اللوحة الأولى
(جانب من ميدان خال. على الأرض نثار فضلات وأشياء مختلطة. إلى الوراء قليلا, تتوسط الخشبة شجرة ذات أغصان عارية وجذع نقشت عليه كتابات ورسوم.
أضواء وأصوات تفيد بمجاورة المكان لطريق سيار.
تظهر الس افرة. تتقدم صوب الشجرة, تطوقها بذراعيها, تخلد إلى التأمل برهة قبل التفاتها إلى الجمهور. تحاول أن تتحدث, لكن الكلمات لاتبرح فمها. تبدو مرتعبة, تركض يمينا وشمالا, تحاول باستمرار أن تقول شيئا, دون نتيجة.
في نهاية الأمر, تتهاوى عند جذع الشجرة, ورأسها بين يديها.
لحظة صمت.
يقترب العربي التائه. ي-جالسها.)
العربي التائه: عملية إرهابية جديدة. ما من قتلى هذه المرة . بعض الجرحى فقط.
( ترفع السافرة رأسها. تحدق في الفراغ )
العربي التائه: كنت بالكاد قد وصلت ولم أتمالك نفسي من ارتياد مكان الحادث.
(تحاول السافرة, عبثا , أن تتحدث)
العربي التائه: لم أر شيئا يذكر. كان الجرحى قد ن قلوا. وكانت الساحة قيد التنظيف, ولم يبق هناك سوى نفر من الفضوليين.
السافرة: ( بعد جهد كبير) أطفال… الأطفال…
العربي التائه: أي أطفال?
السافرة: جرحى…
العربي التائه: لست أدري إن كان ثمة أطفال بين الضحايا.
السافرة: أبرياء.
العربي التائه: قولك مهزلة. كيف يتسنى للضحايا ألا يكونون أبرياء? وإلا فما يكون ذنبهم?
السافرة: الأطفال… لايفهمون.
العربي التائه: وهل تحسبين أن الكبار, بدورهم, يفهمون شيئا من يانصيب الموت هذا?
السافرة: (بحيوية) هم على الأقل يعرفون معنى الحقد.
العربي التائه: وبعد, هل ذلك مبرر معقول?
السافرة: (تنهض مسرعة) لم يبق أي عقل. البقاء الآن لمن سيأكل الآخر نيئا. بدأ بالدماغ.
العربي التائه: كفى! إن قولك هذا يذكر بالموت.
السافرة: لا, لن أكف. ينبغي, لذلك, أن ي قطع مني اللسان.
العربي التائه: ناف ل إقناعك إياي بهذا الأمر.
السافرة: إما أنك تتكلم أكثر مما ينبغي, أو أنك لاتنصت بما فيه الكفاية.
العربي التائه: حسنا , سوف أصمت.
( صمت )
السافرة: لقد قضيت كل عمري في مقاومة ما بداخلي من حقد. ولم أفلح. يا إلهي, ما أصعب أن يغفر المرء. لأنه يقول مع نفسه: أما الأشرار… فلا شيء ي ق ض مضاجعهم. وحتى في حال عدم استمتاعهم بما يسببون من ألم, فهم يستمرون في الإيذاء بفعل التعود, أو من باب الشرود. ولاتنتظر منهم إرهاصا لندم أو اهتماما بمن ألقوا في الجحيم. متعجرف هو الشر. لقد سئمت الخضوع وتقبل الضربات ناكسة الرأس. وحتى حين أهدأ, حين أعود إلى رشدي, لا أرى فائدة لمكابدتي. ينبغي أن يكون هناك من يعترف بها كما هي. لكن الأمور قد ر تبت حولنا كي تظل طي الخفاء, بل كي تبدو مائعة مضحكة. إن السخرية لقاتلة حقا. ليست هذه مزحة, وذاك ما يغيظني, ويجعل مذاق الصفح مرا , فلا يبقى هناك صفح وإنما حقد خامد ليس إلا.
(صمت. تعود السافرة باتجاه العربي التائه, تمد إليه يديها. ينهض, يحتضنها. يتماوجان على إيقاع أنغام خافتة تتقاطع مع ضجيج الطريق السيار )
السافرة: ( مداعبة إياه ) أرى أنك قد نحفت.
العربي التائه: أجل, لقد فقدت مجددا … بعض الأوهام.
السافرة: كأن تفقد كيلوجراما مع كل وهم. (ضحك) من أين أتيت هذه المرة?
العربي التائه: من حلم محطم.
السافرة: لاشك أن ما حلمت به كان هشا.
العربي التائه: ( متنصلا ) بعض الأحلام تظل صعبة المراس, بحيث تطفو على حين غرة. وليس ظهورها, للضارب في التيه, سرابا ولا رؤى كابوسية. إنها أحلام غضة, جميلة ومثيرة.
السافرة: ينبغي التنفس بعمق, والإشاحة بالرأس ثم ارتياد أقرب الطرق.
