محمود شقير
(1)
لم ألتقِ غالب هلسا ولم نتعارف ربّما بسبب مفارقات الجغرافيا وافتراق الأزمنة، لكنّني عرفته من خلال رواياته وترجماته ومقالاته السياسية والفكرية، وتقاطعت سبُلنا من على البعد في أكثر من موقع ومناسبة.
كان قد انتمى للحزب الشيوعي الأردني وهو طالب في المدرسة الثانوية في عمّان أوائل خمسينيات القرن العشرين، وكنت انتميت للحزب نفسه أواسط ستينيات القرن العشرين في القدس؛ حين كانت القدس والضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وكان فارق العمر بيني وبين غالب تسع سنوات.
وقد شهدتْ عمّان في الخمسينيات حراكاً اجتماعيّاً ونشاطاً سياسيّاً للأحزاب استوجبته ضرورات التطور الاجتماعي والانتقال من طور البداوة إلى طور الزراعة والتجارة، وآنذاك توحّدت الخلايا الماركسية في الأردن مع من تبقّى من كوادر عصبة التحرر الوطني في الضفة الغربية إثر النكبة الكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني عام 1948؛ وتَشكّل من ذلك الحزبُ الشيوعي الأردني الذي اجتذب غالب هلسا إلى عضويته؛ ما عرّضه لدخول السجن، واجتذبني الحزبُ إلى عضويته ولم يجرِ اعتقالي في حملة الاعتقالات التي طالت الشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب عام 1966؛ ربّما لأنّني لم أكن معروفاً لدى دوائر الأمن آنذاك.
ولم يلبث غالب أن غادر الأردن إلى لبنان للدراسة في الجامعة الأمريكية، ثم إلى مصر التي عاش فيها اثنتين وعشرين سنة كانت بالغة التأثير على تجربته الروائية؛ بالغة الوضوح في هذه التجربة.
حين جئت إلى بيروت مبعَداً من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1975 لم يكن غالب قد عاد إلى بيروت من بغداد التي عاش فيها ثلاث سنوات، ثم حين نُقل جثمانه من دمشق إلى الأردن عام 1989 ليُدفَن في مكانه الأول الذي ظل حاضراً في نتاجاته الأدبية، كنتُ غادرت عمّان إلى براغ عام 1987 ولم أعد إليها إلّا في عام 1990.
مع ذلك؛ كان غالب حاضراً في الندوات الثقافية التي كانت تنظّمها رابطة الكتاب الأردنيين، وقد تشرّفت بتكريم الرابطة لي في ملتقى السرد العربي الأول الذي انعقد في المركز الثقافي الملكي في عمّان عام 2008 وحمل اسم الأديب غالب هلسا.
(2)
قبل هذا التكريم كنت كتبت مقدّمة لكتاب «البدايات»، وهو سيرة د. يعقوب زيّادين الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني لعدد من السنين، أثنيتُ فيها على الجوانب النضالية التي اشتمل عليها الكتاب. كنت آنذاك ما زلت ملتزماً بالفهم المدرسي للواقعية الاشتراكية الذي شاع في الدراسات النقدية لبعض المثقفين من الماركسيّين العرب، وتعزّز هذا الفهم بعد ظهور كتاب «في الثقافة المصرية» الذي ألفه المفكران الماركسيان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس.
وحين قرأ غالب هلسا كتاب زيادين قدّم قراءة نقدية له ووجد فيه «فهماً جديداً للواقعية الاشتراكية»، وأظهر؛ وهو محقٌّ في ذلك، اختلافه معي حول ما ذكرته في المقدّمة، وبدلاً من ذلك نبّه القرّاء إلى الجوانب الفنية والإبداعية في الكتاب التي أغفلتُها من دون قصد. كان غالب يؤكد بذلك رفضه للفهم المدرسي للواقعية الاشتراكية ويبدي انسجاماً مع نفسه ومع تمرّده على القوالب الجامدة، التي تجاوزها محمود أمين العالم نفسه فيما بعد حين راح ينظر للواقعية الاشتراكية من منظور أرحب وأكثر عمقاً.
(3)
منذ أعماله الأدبية التي تصف البيئة الأردنية في نواحي مأدبا؛ وفي قرية ماعين تحديداً حيث وُلد، وفي عمّان حيث امتد حضوره للتحصيل العلمي في مدرسة المطران، تبدّت موهبة غالب وقدرته على تجسيد أدقّ التفاصيل في البيئة التي يرصدها، وكانت تروقني الشخصيات ذات المنشأ البدوي التي تحدّث عنها في مجموعتيه القصصيّتين «وديع والقديسة هيلانة» و«زنوج وبدو وفلاحون»، وفي روايتيه «البكاء على الأطلال» و«سلطانة».
