بفضل عنايته اللامتناهية وبمناسبة عيد ميلاده, قرر القائد الأعلى المحبوب جدا من طرف الشعب والصانع المهيب للتاريخ, أن يكون هذا الأربعاء عيدا رسميا معطلا ومؤدى عنه بسخاء لكل مستخدمي الإدارات والمقاولات, بما فيهم من يكافأ عن الساعة أو عن اليوم, أن يكون عطلة دراسية للتلاميذ والطلبة الذين ستوزع عليهم, بالمجان,وجبة مرفوقة باعلام صغيرة عليها صورته لكي يحركوها، في الوقت المناسب, بتهييج وبلا انقطاع أما العين الضخمة للكاميرات التي أطلقت في شوارع العاصمة, هائجة أكثر من عجول صغيرة ظلت محبوسة مدة طويلة في حالة جنون بالإصطبل. فوق المراقي الأولى بمحل اقامته المظلل, سيأتي البدريون لعرض أجمل فواكههم, والشعراء لإنشاد أجمل قصائدهم وأجمل الفتيات ليغنين تزلفهن بصوت مرتفع. وقد أمرت الإدارة الدكاكين التجارية بعدم الإغلاق إلا بعد منتصف الليل نكاية على واجهاتها الزجاجية المعوزة التي عليها أن تظل مضاءة طيلة الليلة, كذلك المقاهي التي تسلمت خلال هذا النهار بإيصال, ويأمر سام شحنات من المشروبات المتعددة الألوان والعصير المتنوع, نفس الشيء بالنسبة للمطاعم ذات قائمات الطعام الفقيرة عادة التي يمكنها، بالمناسبة, أن تقدم للضيوف السعداء ليس فقط اللحم الأحمر والأبيض, بل كذلك, للعقبة, فواكه أجنبية, رغم أن هذه الأخيرة غائبة منذ مدة عن منضدات بضائع تجارنا والتي لا علم لأطفالنا بوجودها وبترخيص من الوالي سيسمح للحانات, المراقبة باستمرار مثل أفكار المثقفين, بأن تقدم حتى الفجر الجعة التي تزيد في الشاربين المذكرين وجميع أنواع المشاريب الروحية المستوردة بالعملة الصعبة, التي حلت قنيناتها الكثيرة الأشكال أخيرا لتزيين الرفوف الجدارية المعراة بحزن أكثر من الوضع الموهن للعاشقة في نظر العاشق ذي الرغبة المشبعة, والتي يبكي مشهدها حنينا.قدماء السكارى الذين يذكرون بالأزمنة النائية أكثر من الفرح, سيجاوزون الحد هذا المساء، بلا حشمة, من مشاريب الأيام الغابرة التي ظهرت من جديد بمعجزة.
لهذا اليوم المشهود، أعيد دهن كل البنايات بالأزرق والأبيض على نمط واحد، نفض الغبار عن الأشجار هزيلة البنية والمصابة بداء السعار، مد المصابيح المركزة العمياء بالكهرباء، غسل الشوارع الرئيسية بالكثير من المياه على حساب السكان الذين كانوا يعرفون أن عليهم دفع ثمن هذا التبذير السائل من صنابير عقيمة منذ مدة, كما تم منع المزاريب من الصب في الشوارع, والمتسولين والمتسكعين من إظهار أرنبة الأنف, دعوة القليل من المثقفين الذين مازالوا أحرارا الى البقاء في محل اقامتهم, محو حالات الانتحار والجنون الساخط من الإحصائيات, والتفكير في تعبئة الساعات العمومية التي جعلها النسيان مصابة بالحرض, تزيين واجهات البنايات بالمصابيح الملونة والشعارات السمنجونية, كساء كل مسؤولي الحزب العظيم للشعب بالنزاهة,مباشرة إصلاح كل كتب التاريخ, طرد الصحفيين الأجانب, أمر السماء بمحو سحابها, إخفاء آخر معارض سياسي في غرفته بالفندق, وهو المعارض الذي سبق أن تقرر العفو عنه مؤقتا ليصلح كبش فداء للاستياءات الشعبية القادمة, إغناء بيان سيرة كبار موظفي النظام بأعمال باهرة وتحريف بيان سيرة زوجاتهم بالاحتشام, أمر كل المتزمتين بحلق لحيتهم وتعمير الشوارع بإسراف في الأعلام التي أمرت بالخفقان رغم انعدام النسيم.
