يرى الفلاسفة أن الفلسفة أم العلوم، بينما يرى الاعلاميون أن الاعلام، شريك كل العلوم. فالإعلام بوسائله المختلفة شريك للسياسة والفن والأدب والاقتصاد والطب وغير ذلك. وهو إما أنه يوظف هذه العلوم في قالب اعلامي أو أنه يوثقها ويسجل تطوراتها بوسائله المختلفة. ولذلك أصبح الفصل بين الاعلام والعلوم الأخرى أمرا غير ممكن خاصة علاقة الاعلام بالتاريخ. ذلك أن التاريخ يشمل مساحة أحبر من حياة البشرية. فلكل أمة أو قرية أو فرد تاريخ خاص. والاعلام يعيش وسط هذه التفريعات عامها وخاصها. وفي هذا المقال سنركز على العلاقة القائمة بين الاعلام والتاريخ: هل هي علاقة ثنائية التأثير والتأثر أم أنها أحادية التأثير؟ وما هي حدود ومهاو كل من المؤرخ والصحفي؟
لا ينكر أحد أن العالم اليوم أصبح قرية صغيرة بفضل تطور وسائل الاتصال والاعلام. فبعد أن كانت الرسائل تنقل عن طريق الفم فيما يسمى بالاتصال الشفهي وتنقل الرسائل المكتوبة عن طريق الدواب والحمام الزاجل، وبعد ذلك السفن والسيارات والقطارات، تنقل الرسائل الاعلامية اليوم بواسطة الموجات "الكهرومغناطيسية " التي تسافر عبر الأثير.
لقد قرب لنا الراديو "الترانزستور" حوادث أمريكا وأفغانستان بواسطة النقل الصوتي لتلك الحوادث. ونقل لنا التليفزيون صورة مصفرة عن المعارك الحربية، واليوم تنقل لنا الأقمار الصناعية عبر القنوات الفضائية الحوادث وقت وقوعها مباشرة بغض النظر عن مكان وقوعها.
إن وسائل الاعلام (المطبوعة والالكترونية ) على اختلافها تقوم بأداء مجموعة من الوظائف في المجتمع والعالم بصورة أعم. فإلى جانب التسلية والترفيه والتثقيف نجد الاعلام يضطلع بمهمة الإخبار وتسجيل الحوادث. فالكثيرون منا تابعوا تطورات حرب الخليج الأخيرة عبر المذياع وشاشات التليفزيون. وباعتراف الكثيرين، فإن تأثير وسائل الاعلام على الفرد والمجتمع أصبح أمرا مسلما به، وحتى أن منهم من بالغ في خطر تأثير وسائل الاعلام من مجرد نشرها فقط لأخبار الحوادث والشخصيات. فما هو فولتير يصف الصحافة بأنها "الة يستحيل كسرها وستعمل على هدم العالم القديم حتى يتسنى لها أن تنشي ؟ عالما جديدا". ويعبر أحد رؤساء دول أمريكا اللاتينية السابقين عن قوة تأثير الصحافة بقوله: "لا أخاف أبواب جهنم إذا ما فتحت بوجهي ولكني أرتعش من صرير قلم المحرر".
ولعل هذا النوع من التخوف من وسائل الاعلام هو الذي قاد البعض الى التشك في طبيعة العلاقة بين الاعلام والتاريخ. حيث يعتقد البعض أن الاعلام وسيلة جيدة لتشويه التاريخ وقلب الحقائق وإنه من الصعب أن يكون مصدرا للتاريخ. ويوضح الحوار التالي الذي دار بين الزعيم المصري الراحل سعد زغلول وبين الأديب والمؤرخ طه حسين حينما التقيا في باريس عام 1918هذا التشكك في العلاقة بين الاعلام والتاريخ (محمد سيد، 1985: ص 13)
سعد زغلول: ماذا تدرس في باريس ؟
طه حسين: أدرس التاريخ
سعد زغلول: أو مؤمن أنت بصدق التاريخ ؟
طه حسين: نعم، اذا أحسن البحث عنه والاستقصاء فيه وتخليصه من الشائبات.
سعد زغلول: أما أنا فيكفي أن أرى هذا التضليل وهذه الأكاذيب التي تنشرها الصحف في أقطار الأرض ويقبلها الناس من غير تثبت ولا تمحيص لأقطع بعد ذلك بأن لا سبيل في استخلاص التاريخ من هذه الشائبات.
من هذا المدخل، نجد أن هناك من يرى بسلبية العلاقة بين الاعلام والتاريخ. وفي هذا المقال سنحاول الاجابة على عدد من الأسئلة التي تدور حول هذا الموضوع. هذه الأسئلة هي:
1- ما مهمة المؤرخ وما مهمة الصحفي؟
2- لماذا تشوه بعض الحقائق في وسائل الاعلام ؟
3- هل يمكن أن يكون التاريخ مادة إعلامية ؟
4- هل يمكن أن يكون الاعلام مصدرا للتاريخ ؟
من هذا المنطلق نجد أن طرح هذا الموضوع لا يمكن أن يتم دون معرفة المفردات المتعلقة به. ولعل فهمنا لمعنى التاريخ والاعلام يؤهلنا بعد ذلك لمعرفة العلاقة بينهما أو بين المؤرخ والصحفي.
ماهوالتاريخ ؟
يعرف بعض الكتاب التاريخ بأنه "كيف يعيش الناس، وكيف يؤثرون على عالمهم، وما هو الشي ء الذي أتوا به وأبدعوه، وما هو مقدار ما نعلمه من كل ذلك ". بينما يعرفه أخر ون بأنه "الحوار بين الماضي والحاضر". ويعرفه طرف ثالث بأنه "حكاية الحوادث الماضية المتعلقة بحياة الانسان على الأرض " (عبده، 1989: ص 5).
