بالرغم من الجهد الواضح الذي بذل من قبل الدكتور الغذامي للتخلص من هيمنة النسق وفضح مكنوناته, إلا أنه وضمن فضحه أسس لنسق جديد, وكرر أخطاء الأنساق السابقة التي ينتقدها, وكأنه محكوم بملازمتها وعدم الفكاك منها. لأن النسق حسب إدعاء الغذامي بنية »لاشعورية« ضمن »المضمر« وتمثل »جوهر الخطاب«, ويمارسها الكاتب والمبدع دون وعي منه لأنها حاكمة عليه ومتشربة في ذهنه ولا شعوره. فالغذامي أسس لنسق جديد أدى إلى »النقدنة«, و »النقدانوية« – إن صح التعبير- أي: وضع النقد في سياق قهري يتماشى وأطروحته الذاتية وبنيته التفكيرية التي يصبو إليها, من خلال إخضاع النصوص لتصورات مسبقة وأفكار راح يبحث عما يؤيدها في كتب التراث والشعر والسرد العربي, وتعامل معها بحرفية جامدة جدا أدت لنصوصية قاتلة وجامدة, »وهو استناد نصي لا جدلي يتصيده الغذامي كمقولات أو مسلمات لا تحتاج إلى نبش ولا إلى تدليل« (1). كاستناده لعبد القاهر الجرجاني في نقده لحداثة أبي تمام(2) .
ويمكن إيجاز الثغرات التي وقع فيها النقد الثقافي للغذامي في التالي:
الاختزال المفرط للحراك الاجتماعي. ونقصد به إرجاع أسباب تقهقر الذات العربية إلى كونها ذاتا »متشعرنة« خاضعة للشعر, واعتباره أن الشعر هو من صنع النسق الرجعي الفحولي, بوصفه العامل الرئيسي والهام. يقول الغذامي: » في الشعر العربي جمال وأي جمال, ولكنه ينطوي أيضا على عيوب نسقية خطيرة جدا, نزعم أنها كانت السبب وراء عيوب الشخصية العربية ذاتها, فشخصية الشحاذ والكذاب والمنافق والطماع, وشخصية الفرد المتفرد فحل الفحول ذي »الأنا« المتضخمة النافية للآخر, هي من السمات المترسخة في الخطاب الشعري,ومنه تسربت للخطابات الأخرى, ومن ثم صارت نموذجا سلوكيا ثقافيا يعاد إنتاجه بما أنه نسق منغرس في الوجدان الثقافي, مما ربى صورة الطاغية الأوحد (فحل الفحول«) (3). والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمتلك الشعر كل هذه المقدرة على صياغة ذات بل ذوات متنوعة لمجتمعات عربية بأكملها? وهل له هذه القدرة العجيبة على التأثير في النفس العربية بحيث يغدو نصا مقدسا يفوق النصوص الإلهية المقدسة بل الجيوش المجهزة تأثيرا وقوة?.
كما أنه من الضروري أن نعي مسألة هامة للغاية وهي من أين أتى الشعر? هل هو وليد فراغ وصدفة? أم هو نتاج لفكر اجتماعي وصدى لسلوك حياتي يومي, وأفكار متنوعة تتناولها الناس وتحياها ضمن معيشتها?.
إن دراسة تأثير الشعر في الذات العربية, من الضروري أن ي قرأ ضمن صيرورة وتطور فكر المجتمع الذي ينمو فيه, وضمن العوامل البيئية المختلفة المؤثرة عليه, والتي شكلت ولونت الشعر وليس العكس. ولو افترضنا وهذا أمر حاصل وموضوعي أن الشعر كان سمة أساسية في الحياة العربية خاصة في العصر الجاهلي فذلك عائد لكون ذلك المجتمع » مليط« بحسب تعبير خليل عبد الكريم الذي يرى أن » المجتمع البدائي مليط من الأنشطة الرياضية والفنية والأدبية التي تشغل أوقات فراغ أعضائه « (4) فيشغل أعضاؤه فراغهم في أمرين رئيسيين: التماس الجنسي مع المرأة – حسب رأي خليل عبد الكريم – والقول أو الحكي المتمثل في السرد والشعر. إذن فالشعر نتيجة طبيعية لبنية ثقافية ضعيفة أتى تبعا لها ولم تأت تبعا له.
التعميم: ويظهر ذلك جليا من الاتهام الموجه للشعر بمسؤوليته عن »اختراع الفحل« و»صناعة الطاغية«, واتهامه للمتنبي بأنه »شحاذ« ولأبي تمام » بوصفه شاعرا رجعيا« ونزار قباني بوصفه » الفحل الذي لا يرى أحدا«, ولأدونيس بوصفه صاحب خطاب »سحلاني لا عقلاني« ومؤسس »لحداثة رجعية«. إن هذا السيل من التعميمات يفقد الخطاب موضوعيته وعلميته, بالرغم من أهميته. فالباحث العلمي الدقيق يضع الأمور ضمن نصابها ويزن الأمور بميزان دقيق, ويعطي لكل حقه دون زيادة أو نقصان. نحن قد نتفق مع الغذامي لو أنه قال بأن هنالك جزءا من شعر نزار قباني ذا منزع فحولي, أو أن هناك قيما رجعية في شعر المتنبي. أما أن يرمي الشعر كله في سلة واحدة ودون تفريق بين مستوياته وتنويعاته فهذا أمر غير علمي وبعيد عن الموضعية. فأين نضع شعر المتنبي الذي يتناول فيه القيم الإنسانية وقيم الحكمة? وأين الغذامي من شعر نزار قباني الذي هجا فيه الأنساق العربية المتخلفة سياسيا واجتماعيا وطالب فيه بالعدل والحرية? هل هو نسق فحولي أيضا? أم كيف يمكننا تصنيفه?.
ويتجلى التعميم في أمر آخر هام وأخطر وهو اتهام الشعر العربي بأنه ي خفي »نسقا رجعيا« داخل بنيته الثقافية, وكأن الشعر العربي طوال القرون المنصرمة وحتى يومنا هذا كان على وتيرة واحدة أو ضمن سياق ونسق محدد لا يخرج عنه!. إنني أتساءل وبكل بساطة: هل شعر الصعاليك هو بالمستوى ذاته مع شعر المداحين? وأين من الممكن أن نصنف شعر: العبيد, والقرامطة, والمتصوفة, وشعر شعراء مثل دعبل الخزاعي والكميت بن زيد الأسدي, والشعر الأيديولوجي المتمثل في شعر المعارضة الشيعية للدولة الأموية وللنسق المهيمن طوال فترات الصراع الفكري بين الشيعة وخصومهم, وشعر العروبة والتيارات القومية واليسارية والمقاومة الشعبية! فهل نضع جميع هذا التنوع الشعري والفكري ضمن سلة واحدة ونصدر عليه حكما واحدا دون تفريق بين مستوياته وأنواعه المختلفة. يقول الناقد محمد العباس في هذا الصدد: »لقد تغافل الغذامي تقصدا وانتقاء عن موجات نسقية كانت تتشكل بصورة مضادة في نفس الحقبة التي رسم معالمها, إذ لم يبين مثلا كيف نجا أبو نواس من تلك النسقية, ربما لي ق ب ح الخطاب الشعري ويحمله كل أوزار وانحرافات الذات العربية وكأن الشاعر العربي يبدأ قصيدته من منطلق قيمي جمعي مهيمن وينتهي بها, رغم وجود شعر المحبين والعذريين والمتصوفين والمقهورين والمهمشين الذين يصعب على الغذامي أن يحشرهم ضمن قراءته النسقية التنميطية« (5). وكأن الغذامي وقع دون وعي منه في شهوة فضح النسق, لتعميه هذه الشهوة عن حقائق جلية لا يمكن لناقد جليل مثله ألا يتوقف عندها.