بإمكان سائقي السيارات التزمير تعبيرا عن فرحتهم والتوقف حيث يحلو لهم, كما تم الترخيص للسفارات الأجنبية أي طلب تأشيرة, لكن فقط في هذا اليوم المشهود وشريطة أن تبلغ فورا مصالح الشرطة بأسماء المرشحين للسفر. وسيكون بإمكان سجناء الحق العام أن يتابعوا مشهد الأفراح على شاشة التلفزة.يعلم المراهقون أن الفتيات سيخرجن مترصنات أو مثيرات وأنهم سيتجرأون على الاقتراب منهن لمخاطبتهن بفضل الظليلات أو بسهولة أكثر بفضل امتدادات التجمهرات التي ستنشط الساحات العمومية الكبرى حول الأجواق المجهزة بمكبرات صوت جهنمية مستوردة في طائرة شحن من البلدان العاشقة للموسيقى.
أعلنت الجرائد أن عفوا شاملا سخيا قرره القائد الأعلى المحبب جدا من طرف الشعب والصانع المهيب للتاريخ, قد حرر ألف سجين, أفرج عن الفرانين مجوعي الطبقات الشعبية الذين كانوا اعتمدوا على وزن وثمن الرغيف المستطيل, البقالين غير الأمناء الذين كانوا قد تكسبوا من حليب الرضع بمزجه بالجبص, القهوة المطحونة بإضافة الحمص, أفرج عن الصيادلة مصرفي الأدوية المبطلة بعد انتهاء صلاحيتها، المطبعي شارد الذهن الذي كان قد وهب عيونا زرقاء لصورة القائد الأعلى المحبوب جدا من طرف الشعب والصانع المهيب للتايخ, أفرج عن صبية الشوارع الذين كانوا قد اتلفوا الزهور القليلة في الحدائق العمومية القليلة تعبيرا عن احتجاجهم على الموت البطيء الذي تم تخطيطه لهم, أفرج عن المتظاهر الوحيد الذي كانت الصحافة قد أعلنت منذ شهور وفاته بسكتة قلبية قبل ذلك.
حوالي منتصف الزوال, اجتاح الشعب الشوارع بكثافة. لفظت الأحياء الآفلة بالسكان محتوى أجوافها باتجاه الشوارع الكبيرة. لم يعد بإمكان قاعات السينما تخزين المتهيئين للملم, اقتحمت دكاكين باعة الحلويات من قبل الشابات النهمات اللائي يتدافعن لينات الأرداف أثناء احتكاك الحرير الناذر بالقطن الخشن للدجينات, باعة الحجارة الملونة المتجولون بدون ترخيص يرون أثمتنهم ومنتجاتهم تطير.
الحشد السائل بصعوبة أكثر فأكثر يملأ الساحات حيث انتهى من إقامة الخشبات المخصصة للأجواق.
غسق اليوم المشهود، بينما كانت المهرجانات تشهد انطلاقتها، توصل رئيس أمن الدولة بالنبأ كان هذا الساهر الذي يدير الكثير من الأسرار الخطيرة الى درجة أنه أمر بتسوير جميع نوافذ مكتبه المتعذر بلوغه أكثر من طريق الجنة, يتحول شيئا فشيئا الى وحش جهنمي مشوه ولزج لم تكن تلمع منه سوى العيون ذات الجمال الأخفش. لم يكن يعيش سوى لملفاته المذللة أكثر من أطفاله الأربعة مدبرا أو مفككا المؤامرات الأكثر دهاء بالشراسة الفرحة لشيق ينقض على فريسته. كان قد تكلف بتدبير قتل كل الأصحاب الذين كان ماضيهم يهدد بإلقاء الظل على المحبوب جدا من طرف الشعب والصانع المهيب للتاريخ, باختطاف كل المعارضين السياسيين بمن فيهم اللاجئون الى الخارج وتعذيبهم حتى الموت, بأن يعرض للشبهة، في قضايا مشينة, جميع الخصوم الكامنين الذين يجدون أنفسهم محكومين بالسجن المؤبد والذين كانوا يموتون, الجماعة بعد الأخرى، بوباء السكتة القلبية في السجن ؛ بنفي الخلفاء المزعومين، الذين تجرأوا على الإيمان بمستقبلهم الى السفارات المنسية أكثر، بنصح الوزراء الأكفاء بتقديم استقالتهم مباشرة, بالتسلل الى جميع النقابات العمالية ذات الخضوع القطعي مع ذلك, كما كان قد ملأ بمخبرين يعملون لصالحه الجامعات والمكاتب الوزارية, المقاولات والمساجد، الزوايا المعتمة في المدن والطوابير أمام المتاجر الكبيرة. كانت هذه المجسات المقلقة تمتد عبر البلاد كلها وكان مجرد ذكر اسمها كافيا لزرع الرعب.