هذه التعريفات على اختلافها تجمع على أن المقصود بالتاريخ هو التاريخ البشري، ذلك أن الانسان هو الذي يصنع الحضارة ويؤثر في البيئة وبذلك فهو وحده من يوجد التاريخ. من الجانب الآخر نجد أن التاريخ البشري يشتمل على العديد من الممارسات البشرية. فهناك الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والفنية والسياسية، إلا أن علماء التاريخ يركزون دائما على الجانب السياسي من التاريخ البشري. ويرجع هذا التركيز الى أن السياسة هي الباحث الرئيسي لصناعة التاريخ. فعصر التنوير والثورة الصناعية في أوروبا كان مردهما لتطورات سياسية. وبهذا فإن تعاقب الحكام يتبعه الى حد كبير تغيير في العديد من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وغيرها في المجتمع، ومن هنا كان التركيز على التاريخ السياسي.
مهمة المؤرخ الصحفي
إذا كنا سلمنا بأن المقصود بالتاريخ هو التاريخ البشري، فإن عمل المؤرخ ما هو إلا تسجيل للحوادث البشرية الماضية. هذا التسجيل يتم بالتقصي والبحث في المصادر المختلفة والمرتبطة بالحوادث الشي يبحث فيها المؤرخ والتي قد تكون نقوشا وتماثيل، أو مخلفات مادية كآنية وأسلحة، أو وثائق مكتوبة.
وبتوضيحنا لمهمة المؤرخ فإننا نجد أن مهمة الصحفي لا تختلف عنها كثيرا. فالصحفي – وهو كل من يشارك بفنه واختصاصه في قسم من أقسام الصناعة الصحفية _ يقوم بتسجيل الحوادث التي يفرزها النشاط الانساني مع الاجتهاد بالتحقق من صدق الحوادث والتزامه الموضوعية في ذلك. ولكن الفرق بين الصحفي والمؤرخ في تسجيلهما للحوادث البشرية يكمن في الفترة الزمنية التي يعني بها كل منهما. فالمؤرخ يعني في الغالب بالحوادث الماضية بالتنقيب عنها وردها الى عللها وأسبابها الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو البيئية. بينما يعني الصحفي في الغالب بتسجيل الحوادث اليومية أو الاسبوعية أو الشهرية حسب دورية الوسيلة التي يعمل بها. من هنا يتضح أن دائرة عمل المؤرخ تقع ضمن الحوادث البشرية الماضية، ويكون الاعتماد على المصادر التي سجلت الحوادث في الماضي. أما دائرة عمل الصحفي فتكون في الحوادث الحالية أو تلك التي وقعت في الماضي القريب.
ونظرا لطبيعة عمل الصحفي فإن الوقت يعمل في غير صالحه إذا ما أراد التثبت من صحة الحوادث التي يسجلها في وسيلته الاعلامية. ويعود السبب في ذلك الى أن الوسيلة التي يعمل بها الصحفي تكون غالبا ملزمة بالصدور أو بث خبر ما في وقت محدد. هذا التوقيت قد لا يمكن الصحفي من البحث في تفاصيل الموضوع والتحقق من صدق الوقائع. كما أن الوقت نفسه قد لا يمكن الصحفي أيضا من استقراء الحوادث المستقبلية وتقديم نظرة شاملة حول الموضوع الذي يتناوله. ويعود السبب في ذلك الى أن الحوادث التي يسجلها الصحفي لم تطو صفحاتها بعد ولا تزال تشهد مستجدات بحكم حداثتها.
وعلى الجانب الآخر لا يمثل عامل الوقت مشكلة بالنسبة للمؤرخ بحكم أن دائرة بحثه تكون في الماضي. والمؤرخ ملزم بالامانة والموضوعية في تسجيله للحوادث أكثر من الصحفي، لأن ما يدونه المؤرخ ويخرجه للآخرين يدونه ويخرجه في سعة من الوقت ووفرة في المصادر وأي تزوير أو تشويه في الحقائق يعود الى أهوائه أو أخطائه. فالمؤرخ للحرب العالمية الثانية مثلا لا ينقصه الوقت ولا المصادر في استقصاء هذه الحرب وردها الى عللها الحقيقية بناء على ما يتوافر له من وثائق.والقول بأن الوقت قد يعرقل عمل الصحفي وقد يعمل ضده لا يعطي العذر للصحفي لتشويه الحقائق عمدا، وانما عليه إعمال كل الجهد للتحقق من سلامة ما يسجله.
من ذلك ينبغي أن ندرك أن المؤرخ لا يرى الحوادث وقت وقوعها بعكس الصحفي الذي يشهد في معظم الأحيان الحوادث التي يسجلها. والمؤرخ يحاول أن يربط بين ما خلفه الأ وائل من آثار وبين ما كتب عنهم ليصل في النهاية الى توثيق تاريخي لتلك الحقبة من الزمن أو الحوادث أو الشخصيات. ويبدو جليا أن مهمة المؤرخ الأولى هي التقص في الحقائق التاريخية وبيان صحتها من عدمه، بينما مهمة الصحفي الأولى هي تسجيل ما يجري من حوادث بعين فاحصة حسبما يتوافر لديه من أدلة وتأتي مهمة تأريخ الحوادث بعد ذلك لاحقة لطبيعة عمله. ويدلل بشير العوف
(1987)على هذا الرأي بقوله "إن مهمة الصحفي تنطلق قبل كل شيء، من نقطة الحصول على (الخبر)،ومن ثم ينطلق الصحفي على التعليق عليه بسطر أو بسطور أو بمقال كامل إذا كان جديرا بالتعليق وبعد ذلك ينقله الى القاريء" ص 35.