الرجم بالغيب: ويظهر ذلك من خلال الاتكاء على مقولات ظنية لا علمية, تفتقر للدليل العلمي أو السند المعرفي. فهو مثلا يعتبر أن ظ هور ديوان نزار قباني »طفولة نهد« كان الرد النسقي الفحولي على ظهور نازك الملائكة, وهذا حكم ظني يفتقر لأي دليل. فالقصائد في ديوان »طفولة نهد« كتبت من قبل وجمعت وطبعت وشاءت الصدف أن تتزامن مع ظهور نازك الملائكة وحركة الشعر الحر. كما أن اعتبار أدونيس فحلا شعريا, استنادا لتحول علي أحمد سعيد إلى أدونيس وهو » تحول له دلالته النسقية, حيث هو تحول من الفطري والشعبي إلى الطقوسي« (6), حسب تعبير الغذامي, هو أمر ظني أيضا لا دليل عليه, بل الدليل قائم على خلافه. والقصة المشهورة لتبديل الاسم من علي إلى أدونيس خير شاهد على ذلك, فتبديل الاسم لم يكن لهدف فحولي, بقدر ما كان من أجل أن ت نشر نصوص علي أحمد سعيد التي كان يرسلها باسمه الأصلي ولا تنشر, وبالتالي تنتفي أي دلالة فحولية ذكورية طقوسية للاسم. نعم قد تكون الدلالة أتت فيما بعد, بعد أن تكونت الذات الأدونيسية وتأسس لها خطابها وهيبتها وحضورها, وهذا أمر آخر.
الاتكاء على الديني مقابل الشعري: يورد الغذامي في كتابة الحديث الشريف التالي المنسوب للرسول (ص) والذي يقول فيه: » لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا« (7). ويعقب على هذا الحديث بقوله: »وهذا أول موقف مضاد للشعر, إذ إن ثقافة العصر الجاهلي ما كانت لتقف ضد الشعر, مما يجعل السؤال المضاد للشعر سؤالا إسلاميا من حيث المبدأ« (8).
إن هذا الموقف المتكئ دينيا قبال الشعر, لا يستند لفهم حقيقي للموقف الديني أو ما أسماه »السؤال الإسلامي«, حيث إننا لا نفهم أن الإسلام كدين يفترض نفسه كمنهج للحياة, ستكون لديه مواقف م سبقة أو قطعية ثبوتية تجاه فن من الفنون الراقية سواء كان الشعر أم غيره. والذي ي فهم من الحديث – على فرض صحته, وبغض النظر عن سنده – أن الموقف السلبي إنما هو موجه ضد الاستخدام السيئ للشعر, بقرينة أحاديث أخرى عديدة تمدح الشعر وتمجده, بل وتعارض ظاهر هذا الحديث. كما أنه يجب أن لا نقرأ الحديث بعيدا عن سياقه وظروفه, وفي أي ظرف أطلقه النبي (ص), لأن معرفة الظرف ستوضح لنا ملابسات الحديث. والسؤال الذي نوجهه للغذامي هو: لماذا لم يقرأ أو يورد الأحاديث المؤيدة للشعر? بالرغم من ضرورة إيرادها, لأنه من غير العلمي أن نقرأ الموقف النبوي قراءة مجتزأة انتقائية. فقد ورد عن الرسول (ص) قوله: » إن من الشعر حكمه« (9) وفي الحديث عن الرسول (ص) أنه قال لحسان بن ثابت: » اهجهم أو قال هاجمهم وجبريل معك« (10).
كما أن الغذامي في إتكائه على الديني استند للآيات القرآنية الكريمة الواردة في سورة الشعراء, وهي قوله تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون, ألم تر أنهم في كل واد يهيمون, وأنهم يقولون ما لا يفعلون, إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (11). وهنا نؤكد مرة ثانية على ضرورة قراءة هذا النص القرآني ضمن سياقه وعدم تحميله ما لا يطيق, خاصة وأن هذا النص ينطوي على الذم والمدح, والقاعدة والاستثناء. كما أنها لا تمثل موقفا مطلقا وسلبيا تجاه الشعراء, ولها سياق نزلت ضمن ظروفه. فقد جاء في تفسيرها عن ابن عباس أنه قال: » يريد شعراء المشركين وذكر مقاتل أسماءهم فقال منهم عبد الله بن الزعبرى السهمي وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وهبيرة بن أبي وهب المخزومي…تكلموا بالكذب والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما قال محمد, وقالوا الشعر واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم وي رو ون عنهم حين يهجون النبي وأصحابه, فذلك قوله يتبعهم الغاوون. « (12). وقيل » أراد بالشعراء الذين غلبت عليهم الأشعار حتى اشتغلوا بها عن القرآن والسنة وقيل هم الشعراء إذا غضبوا سبوا وإذا قالوا كذبوا« (13). وعليه يتضح لنا أن المقصود طبقة معينة من الشعراء تمارس الباطل من خلال شعرها. وموقف الإسلام هنا موقف من الباطل, وليس موقفا من الشعر. يقول السيد محمد حسين فضل الله: » إن الموقف ليس موقفا ضد الشعر والشعراء…بل موقف ضد الذهنية الغالبة لدى الشعراء في الظاهرة العامة لسلوكهم, مما يجعلهم يستغلون اهتمام الناس بالشعر كأسلوب يهز المشاعر, ويثير العواطف في سبيل الوصول إلى مطامعهم وشهواتهم … وهكذا يشاركون في غلبة الزيف على الحياة في الأشخاص والأوضاع والمواقع. أما إذا كانت القصيدة انتصارا للحق ودفاعا عن المظلوم, وإثارة لحركة الإيمان فإن الموقف يتبدل والحكم يختلف. مما يعني أن المسألة في الشعر هي مسألة المضمون والموقف« (41).
هذه بعض العيوب والثغرات في خطاب الغذامي النقداني, وقع أسير نسقها الذي حاول جاهدا الهرب منه, وإذا به يخلق نسقا نقدانويا فحوليا يرتكز على البلاغة المطلقة, التي من الممكن العثور عليها بوضوح في كتابه »النقد الثقافي« القائم على الاسترسال والتكرار وتأكيد المقولات مرة بعد أخرى, مستعيدا أسلوب الفحل في توكيد مقولاته, بحيث يمكننا أن نختصر الكتاب ونقتطع منه جزءا لا بأس به من الصفحات دون أن يخل ذلك بالكتاب ومضمونه. كما أن الفحولة تتمظهر في رؤيته المتعالية ضد الشعر, وضد الجمالي بشكل عام, وأنه لا يرى فيه سوى »الشحم« المضر, وكأنه شر مطلق لا خير فيه البتة.
إن المنهج النقداني المؤسس لمقولات جديدة, لا يقوم على الانتقائية, أو التعميم, والتركيز على السلبيات دون الإيجابيات. بل أساس النقد الب ناء الذي يرمي لبناء مقولات جديدة, أن يعزز الإيجابيات, في الوقت الذي يحاول فيه اكتشاف العيوب من أجل تصحيح مسارها ومعالجتها, لا إدانتها والتنديد بها فقط, في صيرورة تهدف لبناء جديد وطرح مقولات مناقضة تحل محل المقولات القديمة التي يراها خاطئة أو ناقصة.
أسس عامة من أجل قراءة موضوعية للخطاب الأدونيسي:
بعد أن تعرضنا في الجزء الأول من الورقة لبعض سلبيات النقد الثقافي لدى الغذامي نحاول في هذا القسم أن نؤسس لقواعد عامة تكون بمثابة مقدمة للموضوع الرئيسي للورقة ألا وهو »الحداثة في الخطاب الأدونيسي«.