لم يكن قد بقي غير رجل واحد لم يتمكن لا من إرشائه, ولا من إرهابه ولا من إخضاعه. لذلك أمر بسجنه في أكثر السجون فظاعة.
– لقد فر !
استدعى رئيس أمن الدولة, فورا، حارس السجن, قائد أركان حرب القوات الثلاث ومجهولا له لحية غامضة.
وكما لو كانت مصابة بالغثيان أخذت الثكنات المحيطة بالعاصمة تتقيأ جنودها، رجال شرطتها مظلييها، وحداتها الممتازة, مجموعات تدخلها السريع, حراسها الخاصين, كموندوهاتها المختصة في الصدام,
ألويتها المقاومة للفتن, فصائلها المضادة للإرهاب, متخصصيها في المطاردة؛ الكل مسلح بالمسدسات, بالبنادق, بالقنابل اليدوية,
بالرشاشات وبجميع أنواع أجهزة كشف الاعتلام, الاستماع,التشويش, التعقب, إزالة الألغام. نفذ الكل بأقصى سرعة الى الشوارع ؛ الدراجات النارية, سيارات الشرطة المعلمة والممتهنة, الشاحنات, المدرعات نصف المزنجرة, الجيبات, المصفحات ذات العجلات, ذات الزناجير، البرمائية منها والصالحة لكل الأراضي، بينما نشطت السماء بضجة الحوامات, طائرات المطاردة, قاذفات القنابل.
لقد احتجز مدة طويلة الى درجة أنه نسي وجه أمه, فقد ذكريات طفولته ولم يعد يعرف لون السماء. لم يعد يعرف ما تشبهه ثغثغة رضيع, كما لم يعد يشعر بالحنين الى لازمة قديمة مدندنة بلا مبالاة. لم يكن يعيش, منذ مدة طويلة, سوى ساعات ليلية كان ظلامها يعمق القلق, وسط الضجة المخنوقة للجزمات, صلصلة الأسلحة وهي تلقم, التعليمات المهمومة خلف ظهره. وكان يخشى بوجه خاص تطفل هؤلاء المبعوثين السريين وباردي الطبع الذين لم يكونوا يحقدون أو تخمد همتهم أبدا. فقد كانوا يلحون بإصرار، طار حين بهدوء للمرة الألف نفس السؤال ومتلقين بسلامة نية نفس الجواب المسجل بنفس الانكباب. لم يكونوا يعدلون عن احتراسهم القار سوى ليسمحوا لأنفسهم, بين الفينة والأخرى, ببعض المسارات الكاذبة بمثابة تهديد. كان هؤلاء الرجال المهذبون والمحترمون يبدون وكأنهم يجهلون كل شيء عن المعذبين الذين يعلنون وصولهم حال ذهاب الأولين ولا يخرجون حتى الفجر الشاحب. كان السجين قد أدرك أخيرا أنه يخشى الأولين أكثر من التالين.