إن من المحاذير التي تحيط بعمل المؤرخ أو الصحفي في تاريخ أو تسجيل الحوادث والشخصيات التاريخية هي تقليب الأهواء أو الولاء لفئة أو طائفة معينة. لأن ذلك سوف يخرجهما من دائرة الموضوعية ويصبح تأريخهما
للحوادث صناعة لا تبنى على أسس علمية ثابتة. والموضوعية أو عدم إقحام الذات عند تسجيل الحوادث وتقديرها مطلب صعب لأن الانسان لا يمكن أن يتخلص من جملة الأفكار والمعتقدات التي يؤمن بها. ويذكر الصحفي الأمريكي الكبير الذي غطى الحرب العالمية الثانية Edward R. Murrcw إن حيادية الصحفي أمر صعب، حيث يقول:(Roscho, 1975, p. 48
"أعتقد أنه ليس من الممكن – بحكم الطبيعة الانسانية لأي صحفي أن يكون حياديا بصورة كاملة، لأننا كلنا نتأثر الى حد ما بمستوانا التعليمي وسفرنا وقراءاتنا ومجمل خبراتنا".
وما يصدق على الصحفي يصدق أيضا على المؤرخ لأن كليهما بشر وطيهما يهتم بتسجيل الحوادث البشرية. من ذلك نخلص الى القول بأن تقديرنا للحوادث أو تسجيلنا لها قد لا يخلو من ذاتياتنا وخبراتنا التي نقحمها عن وعي أو لا وعي في التسجيل والتقدير. حينئذ تأتي ملاحظاتنا للحدث الواحد متباينة، ولا أدل عل ذلك من المثال التالي:
يذكر أستاذ التاريخ هورنشو حدثا وقع في مجلس العموم البريطاني حينما كان سفير روسيا جالسا يستمع الى أحدى الجلسات، وقد علقت على هذا الحدث ثلاث صحف لندنية على النحو التال. ذكرت الأول أن السفير الروسي كان يتابع الجلسة بكل انصات ويعلق من وقت لآخر على بعض نقاط الحديث الى سكرتيره الذي يجلس بجواره. بينما ذكرت الثانية أنه لا يجيد الانجليزية وكان من وقت لآخر يسأل سكرتيره عن بعض معاني الكلمات الصعبة. وذكرت الثالثة أنه لا يعرف الانجليزية وكان يشغل وقت الجلسة بالحديث الى سكرتيره من وقت لآخر. هذا المثال يوضح أنه على الرغم من أن الصحفيين في الصحف الثلاث شاهدوا نفس الحدث إلا أن تسجيلهم له جاء مختلفا كاختلاف الصحف والصحفيين أنفسهم (عبده، 1989: ص 10).
الموالاة والحرية والتاريخ
إن الموالاة أو المحسوبية تمثل حلقة خطيرة في تأريخ الحوادث ذلك أنها لا تسجل إلا التاريخ المشرق للحدث أو الشخصية المحبوبة أو التاريخ المظلم للشخصية غير المرغوبة. فليس من المتوقع من مؤرخ لسيرة حاكم أو أمير أن يذكر مثالب هذا الامير ما دام مواليا له، ومن غير المتوقع أيضا أن يذكر المؤرخ الذي أعمته الوطنية، الحقيقة المرة التي ربما تكون بلده قد مرت بها. فعلى سبيل المثال، يكتب المؤرخون الفرنسيون الموالون لملك فرنسا لويس السادس عشر بأنه ذهب الى المقصلة رزينا الى حد الجرأة والشجاعة ولم يخش جلادها القاسي بل أسلم نفسه في هدوء وثبات على الرغم من أن الحقيقة تقول عكس ذلك حيث أن لويس السادس عشر راح يصيح مستنجدا ومستغيثا، وأنه أمسك بالجلاد يبعده عن نفسه تارة ويسأله الرحمة والعفو تارة أخرى (عبده، 1989: ص 47).
إن أهم شرط في صناعة التاريخ الى جانب إبعاد الصحفي والمؤرخ لذاتيتهما هو الحرية. ويقصد بالحرية هنا حرية ذكر الحقيقة، ذلك أن الحقائق مقدسة أما الرأي مجاني على حد قول الصحفي الكبير G.P. Scott إن الحرية هي التي تكفل للمؤرخ وللصحفي معبر الخروج من طائلة المحسوبية أو الموالاة وهي التي تجعل منهما موضعا للثقة. وفي كثير من الدول نجد الحرية في التعبير والرأي تكفلها قوانين مستمدة من الدستور. ففي الولايات المتحدة الأمريكية نجد التعديل الأول First Amendment يكفل للاعلام هناك حرية التعبير والرأي الى حد كبير. وهذه الحرية لا تقتصر فقط على رجال الصحافة والاعلام بل تشمل كل الأفراد الذين يعيشون في أمريكا. وعلى المستوى الدولي نجد المادة 19من الاعلام العالمي لحقوق الانسان الذي صدر في عام 1948 تتضمن بندا ينص على حرية كل شخص في أن يعبر عن رأيه في أية وسيلة كانت بغض النظر عن وجود الأطراف المعارضة بالاضافة الى حقه في استقاء المعلومات من أي مصدر كان. وفي الدول العربية نجد أن هذا النوع من الحرية تحدده قوانين الصحافة أو قوانين المطبوعات في كل دولة. وهي بصورة عامة تكفل قدرا يسيرا من حرية التعبير والرأي.