إن المتابع للنتاج الشعري والفكري لأدونيس عبر تاريخه الطويل, يلاحظ أن مسيرة هذا الشاعر/المفكر أثارت وما زالت تثير الكثير من المشاعر والانفعالات المعارضة والمؤيدة على حد سواء. وأصر هنا على وصف جل ما صدر بكلمة »انفعالات« – وإن كانت هناك بعض الكتابات الجادة والرصينة والتي لا يمكن تجاهلها – لأن الغالب العام قد تفاعل مع أدونيس بمشاعره وأحاسيسه وشخصانيته, لا بعقله وفكره النقدي والموضوعي, بعيدا عن اسم الشاعر /المفكر وما يلقيه من ظلال. وكما يقول د.عبد الله الغذامي ذاته: » يبدو أن النص الأدونيسي أقوى من أن يسمح بإعمال مصطلح موت المؤلف. ولذا صار حجابا يقمع الخطاب فيلغي زمانيته ويحوله إلى خطاب وقتي محجوب, وهذا لا يؤهل أيا منهما – الموافق والمخالف- لإعطاء حكم نقدي عن أدونيس أو لقراءة الخطاب الأدونيسي قراءة إبداعية« (14).لذا فمن الضروري على أي قارئ للخطاب الأدونيسي أن يلتفت لعدة نقاط هامة ينبغي عليه أن يعيها قبل أن ي عمل رأيه ويصدر حكمه, وهي كالتالي:
إن الخطاب الأدونيسي خطاب مركب, معقد, متشابك, يرتبط ببعضه عضويا, بحيث يشكل بنية متكاملة لا يمكن تفكيكها لكانتونات صغيرة تدرس منفردة دون ربطها بسياقها العام وبنيتها المتواشجة. أي أن الخطاب يمثل وحدة موضوعية وعضوية مترابطة الأجزاء, لا يمكن التعامل معها على أساس أنها أجزاء متفرقة. فالخطاب الأدونيسي في شقيه الشعري والفكري خطاب مشروعي, يمثل مشروعا متكاملا لا ينفصل فيه الشعر عن النثر وعن الفكر. فهو خطاب شعري – فكري, يحمل في طياته وبنيته الشاعرية المنفعلة, والفكر المثير لعلامات الاستفهام, الباحثة عن إجابة في فضاء الشعر, بحيث لا ينفصل فيه الشعري عن الفكري, يقول الناقد جودت فخر الدين: » فمما يميز أدونيس بين الشعراء العرب ذلك التلازم الدائم في قصائده بين الشعر والفكر, حتى إن أشعاره ليست إجمالا في منأى عن إعمال الفكر بحثا عن آفاق جديدة للثقافة والمعرفة« (15). وأدونيس نفسه واع لهذا التلازم ليس في خطابه وحسب, بل في مجمل الخطاب الشعري منذ العصر الجاهلي حيث يرى أن: » الشعر الجاهلي لم يكن مستودع (الألحان) العربية وحسب, وإنما كان أيضا, مستودع (الحقائق) و(المعارف). ويعني أن الشاعر الجاهلي لم يكن ينشد وحسب, وإنما كان يفكر أيضا, وأن القصيدة الجاهلية لم تكن مصدر طرب وحسب, وإنما كانت أيضا مصدر معرفة« (61).
ولا ينفصل ذلك كله عن شخصانية أدونيس وذاته, أي عن ذاته كفرد وكإنسان وذاته كمنتم سابق لحزب سياسي في فترة زمنية ما, وذاتيته المذهبية, وبعبارة مختصرة, لا يمكن قراءة الخطاب بمعزل عن صاحبه ومؤسسه. لأن التحولات الفكرية والأيديولوجية التي مر بها أدونيس, وحالاته النفسية المرتبطة بصوفية تفكيره وذهنيته, أثرت بشكل مباشر على خطابه.
إن الخطاب الأدونيسي بقدر ما هو خطاب حداثي تقدمي, ينفر مما هو سلفي وماضوي, هو أيضا خطاب موغل في الأصل والقدم,لذا يأتي ملتهبا بـ»شهوة الأصل«, فالحداثة التي ينادي بها أدونيس حداثة تمتد جذورها إلى أعماق التراث العربي. يقول أدونيس:؛ إن جذور الحداثة الشعرية بخاصة والحداثة الكتابية بعامة كامنة في النص القرآني« (17). كما أن الحداثة التي يعنيها أدونيس والتي تلهبه شهوة للأصل هي: » الاختلاف في الإتلاف. الاختلاف من أجل القدرة على التكيف وفقا للتقدم, والائتلاف من أجل التأصل والمقاومة والخصوصية« (18).
والأصل عند أدونيس يتمثل في: القرآن الكريم, والحديث الشريف, والشعر الجاهلي. وما عدا ذلك فهو شروح وحواش على الأصل.
إن الذي يعارضه أدونيس وينفر منه هو القراءات التشويهية التي جاءت محاولة الإقتداء بالأصل وتمجيده, وإذا بها تشوه هذا الأصل في صياغة سلفوية بائسة, لا تقدم إبداعا وتجاوزا, بل على العكس تشوه ما هو جميل وتمسخه.
هناك ميزة أساسية في الخطاب الأدونيسي وهي الحراك الدائم وعدم الثبات والتبدل المستمر, الذي يكشف عن قلق السؤال وقلق المعرفة, كما يكشف عن حيوية الخطاب وديناميكيته, وعدم جموده وقدرته على التجدد والمواكبة, وعدم استغراقه في ذاتيته بل مواكبته المستمرة للآني والمستقبلي في ذات الوقت الذي يضرب فيه بجذوره في الأصل. قد يعتبر البعض أن التحول هذا سمة ضعف أو حيرة. لكن الصحيح أنها سمة حيوية دائمة, بمعنى قدرة الخطاب على المواكبة وقدرته على تجديد بنيته. كما أن ذلك لا يعني تشتت الخطاب أو تبعثر ملامحه أو عدم ثباته, بل يعني بالضبط تجدد ماء النهر, أو لنقل بمعنى فلسفي أدق, إن حركة الخطاب »حركة جوهرية«, بحسب تعبير صدر المتألهين الشيرازي, أي الحراك الدائم بالارتكاز على النواة أو الأصل الثابت. وكأن أدونيس يتمثل الآية الكريمة »كل يوم هو في شأن«. ويمكننا ملامسة هذا الحراك في التعريفات المتعددة لمفهوم أو مصطلح الحداثة عند أدونيس, والتي نراها تتبدل من حين لآخر, وبدرجة قد تصل للتضاد والتضارب, عندما نقرأ كل مفهوم بمعزل عن سياقه وظرفه. فتارة يعرف أدونيس الحداثة بأنها: »الاختلاف في الإتلاف«, وتارة أخرى بأنها: » هدم قيم جمالية ومعرفية قديمة وإحلال قيم معرفية وجمالية جديدة مكانها«. وتارة يربط أدونيس الحداثة بتحققها الخارجي فيقول: » الحداثة فعالية إبداعية, وليست كساء . إنها حداثة الإنسان لا حداثة الشيء« (19). وهذا نزر من كثير في رؤية أدونيس للحداثة التي قد يراها البعض مضطربة, في حين أنها رؤية متكاملة متجددة يربط بينها خيط رفيع يصل بين أجزائها.
هذا التحول المستمر في الخطاب الأدونيسي هو ما عبر عنه أدونيس ذاته بـ»الاكتشاف والمحو«. فالشاعر يكتشف ويمحو, ليزيد من مساحات الحرية والتفكير. يقول أدونيس: » عش ألقا وابتكر قصيدة وامض زد سعة الأرض« (20). فالشاعر منوطة به مهمة كبرى تتمثل في زيادة مساحة التفكير والحرية وطرح الأسئلة المتجددة التي لا تركن لجواب مغلق.
إضافة لعنصر التحول المستمر, فإن هذا الخطاب يتصف بصفة هامة وهي القلق الدائم والسؤال المتجدد. هذا القلق يجعل الخطاب محلقا في اللايقين وفي اللامحدود واللاسقف, بل تراه نافرا من اليقينيات الجامدة والمصمتة, ومسافرا نحو فضاء يكون مفتوحا على مصراعيه لا قيود فيه ولا حواجز.
هذا التبدل والتحول الذي أشرنا إليه سلفا, ناتج من كون الخطاب الأدونيسي خطابا قائما على الفكر الصوفي والفكر العلوي (الباطني) وكلاهما – الصوفية والباطنية- عكازتا أدونيس اللتان يتعكز عليهما. ومن المستحيل وغير الممكن أن يفهم الخطاب الأدونيسي دون وعي عمقه الصوفي والباطني. » فالتصوف برأي أدونيس يؤسس للحداثة العربية, لأنه تأويل لعلاقة الحياة والفكر بالوحي الديني, كما أنه مغامرة في المجهول ولا مرجعية له إلا المناجاة والوجد والذاتية. والتجربة الصوفية في إطار اللغة العربية ليست مجرد تجربة في النظر, وإنما هي أيضا, وربما قبل ذلك, تجربة في الكتابة وتجاوز (القوانين) كي تقيم تراث (الأسرار«) (22). »فالتجربة الصوفية تمثل فكرا وكتابة وانقلابا معرفيا في تاريخ الفكر العربي الإسلامي, سواء نظر إليها بوصفها (تدينا) أو بوصفها (هرطقة«) (23).
