها المدور المنير، ففاز بضحكة لمعت لها عيونها السوداء الحنون، واصطفت أمامه أسنانها البيضاء الصغيرة، وتربيتها على كتفه، وتصفيق الزملاء له. لم يدرك وقتها حجم إنجازه الفني، لكنه أحب تكراره؛ ليهنأ بشعور البطولة في إشراقة عين أستاذته المحبة للتجارب والمرح. كانت تضع أمامهم أوراق أشجار ونباتات زينة مقطوفة حديثًا، خضارها يانع ورائحتها برِّية، ليرسموها محاولين ألا يُفوِّتوا تفاصيلها الدقيقة واختلافاتها، فهناك ورقة كالقوس، وأخرى على شكل قلب، وثالثة على هيئة مثلث بأنصاف دوائر دقيقة على حوافها. الألوان نفسها كانت متدرجة من الأخضر الليموني إلى الزيتوني فالأخضر الداكن، بل متفاوتة في ازدهار اللون بين وجه الورقة الواحدة وظهرها، وتشبيح العروق الشبكي الكثيف الفاتح قليلًا عن لون الورقة. تَعوَّد أن يأخذ مسافة متوسطة من المُجسَّمات الكثيرة التي جلبتها إليهم لينسخوها؛ حتى يحيط ببعض التفاصيل دون أن يغرق فيها كُليَّة؛ لأنه اكتشف أن الاقتراب جدًا من المُجسَّم الحي يجعله يسرح في شبكته، كذبابة في فخ عنكبوت، صانعًا في ورطته أشباهًا مخيفة من كائنات متخيلة، فيفزع ويتوه.
ربما ألهمه ذلك الفعل شديد الاختلاف عما يفعله الزملاء، فجرب الأمر في مباراة لكرة القدم بين فريقي الأهلي والزمالك، رسم ملعبًا كذلك الذى يشاهده بالتليفزيون، خَضَّر أرضيته وحَدَّد خطوطه بشكل تقريبي، ثم جَسَّم لاعبي الكرة بأوراق الكرتون ولوَّنهما بالأحمر والأبيض. كان ينقل أحدهم من مكان لآخر، أو يُبدِّل الفِرَق بين نصفي الملعب، والعساكر على ساحة القتال. رسم قاعة درس، وبيتًا، راح يضع رجُلًا بالمطبخ، وامرأة بالصالة، ويُبدِّل بينهما أيضًا الحركة، بينما يضع الأطفال مرة في حجرة النوم أمام التليفزيون، وأخرى حول سفرة الطعام.
تَطوَّر الأمر، فتبنى بطلًا ضخم البنية من الفلين أطلق عليه نفس اسمه. صار يضعه في ملاعب الكرة مَرَّة، وفى ساحات الحرب مرة، وثالثة في المقعد الأول بالفصل المدرسي، وقائدًا لإخوته في البيت، أو لأصدقائه الذين يرسمهم نحيلين ضامرين؛ حتى انتبهت أمه ذات يوم، فزجرته لما سببه عبثه من تضييع الوقت، وعديدٍ من قصاصات الأوراق والكرتون والفلين التي يصعب التقاطها بخيوط المقشة البلاستيكية بعد أن تأكدت أن ما يفعله نشاط حر غير مطلوب منه بالمدرسة. الآن استرد الطفل لدقائق معدودة بعد أن قص الصورة وألصقها، انشرح قلبه، فحدق مبتسمًا إليها مستأنسًا بملامحه في مرآة الزمن الماضي.
***
تملك حبيبته «سحر» نظرة فاحصة مستريبة، إذا دخلا حديقة واختليا وراء أجمة فإن بؤبؤي عينيها الخضراوين يتنقلان كفريسة محاصرة، إذا ما اختطف قبلة انفلتت منه معاتبة إياه عتابًا يدرك الغرض من ورائه، فإذا التقطهما أحدُ الناس بنظرة مختلسة، لا تستطيع الاستقرار لحظة أخرى معه، تقول إنها ستمضى حينها في الشارع كالعارية، يقذفها الآخرون بأحط الصفات، تدفعه في كتفه دفعًا خفيفًا وتهرب، يعرف أن دفوعها كاذبة، فحتى وهما معًا بعيدًا عن العيون في أجواء سرية، محروسين بحائطٍ عالٍ، تندفع من بين يديه أيضًا بعد أن يكون لهيب إغوائها قد وصل للذروة. تقول عن كل كلمة إنها زائفة، وإن الزواج وحده هو ما يُحوِّل الحب إلى علاقة حقيقية. ستكون فتاته البديلة، بعد أن أخفق قديمًا في الارتباط بعشق عُمره، هي الأنثى الأخيرة التي يكشف أمامها الصورة لتلك الأسباب؛ لأن وأد الفرحة في بدايتها سيقضى على بالونةٍ من السعادة تزيد إشراقًا بنفسه كلما مرَّ الوقت، وتعامل بجدية مع شبهه التام بأحد أكبر التجار المصريين الذي عاش قبل مئة وخمسين عامًا يتقلب في المغامرات، والغرائب. كان «هاشم» أول من يَطَّلع على الصورة، عين الصديق المحب سترى خيوط التشابه أكثر مما ترى خيوط التنافر فيها، ولو اكتشف الفرق صدفة، فسيخفى الأمر كأنه لم يَرَ شيئًا.