العربي التائه: أحيانا يجد الإنسان نفسه مشلولا, كطريدة ت غ شي بصرها أضواء سيارة ذات ليلة. آنذاك يقترب الطيف, يهمس في الأذن, يأخذ بتلابيب السامع ثم يطير به. عندها يبدأ السفر في جو من حبور م ستعاد. تتبدى الأنغام المنسية من جديد, يقود الحنين العازفين, وتطفح المتعة على الشفتين. آه, كم نجمة شهدت ولادتها خلال ذلك الإسراء! فكأن الكون ب كر وكأن نفسا من طيبة دفع به خارج دائرة الشر.
السافرة: هذيان آخر من هذياناتك.
العربي التائه: لكن الحمى كانت حمى عشق. لم يغمض لي جفن طيلة شهور. ألا فليـبارك الأرق! لقد بلغت حد استهوائه وتحبيذه, رغم أنه كان أحيانا يثير خوفي.
السافرة: أي خوف?
العربي التائه: الخوف من العتمة خلف الأبواب. من الخطى الفاترة لشبح شرير. من ثقب حوض المرحاض. من رنة الهاتف. من احتمال أن يد بر لي الصباح م ق لبا فلا يشرق ثم يسلمني إلى ليل لا قرار.
السافرة: أين كنت?
العربي التائه: لم أعد أعرف. اعتقدت في البدء أني تعرفت…
السافرة: على ذلك المكان? مكان الطفولة?
العربي التائه: على الأقل على رائحته. رائحة مرة. مزيج من طين وروح زهر وأمعاء أنعام يتصاعد بخارها وصابون مارسيلي ودباغ.
السافرة: يا له من خليط! ما أن يشمه المرء حتى يقضي نحبه.
العربي التائه: لايمكن التمييز بين عطر وآخر, فالحصيلة هي تلك الرائحة, التي لا شبيه لها.
السافرة: لكنك قلت بأنك لن تطأ بعد تلك الأرض.
العربي التائه: لست متيقنا من ذهابي إلى هناك. كأن ذلك كان في حلم. لكنه أقوى من واقع ومن حلم.
السافرة: ( تجلس عند جذع الشجرة ) إحك.
العربي التائه: لا أتقن الحكي.
السافرة: لآخرين.
العربي التائه: ليست لي تلك الموهبة. ثقي بي.
السافرة: لا أطلب منك أن تحكي لي حكاية, وإنما أن تسرد ما شاهدت, وما أحسست به.
العربي التائه: كنت شبيها بمكفوف بلا عكاز ولا كلب – دليل.
السافرة: فماذا أكلت إذن?
العربي التائه: لك أن تسخري إن شئت, لكني لم آكل بشكل جيد. لم يكن الطعام سائغا.
السافرة: وهل شربت بشكل جيد?
العربي التائه: أجل. كما لوكنت محكوما بالأشغال الشاقة أو لصا. لصا على الخصوص.
السافرة: إنك تثير أعصابي. فهلا أفضيت بحلمك الأبله!
العربي التائه: كنت برفقتك.
السافرة: ومنذ متى وأنا أرتاد أحلامك?
العربي التائه: كنت متيقنا من حضورك, رغم أن وجهك كان محجوبا عني. عرفت لأني غالبا ما شددت على يديك, ومسدت أصابعك. كنا نتحادث عبر ستار ما. سمعتك تبكين خلال بعض الليالي. وبعد ذلك, حدثت أزمتك.
(تنهض السافرة متوثبة, تدير ظهرها للعربي التائه.)
العربي التائه: لم تكوني تتلوين من ألم وإنما من ضيق. الكلمات التي كانت تخرج من فمك لم تكن كلماتك. صوتك كان صوت إنسان آخر. ومع ذلك فقد خيل لي أنك كنت تتوجهين بالحديث إلي, بعدوانية لم أعهدها فيك من قبل. أحسست لأول مرة أنك كنت تبدين تجاهي ما ليس بد من تسميته كرها.
السافرة: أي شيء قلت بالضبط?
العربي التائه: نسيت تقريبا كل شيء. ما أذكره هو عبارات »امض«, ؛ إليك عني«, »اغرب«, يلفظها صوت أجش قوي. لم أعد أدري أي شيء أفعله آنذاك بي وبك. كيف لا يرى المرء نفسه مذنبا في موقف مماثل? مذنبا, أوافق على ذلك, لكن في حق ماذا? كان علي أن أجد سببا ما, أي فعل دنيء كي أبرر غيظك, وأجثو عند قدميك, ثم أستسمحك. كان من الهين علي أن أتصاغر لقاء إعادتك إلى رشدك, إلينا, وإنهاء الكابوس. مرة, وقد بلغت أزمتك أشدها, وجهت إلي ضربة, وأية ضربة( أيتها اللعينة!كانت ضربة قطعت علي أنفاسي. لكني في الوقت نفسه, وفي عز تلك الكارثة, لم أستطع رد شعور بهزء ما. لقد كدت أن أقهقه.