إن فقدان الحرية من شأنه أن يشوه الحقيقة لوجود صوت واحد مسموع فقط وهو صوت من بيده السلطة. فالمؤرخ أو الصحفي الذي يعمل في بيئة منزوعة الحرية يكون فقط أداة تقلبها يد خفية كالمغناطيس الذي يحرك قطعة معدنية من تحت صفيحة أخرى. ويمكننا بعد ذلك أن نسمي التاريخ الذي ينتجانه بالتاريخ المختار، وليس بالتاريخ الواقع. لقد نشرت جريدة "الوطن " العمانية في عددها الصادر يوم الاثنين 30 سبتمبر 1996 خبرا مفاده أن حزب العمال البريطاني يطالب الحكومة البريطانية بسن قانون يقضي بمعاقبة كل من ينكر حادثة "الهوليكوست " التي يذكر فيهدأن ستة ملايين يهودي أحرقهم هتلر في أفران الغاز أيام الحرب العالمية الثانية. ولو وافقت الحكومة البريطانية على هذا المطلب تكون قد صفعت عرض الحائط بمبدأ حرية الرأي والتعبير الذي تؤمن به، الأمر الذي قد يدفع المؤرخين والصحفيين على السواء الى تجنب الخوض في مثل هذه القضية خوفا من الوقوع تحت طائلة العقوبة.
إن الحرية كما هي مهمة ولازمة للمؤرخ فهي مهمة ولازمة للصحفي في عمله كمراسل أو مندوب أو حتى مجرد ناقل لحدث ما. وخطر انعدام الحرية عند الصحفي لهو أعظم من انعدامها عند المؤرخ وذلك لسببين. الأول هو أن وسائل الاعلام تعني بتسجيل الحوادث اليومية أو الأسبوعية التي ستصبح فيما بعد تاريخا لأمة ما، وتصبح وسائل الاعلام عندئذ مصدرا لهذا التاريخ. فإذا جاء تسجيل هذه الحوادث وقت حدوثها مزيفا بسبب فقدان حرية التعبير فإن تاريخ تلك الأمة سيكون مزيفا أيضا. والثاني هو أن وسائل الاعلام لها من الانتشار والتأثير في الجماهير ما لا تستطيعه أية وسيلة أخرى. وينشرها أخبارا مزيفة بسبب فقدان الحرية في وقت حدوث واقعة ما، فإنها ترسخ في أذهان الجماهير هذا الزيف الذي قد يستحيل تصحيحه.
ونجد في تاريخ الاعلام أمثلة كثيرة على مواقف سحبت فيها الحرية عن وسائل الاعلام في بلدان تقر بمبدأ الحرية. لقد منعت الحكومة الأمريكية مثلا الصحفيين من تغطية حربي جر انادا وينما. وكررت الحكومة الأمريكية الشي ء نفسه عندما فرضت رقابة مشددة على الاعلاميين في تخطيتهم لحرب الخليج الأخيرة التي نشبت إثر غزو العراق للكويت1990. فلقد أوعزت الإدارة الأمريكية الى خفراء عسكريين مهمة مراقبة تحركات الصحفيين ومنعهم من اجراء مقابلات بدون سابق تصريح. وابتكرت الإدارة العسكرية ما سمي بـ "نظام المجموعة " أو "المجموعة الصحفية " التي اختير لها 150 صحفيا من الذين لا يشك في ولاشهم للقيادة الامريكية من بين 1500 صحفي كانوا متواجدين لتغطية الحرب Kellener,1992p. 761). لقد أصبحت حرية الصحفيين في تلك الحرب مقيدة ولم يعد بمتناول أيديهم سوى نشر ما تملي عليهم إدارة شوارزكوف الجنرال الأمريكي الذي قاد قوات التحالف المتمركزة في المملكة العربية السعودية، ولهذا جاءت تقاريرهم وتسجيلهم لحوادث تلك الحرب مشوهة ومزيفة. وقد برع هاكورث الصحفي بمجلة Newsweek الأمريكية في وصف حال الصحفيين وهم يتلقون معلومات عن حرب الخليج من إدارة الاعلام بقولهTaylor, 2991, p166.) كل شي ء كان يعطى بقدر مثل ملعقة التغذية. وكنا نحن _ الصحفيين _أشبه بالحيوانات الموجودة في الحديقة، بينما قام المسؤولون الاعلاميون بدور حراس هذه الحديقة الذين يرمون لنا قطعة من اللحم من حين لآخر.
وبلغت شدة الرقابة الاعلامية في حرب الخليج الى حد مصادرة المعلومات التي تم الحصول عليها بدون تصريح أو من غير علم الرقيب. فقد ذكرت صحفية الاندبندنت البريطانية في عددها الصادر يوم الأربعاء 6فبراير 1991 أن الرقابة الاعلامية صادرت فيلما خبريا عن معركة الخفجي على حدود المملكة العربية السعودية كان قد التقطه طاقم تليفزيون فرنسي.
لقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن تأتي أخبار حرب الخليج مشوبة بشي ء من
التشويه.