تأمل «هاشم» الصورة، ثم راح لوقت ينقل بصره بينه وبينها، وهى مفرودة بيده، سأله متعجبًا عن هوايته الجديدة التي لم يخبره بها أبدًا، هواية حب ارتداء القمصان القديمة ذات الياقات الصغيرة، والجاكت الجوخ ذي الأكتاف العريضة، والطربوش العالي كثريٍ قديم في مناسبة رسمية.
الصورة الثانية لَفَّت رأس «هاشم»، صنعت أصابعه بلا إرادة منه علامات تعجب واستفسار قبل أن ينطق فمه، ما بال غرامك بالجلباب ذي الحزام القماشي الموشي بأزهار صغيرة في منتصفه، والجبة والقفطان؟ أخذت عيناه تتجولان في وجه صديقه بطريقة أفلتت معها ضحكته الصاخبة.
البداية شجعته، لم يخب الظن، أغرقه «صلاح» بعد نظرات فاحصة في أسئلة لا تقبل المراوغة عن مكان «الفوتو سيشن» الذي أجرى به تصويره بكل هذه الأطقم الغريبة؛ لأنه يود هو و«أحمد»، زميلاه في المكتب الإداري بالجامعة، أن يحصلا أيضًا على بعض الصور بواسطة هذا الرسام، أو المصور البارع، بل وطلبا منه أن يتوسط لهما في تحديد السعر الذي يلائم دخلهما المحدود. لمعت أعينهما وهما يتحدثان عن أبهة أمراء وأميرات عصر الباشوات القدامى. فيما قَلَّبت «سحر» الصورة، قربتها وأبعدتها عن عينيها، نظرت إليه طويلًا، ثم رنت إلى الصورة وسألته لمَ ارتدى هذا الثوب الغريب؟! أصابه كلامها بالحزن قبل الفرح، فأي حاسة أنثوية تلك التي لا تلمح أَرَقّ خيطٍ بين الحبيب وشبيهه؟!
في اتصالها التليفوني المسائي راحت تستل منه إجابات عن صُوره تلك، وأغراضها. «هل ستمثل دورًا في فيلم تاريخي بالسينما؟ هل تَعرَّفت بفتاة لديها هوى بتاريخ الأثرياء والأمراء؟». أمعن في التمويه على الصور، انزلق بها إلى موضوعات بلا حصر؛ ليهرب من تعجبها، لكنها صدمته في النهاية بسؤالها: «هل تود أن تبلغني رسالة بواسطة الصورة دون أن تجرحني؟».
***
أيكون نجح أخيرًا في استعارة أسلوبها المُرهِق في قول الأشياء الحاسمة بأسلوب مراوغ، ثم إلقاء اللوم عليه؛ لأنه لا يفهمها ولا يحبها بالشكل الذي يدعيه؟ انتهت ساعتين من الحديث إلى خصام لم يفلح في إصلاحه، لكنه أفلح بإدخال البهجة إلى روحه. هو الآن أقرب ما يكون إلى التاجر الثري «يوسف بن حسن البندقي»، مصري المولد والجدود، وأحد المذكورين في سلالة أثرياء ذلك العصر، بل أحد الذين كان لهم فصلٌ كاملٌ بأسمائهم عن تجار القاهرة من الحبوب والبقوليات إلى الأقطان في عصر ازدهار التجارة بها وقت الحرب الأهلية الأمريكية، ثم مشاركًا في تجارة للدخان، حتى يُذكر علامة على براعة المصري، وحُسن انتهازه للفرص في وقتها. هل تاجر في العقارات أيضًا أثناء تَحوِّل وسط البلد إلى قطعة من أوربا؟ هل نال لقب أمير بثرواته المهولة؟ هو نفسه سيعثر على المزيد من الصور واللوحات في الوثائق القديمة بدار الكتب.
