كاتب وأكاديمي من مصر .
تبدو مغامرة السينما مثل مغامرة الفلسفة. ويمكن لقراءة أولية لأسطورة الكهف الأفلاطونية أن تدعم هذه المقارنة[.. فعندما كان أفلاطون في معرض تمييزه بين العالم المحسوس والعالم المعقول في محاورة «الجمهورية»، شبه الذين يعيشون في العالم المحسوس بأناس يعيشون في كهف منذ ولادتهم ولم يخرجوا منه أبدًا، وهم مقيدون بأغلال تربطهم في جدران الكهف، بحيث لا يتمكنون من الالتفات وراءهم. وعند مدخل الكهف توجد أشياء مثل الشجر والحيوانات والأشخاص الذين ينعكس ظلالهم على الحائط الداخلي للكهف. ويعتقد أهل الكهف أن ما يرونه من ظلال هو أشياء حقيقية لا مجرد أخيله لموضوعات مادية تقع خارج الكهف. ووفق هذا التشبيه يحكم أفلاطون على العالم المحسوس الشبيه بعالم الكهف بأنه عالم الأوهام والأخيلة الزائفة(1).
والحقيقة أن شكل الكهف الذي يصفه أفلاطون يتطابق مع شكل الكاميرا التي يعني اسمها الأصلي الغرفة المظلمة camera obscura. فالكهف كما يصفه أفلاطون به ممر طويل ضيق ينتهي بفتحة صغيرة، ويكاد أهل الكهف لا يشعرون بهذا الممر، والكاميرا كذلك هي كهف مظلم لا يدخله الضوء إلا من فتحة صغيرة هي العدسة(2). على أن الأهم من ذلك في هذه المقارنة هو وضع من هم بداخل الكهف الشبيه مع وضع المتلقين داخل قاعة العرض «فداخل قاعة مظلمة يشاهد أشخاص جالسون عرض أشكال من الصور المضاءة من الخلف. فهم يحضرون لعرض خاص بالمشاهد الواقعية معتقدين أن ما يرونه يمثل أشياء العالم، في حين أن الأمر لا يتعلق بالواقع الفعلي» إنه عالم مختلف بالكامل يمكن تلخيصه في كلمة واحدة فقط هي السينما. والواقع أن أفلاطون لو كان يحيا بيننا لوجد في قاعات العرض خير تطبيق لإمثولة الكهف، أو لوجدها نموذج أكثر واقعيه يمكن الاستشهاد به في تفرقته بين العالم المعقول والمحسوس.
1- الفلسفة .. السينما القطعية النظرية
لم تكن علاقة الفلسفة بالسينما خصبة أو مثمرة كما هو الحال في علاقتها بباقي الفنون، ربما لأن السينما فن وليد لا يتجاوز عمره قرنًا وبضع سنين، أو ربما لأنها فن شعبي جماهيري لا يخاطب النخبة وبالتالى يفقد صفة هامة من صفات الفنون التي تقاربها الفلسفة بما أنها هي الأخرى نخبوية. أو ربما أخيرًا لأنها (أي السينما (تنتج الأوهام والخيالات والنسخ المشوهة، أي أنها أداة تضليل-وفقا للتقليد الأفلاطوني- لا تنتج موضوعات من بين الموضوعات الواقعية، بل أشباه موضوعات. هذا فضلا عن وجود من يشكك في الأصل في جدوى هذه المقاربة، وقد نقل عن الناقد السينمائي(3) روجر إبرت R. Ibert قوله «لا علاقة للتأمل النظري للأفلام بالفيلم السينمائي نفسه»، وكان تعليقا موجها لما يراه توجها في الدوائر التنظيرية للفيلم المعاصر نحو تطبيق لغة «ساحرة وسرية» يصعب تتبعها، وتبدو بلا صلة مع تجربة المشاهدة السينمائية. كل هذا قد أدى إلى غياب، أو على الأقل تعطيل، التأمل النظري الفلسفي للسينما. وكما يقول جاكينتو لاجيرا «لنعترف أن اللقاء الذي لم يتحقق بين الاستطيقا والنظرية السينمائية راجع إلى الغياب شبه التام لتأمل الفلاسفة حول السينما. ويبدو أن أعمال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1926-1995)- التي فتحت الطريق أمام فلسفات ممكنة حول الفن السابع، لم تجد من يطورها فعليًا في حقل الاستطيقا»(4).