وقد سبق وأن تدخلت الحكومة الأمريكية بفرض رقابة على الانتاج الاعلامي المتعلق بسرد الوقائع التاريخية زمن الحروب. ففي حربها مع فيتنام تدخلت وزارة الدفاع الأمريكية بأن جعلت فيلم "القبعات الخضراء" المنتج عام 1969 مؤيدا للتدخل العسكري (عازار، 1983: ص 37). وهو الفيلم الأمريكي الوحيد عن حرب فيتنام الذي جاء مؤيدا للحكومة الامريكية ذلك لأن ما بعده من أفلام حول الموضوع نفسه أمثال العودة الى الوطن وصائد الغزلان كانت تندد بالغزو الأمريكي.
بصفة عامة يمكن القول بأنه من الصعب أن توجد هناك حرية مطلقة حتى في المجتمعات التي تصف نفسها بأنها تسمح بقدر كبير من الحرية في الرأي والتعبير. وفي الحالات التي يصادف فيها المؤرخ أو الصحفي أقل قدر من الحرية فإن تأريخه للحوا دث والشخصيات قد يثير علامة استفهام. واذا كان الحديث يدور حول العلاقة بين التاريخ والاعلام فإنه من الضروري أن نوضح الأسباب التي تدفع وسائل الاعلام ال تشويه الحقائق التاريخية أو الترويج لحقائق مشوهة. ومن خلال تتبعنا للعمل الاعلامي نجد أن وسائل الاعلام تعمد الى تشويه الحقائق للاسباب التالية:
لماذا تشوه الحقائق في وسائل الاعلام.
1- الأمن القومي والأسرار العسكرية
تحاول كل دولة أن تمنع كل ما من شأنه أن يزعزع أمنها القومي كالدعوة الى الحروب أو إثارة القلاقل وكذلك الحيلولة دون إفشاء أسرارها العسكرية التي يمكن أن يستغلها العدو أو التي تظهر سلوكيات غير إنسانية. من ذلك نجد أن الحقائق المتعلقة بالحروب وأسرار الأسلحة أكثر عرضة للتشويه وللتزييف من غيرها. وقد ازداد تشويه الحقائق المتعلقة بالحروب من قبل وسائل الاعلام في القرن العشرين وذلك لقدرة هذه الوسائل عل تغطية مجريات هذه الحروب أولا بأول. وبالتالي، فإن الذكر المجرد للوقائع التاريخية قد يؤدي الى كشف الأسرار العسكرية أو يثبط من همة الجنود أو يعرض أمن الدولة للخطر.
لقد حاولت الحكومة الأمريكية كبح جماح وسائل الاعلام في أوقات الأزمات لضمان أمنها وأسرارها العسكرية. ففي الحربين العالميتين سنت قانونا Seditious Libe يمنع وسائل الاعلام من الدعوة للحرب أو التشهير بذلك أو النزوع لوجهات نظر تخالف وجهة النظر الحكومية. وفي حرب الخليج عام 1991 شددت الرقابة على الصحفيين لضمان الشي ء نفسه.
من الجانب الأخر، تكثر في أوقات الحروب والأن مات الممارسات العسكرية غير الانسانية التي تتنافى مع المواثيق والأعراف الدولية مثل الهجوم على المدنيين وضرب الأهداف المدنية. وتحاول الكثير من الدول أن تخفي الحقائق إذا ما اقترفت قواتها أي عمل غير إنساني. فقد حاولت وسائل الاعلام الصربية إخفاء حقيقة المقابر الجماعية التي دفن فيها الألان من الأبرياء المدنيين المسلمين. وحاولت القيادة العسكرية الامريكية اخفاء حقيقة ضربها لأهداف مدنية في العراق فها هو الجنرال كولين باول يقول "إننا مهتمون بشدة بما يقع من أضرار، واضعين في الاعتبار تجنب قتل أو جرح المدنيين. أو التعرض للأماكن الثقافية والاسلامية في المنطقة "
(MacArthur, 2991, p.68 ولكن بعدما علم الناس بضرب القوات الأمريكية لمواقع مدنية عراقية حاولت القيادة العسكرية الأمريكية إخفاء هذه الحقيقة والتماس الحجج كزعم الجنرال نورهان شوارزكوف أن العراق أخفى أسلحة عسكرية في أماكن مدنية.
2- آهداف دعاتية
الدعاية كما يعرفها والتر ليبمان هي التأثير على نفوس الجماهير والتحكم في سلوكهم لأغراض مشكوك فيها وذلك بالنسبة لجمهور معين في زمن معين. وتقوم الدعاية على التهويل والمبالغة وتحريف الحقائق. وهي تستغل سذاجة الجماهير وتؤثر في غرائزها وعواطفها في محاولة لتعطيل العقل عن إدراك الحقيقة.