التصوف والباطنية كلتاهما قائمتان على المجاز وعلى النفور من الظاهر إلى الباطن. والحاجة إلى المجاز هنا حاجة حقيقية وليست شكلية وفنية فقط, أو ذوقية تأتي تبعا لحال المتصوف. وإنما حاجة نابعة من رؤية وعمق معرفي. يقول أدونيس إن: » المجاز في اللغة العربية أكثر مما يكون مجرد أسلوب تعبيري. إنه في بنيتها ذاتها. وهو يشير إلى حاجة النفس لتجاوز الحقيقة, أي لتجاوز المعطى المباشر. وهو إذن وليد حساسية تضيق بالواقعي, وتتطلع إلى ما ورائه -وليد حساسية ميتافيزيقية. فالمجاز تجاوز: وكما أن اللغة تجوز نفسها إلى ما هو أبعد منها, فإنها تجوز الواقع الذي تتحدث عنه إلى ما هو أبعد منه. كأن المجاز في جوهره, حركة نفي للموجود الراهن, بحثا عن موجود آخر« (24) وعليه فإن المجاز » لا يتيح إعطاء جواب نهائي, لأنه في ذاته مجال لصراع التناقضات الدلالية. وهكذا يظل المجاز عامل توليد للأسئلة, وهو من هنا عامل قلق وإقلاق بالنسبة إلى المعرفة التي تريد أن تكون يقينية« (25).
وبحسب ما تقدم فإن أي قراءة للخطاب الأدونيسي ما لم تضع المجاز اللغوي والمعرفي نصب عينيها, وتعي خطورة المجاز لدى أدونيس فإنها ستتيه في قراءتها ولن تستطيع فهم ماهية الخطاب ومكنونه.
وضمن هذا السياق التأويلي الصوفي ترتسم علاقة الشاعر بالعالم والتي هي علاقة »محو وإثبات« وعلاقة » تبدل وتحول«, كما هي علاقة الصوفي السائر في مدارج الكمال بمطلقه الذي يرنو الوصول إليه. يقول جودت فخر الدين: »إن علاقة الشاعر بالعالم -في نظر أدونيس- هي علاقة متجددة, فالشاعر ينبغي عليه أن يمحو معرفته بالعالم كلما أراد اكتشافه. يمحو ما عرفه لينشئ ما يعرفه. بهذا يكون العالم بين يدي الشاعر بحاجة دائما لاكتشافه. فالشاعر يمحو ويكتشف دائما« (26) كما هي تماما علاقة الصوفي بالمطلق فالصوفي السائر إلى المطلق زاده المسير ولو توقف لهلك.
استكمالا للنقطة السابقة فإن هناك مؤثرا هاما رسم ملامح أدونيس, يرتبط بفكرة (الظاهر والباطن), ذات البعد الباطني الصوفي الذي أثر على أدونيس تأثيرا قويا جدا. يقول أدونيس: »الصوفية هي المؤثر الثاني. فثمة بعد ديني, بمعنى ما, في داخلي. لكن هذا البعد الديني تحول إلى بعد كوني, وبعد طبيعي, وبعد وجودي. ثم إن فكرة المرئي واللامرئي جاءت من الظاهر والباطن« (27) ولقد أخذ هذا البعد عمقه المعرفي من خلال التواصل مع الحضارة الغربية والفكر السوريالي على الخصوص, مكونا المثلث الأدونيسي القائم على: العلوية, والصوفية, والعلمانية.
إن هذه الفكرة »الظاهر والباطن« سكنت أدونيس منذ القدم, وولدت لديه حالة من الشك المستمر (الشك المقدس) الذي يلهم الإبداع ولا يسلبه, والذي يوفر اليقين ويمحوه في آن معا. ولقد بلغ حد التأثر بهذا الجانب مبلغا كبيرا بحيث غدا أسلوب وطريقة تفكير يتعاطى من خلالها أدونيس مع الوجود والكون والأشياء, وتحكم تصرفاته ونظراته. ويوضح أدونيس ذلك بقوله: » الشئ الأخر الذي اثر في هو طريقة التفكير القائلة إنه إذا كان هناك معلوم في العالم ومقابله هناك مجهول, فإن المعرفة الحقيقة ليست معرفة المعلوم, وإنما معرفة المجهول. وقد سكنني هاجس المجهول منذ بداية الطفولة« (28). قد يقول البعض إن الرغبة في الكشف والمعرفة توجد لدى كل إنسان, وليست ميزة لدى أدونيس وحده. لكن ما يميز أدونيس هو أنه يبحث عن معنى المعنى, وعن معنى المعنى الذي توصل إليه. وأنه يمحو ويكتشف, ثم يمحو ويكتشف. باحثا عن شئ هو يجهله أساسا لحد الآن, ولا يعلم إلى أين سيفضي هذا البحث. وهو في بحثه إنما يبحث عن القلق الذي هو يقينه. وليس عن اليقين الذي هو تكلس وموت بنظره.
إن الخطاب الأدونيسي خطاب مؤسس وخطاب مرتكز على خلفية ورؤية حضارية, تعمل جاهدة من أجل تأسيس مشروع فكري/شعري متكامل, يحمل بين طياته خصوصية اللغة التي ينتمي إليها, وخصوصية التراث النابع منه, مع عدم الجمود على الماضي, وإنما الاستفادة منه بما يناسب الحاضر, مزاوجا ذلك كله بالتراث الإنساني العام, والمنجز البشري المعاصر, دون انبهار به وانقياد أعمى إليه. مؤكدا على ضرورة الاستبصار المعرفي, رافضا أن يكون نسخة عن حداثة أخرى, وداعيا لأن يصنع الإنسان حداثته الخاصة التي تحمي ذاته, وفي نفس الوقت لا تجعله منكفئا عليها, بل تكون له كالنافذة الرحبة التي تطل به على العالم. يقول أدونيس في هذا الصدد: » لا أريد أنا علي من شأن الحداثة الغربية بحيث أجعلها معيارا مطلقا للتقدم. ولا أريد بالمقابل, أنا نكر الإنجاز العظيم, الفكري والتقني, الذي حققته, أو أن أدعو إلى الانفصال عنها وإلى رفضها. ما أريد هو أن نعيد الاستبصار المعرفي الخلاق في هذه الحداثة وفي تراثنا على السواء. وأريد أن أؤكد على أن الحداثة لا تكون بالعدوى, أو بالتقليد, أو بالاقتباس الشكلي, وعلى أن المجتمع يكون حديثا بإبداعه حداثته الخاصة, بممارسة ثورته الداخلية الخاصة التي تخرجه من عالمه التقليدي« (29).
الحداثة في الخطاب الأدونيسي:
سنحاول ضمن هذا المحور أن نقارب مفهوم الحداثة لدى أدونيس. وكيف هي نظرة أدونيس للحداثة وعلاقتها مع التراث, ومع الحاضر, والآخر, والإنسان. ولا يمكننا أن نعي ذلك بشكل موضوعي إلا إذا استحضرنا المفاتيح الأساسية للخطاب والتي عرضنا لها في المحور السابق.
إن الحداثة لدى أدونيس تعتبر مفهوما متبدلا متحركا. أي أنها ليست ذات طبيعة واحدة ساكنة. بل تمتاز بأنها تواكب التطور التاريخي والموضوعي, في آن معا. وهذا ما يجعل بعض الأحيان الرؤية ضبابية تجاهها. وقد تكون متناقضة أحيانا. ولقد عرف أدونيس الحداثة بعبارات شتى وعديدة, طوال مداه الزمني والفكري. هذه التعاريف من الممكن أن نعرض لها كالتالي:
» إن الحداثة رؤية جديدة, وهي جوهريا, رؤيا تساؤل واحتجاج: تساؤل حول الممكن, واحتجاج على السائد. فلحظة الحداثة هي لحظة التوتر أي التناقض والتصادم بين البنى السائدة في المجتمع, وما تتطلبه حركته العميقة التغييرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها« (30).