مقابل كلمة واحدة وعدوه بكل شيء: صباحات متألقة لأبسط إنسان, للأبابيين أكثر عودة الماضي، اعتراف القادة العلني بكل الأخطاء المرتكبة, بجحودهم للعدالة وتجاوزهم للسلطة: وضع حد لمنذرة البطاطس وأن يصبح كيلوجرام اللحم أرخص من ابتسامة مولودي الأخير، لكل مواطن حق التبليغ عن دناءة رؤسائه وضمان أن يرجعوا ما استولوا عليه مرة كل عشر سنوات, منحه راتبا أكثر ارتفاعا من أعلى جبل بالبلاد بدون اعتبار المكافآت وامكانية أن يحول ما يعادل أجره الشهري الى عملة صعبة كل سنة, هبة سيارة مستوردة مباشرة من اليابان يجدها في استقباله بمجرد أن تفتح البوابة بطاقة ثلاثية الألوان ستسمح له, دون أخذ مكانه في الطابور، بالوصول الى أفخم محل تجاري مخصص للتزود من كل أنواع الجبن العالمي دون اعتبار الزبدة التي تذوب في الشمس كما قلبي أثناء مداعبات زوجتي، ضمان تعليم أبنائه بسويسرا مواكبين صباح مساء بطائرة خاصة بين أبناء الأعيان, تحرير كل المعتقلين السياسيين, الكتاب والمفنين المعارضين, وابطال الرسم الإضافي على الويسكي، إمكانية خروج المواطن الى الخارج دون ازعاج, ولأكثر الناس يأسا الحق في أن يقول بئس الـ..
وعدوه بكل شيء مقابل كلمة واحدة.
قال لهم: طز !
أخذ يجري عبر شوارع المدينة, سالكا غريزيا الطرق الأكثر ظلمة, الطرق التي ترتادها قلة من الناس والقابلة أقل للارتياد، بأمل النفاذ الى حيه الأصلي, الملجأ الوحيد غير أن زقاق طفولته ظل متعذر الوجود، زقاق الجزارين ذوي المناضد الممتلئة بالدم, الدباغين بآبارهم المغثية حيث تنقع الجلود, الصباغين ذوي لفائف الصوف المتعددة الألوان التي تقطر تحت الشمس, النحاسين المرئيين بالكاد داخل أكواخهم المعتمة, زقاق الباعة المتجولين بلا رخصة, أصحاب البضائع المنشولة من المتاجر الأنيقة, تجار الرثاث المتجولين العارضين ملابسهم الخاصة للبين, زقاق النشالين الذين تمنعهم أدبياتهم الملزمة من نهب سكان الحي، زقاق مواخير الدرجة الأخيرة التي تقبل وحدها القاصرين خفية شريطة أن يرضي هؤلاء حاجتهم الطبيعية في أقل من دقيقة, الأمر الذي لا يعرض أصحاب هذه المواخير إلا نادرا، زقاق جميع المواد المهربة, اللصوص والبائسين من كل صوب وحدب, صبية الشوارع, السكارى، العاطلين, اليتامى، الجائعين, المعوقين..
لكن كل شي قد تغير في المدينة كانت سابقا جذابة ومانحة نفسها، ضحوكة في صباحاتها المشمسة, تسمح بغنج للسياح بتصويرها، المدينة المنطوية اليوم على نفسها مثل شيهم مهاجم, فزعة مهددة, عدوانية اتجاه الغرباء، بشوارعها الجديدة ذات الزوايا الحادة جدا، جاداتها التي لا تؤدي الى أي مكان, أحيائها المحصنة, ما طورتها النائية, ألوانها النوراستينة, لياليها المهملة, والأكثر خطورة من كل هذا، أن المدينة قد طلقت البحر الذي كان يغمر قدميها وأضلت الأحياء الشعبية التي كان الهارب يبحث عنها، فمن زقاق الى زقاق كان الفار يصطدم بلا مبالاة أبواب العربات, منبوذا دائما ولاهثا يتابع عدوه المنتظم كطنانة عمياء، نحو أبواب لامبالية هي الأخرى ونحو نفس الأرصفة غير المضيافة.
فجأة ينفذ الى الساحة نصف الدائرية, المضاءة بوفرة بألف منوار قاس. يجثو لاهثا. ترف عيناه. كان طائر الليل مبهورا. فات أوان التراجع. يحيط به الآن بعض المدرة. ينتصب الرجل من جديد بمشقة. إنه ضخم كما لو كان على مطوا لين. مختل التوازن, يترنح على ساقيه الطويلتين, ينحني نصفا الأعلى, يجازف ببعض الخطي المسرعة لاسترجاع ثباته, فيتراجع المتسكعون مرعوبين مهيئين له فضاء يعزله. عيونه الجاحظة في حالة جنون, ابتسامة مغشوشة تجعل وجهه الذي ينضح شبيها بالقرد. الدثار الأحمر الكبير الذي كان يتخطى به, يضفي عليه مظهرا مسليا للمحتفلين الذين يلتحمون مشكلين نصف دائرة.