إن من بين الأمثلة على تشويه الاعلام للحقائق لأغراض دعائية هو ما يصر عليه الاعلام اليهودي من أن النازية الألمانية قتلت الملايين من اليهود أيام الحرب العالمية الثانية. ويركز الاعلام على مثل هذا التلفيق لكسب التعاطف العالمي حيال القضايا اليهودية. ولكن العقل قد يرفض تصديق قصة إحراق ستة ملايين يهودي في فترة واحدة لأن الأسئلة التي تدور حول هذه القضية قد لا توجد لها إجابة حقيقية. فعلى سبيل المثال، هل كان يوجد ستة ملايين يهودي في ألمانيا في تلك الفترة، وان وجدوا، هل كانوا يتركزون في منطقة واحدة حتى يسهل على هتلر إحراقهم ؟ وهل كانت توجد أفران غاز – على حد ن عم الاعلام اليهودي- في ألمانيا في ذلك الوقت أم في أن أفران الغاز وجدت فقط أيام الحكومات الاشتراكية في ألمانيا الشرقية ؟
ومن بين الأمثلة الأخرى على تشويه الحقائق لأغراض دعائية هو ما رددته وسائل الاعلام العالمية من أن العراق يمثل القوة الرابعة في العالم متخطية بذلك الترتيب الحقيقي لمران ين القوى في العالم. لقد كان الهدف من هذا التشويه تعبئة الرأي العام العالمي ضد العراق بعد غزوه للكويت ومع إعطاء قوات التحالف الشرعية لضرب العراق بيد من حديد لأنه بقوته الكبيرة قد يمثل خطرا على أمن المنطقة:
3- تحقيق منفعة مادية
تسعي وسائل الاعلام أحيانا الى تشويه الحقائق أو الترويج لحقائق مشوهة من أجل تحقيق منفعة مادية. فعلى سبيل المثال روجت مجلة شتيرن الألمانية في عام 1983 لما سمي بمذكرات هتلر الى أن أعلن في بلاغ رسمي من ألمانيا الغربية أن هذه المذكرات مزورة. كان يكفي للمجلة أن تعرف أن هتلر لم يكتب مذكرات ولكنه خطب أمام الجمهور، وأن الكثيرين من المقربين اليه يثبتون بحرق معظم الوثائق (عبده، 1989: ص 31).
إن الترويج للحقائق المشوهة يأتي من قبيل جذب الجمهور الى الاقبال على الوسيلة الاعلامية وبالتالي زيادة مبيعاتها وتحقيق الربح. ويتحقق هذا الهدف بصورة خاصة عندما يرتبط بقضية تتسم بالاثارة بسبب اختلاف الناس على الحقيقة أو لكون الموضوع يحظى باهتمام كبير من الجمهور.
4- طبيعة العمل الاعلامي
تمثل طبيعة العمل الاعلامي السبب الرابع لتشويه الحقائق الاعلامية. فاخراج حقيقة تاريخية في شكل فيلم تاريخي أو وثائقي يتطلب معالجة دراسية معينة أو تمثيلا تقريبيا للحادثة الحقيقية أو اغفالا لفترات تاريخية معينة. وفي أحيان كثيرة، يتطلب العمل الاعلامي إعمال الخيال وادخال بعض الجوانب الانسانية التي تثير اهتمام المشاهدين وتستحوذ على اهتمامهم. ولكن على الرغم من ذلك يجب أن يلتزم الاعلاميون بصلب الحقائق عند معالجتهم لمادة تاريخية. وللتأكد من صحة توثيق الحقائق التاريخية إعلاميا أوجدت في الكثير من الدول هيئات رقابية لتحقيق ذلك. فعلى سبيل المثال، تشرف جامعة الأزهر بمصر على النصوص والمواد التي تتصل بوقائع تاريخية واسلامية يراد توثيقها إعلاميا.
إن من بين الأمثلة على تشويه بعض الحقائق بسبب طبيعة العمل الاعلامي هو فيلم "ناصر 56" الذي كتبه محفوظ عبدالحميد وأخرجه محمد فاضل وقام بدور البطولة فيه أحمد زكي. تدور قصة هذا الفيلم حول فترة تاريخية – عام 1956- من كفاح الرئيس المصري الراحل جمال عبدا لناصر، وهي الفترة التي رفض فيها البنك الدولي تمويل السد العالي وأممت فيها قناة السويس وحدث فيها العدوان الثلاثي على مصر بسبب ذلك التأميم. وعلى الرغم من أن المخرج محمد فاضل حاول جاهدا أن يكون إنتاجه مطابقا للحقيقة كتصوير الفيلم بالأبيض والأسود واستخدام الديكورات السائدة في تلك الفترة والاعتماد على شخصيات تحمل نفس ملامح الشخصيات الواقعية بواسطة المكياج واختيار ممثل بارع كأحمد زكي ليتقمص شخصية عبد الناصر، على الرغم من كل ذلك إلا أن الفيلم لم يخل من لمسات خيالية. فقد أضيفت الى المعلومات الحقيقية مشاهد غير واقعية مثل مشهد اقتحام موظف سابق بقناة السويس لموكب الرئيس جمال عبد الناصر يشكو له من قيام الإدارة الأجنبية بالقناة بفصله من عمله، ومشهد أخر يمثل سيدة عجوزا وهي تصر على مقابلة الرئيس لتسليمه ملابس فلاح مجند كانت قد نذرت بها لمن يرد اعتبار الجندي، وكانت ترى في قرارة نفسها أن الرئيس عبد الناصر هو من رد اعتبار هذا الجندي (الحسن، سبتمبر 1996ص 74).
من الجانب الآخر، نجد أن تسجيل الاعلام للوقائع التاريخية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مطابقا للحقيقة بصورة قطعية. فالكاميرا الثابتة مثلا لا تنقل إلا جزءا من الحقيقة المرئية لا تتعدى أن تكون تلك المطبوعة على الفيلم، والكاميرا التليفزيونية لا يمكنها أن تنقل أيضا إلا ما أراد المصور لها أن تنقله وتسمح ظروف العمل التليفزيوني بذلك.
بعد هذا العرض لدور المؤرخ ودور الصحفي وتوضيح بعض الجوانب التي يمكن أن يلتقي معها الاعلام بالتاريخ، هل يمكن تحديد طبيعة العلاقة القائمة بينهما. فهل يمكن أن يكون التاريخ مادة إعلامية ؟ وهل يمكن أن يكون الاعلام مصدرا للتاريخ ؟ في هذه السطور سنحاول الاجابة على هذين السؤالين.