» الحداثة… هي الخروج من النمطية, والرغبة الدائمة في خلق المغاير« (31).
» الحداثة… هي الاختلاف في الائتلاف: الاختلاف من أجل القدرة على التكيف, وفقا للتغيرات الحضارية, ووفقا للتقدم. والائتلاف من أجل التأصل والمقاومة والخصوصية« (32).
هذه ثلاثة تعاريف أساسية للحداثة, يمكننا أن نعتبرها معبرة عن رؤية أدونيس لها. إن القارئ لهذه التعاريف قد يقول إنها متناقضة مع بعضها وربما متضاربة. فالتعريفان الأوليان يصفان الحداثة كحركة ثورية تغييرية, ذات طابع تغييري جذري لا مهادن, ينفصل عن القديم كليا ولا يتقاطع معه. وأما التعريف الأخير, فهو تعريف ربما نستطيع القول عنه أنه وسطي أو توفيقي بين التراث والمعاصرة. هكذا ستكون وجهة نظر القارئ, والتي سيكون معذورا فيها, لأنه سيقرأ تعاريف مجتزأة من سياقها, هذا أولا. ومن دون معرفة أو ملاحظة تطورها الزمني والتاريخي ثانيا. فالحداثة لدى أدونيس حداثة متطورة باستمرار لا تركن للسكون.
هذه الحداثة التي ينظ ر لها أدونيس يقسمها لثلاثة أقسام رئيسة وهي:
»1- الحداثة العلمية: وتعني إعادة النظر المستمر في معرفة الطبيعة للسيطرة عليها, وتعميق هذه الحالة وتحسينها باطراد.
2- حداثة التغييرات الثورية: وهي نشوء حركات ونظريات وأفكار جديدة, ومؤسسات وأنظمة جديدة تؤدي إلى زوال الب نى التقليدية القديمة في المجتمع وقيام بنى جديدة.
3- الحداثة الفنية: وتعني تساؤلا جذريا يستكشف اللغة الشعرية ويستقصيها, وافتتاح آفاق تجريبية جديدة تؤدي إلى زوال البنى التقليدية في المجتمع وقيام بنى جديدة« (33).
من خلال هذه التقسيمات للحداثة نلحظ أنها تشمل أبعادا متنوعة, تحيط بكل مناحي الحياة ولا تقتصر على الشعري منها فقط. فهي ت عنى بالعلوم البحتة والتقنية, وبالتغيرات الاجتماعية وصناعة الأفكار, وباللغة والشعر. أي أنها بعبارة موجزة ؛حداثة الإنسان«, التي تعنى بكل شؤونه الحياتية.
هذه الحداثة يراها أدونيس غير متمثلة بكاملها في الوطن العربي, ويطرح سؤالا جوهريا حول الحداثة عندما يقول: »حداثة الشئ أم حداثة الإنسان? « (34). مما يجعل سؤال الحداثة لديه سؤالا واعيا وحاضرا في جميع مناحي الحياة. وهي تحضر كهم أساسي وكجوهر تقوم عليه بنيته الفكرية. هذه الحداثة التي نظر لها لسنوات عدة, ليخرجها من عدمها لحيز الممكن والواقع. جعلته ي عنى كثيرا بدراسة الحالة العربية الراهنة وتمثلات الحداثة بها. واضعا إصبعه على مكامن الزلل, مشخصا المشكلة, وأسبابها, وسبل الخروج منها. فالمشكلة لديه تتمثل في غياب الحداثة العربية وانعدامها. فأدونيس عندما يتحدث عن الحداثة فإنه على حد تعبيره ؛ لا أشير إلى علم, أو تقنية, أو فلسفة… وإنما أقصد, حصرا , الفنون والآداب« (35). وهذا لا يعني أن أدونيس يختزل الحداثة في الشعر فقط – كما يذهب لذلك الغذامي – وإنما لأنه » ليس في المجتمع العربي حداثة علمية. وحداثة التغيرات الثورية: الاقتصادية, الاجتماعية, السياسية, هامشية لم تلامس البنى العميقة« (36). قد يقول البعض إن النظم الحداثية موجودة في البلدان العربية, والإنسان يمارسها في شتى المجالات. وللجواب نقول: إن هذه حداثة التقنية وليست حداثة الإنسان العربي, وهي حداثة مستوردة ومصطنعة, وما دورنا فيها إلا الاستهلاك والاستخدام, دون الابتكار والإبداع والمشاركة في البناء. كما أن الحداثة تمثل فكري وسلوكي , لا ينفصل فيه النظري عن العملي. فمن الممكن أن يكون هذا الشخص الذي يركب أرفه السيارات ويمارس التكنولوجيا الرقمية بفراهتها المفرطة, تجده أميا ثقافيا, ورجعيا فكريا وبعيدا كل البعد عن جوهر الحداثة ومضمونها.
إن أدونيس يحدد مشكلة الحداثة الشعرية العربية, فيما يسميه بـ»أوهام الحداثة الخمسة« (37). والتي تتلخص في التالي:
»1- وهم الزمنية. فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر. بالراهن من الوقت.
2- وهم المغايرة. ويذهب أصحاب هذا القول إلى أن التغاير مع القديم, موضوعات وأشكالا, هو الحداثة أو الدليل عليها.
3- وهم المماثلة. ففي رأي بعضهم أن الغرب مصدر الحداثة, اليوم, بمستوياتها المادية والفكرية والفنية. وتبعا لهذا الرأي, لا تكون الحداثة خارج الغرب, إلا بالتماثل معه.
4- وهم التشكيل النثري. حيث يرى بعض الذين يمارسون كتابة الشعر نثرا أن الكتابة بالنثر, من حيث هي تماثل كامل مع الكتابة الشعرية الغربية, وتغاير كامل مع الكتابة الشعرية العربية, إنما هي ذروة الحداثة.
وهم الاستحداث المضموني. حيث يزعم بعضهم, إنسياقا وراء وهم استحداث المضمون, أن كل نص شعري يتناول إنجازات العصر وقضاياه هو, بالضرورة نص حديث« (38).
هذه الأوهام الخمسة سالفة الذكر, كانت نتيجة طبيعية لبيئة عربية فاقدة للمقومات العلمية والموضوعية, بيئة تتأرجح بين » الاستلاب والارتداد« بتعبير علي حرب. بيئة محكومة بالإنشداد للماضي السحيق والتراث القديم متغنية بأمجاده, وعلى النقيض من ذلك مسلوبة تجاه الغرب الحديث ومقلدة له. أي غياب لنقطة ارتكاز موضوعي سببها بحث هيستيري دائم عن مفاهيم ضبابية كالهوية, والخلاص, والتحصن ضد الغرب, والتماهي معه, والتقدم الحضاري…وغيرها من المفهومات العائمة التي لا تستقيم إلا بممارستها عمليا على أرض الواقع. لذلك يذهب أدونيس لاحقا, ضمن تطور رؤيته للحداثة, لنفي الحداثة الشعرية العربية التي أثبت وجودها سالفا ويقول: » ليست الحداثة غير موجودة في الحياة العربية, وإنما الشعر نفسه كذلك غير موجود, بوصفه رؤية تأسيسية وبوصفه فاعلية معرفية كشفية قائمة « (39).
يحدد أدونيس أسباب هذا الالتباس الحاصل في الحداثة العربية -بشكل عام- في النقاط التالية:
»1- إن الحداثة تبحث بوصفها مسألة نظرية بحتة. وبوصفها, غالبا مجرد قضية شعرية – فنية, إضافة إلى أن هذا البحث يتم دون الإشارة إلى نشأتها.
2- الن ظر في الحداثة العربية ومشكلاتها بأفكار ومصطلحات لا تنبع من الواقع العربي, وإنما هي مأخوذة من معجم الحداثة الغربية.