وأثار اهتمامي رصدُه لبدايات تفتّح وعيه وانعطافه نحو فكر اليسار من خلال شخصية «جريس» في رواية «سلطانة»؛ ثم من خلال رواياته التي تأثرت بالبيئة المصرية، وأبرزت تفاعله مع تلك البيئة ومع أفكار اليسار الماركسي التي عبّر عنها وعن بعض رموزها في روايته المتميزة «الروائيون»؛ وهي آخر رواياته، وفيها متابعة لتأثير هزيمة حزيران 1967 على شخوص الرواية الخارجين للتوّ من السجون المصرية آنذاك.
وقد راقني وأنا أتابع كل ما له علاقة بغالب هلسا، مسلسل «سلطانة»، الذي أخرجه الأردني إياد الخزوز، وكتب له السيناريو والحوار غسان نزّال، الذي جمع رواية «سلطانة» إلى المجموعتين القصصيّتين سالفتيّ الذكر وأنتج منهما نصّاً رصيناً لمسلسل جدير بإبداعات غالب وبتجسيده للبيئة الأردنية وللعلاقات الاجتماعية التي سادت فيها في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وخصوصاً بين البدو والفلاحين من سكان القرى، ثم دخول الفلسطينيين وبعض أهل الشام إلى عمّان، وانتعاش النشاط التجاري والاقتصادي والسياسي والثقافي في العاصمة الأردنية، وانعكاس ذلك ليس فقط على الجيل الجديد من الشباب، بل كذلك على النساء وعلى فئات اجتماعية أخرى هجرت الريف والتحقت بالمدينة بحثاً عن عمل وعن سبل مضمونة لتحصيل الرزق.
(4)
أنجز الباحث الأردني نعيم محمود نعيم دراسة نشرها في كتابه «القبيلة والنص.. تحولات البداوة في الرواية العربية» (وزارة الثقافة الأردنية، 2019)، تناول فيه ظاهرة تحوّلات البداوة في الرواية العربية بالدرس والتحليل، وذلك من خلال تناول نماذج روائية تعرّضتْ بشكل مباشر لموضوعة التحوّلات، وجعلت منها متناً رئيساً طغى عليها؛ وهي: رواية «زنوج وبدو وفلاحون» (قصص مدرجة ضمن سياق روائي) لغالب هلسا، ورواية «فرس العائلة» لمحمود شقير، ورواية «الفاعل» للكاتب المصري حمدي أبو جليّل، ورواية «فخاخ الرائحة» للكاتب السعودي يوسف المحيميد.
وقال الباحث إن كتابه يسعى إلى دراسة التحوّلات التي طرأت على البداوة نتيجة تعرّضها لصدمة الحداثة التي تمثّلت بالدولة الحديثة والمظاهر المتفرعة عنها. وأضاف أن السؤال الرئيس الذي يحاول الإجابة عليه هو: هل من الممكن تأسيس رواية تعتمد البداوة بنيةً نصيّة بدلاً من المدينة التي تُعد بمثابة البنية شبه الثابتة للرواية؟
أمّا الزاوية الثانية التي حاول الباحث إضاءتها، فتتعلّق بقدرة هذه الروايات على طرح قضية التحوّلات بجرأة ترتبط بذكر أدق التفاصيل التي طرأت على الشخصية البدوية، وبشكل قادر على استيعاب هذه التحوّلات وتأثيرها في البداوة على الصعيدين السلوكي والباطني الذي يمس روح البداوة.
وخلص الباحث في النهاية إلى استجابة الروايات الأربع لأسئلته ولكل ما قصد إليه البحث الذي أنشأه اعتماداً على هذه الروايات.
(5)
احتفى غالب هلسا في أدبه بالأمكنة التي عاش فيها؛ حيث نرى وصفاً مفصَّلاً لحياة قريته البدوية وما تزخر به من تجارب لنماذج بشرية جسّدها على نحو مدهش في رواية «سلطانة»، التي نلمح فيها سيرة غالب نفسه من خلال بطلها «جاسر»؛ في فترة طفولته ومراهقته وصولاً إلى إنهائه مرحلة الدراسة الثانوية في عمّان؛ وفيها نلمس رغبته في الانفصال عن القرية منذ أن استوعب أجواء العاصمة التي كانت تعجّ بأصناف من البشر، ومن رجال السياسة خاصةً الشيوعيين الذين اجتذبوه إلى حزبهم.