التاريخ كمادة إعلامية
عندما ننظر الى التاريخ كمادة اعلامية أو صحفية فإننا نقصد بذلك أن يكتسب التاريخ شكلا اعلاميا أو صحفيا كأن نوجد عمودا أو بابا يعني بالتاريخ في صحيفة أو نوجد مجلة تعني بشؤون التاريخ أو ننتج مسلسلا اذاعيا تاريخيا أو فيلما سينمائيا أو فيلما وثائقيا لحادثة تاريخية معينة. باختصار أن نطوع المادة التاريخية التي بين أيدينا في قالب إعلامي.
وتعد الأفلام التاريخية والأفلام الوثائقية التي تحكي سير شخصيات أو حوادث تاريخية معينة أكبر دليل على إمكانية اعتبار التاريخ كمادة إعلامية. فهذه النوعية من البرامج تعتمد على التاريخ المكتوب أو المنقول أو المستنبط والذي يروي قصة حادثة أو شخصية تاريخية في الماضي. والاعلام بتوثيقه لهذه الحوادث والشخصيات يضيف مصدرا جديد للتاريخ. فمن طريق الأفلام التاريخيه استطعنا أن نبني في مخيلتنا صورة عن شخصية "عمر المختار" و"الناصر صلاح الدين " و"ناصر 56" وعن طريقها أيضا تصورنا حوادث تاريخية معينة.كقصة كفاح المسلمين ضد المشركين كما في فيلمي "الرسالة " و"محمد رسول الله ".
وتجدر الاشارة مرة أخرى ال أن الأفلام التاريخية على الرغم من أنه قصد بها توثيق التاريخ إلا أن مبدأ الانتقائية قد يحول دون تحقيقها لذلك. فمجمل المادة التاريخية في هذه الأفلام انتقاها المؤلف أو الكاتب أو المخرج لتتناسب مع الهدف النهائي من انتاجها.
وبصورة عامة، يمكن أن يكون التاريخ مادة اعلامية، ولكن معالجة الاعلامي للتاريخ تختلف عن معالجة المؤرخ لها. حيث يسود مبدأ الانتقائية للحس ادث والشخصيات التاريخية عند الاعلاميين، بينما تقل عند المؤرخين، ويرجع السب في ذلك _ إذا استثنينا الحرية – الى طبيعة العمل الاعلامي كما ذكر في فيلم "ناصر 56". وهذا يقودنا الى الحديث عن امكانية اعتبار الاعلام مصدرا للتاريخ.
الاعلام كمصدر وللتاريخ
استخدمت كلمة "الصحافة " في كتب الاعلام القديمة لتشمل كل وسائل الاعلام المطبوعة منها والمسموعة والمرئية أيضا. واليوم يشيع استخدام كلمة "الاعلام " لتدل على الوسائل نفسها ولو أنه قد يقفز الى مخيلتنا الوسائل المسموعة والمرئية كما تقفز الوسائل المطبوعة عند استخدامنا "للصحافة "، من ذلك ندرك أن المقصود بالاعلام هنا جميع الوسائل من صحف ومجلات وإذاعة وتليفزيون. وبحكم الدور الذي تلعبه هذه الوسائل في المجتمع من تسجيل الحوادث البشرية فإنه يصح لنا القول بأن الاعلام يعد مصدرا للتاريخ ولكنه ليس مصدرا وحيدا أو سهلا كما سيأتي ذكر ذلك. ولا أدل على أهمية وسائل الاعلام كمصدر للتاريخ من قول الدكتور جلبرت أستاذ التاريخ اليوناني بجامعة أكسفورد في منتصف القرن العشرين (محمد سيد، 1985: ص 17).
لو كان لليونان صحف، ولو أن صحفية واحدة ولو حتى صفحة واحدة من صحيفة وصلت الى أيدينا لكانت معرفتنا بالتاريخ اليوناني أكثر حيوية وأعظم مما هي عليه الآن.
ولكن كيف يمكن أن يكون الاعلام مصدرا للتاريخ ؟ تعمل وسائل الاعلام على توثيق ما يجري في حياة الناس من حوادث يومية أو أسبوعية أو شهرية أو حتى في كل ساعة من زمن اليوم الواحد. ثم تتراكم هذه الوثائق والمعلومات المرتبطة بحادثة أو شخصية ما. وربما تقوم أكثر من وسيلة في مجتمع واحد أو في عدة مجتمعات بتوثيق نفس الحدث. فإذا أردنا بعد ذلك أن نتتبع أو نسجل تاريخ تلك الحادثة أو الشخصية فإننا نرجع الى ما كتب أو نشر عنها في وسائل الاعلام. ولابد أن تكون الحادثة قد انتهت ولا تشهد تطورات جديدة إذا أردنا أن نعتمد على وسائل الاعلام لتأريخها.
أما القول بأن الاعلام ليس مصدرا سهلا للتاريخ فهذا راجع الى مجموعة المحاذير التي على المؤرخ أن يتنبه لها عند توثيقه للحوادث والشخصيات من وسائل الاعلام. ومن أهم هذه المحاذير ما يلي:
1- أن يبحث المؤرخ عن المعلومات المتعلقة بنفس الحادثة الشخصية في أكثر من وسيلة إعلامية في نفس المجتمع. وهذه العملية تتحقق بصورة خاصة في المجتمعات التي تسمح بقدر كبير من حرية وسائل الاعلام. وهي تفيد في تفنيد المعلومات ومعرفة الصحيح منها من الزائف ذلك أنه يفترض من وسائل الاعلام في هذه المجتمعات أن تنشر وجهات النظر المتباينة. أما المجتمعات التي تسمح بقدر يسير من حرية الرأي والتعبير فإنه يسود بها وجهة النظر الواحدة أو الصوت الواحد، الأمر الذي قد يجعل ما تسجله وسائل الاعلام مغايرا للحقيقة. لذلك فإن على المؤرخ في هذه الحالة أن يبحث في وسائل الاعلام الموجودة في المجتمعات الأخرى والتي سجلت الحدث نفسه. بصورة عامة على المؤرخ الذي يعتمد على وسائل الاعلام كمصدر للتاريخ أن يبحث في أكثر من وسيلة اعلامية وفي أكثر من مجتمع لضمان الوصول الى الحقيقة التاريخية بأقصى قدر ممكن.