3- هي مسألة المعيار والتقويم: كيف نقو م ما ن سميه الحداثة العربية, وبأي معيار? المعيار, تبعا للالتباسين الأولين, هو بالضرورة, من خارج الثقافة العربية. « (40).
كما أن هناك عاملا أساسيا آخر سبب كل هذا الالتباس في الحداثة العربية وهو »الاختلاف العميق بين العرب في النظر إلى الذات: من هي, وما هي? وفي النظر إلى الآخر: كيف تتصل هذه الذات به, وكيف تنفصل عنه – ومن هو? ماذا تعني فر ادة الذات أو أصالتها, وما الهوية? وما حدود الانفتاح على الآخر, والتفاعل معه, والأخذ منه? وقبل كل شئ: من هذا الآخر- بالدلالة الحضارية العميقة?. « (41). ولو تابعنا قليلا فإننا سنجد أدونيس يمعن أكثر في تصادمه مع الحداثة العربية بل يعلن موتها الكلي بقوله: » مشروع الحداثة بكامله فشل في المجتمع العربي…وأكثر من ذلك, فإن المجتمع تفكك وتخرب, حتى المنجزات الأولية البسيطة التي أنجزتها السلطات البرجوازية بعد الاستقلال, كالحق في التعبير وتعدد الأحزاب والبرلمان والقضاء المستقل عن السلطة التنفيذية, انتهت واندثرت. فالسلطة العربية تحولت إلى اقطاع مقن ع بألفاظ زائفة لا تعني شيئا, وبانتخابات مزيفة تعني الكثير. بهذا المعنى لا يوجد حداثة, ومن المحال أن يكون هناك حداثة« (42).
أضف إلى الأسباب سالفة الذكر, الحال السياسية العربية, وغياب مناخ الحريات العامة, وطبيعة البنى المؤسساتية القائمة على التنميط والتهميش والإقصاء, والتوزيع الظالم للثروات, والحال الاقتصادي المنهك للمواطن العربي, وتهميش الإنسان وغيابه عن الفعل الحياتي الخلاق, واستغراقه في المعيشي والهامشي, وسيطرة القوى السلفوية والأحادية الإقصائية, كل تلك عوامل رئيسة لغياب هذه الحداثة وموتها في الوطن العربي.
هذا التردي على صعيد الحداثة العربية, كيف يمكن معالجته? وكيف يمكن تجاوزه?. يجيب أدونيس على ذلك بدعوته إلى »حداثة ثانية« بمعنى أن يكون » العقل العربي قادرا على أن يبتكر صيغا للتعبير عن المشكلات الراهنة, ولإيجاد مخارج لهذه المشكلات« (43), ولا يتم ذلك إلا عبر المساءلة المستمرة وإشعال »لهب السؤال«, فالحداثة المتوخاة تعتمد على » طرح الأسئلة ضمن إشكالية الرؤيا العربية-الإسلامية, حول كل شئ, لكن من أجل استخراج الأجوبة من حركة الواقع نفسه لا من الأجوبة الماضية« (44).
ولبناء هذه الحداثة الجديدة, يحدد أدونيس أولويات معينة, يراها أساسية للغاية, للخروج من المأزق الراهن. وتتلخص هذه الأولويات في:
1- لا معنى لهذا الخروج ولا قيمة له, إذا كان مجرد معارضة للقديم. لذلك ينبغي أن يتجاوز الس لب إلى الإيجاب: أن يكون تغاي را كليا مع الرؤية القديمة التقليدية الدينية للطبيعة والوجود والإنسان. بحيث ينتج…معاني جديدة.
2- لا يتم هذا الخروج إلا بانقلاب معرفي, فيما يتعلق بالأصول ونصوصها, بحيث ينظر إليها, لا بوصفها يقينا , بل بوصفها احتمالا أو (حمالة أوجه)…وبدون هذا الانقلاب سيظل المعنى مغلقا.
3- التفكير والعمل برؤية تعد التاريخ مفتوحا بلا نهاية, ولا يعرف أحد كيف سيكون, لأنه تابع لفعالية الإنسان وحده.
4- المسألة ليست إصلاح المجتمع العربي, بل إعادة تكوينه. وهذا غير ممكن إلا إذا انتهت الثقافة التي كو نته. يتعذ ر, بتعبير آخر, التأسيس لمشروع سياسي حديث من دون الاستناد إلى مشروع فكري حديث.
وبناء على ذلك لا تكون الحداثة في هذا المستوى محاكاة للآخر, ولا نبذا له, وإنما تكون نوعا من تكوين الذات ومن فهم الآخر, وبناء علاقات معه في ضوء هذا التكوين. ولا تكون الهوية معطى جاهزا , مسبقا , نتطابق معه. وإنما تكون ابتكارا دائما . فالإنسان يبتكر هويته, فيما يبتكر فكره وعمله« (45).
هكذا هي الحداثة كما ي نظ ر لها أدونيس. حداثة ت عنى بالإنسان بالدرجة الأولى, وتشمل جميع مناحي الحياة الفكرية, والشعرية, والتقنية. وهي كل لا يتجزأ, وغياب أحد جوانبه سيؤدي بالضرورة لخلل في التركيبة, وهذا ما هو حاصل الآن.
الغذامي وأدونيس, واستفحال الذات:
تناول الغذامي في كتابه »النقد الثقافي« أدونيس بالنقد الشديد, والذي وصف فيه أدونيس بـ»الفحل«, الذي يعرض »رمحه الفحولي أو التفحيلي«. وهكذا يأتي أدونيس بحسب رؤية الغذامي » كأحد أشد ممثلي الخطاب التفحيلي بكل سماته النسقية« (46). بوصفه صاحب خطاب »سحراني« يؤسس »لحداثة شكلية تمس اللفظ والغطاء بينما يظل الجوهر التفحيلي هو المتحكم بمنظومتها النسقية ومصطلحها الدلالي المضمر« (47). مؤسسا بذلك لـ»حداثة رجعية« قائمة على » عداء نسقي, لكل ما هو منطقي وعقلاني, فالحداثة عنده لا منطقية ولا عقلية« (48). ويحدد الغذامي السمات العامة للخطاب الأدونيسي في التالي:
»1- مضاد للمنطقي والعقلاني.
2- مضاد للمعنى, وهو تغيير في الشكل ويعتمد اللفظ.
3- نخبوي وغير شعبي.
4- منفصل عن الواقع ومتعال عليه.
لا تاريخي.
فردي ومتعال, ومناوئ للآخر.
هو خلاصة كونية متعالية وذاتية
يعتمد على إحلال فحل محل فحل, سلطة محل سلطة.
سحري, والأنا فيه هي المرتكز« (49).
هكذا يبدو أدونيس في تشكله الأخير في نظر الغذامي. ونحن نتساءل: كيف وصل الغذامي لهذه النتائج المفاجئة? وضمن أي سياق? وعبر أي آلية?.