من أبرز النماذج التي حفلت بها الرواية:
«نجمة» (أمّ جريس) التي أفرد لها غالب حيّزاً غير قليل في الرواية، وأمّه الثانية «آمنة»؛ المرأة الجميلة الفاتنة التي غاب زوجها ولم يعد، وظلت محطّ إعجاب أهل القرية، وهي التي أرضعت «جريس» في طفولته وأصبح أخاً في الرضاعة لابنتها الوحيدة «سمحة». ثم «سلطانة»، وهي الشخصية الرئيسة في الرواية التي ربطتها علاقة عاطفية بـ»جريس»، وكانت تتصرّف على هواها مع رجال القرية ومع غيرهم في ما بعد في عمّان، وابنتها «أميرة» التي سارت على المنوال نفسه الذي سارت عليه أمّها، و»صليبا» الذي زوّجته أمه وهو صغير لكي يكون لها أحفاد، ثم حينما أدرك طبيعة العلاقة الحميمة مع النساء صار متهتّكاً، وأقام علاقة مع «سلطانة» ومع غيرها، ثم ترهبنَ وأصبح رجل دين.
وفي الرواية نلتقي شخصية «عامر» الفلسطيني، ابن الخليل، الذي فرّ من وجه قوات الانتداب البريطاني، وجاء إلى القرية الأردنية وتزوّج واحدة من نسائها، وصار يهرّب الأسلحة إلى الثوار في فلسطين.
وحين يتطرّق غالب هلسا إلى أجواء عمّان، فهو يصفها بدقة وبراعة، ويسلّط الضوء على التطورات الاجتماعية والاقتصادية الناشئة فيها، وعلى نماذج بشرية انتهازية من أمثال «طعمة» الشيوعي القادم من القدس، الذي جمّد الحزبُ عضويته فيه، وصديقه النائب في البرلمان المتورّط في سلوكيّات فاجرة.
بنى غالب هلسا هذه النماذج البشرية استناداً إلى قراءاته في علم النفس، وإلى مراقبته لسلوك الناس حوله واستيعابه لهذا السلوك ولتجلّياته المختلفة، وخروجه باستنتاجات صائبة وظّفها باقتدار في نصوصه الروائية؛ مثال ذلك، العلاقة الأوديبية التي ربطت «جريس» بأمّه الثانية «آمنة»؛ أو على رأي غالب بطل رواية «الخماسين»: دع اللاوعي يقوم بدوره.
ثم إنّ وصف الأمكنة يتكرّر في روايته «ثلاثة وجوه لبغداد»، حيث بطل الرواية هو غالب هلسا نفسه باسمه الصريح، وفيها متابعة لأيّامه في بغداد بعد ترحيله من القاهرة.
ويتكرّر ذلك في روايته الأخيرة «الروائيون»، حيث تفاصيل المكان المرصودة بعمق وإتقان، وحيث أصدقاؤه الشيوعيون الذين كان معهم في السجن في الأشهُر التي سبقت هزيمة حزيران 1967؛ مستنداً إلى موهبته وإلى ثقافته الواسعة، ومتأثراً بكتاب «غاستون باشلار» الذي ترجمه غالب بعنوان «جماليات المكان»؛ وجرى التأكيد فيه على أهمية بيت الطفولة بالنسبة للفرد، والعودة إليه كلّما اقتضت ذلك الضرورات النفسية والعاطفية؛ وهو الأثر الذي نراه في عدد من روايات غالب حيث تأخذه الذاكرة إلى مكانه الأول في الأردن وإلى بيت طفولته هناك.
(6)
أخيراً؛ كان بعض رفاقي الأردنيين وأصدقائي من الكتّاب ممن عرفوا غالب يتحدثون عن مزاياه وعن اتساع ثقافته وأصالة موهبته وجرأته وشجاعته، وعن دماثة خلقه ورهافة مشاعره، ونزوعه منذ بداياته الأولى إلى التجريب الفني الحداثي، وإلى التمرّد على الأشكال الأدبية التقليديّة في القصة والرواية.
وكنت وما زلت أواصل الاهتمام بتراث غالب هلسا الذي سيظل منارة مضيئة لي ولغيري من المثقفين ومن الناس أينما كانوا. فقد كان غالب علماً بارزاً من أعلام الثقافة العربية، وسيظلّ اسمه عالياً في سماء هذه الثقافة بما تركه لنا من إرث أدبي ومعرفي مرموق.