السافرة: ( متلفتة ) أراك تتخلص من ورطتك بسهولة.
العربي التائه: أنبهك إلى أن الحلم حلمي أنا وليس حلمك أنت. ما كان عليك سوى أن ترافقيني, أن تكوني بجانبي.
السافرة: أ ترك لك حلمك هذا, لتنتش به. لكنه, لحد الآن, ليس من المتعة في شيء.
( تعاود الجلوس )
العربي التائه: قلت لك إني لا أحسن الحكي. فطريقتي فيه غالبا ما تكون مرتبكة. طيب. أين وصلت? لم أعد أدري… بلى, ثمة صورة أخرى تعود لذاكرتي. إنه مشهد صامت لا علاقة له بالمشهد السابق… مشهد أتسكع فيه, داخل إحدى المدن, وسط حشد كثيف هائج ومتلاطم في كل اتجاه. لا أستطيع تسمية المدينة, ولا سكانها. الشيء المؤكد لدي, دون أن أعرف لماذا, هو أن تلك المدينة العملاقة كانت محاطة إما بصحراء وإما بغابة كثيفة, والأمر سيان في اعتقادي. تتقاذفني أمواج الحشد الذي, كلما انجرف إلى ساحة , اصطد م بحشد آخر, يماثله في الكثافة, ويغايره في السكون. حشد يتحلق حول ما قد يكون خشبة يعرض فوقها حفل أو تقام شعائر. أحاول أن أشق بمرفقي طريقا نحو الصفوف الأمامية فأصطدم بحائط إسمنتي. أجدني مدفوعا وسط التيار حتى الساحة الموالية حيث المشهد نفسه. يستمر الأمر كذلك لمدة طويلة, ثم, فجأة, يتفرق الحشد وتتلاشى المدينة, فأجد نفسي وحيدا , جالسا فوق صخرة تشرف على البحر. الجو بارد. والبحر الهادر عند قدمي لايوحي إلي بأي اطمئنان. لكأني محط سخرية لصخب الأمواج, الشيء الذي أخلص منه, ببلادة, إلى كوني مهجورا ووحيدا في هذا العالم. على أن لارغبة لي, بل ولا شجاعة, في الإلقاء بنفسي إلى الماء. أقلد الصخرة التي أجلس فوقها وأستعذب عزلتي, قائلا لنفسي: ها قد أقلعت عن الإنتماء والرغبة (لم أعد سوى شيء مود ع بين أشياء حاملة لذلك الوعي الضئيل بأنها وجدت لتؤثث الكون. ما للصخر من أب ولا أم ولا ملة ولا لغة. ليس معوزا ولا م ترفا . لا يحتاج إلى البحث عن هوية, ولا إلى الدفاع عن قضية ما. وإن س حق, تحول ببساطة إلى عشرات , بل إلى مئات الحصى. ولا يكدر التاريخ أبدا صفو راحته.
السافرة: ألا تريد أن أ خرج لك رسائلك?
العربي التائه: أية رسائل?
السافرة: تلك اللواتي أرسلت لي من هناك. كنت تقول بها أشياء مغايرة.
العربي التائه: هل تعتقدين أني كذبت عليك?
السافرة: ليس كذلك بالضبط. لكنك لم تكن تحدثني عن أرقك ولا عن كوابيسك ولا عن عماك. بوسعي إنعاش ذاكرتك, إذا أحببت.
( تخرج حزمة أوراق, تتصفحها بسرعة )
السافرة: انتبه! أنصت إلى هذه!
أكتب إليك , من هنا,
بنزر الجداول,
بالصبار المثمر
في سهو الفصول,
بأصغر حمل
يتحلى بنعم العالم,
بما لا أجرؤ على تقبيله من أحجار.
أكتب إليك من هنا
بعطر أمومي
لجلباب قديم,
بأسمال الطيبة,
بالعيون التي ترى
ولا تحاكم,
بزرقة السماء,
هذي العصية على الادراك.
أكتب إليك من هنا,
بينما يأخذ القطار بمجامع وقته
ويهبني إياه,
ثم يملأ جيوبي بحنطة
لنوارس المنفى.
( يهمس العربي التائه معها )
أكتب إليك
كما لو كان علي أن أبقى هنا
وأنت هناك
لأمتحن عشقنا
من جديد.
(تمرر السافرة يدها على شعر العربي التائه. تحدق في وجهه)
السافرة: يالك من رومانسي. ( يضع العربي التائه رأسه على كتفها. يغلق عينيه.) استرح, أيها المجنون العجوز, يا تائهي المسكين. أفرغ رأسك. دع الأحلام لمن لازالوا يقوون على خوض غمارها. نم.
( ظلام )
* مصدر النص: Un Continent humain, Editions Paroles d aube, 1997
ترجمة : عبد القادر هجام كاتب من المغرب عبد اللطيف اللعبي