إن قراءة فاحصة لكتاب الغذامي »النقد الثقافي«, وعلى الأخص للجزء المتعلق بأدونيس,تكشف لنا أن الغذامي لم يكن دقيقا فيما قال, بل أخطأ في كثير من مقولاته, لأنه قرأ أدونيس قراءة مجتزأة ومنتقاة, أو في أحسن الأحوال لم يستوضح سياق الخطاب, وقرأه خارج سياقه. أليس الغذامي هو نفسه القائل: » إن أي قراءة لأدونيس سلبية كانت أم إيجابية لهي شئ ممكن من جهة, وقابل للنقض بقراءة أخرى معاكسة من جهة أخرى. ولكل قراءة من هذه القراءات وجهها وبراهينها وهي على (شئ من الحق) وفي أدونيس شئ من هذه كلها ونصوصه تعطي طالبيها ما يطلبون. ولكننا نقول -والكلام للغذامي- إن أدونيس وهو مفتوح على هذه التأويلات كلها, هو أيضا ليس أيا منها. والمسألة تعتمد على الطريقة التي يجري بها تشريح (تفكيك) الخطاب الأدونيسي« (50). وعليه فبأي طريقة قام الغذامي بتشريح الخطاب الأدونيسي? وهل قرأه قراءة تتناسب مع بنية الخطاب المتوترة والمتضادة, أم أنه بحث في داخل هذه الخطاب عما يعزز من مقولاته. أي أنه قرأ الخطاب بأفكار مسبقة يبحث لها عن شواهد ودلائل تؤيدها. هذا من جهة. ومن جهة أخرى, إذا كان الغذامي واعيا لمسألة كون خطاب أدونيس (حمال أوجه), ومتعدد القراءات, وأنه مفتوح, فلماذا قرأه الغذامي قراءة مغلقة, خرج منها بأحكام قيمية نهائية, وعمومية, اختزل فيها خطابا متحركا لا يركن إلى ساكن, وهو ذاته الذي يطرح السؤال التالي: » ماذا يبقى من أدونيس بعد أربعة عقود من الكر والكر والكر…?! « (51) وفي هذا السؤال يقر الغذامي بحركية الخطاب من خلال تكراره لكلمة الكر ثلاث مرات متتالية, مما يوحي بشدة الحركة والتبدل والتجدد. فإذا كان خطابا بهذه الحركية, فكيف يحكم عليه بهذه السكونية والنمطية الجامدة.
إضافة لما سبق, ما الذي قرأه الغذامي? هل قرأ الخطاب أم الحجب المحيطة به, وهل استطاع الخروج من سطوة الاسم وحضوره القوي الذي يشي برغبات متضادة تأييدا ونقدا, لأن كلا القارئين -المؤيد والمعارض- سيستفيد من قراءته لهذا الخطاب في تحقيق ذاته عبر إبراز قدرته على تفكيك خطاب متشابك كخطاب أدونيس. نقول: هل استطاع الغذامي أن يتخلص من كل هذه الحجب ليقرأ الخطاب عاريا من أي مسبقة أو أدلجة. وهو يدرك مدى صعوبة ذلك, حيث يقول: » لا شك أن خطاب أدونيس اليوم هو خطاب محجب… والخطاب المحجب لا يصل إلينا سافرا , بل يصل مع حجاباته, ونحن لا نقرأ ونفسر الخطاب ولكننا نقرأ هذه الحجابات, سواء ما هو تجميلي منها أو ما هو تشويهي« (52).
إن تناول الغذامي للخطاب الأدونيسي بهذه الطريقة المختزلة المبتسرة عليه الكثير من الإشكلات والملاحظات -التي يضيق الوقت بتناولها بالتفصيل- وللرد عليها, أحيل للمحورين السابقين الذين أشرت فيهما لآليات قراءة الخطاب الأدونيسي, وللحداثة في هذا الخطاب. واستكمالا لنقد رؤية الغذامي أضيف النقاط التالية:
إن هذا الخطاب الذي يصفه الغذامي بأنه »مضاد للمنطقي والعقلاني« و »مضاد للمعنى« و »سحراني«. هو في ذاته نقيض ذلك. لأنه خطاب فلسفي صوفي باطني, ينحو نحو الباطن وينفر من الظاهر. وي عنى بالغامض وغير المكشوف وغير المعلوم, ويفر من كل ما هو معلوم وواضح. هذا الفرار ليس تعاليا على الواقع, ولا »سديمية مفرطة«, وإنما بحث عن جوهر الأشياء وسر وجودها, وحقيقة بواطنها. وهذا هو جوهر الخطاب الصوفي, وأساس تجربته القائمة على »تجاوز التاريخ المكتوب, وعلى تجاوز الظاهر المنظم في تعاليم وعقائد, لأنها تتجه إلى باطن العالم وتعنى بمعناه الخفي والمستور« (53). هذا النوع من الكشف له آلياته الخاصة, والتي تختلف عن باقي الآليات المتعارف عليها فـ»الصوفية لم تعتمد في الوصول إلى الحقيقة المنطق أو العقل, ولم تعتمد كذلك الشريعة. فالطريق التي يسلكها الصوفي لمعرفة باطن الألوهة ليست إلا شكلا من علم الإمامة, وليس علم القلب الصوفي إلا شكلا آخر لعلم الإمام الغائب« (54). وهي بهذا المستوى تعبر عن تغاير كبير مع الواقع فكرا وأسلوبا وتعاطيا مع الأمور.
كما أن هذه التجربة الصوفية الباطنية أسست لنمط جديد من اللغة والكتابة, يختلف عن الأنماط السائدة والمتعارف عليها . تقول الناقدة أمينة غصن: »الصوفية أسست لكتابة تمليها التجربة الذوقية, داخل ثقافة تمليها معرفة دينية مؤسسية. غير أنها ظلت كتابة على هامش التاريخ الثقافي العربي. كتابة لا مكان لها. كأن أصحابها لم يكن يعيشون في المكان, بل في نصوصهم, كأن النص بالنسبة إليهم الوطن والواقع, وكأن الكلمات مخابئ لدروبه وآفاقه ورموزه« (55). كما أن الكتابة الصوفية بتعبير أدونيس: »كتابة بالأعصاب والارتعاش والتوترات الجسمية والروحية. كتابة تدخل في الكلمات نفسها أعصابا فتشعرك كأنها مليئة بالخدوش والجراح والتمزقات. إنها كتابة لا تخضع لأية طريقة ثابتة أو مسبقة, وهي نقيض لكل ما هو مؤسسي. إنها الكتابة اللامعيارية بامتياز, كما أنها حركة دائمة من الابتداء وكمثل الكتابة نفسها« (65). فنحن عندما نأتي لمحاكمة أو نقد الكتابة الصوفية يجب أن ننقدها وفق آلياتها الجديدة والخاصة التي أقرتها, لا وفق آليات تفسير لا تتناسب معها.
وهكذا عندما يعلن أدونيس فراره من الوضوح بقوله:
» أصرخ منتشيا:
تهد م أيها الوضوح
يا عدو ي الجميل« (57).
أو عندما يعلن أنه » الحجة والداعية« و »أنه الأشكال كلها«. فإنه لا يعلن »لا عقلانيته«, أو يشهر »رمحه الفحولي« كما يتصور الغذامي, وإنما يتحرك ضمن سياق الخطاب الصوفي وكل من »الحجة« و»الداعية« مفردات ومصطلحات معروفة في الخطاب العلوي الذي ينتمي له أدونيس. ولها دلالاتها, وهو حين يستخدمها فضمن هذه الدلالات. فالأنا هنا ليست أنا أدونيس. وإنما كما يقول أنا التاريخ«, وهي أنا الصوفي عندما يعشق ويذوب »رسمه« في »معنى« محبوبه ليصل لمقام البقاء بالمعبود أو المعشوق« وهي مراتب عرفانية ذوقية عالية, لا يعي كنهها إلا منا مت حن قلبه بالعشق. وإلا و فق منطق الغذامي سيكون جميع العرفاء من: الحلاج, وابن الفارض, ومحي الدين بن عربي, وصدر المتألهين الشيرازي… سيغدو كل هؤلاء فحوليين ذكوريين يرفعون رمحهم التفحيلي. وسيكون الحلاج رمز التفحيل الأكبر عندما قال: » أنا الحق«.
وينسحب الكلام أيضا على ديوان »مفرد بصيغة الجمع« الذي إتكأ عليه الغذامي كثيرا واستشهد به كدليل على فحولة أدونيس, وهو نص صوفي بامتياز. والعنوان يدل على ذلك, فهو صياغة لمرتبة عرفانية وفلسفية دقيقة تقوم على مبدأ » الكثرة في عين الوحدة, والوحدة في عين الكثرة«, وبتعبيرهم -أي المتصوفة- »هو هو«, ولا شئ غيره, كما أنه »هو هي, وهي ليست هو« وهو جدل فلسفي صوفي استوحاه أدونيس في ديوانه وطوره بلغة شعرية راقية.
إنه من الظلم أن نقرأ الخطاب الصوفي بآلياتنا القديمة والاعتيادية, ويجب علينا أن نقرأه قراءة جديدة واعية لكي نفهم عمقه الفكري والموضوعي, فهو بقدر ما هو خطاب كشفي قلبي, هو خطاب فكري عقلي, يكون فيه القلب دليل العقل. لذا يجب أن نقرأ التجربة ضمن هذا السياق.