إنه مطوق, لم يعد بإمكانه الهروب.
يتراجع, يتراجع ويسلم ظهره للجدار. يحاول استرجاع نفسه مبتلعا ريقه ومفتوح الفم. إنها مجهودات مضحكة.
يتقدم من جديد متفكك المشية.
-إخوتي ساعدوني، ذمذم باذلا مجهودا بكل أحشائه.
نظره يمسح الحضور مسرعا أكثر من مشكال. التجعدات العميقة التي تحفر وجنتيه تبرز لا مألوف هذا الوجه القلق. الأكبر سنا، منتبهين للابتسامة المتكلفة, يعتقدون أنهم قد كشفوا فيها سمة ألفة. منذ زمن بعيد، قرون سالفة حين كانت ليالي المدينة لا تزال نشيطة, الحانات مزودة بالمشاريب الروحية بشكل مضبوط, المعارضون السياسيون يتمتعون بالحياة وبحرية التعبير، الجرائد والمجلات مفتوحة في وجه الكتاب, السجون المحولة الى متاحف لم تكن قد تحولت من جديد الى سجون, حين كانت الكتب تزين رفوف المكتبات, حين ~ن ممنوعا على الشرطة دخول الجامعات حين كان الحزب الشعبي العظيم يقبل المعارضة, حين كانت الفتيات يلبسن حسب رغبتهن غير خائفات من أن تتم مهاجمتهن, حين كان كبار الأعيان يتجرأون على التسوق دون خوف من أن يكونوا ملنشين, حين لحان لا يزال بإمكان المرء الغناء في الشارع حتى تحت المطر، دون خشية أن يتم تقديمه الى محكمة أمن الدولة, حين لحان تسيير البلاد يتم دون نجدة الدعامة البترولية, حين كان الصنوبر البحري لا يزال يضطلع بعزته مستقيم الانتصاب نحو السماء، وصديقي عازف الكمان لا يزال يحمل صليب فنه, حين كان ثمن الرغيف المستطيل أرخص أربه مرات, حين كان كل أصدقائي عاطلين ولم يتحولوا بعد الى سكارى، حين كانت سفارة دولة عظمي لا تزال مخربة, السفارة التي تم تخريبها يوم غضب شعبي، قاعات السينما قابلة للارتياد، كتب التاريخ غير خاضعة للرقابة والبحر لا يزال هنا يلاعب التنورات الداخلية للمدينة, في تلك الأزمنة السحيقة كان وجه هذا الرجل يبهج الصفحة الأولى للجرائد, ينور شاشة التلفزات, كانت تتم مشاهدته في كل مكان, طيفا مألوفا يتم التعرف عليه بسرعة ويحتفى به في الاجتماعات والمظاهرات الشعبية, الاستعراضات وأيام التطوع قادما لمساندة عمال أرصفة السفن المضربين, عند بدوي داخل البلاد، أثناء تخريب تلك السفارة التي أعيد بناؤها اليوم, أو فقط متنزها في الشارع أثناء حلول الليل.
بعد ذلك, وفجأة اختفى الرجل, تلقفته أغوية العدم,كان لابد من إتلاف الجرائد القديمة التي كان فيها اسمه أو صورته, تطهير أشرطة أخبار المرحلة من بعض الصور، إفراغ المقعد الذي كان يحتله في الاجتماعات والمؤتمرات العمالية, سجن كل المؤتمنين على أسراره وأصدقائه, وضع حيه الأصلي تحت المراقبة الشديدة قبل تقرير تغيير مكانه, منع ذكر اسمه والزام حاملي نفس الاسم بتغيير اسمهم, تدمير الفيلا التي كان يقطنها لإعداد حديقة عمومية بها، إحراق كل كتب مكتبته بعد تصفحها الواحد بعد الآخر بحثا عن وثائق سرية أو معرضة للشبهة, اقتلاع عدة صفحات من كتب التاريخ, محو وجهه من الذاكرات العامية.