2- على المؤرخ أن يضع في الاعتبار أن عدم ذكر وسائل الاعلام في مجتمع ما لحادثة أو شخصية معينة لا يعني بالضرورة عدم وجود تلك الحادثة أو عدم وجود تلك الشخصية. ذلك لأن ما ينشو وما لا ينشر في وسائل الاعلام تحكمه عدة اعتبارات منها الرقابة المفروضة على وسائل الاعلام، والمساحة المتوافرة في وسائل الاعلام المطبوعة أو الزمن في حالة الوسائل المسموعة والمرئية، ووجود الصحفي من عدمه وقت وقوع الحدث بالاضافة الى قضية التعتيم الاعلامي أي حجب المعلومات بصورة مقصودة.
3- على المؤرخ أن يرجع علل وأسباب الحوادث التاريخية التي يبحث عنها من وسائل الاعلام الى فتراتها الزمنية التي وقعت فيها. فعلى المؤرخ للحرب العراقية / الايرانية التي دامت ثماني سنوات أن يرد علل وأسباب حوادث تلك الحرب الى النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
وتساعد وسائل الاعلام وبصقة خاصة المطبوعة من خلال تسجيلها للحوادث التاريخية في كشف حقيقة أو زيف هذه الحوادث. فقد استطاع فلنج أستاذ التاريخ الأوروبي بجامعة نبراسكا الأمريكية أن يكتشف زيف مذكرات بابي عمدة باريس وأول رئيس للجمعية الوطنية أيام الثورة الفرنسية باعتماده على ثلاث صحف باريسية هي اليران دي جور، الكورييه دي برو فنس والريفوليسيون دي باري التي كانت تصدر في سنة 1789. فقد نشرت هذه المذكرات لأول مرة عام 1804 وأعيد طبعها مرة أخرى عام 1822، ووجد خلنج أن فقرات هذه المذكرات لم تتعد أن تكون مقتطفات مما نشو في الصحف الثلاث السابقة الذكر مع تعديل بسيط كتغيير ضمير الغائب الى ضمير المتكلم ( عثمان، 1980: ص 85).
خاتمة
لقد ساهمت وسائل الاعلام في تعريف الشعوب بعضها ببعض من خلال ما تتناقله من أخبار وحوادث. وأصبح الرجوع الى وسائل الاعلام عند التأريخ لحادثة أو شخصية معينة أمرا ضمر وريا في كثير من الأحيان خاصة في عصرنا الحالي وذلك لقدرة هذه الوسائل على تسجيل ما يجري من حوادث في العالم بشكل مستمر. ولم يعد أيضا يقتصر الاعتماد على وسائل الاعلام التي تصدر في حدود دولة ما كمصدر لتدوين حادثة أو شخصية بعينها، بل يتعداها الى الاعتماد على وسائل الاعلام التي تصدر في دول أخرى وذلك بحكم تطور تكنولوجيا الاتصال والاعلام التي تمكن من تسجيل الحدث في أي مكان. والحقيقة القائلة أن وسائل الاعلام ليست مصدرا سهلا أو وحيدا للتاريخ ينبغي الا تفارق المؤرخ، ولكن عليه أيضا الا يهمل استخدام هذا المصدر كلية. وفي عملية تتصف بالتبادل يتخذ الاعلام من التاريخ مادة لصفحاته وبرامجه المختلفة. وبهذا يمكن القول أن الاعلام والتاريخ يرتبطان ببعضهما بعلاقة تبادلية تتمثل في الأخذ والعطاء.
المراجع:
1- الحسن ،عصام (ستمبر 1996) . " ناصر 56 وثائق تاريخية للأمة العربية" . مجلة السراج. ص 74-75 .
2- عازار ، ظافر هنري (1983) . نظرة على السينما العالمية المعاصرة. بيروت لبنان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
3- عبده ، سمير (1989) . صناعة تزييف التاريخ .دمشق ، سوريا: دار الكتاب العربي.
4- عثمان ، حسن. (1980) . منهج البحث التاريخي. القاهرة ، مصر: دار المعارف.
5- العوف ، بشير. (1987). الصحافة تاريخا وتطورا وفنا ومسؤولية . بيروت لبنان: المكتب الاسلامي.
6- محمد سيد ، محمد (1985) . الصحافة بين التاريخ والأدب. القاهرة : مصر . دار الفكر العربي.
7- Kellener D. (1992) . The Persian Gulf TV War. Oxford, U.K: Westview Press.
8- MacArthur, J. (1992) Second Front: New York, NY: Hall and Wang.
9- Roscho, Bernard. Newsmaking. IL, Chicago: The University of Chicago Press.
10- Rowse, Arthur E. (Sep./ Oct. 1992. “How to Build Support for War.” Columbia Journalism Review.p. 27-34.
11- Tayor, p. (1992) . War and the Media Propagande and Pwrsuation in the Gulf War. Manchester, UK. Manchester University Press.
عبيد الشقصي (مدرس مساعد قسم الصحافة)