على أن بعض ممن لهم موقف مناهض لعلاقة الفلسفة بالسينما، يرجعون موقفهم هذا إلى أن التدخل الفلسفي في العمل السينمائي، ربما يؤدي إلى إفساد عملية التلقي الجمالي للصورة السينمائية، ويحصر الفيلم في مجرد مضمون، يحاول من لهم توجه فلسفي، صبغة بالصبغة الفلسفية. وهذا يشكل مصدر قلق للسينمائيين خاصة وأن «الفن ليس جعبة لعرض الأفكار» كما يقول ميرلوبونتي. إذ لو كان كذلك «لكان القائمون على العمل قد قدموا الفكرة مكتوبة أو على شكل سيناريو ووفروا بذلك العديد من الخطوات التقنية باهظة التكاليف»(5). ويعرض دولوز لهذا الرأي في خاتمة كتابه (الصورة- الزمن) عندما يقول «كثيرًا ما يراودنا الشك بفائدة الكتب النظرية عن السينما، وخاصة اليوم لأن المرحلة باتت رديئة.. لقد كان جودار يحب أن يذكر بأنه حينما كان مؤلفو الموجة الجديدة يكتبون؛ فإنهم لم يكتبوا حول السينما، ولم يؤلفوا عنها نظرية. فقط كانت تلك طريقتهم في إخراج الأفلام»(6).
تبدو العلاقة بالفعل بين ما هو سينمائي وما هو فلسفي مربكة بعض الشيء، إذ ما هي حدود هذه العلاقة وكيف ترتسم وهل فلسفة الفيلم- كما قد يتبادر إلى الأذهان- مجرد قراءة فلسفية للأفلام خاصة وأننا من الممكن أن نجد حضورًا لفيلسوف أو أكثر داخل بعض الأعمال السينمائية، بحيث يمكننا الحديث عن أرسطو في بعض أعمال شابلن وعن كانط لدى بيرجمان… إلخ وباختصار هل الأمر يقتصر على اقتناص وتصيد ما هو فلسفي فيما هو سينمائي؟ لاشك أن الفلسفة إذا ما سعت للقيام بهذا فإنها ستفقد الكثير من مكانتها وقوتها كما أنها لن تقدم جديدًا أو تأثيرًا يذكر، بل أن أحدًا لن يعبأ أو يكترث بما ستقدمه[ وستكون أشبه بمن يبحث له عن مكانة أو دور يسعى لإثباته مهما كانت الوسائل. حقًا ان السينما، أو الأفلام، غالبًا ما تتعرض لقضايا ناقشها الفلاسفة من قبل أو كانت موضعًا للبحث الفلسفي، بل البعض منها يقوم في الأصل على أفكار فلسفية لدرجة دفعت ألكسندر أستروك A. Astruc، وهو أحد رواد الموجه الفرنسية الجديدة، للقول في مقالته «الكاميرا قلم» La camera stylo «لقد أصبح في وسعنا تصوير المقال عن المنهج لديكارت وعرضه سينمائيًا»(7)، وهو قول يكشف في النهاية عن الإمكانات الهائلة لهذا الفن. والواقع أن هذا التقارب الذي يحدث أحيانًا من حيث الاشتراك في موضوعات واحدة قد أغرى البعض بالنظر إلى السينما على أنها ساحة لتطبيق الأفكار، مما دفع السينمائيين لأن يتخذوا موقفًا مناهضا لكل ما هو نظري، أو بحثًا عما هو فلسفي في أعمالهم.
يبدو قصر المقاربة الفلسفية للسينما على محاولة تلمس ما هو فلسفي في ما هو سينمائي بالإضافة إلى ما قلناه سابقًا تقليصًا واختزالاً للدور الحقيقي الذي من الممكن أن تقارب به الفلسفة السينما. هذا بالإضافة إلى أننا لو اقتصرنا على ذلك سنجد أن الدور الذي من الممكن أن تمارسه الفلسفة صالح للتطبيق في بعض الحالات (الأفلام) وغير صالح للتطبيق على حالات أخرى لقد قال بورديل «إن تحليل الأفلام لا يكتسب نفس الأهمية حينما يتم بسطه خارج إطار النوادي السينمائية. فالتأمل النخبوي، وحتى في حالة اهتمامه بالأفلام الشعبية، لا يتوفر على وضع يسمح به التأمل الشعبي. لأن الفيلم لا يأخذ الدلالة ذاتها حينما يتابعه ملايين المشاهدين أو حينما يراه المئات فقط، ولا علاقة للموضوعات التي تم التطرق إليها بهذا الوضع، فهل يجب على الفلسفة أن تكيف نفسها مع فهم الجمهور وأن تجد سننًا لهذا الفهم؟»(8). ما يمكن استخلاصه من نص بورديل أن التأمل الفلسفي للأفلام لن يكون له مردود سوى عند من يقوم بهذا التأمل، لأن السينما في النهاية هي الفن الأكثر شعبية أي أنها فن «غير نخبوي».. فن جماهيري، والجمهور لا يعنيه في شيء معرفة الجوانب الفلسفية للفيلم الذي يشاهده، بل أن الجمهور يتوجه في الغالب إلى قاعات العرض من أجل الاستمتاع فقط بما يشاهده دون تفكير، لذا كانت السينما دومًا أداة هيمنه وسيطرة على المتلقي، لأنها لا تترك له مساحة للتفكير والتأمل، وتلك نقطة هامة سنعود إليها لاحقًا. لكن إذا كانت السينما كما قلنا «لا تطلب منا التفكير فيما نشاهده» فإن السؤال هو إذا غاب التفكير، فماذا سيتبقى من الفلسفة؟»(9).