– ما دمنا لا نستطيع استدرار شفقة قادة هذا البلد، ساعدوني على إرشائهم, صبوا أمامي جبال الأهوال, كل ذهب وحلي نسآئكم, وما أمكنكم الحصول عليه كإرث, ما تمكنتم من سرقته, في خزائن البنوك أو أكياس نقود مدبرات البيوت, من سلب الدولة بتواطؤ مع الجماعات الأجنبية, أو بخلاف ذلك, ما تمكنتم من توفيره بأناة كل نهار مثقل بالكد، كل ليلة سهاد.. إن أقلهم درجة في السلم الإداري, تلزمه ثروة لا تستطيع أكثر الخيالات جنونا تصورها, لأنهم تعودوا جميعا على البذخ والتبذير، على الحمامات ذلت صنابير الذهب المصمت التي يتم التحكم فيها بشكل إلكتروني من غرف نومهم الكثيرة التي تفرض عليهم الاستيقاظ ليلا للتمتع بجميع أسرتها، وبزوجاتهم المثقلات بالحلي أكثر من أغصان شجر الرمان في نهاية الخريف ؛ تعودوا عل نزوات أبنائه المتطلبين أكثر من نجمة أحلامي، على مكاتبهم المزينة بمهارة مثل ماخور باذخ, على هوسهم بنساء الآخرين, شراهتهم للأدوات الأجنبية وتكويم منتجات مهددة مجاملة من طرف شركات الدولة.
ينتصب ثانية لامنته كيوم غياب الكائن المحبوب.
– نعلم أنتم وأنا، أن السلطة جعلتهم متغطرسين أكثر من ملوك بمقتضى الحق الإلهي، متغطرسين أكثر من جنيرالات منتصرين ليلة المعركة, متوحشين أكثر من أسود أساطيرنا، محتقرين لنا أكثر من احتقارهم لزوجاتهم اللائي لم يعودوا يمتنعون عن احتقارهن صباح مساء، وأكثر بكثير اتجاه كل امرأة أخرى منقلبة على ظهرها, منافقين أكثر من تمساح جائع, مغثيين أكثر من صناديق قمامة الأحياء السكنية التي ينسى عمال التنظيفات المستعجلون إفراغها، ماكرين أكثر من الحرباء التي تترصد فريستها, متأهبين لاتخاذ كل الألوان وكل الفضائل, ومستعدين لإلقاء كل أنواع الخطابات, لاعنه ن البارحة ما عشقوه بالأمس ليعشقوا اليوم ما كان قد ذموه, مرتشين أكثر من باعة مستودعات الدولة غير أنهم أكثر قلقا من بدويين ينتظرون القطرات الأولى للمطر، أكثر من أمهات يراقبن حمى أطفالهن, من عاطل يخشى الغد، من خطيبة تنتظر عودة حبيبها من المنفى لتنقض عليه في عناق جنوني لكنها، بمجرد أن تشبع رغبتها الأولى, تدغدغ وعيها شكوك الخيانة جائرة بمقدار جهلها لشراسة المنفى وليالي عزلته الفظيعة, عذابات الطيف الوحيد الذي يحاذي الشارع بعد الشارع بحثا عن صفو روحه المتعذر الوجود. أجل أنهم أكثر قلقا من ذلك, واذا أردتم سنمضي هذه الليلة, الكتف على الكتف,نحو الحي الذي تختبيء فيه إقاماتهم بخزي في ظل الأشجار الكبيرة.سنمر من أحياء الشعب الذي سيقبل السير وراءنا بعد الدعوة الاولى, سنمزق في الطريق تلك الماطورات الكبيرة التي التي تعرض ابتساماتهم الخادعة, سنحرق التعاونيات الخاصة التي يتمونون منها بلا حياء من المنتجات الخاصة المستوردة, سيهز غضبنا جدران مكاتبهم المكيفة الهواء. وسنذهب إذا رغبتم في ذلك, لنهب صالونات التجميل التي تأتي اليها زوجاتهم لترميم المظهر. لن ننسى أن نخرب, في الطريق, بناية الإذاعة التي ترهقنا بخطبهم المقرفة وأن نحطم كل العربات الحمراء الزاهية التي نصادفها في الطريق. سيكون سهلا أن نتجاوز حواجز الشرطة والحواجز الشائكة التي لن يفوتهم نصبها لاحتوائنا، أن نحول ضدهم بنادق الحراس الذين يدفعون لهم أجورا من ذهب, لكن هؤلاء الحراس كانوا دائما يكرهونهم, وحين يكون الخوف قد عطل رشاشاتهم الأتوماتيكية المتربصة غدرا في زوايا الشوارع, أصم صفارات إنذارهم الموصلة مباشرة بكل ثكنات البلاد،عطل الميكنيزمات الدقيقة الخاصة بإغلاق أبوابهم المصفحة, وأرى السراديب السرية التي توجد عند مخرجها طائرات مروحية متأهبة للطيران. عندها سنكتشفهم عراة, وجوههم متشنجة بالرعب.