إن ما يذهب إليه الغذامي من كون حداثة أدونيس حداثة »شكلانية« ومقتصرة على »الشعري« دون غيره, وأنها تستلهم النموذج الجاهلي وتكرره بذات النسقية, كلام غير دقيق, ومردود عليه, ويمكن الرجوع للمحور الذي تناولنا فيه الحداثة في الخطاب الأدونيسي والتي تثبت أن الحداثة لديه, تعتمد على المعنى وتشمل جميع مناح الحياة, وأن رجوعها للخطاب الجاهلي إنما هو رجوع للأصل ومحاولة اكتشاف جديد فيه.
على عكس ما يرى الغذامي, إن أدونيس, كما أوضحنا في »أوهام الحداثة الخمسة«, يبدو واعيا تمام الوعي لمسألة الكتابة الشعرية وارتباطها بالمعرفي, وارتباط الحداثة بالمعنى لا الشكل -خلاف دعوى الغذامي-, وهذا ما يظهر من قوله: » ينبغي على القارئ/ الناقد أن يواجه في تقييم الشعر ثلاثة مستويات: مستوى النظرة أو الرؤية, مستوى بنية التعبير, مستوى الشعرية« (58).
كما أن الشكلانية ضرب من النمطية, التي هي ضرب من الجمود والتحجر المرفوض أدونيسيا . فالتنميط بحسب أدونيس هو: » إعادة إنتاج العلاقة نفسها: علاقة نظرة الشاعر بالعالم والأشياء, وعلاقة لغته بها, وبنية تعبيره الخاصة التي تعطي لهذه العلاقات تشكيلا خاصا« (59). وهو – أي التنميط- سياق معارض تماما للحراك الأدونيسي, فكيف نتهم أدونيس به, وهي دعوى تحتاج إلى دليل, بل الدليل قائم على نقيضها.
إن كون الخطاب الأدونيسي يعتبر (متعاليا) أو (خلاصة كونية) أو (مناوئا للآخر) أو (منفصلا عن الواقع), فهذه كلها في نظري ميزات إيجابية تسجل لصالح الخطاب لا ضده. أي أنها نابعة من قوة ومن عمق في الخطاب. إن المثقف الحقيقي والخطاب النقدي التغييري, هو على الدوام خطاب رافض ومشاكس ومناوئ, وخطاب رافض للواقع. والتعالي هنا ليس دلالة على الغرور, بقدر ما هو جعل مسافة فاصلة بين المثقف ومجتمعه, بين خطابه وخطاب المؤسسات التنميطية, لايجاد حالة رؤية نقدية صحية لا يكون فيها المثقف منغمسا في واقع مجتمعه الردئ, لكنه في الوقت ذاته على صلة به, وإلا فمن أين ينتج أدونيس مقولاته, وعلى ماذا يؤسسها وهل هي آتية من فراغ?.
إن الغريب في الأمر أن تغدو صفة »المناوءة للآخر« في سياق السلب لا الإيجاب!. إن الرفض والمقاومة هي السياق الصحيح. والقبول بالسائد والحالي, هو النسقية بعينها, لأنها تركيز لواقع ردئ قائم على الفحولة والذكورة.
هذه بعض النقاط التي أردت الإشارة إليها -بشكل سريع وموجز-, ضمن سياق نقدي تكاملي, لا يهدف لشطب أو محو مشروع »النقد الثقافي«, بقدر ما هو سجال نقدي تصحيحي, قد يصل لمرحلة الانقلاب العرفي الذي هو في الأساس نقد ثقافي.
ختاما, نحن لسنا مع التصنيم, وضد أن ي حول أدونيس لصنم. سواء من أجل العبادة, أو الرجم بالحجارة. وإنما نحن مع القراءة الموضوعية العلمية, التي تؤسس لمقولات جديدة, ولا تكتفي بنقد القديم فقط.
الهوامش:
1- العباس, محمد. »الغذامي مجربا لمقولة النقد الثقافي«. جريدة الرياض, الخميس 29 رجب 1420, العدد 11812.
2- الغذامي, عبد الله. النقد الثقافي,. المركز الثقافي العربي, بيروت, ط1, 2000, ص 178.
3- نفس المصدر السابق, ص 93.
4- عبد الكريم, خليل. مجتمع يثرب. سينا للنشر, القاهرة,ط1, 1997, ص 8.
5- العباس, محمد. مصدر سبق ذكره.
6- الغذامي, عبد الله. مصدر سبق ذكره. ص 271.
7- البخاري, محمد بن اسماعيل. صحيح البخاري. المكتبة العصرية, بيروت, ط 5, 1420, ج4, ص1939.
8- الغذامي, عبد الله. مصدر سبق ذكره, ص 95.
9- البخاري, محمد بن اسماعيل. مصدر سبق ذكره, ص 1936.
10- نفس المصدر السابق, ص 1939.
11- القرآن الكريم, سورة الشعراء, الآيات 224-227.
12- الطبرسي, الفضل بن الحسن. مجمع البيان في تفسير القرآن. دار إحياء التراث العربي, بيروت, ط1, ج7, ص 270.
13- نفس المصدر السابق, ص 270.
14- فضل الله, محمد حسين. من وحي القرآن. دار الزهراء, بيروت, ط1, 1408, ج17, ص 200.
15- مجلة فصول, المجلد السادس عشر, العدد الثاني, خريف 1997, ص 10.
16- نفس المصدر السابق, ص 182.
17- أدونيس, الشعرية العربي, دار الآداب, بيروت, ط2, 1989, ص 56.
18- نفس المصدر السابق, ص 50.
19- أدونيس, فاتحة لنهايات القرن. دار النهار, بيروت, ط1, 8991, ص249.
20-مجلة أبواب, العدد الأول,1994, ص12.
21- أدونيس, الأعمال الشعرية, دار المدى, دمشق, 1996, ج1, ص116.
22-مجلة فصول, مصر سبق ذكره ص 80.
23- نفس المصدر السابق, ص197.
24- نفس المصدر السابق, ص198.
25- أدونيس, الشعرية العربية, مصدر سابق, ص 64.
26- نفس المصر السابق ص 75.
27- مجلة فصول, مصدر سابق, 186.
28- مجلة دراسات فلسطينية, العدد 41, شتاء 2000, ص 113.
29- نفس المصدر السابق, ص 133.
30- مجلة أبواب, مصدر سابق, ص 12.
31- أدونيس, فاتحة لنهايات القرن, مصدر سابق, ص 245.
32- نفس المصدر, ص 249.
33- نفس المصدر, ص 249.
34- نفس المصدر 245.
35- مجلة أبواب, مصدر سابق, ص9.
36- أدونيس, فاتحة لنهايات القرن, مصدر سابق, ص 262.
37- نفس المصدر, ص 246.
38- نفس المصدر, ص 239.
39-نفس المصدر, ص 239.
40- نفس المصدر, ص 272.
41- نفس المصدر, ص 289.
42-نفس المصدر, ص 290.
43- مجلة دراسات فلسطينية, مصدر سابق, ص 122.
44- نفس المصدر, ص 122.
45-أدونيس, فاتحة لنهايات القرن, ص258.
46-نفس المصدر, ص 296.
47- الغذامي, عبد الله. مصدر سابق, 271.
48- نفس المصدر, ص 281.
49- نفس المصدر, ص 293.
50- الغذامي, عبد الله. تأنيث القصيدة والقارئ المختلف. المركز الثقافي العربي, بيروت, ط1, 1999, ص186.
51- نفس المصدر, ص185.
52- نفس المصدر, ص 186.
53- مجلة فصول, مصدر سابق, ص 197.
54-نفس المصدر, ص 197.
55- نفس المصدر, ص 197.
56- نفس المصدر, ص 198.
57- أدونيس, الأعمال الشعرية, مصدر سابق, ج3.
58- أدونيس, فاتحة لنهايات القرن, ص 243.
59- نفس المصدر, ص244
حسن المصطفى كاتب من لبنان