سفر فجائي موه على أصدقائه الهدف من ورائه بشراء ملابس جيدة بأسعار مصنعها. كان الدخول مشكلة أخرى، لكنه نجح في إقناع الموظفين بالبحث عن موضوع لرسالة سيتقدم بها لنيل درجة علمية، يبحث عن إلهام ومقارنة بين موضوعات عدة، لم تكن كل الأوراق متاحة له. هذه هي الزيارة الأولى، وهو المتوقع قبل أن يحصل على الثقة. الهرب من إغواء الوثائق كلفه جهدًا كبيرًا، حتى فرَّ أكثر من كتابٍ إلى أن عثر على ما جاء من أجله. مفاجأة الصور المتتالية جعلته يفقد أعصابه للحظات، كاد يصرخ فرحًا بالمفاجأة، بل وينادي موظفًا كان يجلس على بعد أمتار منه، يراجع شيئًا ما في أرشيف كبيرٍ يسجل منه على الكمبيوتر ويراقب الزوار القليلين بطرف عينه، لكنه أمسك نفسه في اللحظة الأخيرة، فلم يفعلها. ماذا سيكون مصير خطته بعد هذا البوح بأكثر أسراره حميمية؟ ربما سيقول الموظف لنفسه: «إنني أمام رجل عابث يبحث عن تسلية مهلكة، أو ميراث تُرفع بسببه قضايا، وأنا في حِلٍ من الدخول في مشكلة جديدة». سيصرفه بأكثر الطرق لباقة حين يكتشف أيضًا أنه يلتقط بتليفونه المحمول صورًا دون علمه، فقد تعامل هنا مع طيف واسع ما بين الجادين والهواة، وأنصاف المجانين الباحثين عن مجدٍ بين الأوراق الصفراء القديمة المحفوظة بين جلود سميكة، أو فقرة تُعد جذرًا يصلح للتنافس بين أفرع العائلة الواحدة.
***
ما أشق احتفاظ القلب بالفرحة العارمة! ربما كانت بينهما صلة قرابة كشفتها الصورة، لكن المزيد من البحث أحبط تلك الصلة بنسب يمتد لمائتي عام مضت من سلالة دخلها سودانيون، وليبيون، ولم يتسلل إليها عرق شامي كذلك الذي غذى «يوسفه» من ناحية جده لأمه.
بهذا التباين ازدادت الصلة متانة، فأي جد أو جدة مهما بلغت صفاتهما قوة لن يعبرا بالكثير بعد الجيل السابع، لذلك أحس أن التشابه الشكلي والجسدي كثيرًا ما يكون موحدًا للصفات أكثر من تشابه الوراثة. استحضر من ذاكرته القريبة «ماجدة»، و«مي» من دفعته بالجامعة، ثم أصدقاءه بعد ذلك حين كان الجميع يظنون أن البنتين توأمتان، كانتا تضحكان بشقاوة، وتتواصل أعينهما بتواطؤ ما، أو برسالة واستفسار ربما، لكنهما كانتا تشبهان بعضهما في كثير من الطباع، وكان الجميع ينقلون ذلك لبعضهم سرًا بعد مراقبة طويلة لردود الفعل، وطريقة تناول الساندويتشات والكوكاكولا، وحتى انفجار الضحكة بعد نكتة أو موقف مفاجئ ساخر. إلا أن راحتهما كانت في البعد قدر الإمكان عن بعضهما بعضًا، هكذا أحس أيضًا. كانتا تجلسان في مكانين مختلفين، لكل منهما صاحبتها المقربة، وصاحبها الذي يميل إليها، وتلك الراحة التي لمسها أكثر من مرة حين كانت إحداهما ترافق مجموعة صغيرة من الشلة، لتمضي إلى مكان معاكس للأخرى.
الشبيه الجديد، بل السادر في الزمن والنسيان لولا بضع ورقات، أعاد إليه سؤاله الذي لم يقله أبدًا حين قابل واحدة من البنتين صدفة في مكتبه، كأنها إشارة لم يستغلها في وقتها: هل لو كان «يوسف» يعيش في نفس الزمن أكانت السعادة ستتملكهما أيضًا، أو إحداهما؟ دعك من التوائم فللأمر أسباب معتادة للناس، لذلك لا يصنع ذلك الإرباك، ولا تلك المفاجأة السارة أو المقلقة.