يشرق وجهه بابتسامة طفولية.
– سنجعلهم يعترفون بكل شيء. عليهم أن يخبرونا لماذا كانت أمهاتهم ترفضن الغناء فوق مهودهم,لماذا لجأت زوجاتهم المتعددات الى الانتحار أو الى مستشفى المجانين, لماذا يشمئز أطفالهم من الابتسام لهم, لماذا يهتز الهواء عند ظهورهم, تفر الحيوانات, تكف الشابة العاشقة عن الفناء، تزمجر السماء غضبا، تذبل الزهور, تجف الينابيع, يبكي الرضيع…: عليهم أن يخبرونا مقابل كم من الاغتيالات أخذوا السلطة, مقابل كم من الاغتيالات الأخرى حافظوا عليها, بأية معجزة استطاعوا في هذه المدة الوجيزة تبذير ثروات البلاد لماذا عهدوا للأجانب بكل شيء من باطن الأرض حتى الهواء الذي نستنشقه: المعامل التي يجب بناؤها, الفنادق التي يجب تسييرها،الطرق والسكك الحديدية التي يجب شقها، أمراضهم التي يجب علاجها، المساجد التي يجب تشييدها، المعابد التي يجب اقامتها, المستشفيات التي يجب تجهيزها، أطفالهم الذين يجب تكوينهم, الميتروات التي يجب حفرها، نساؤهم اللائي يجب كساؤهن, تماثيل الأبطال الوطنيين التي يجب فحصها. عليهم أن يخبرونا كيف نميز المؤامرات الصحيحة عن المؤامرات الكاذبة من كل ما أذاعوه, كيف استطاع أن يصبح من الأعيان ذلك الجاسوس المدان لأنه سلم لأجانب سيئين ما لم يعد لنا من أسرار الدولة واعدم بتهمة الخيانة العظمي. عليهم أن يشرحوا لنا لماذا يزورون الخبر، التاريخ, صناديق الاقتراع, توقيت جرينتش المتوسطي، الأرصاد الجوية, أرقام مسك دفاتر الدولة. يواصل نصف الدائرة تكثفه.
– بعد تفحص أر شيفاتهم وأ شرطتهم الممغنطة, سنقيم لهم محاكمة عمومية, سنعرض في وضح النهار كل دناءاتهم, كل فضائحهم, مساوماتهم المشؤومة, معاكساتهم الدنيئة, حيلهم السوداء وكل خستهم سننشر كل الوثائق المجدية ونجعلهم يردون على كل كبائر أمام مجلس هاديء، إننا لا نريد انتقاما بل عقابا عادلا. سنسهر بدقة على أن يتمتعوا بكل الحقوق التي تقرها لهم تلك النصوص التي سخروا منها ألف مرة ومرة رغم أنهم كانوا قد تصوروها ملائمة لهم بدقة. صمت الرجل, همسات الحشد تستحسن خطابه.
– بعد ذلك سيكون علينا اختيار أكثرنا حكمة لنطلب منهم أن يصدروا لنا قواعد وقوانين تحتاط من كل التسلط. سنبقى نكاية على ذلك متيقظين..
الحشد مستعد للسير وراءه.
يخترق الرجل ذو اللحية الغامضة نصف الدائرة, يتقدم ببط ء في الساحة المتوهجة نورا وهو يمسك مسدسا. تراجع الخطيب بعد أن تعرف عليه, أسند ظهره للجدار، الرجل يصوب سلاحه نحو صدع الفار ويضغط على الزناد مرة واحدة.
بعد ذلك وانصرف بهدوء.
لم يتحرك أي إنسان.
الفار
بقلم:رشيد ميموني (كاتب من الجزائر)
ترجمة:سعيد رباعي (شاعر من المغرب)