***
حين عثر على صورة نصفية للرجل كانت تطابق صورته الحديثة ذهب إلى معامل التلوين. يضع المشاهد النهائية المعالجة في تابلوهات يحفظها في خزينة مكتبه. يجتث من الكتب أجزاء من تاريخ أمهر التجار، يُسجَّل ملاحظاته، وردوده، ومشاريعه قائًلا لنفسه: «يا الله! لو عشت في زمنه لفعلتها بالضبط. إنها أحلام يقظتي التي تخطر على رأسي للخروج من محدودية دخلي، ألم أضع نفسي كثيرًا بموضع السلطة فأُنفذها!».
حتى شطحاته، ولطائفه، وجمله القصيرة كان يؤمن بها قبل قراءتها، وما الصياغة في تلك الكتب القديمة إلا ضربة الحظ في رص الكلمات جنبًا إلى جنب. مؤمنًا مثله بالعجائب كطريق لامتلاك القوة كاد «يوسف» مرة أن يهلك نفسه لولا ردع أصحابه حين انضم إلى الطريقة السعدية الصوفية، وذلك حين ذهب إلى ليلة المولد مشاركًا في حالة الوجد بعد أن تنفس الحشيش في الشبك مع أصحابه في خيمة غير بعيدة عن خيمة الخديوي المحروس بجنده الكثيف، ورجال بلاطه، والأثرياء الذى يتطلعون إلى السلام عليه، والكلام بحضرته، فيفوزون بصفقة جديدة، أو تسهيلٍ يرفعهم درجات في الغنى، اندمج في الذكر بين مجموعة متفاوتة من التجار الذين يرتدون مثله في تلك المناسبة، جلابيب واسعة وعمامات خضراء وحمراء، وحولهم عرايا إلى منتصف خصورهم، أو حليقو الرؤوس، أو مَنْ يرتدون أسمالًا وجلابيب مُرقعة. اندمج إلى أن أعلن أصحاب الأعلام الخضراء المزينة بالآيات عن مقدم الشيخ «البكري» على حصانه القوي ليقوم بالدوسة، رقد المريدون على الحصر المفروشة في اندفاع جنوني، وجوههم إلى الأرض تتوسد أياديهم المتشابكة، فيما يمحون المسافة بين أجسادهم، حتى يمر حصان الشيخ فوقهم يتحاشى الرؤوس والأقدام، فلا يصاب بالأذى إلا كل صاحب خطيئة، أو شرير. أكان نسي مغامراته وقصص عشقه، أم أراد الخلاص من عذاب حب واحدة لم يصلح معها الاتصال الدائم؟ لكنه هرب في اللحظة الأخيرة قبل أن تفتك به حوافر الحصان مثلما تفعل بالبقية حين سمع أنّاتهم الرهيبة، وطقطقة عظامهم، وهلاكهم، سحبته يده صديق له لم يتبين وجهه في سطوع الشمس وخدر الحشيش وجلال الموت، وتلك العيون الذاهلة التي تقوم من تحت الدوسة والصرخات والإغماءات المفزعة. ألم يشده هو أيضًا صديقٌ على مسافة منعدمة من سيارة كادت تطيح به في نشوة الهتاف الجماعي بالشارع؟ لمَ يكون الموت ثمنًا للحصول على القوة وتحقق المعجزة الخارقة؟ كان أصحاب الطريقة ينكرون تلك الفظائع، يخفونها؛ كي تظل المعجزة سارية، وتجذب أناسًا جددًا، ومواردَ لا تُحد.
***
لو يعثر على تسجيلات صوتية له.. لكن هذا الحلم كان مستحيل التحقق، فلم تشهد حياته تلك التقنية، لكنه قام بعد فرز مادة هائلة تصلح لكتابٍ كبيرٍ، فسجل صوته بأفكاره، ومشاريعه، ورحلاته في البلدان، ثم راح يُبدل عاداته ويطيل خلواته بحجرته على السطوح، تلك الأشياء التي أربكت أصدقاءه، وأطلقت علامات التعجب وراء ظهره، والحصار الخانق لحبيبته للاعتراف بكل شيء، صار يلهث في أوقات حزنه وراء نتف عن أخباره، وقصصه الغرامية الممتلئة سحرًا، وجميلات عصر مضى، وتاريخه نصف السري، يواسي نفسه كل مرة بأن هذا الزمن ليس زمنه، يتساءل: «هل يأخذ الإنسان حظه من الدنيا مرتين؟». بين جدران حجرته القديمة يُطفئ الأضواء، ويحكم إغلاق الشباك. وحيدًا في غرفته، يُغمض عينيه، ثم يضغط زر تشغيل مسجل الصوت على حكاية أَمِيره القديم فاردًا جناحيه غير المرئيين نحو أُفقٍ جديد.