بداية نقول إن مقاربة الفلسفة للسينما ليست موضوعًا مستحدثًا أو وليد اليوم، بل هو قد ظهر في نفس الوقت الذي كانت تتلمس فيه السينما خطواتها الأولى، وكما يقول دولوز «من المفارقات المثيرة أن السينما قد ظهرت في نفس الوقت الذي كانت الفلسفة فيه تحاول التفكير في مفهوم الحركة.. كان هناك مشروعان متوازيان, الأول وضع الحركة في الفكر, والثاني وضع الحركة في الصورة, وقد تطور المشروعان بشكل مستقل قبل أن يكون هناك أي لقاء محتمل»(10). وقد كان برجسون بطبيعة الحال هو صاحب المشروع الأول. والحال أن برجسون لم يطرح فقط سؤال الحركة، إنما خصص الفصل الأخير من كتابه «التطور الخلاق» 1905 L,Evolution Créatrice عن السينما تحت عنوان «الوهم السينماتوجرافي» وفيه يقارن بين عملية التفكير والطريقة التي تعمل بها السينما، وهو أمر سنناقشه أيضًا، لكن الملاحظة الجديرة بالاهتمام، هي أن الفلسفة قد وجدت في السينما، قبل أن يكون للسينما هذه السطوة والمكانة، ما يدعو للتوقف والتفكير.. إنها- أي السينما- ظاهرة تثير تساؤلات وتستحق الدراسة والتأمل، لذا توقف عندها برجسون. ونستطيع أن نقول إنه مع برجسون بدأ ما يمكن أن نطلق عليه «التفكير في السينما». هذا التفكير لم يكن حكرًا على الفلسفة فقط، فقد انطلقت المقاربات من حقول معرفية عديدة كعلم الاجتماع وعلم النفس واللغويات، والشيء الهام هنا أن السينما عندما ظهرت بدأت تطرح نفسها كظاهرة تستحق الدراسة والتأمل ليس من داخلها فقط، بل استرعت انتباه ميادين معرفية أخرى عديدة. ربما بشكل يفوق باقي الفنون الأخرى. وبالتالي فإن مقاربة الفلسفة للسينما انطلقت في نفس الوقت مع مقاربات عديدة أخرى وجدت في السينما ما يستحق التوقف والتأمل. لذا فعلاقة الفلسفة بالسينما تشبه تمامًا علاقتها بباقي الفنون الأخرى التي كانت عبر تاريخها موضوع اهتمام العديد من الفلاسفة، وإذا كانت السينما هي أحدث الفنون، فالفلسفة لديها القدرة على استيعاب الجديد دائما[، لا لضمه تحت لوائها، أو لإعلان الوصاية عليه، وإنما لإظهار ما هو مشترك بينهما، خاصة وأن السينما تعمل من خلال مصفوفة من المفاهيم التي ناقشتها الفلسفة من قبل كمفهومي الحركة والزمن، وكما يقول دولوز «فإن نقاد السينما أصبحوا فلاسفة منذ اللحظة التي بدأوا فيها صياغة استطيقا السينما, إنهم لم يعملوا كفلاسفة لكن هذا ما أصبحوا عليه»(11).
النقطة الثانية المتعلقة بمقاربة الفلسفة للسينما تتعلق بسمة هامة تخص الحقل الفلسفي وهي «النقد»، إذ لا شك أن الفلسفة في الأساس «نقدية» أو أن «النقد» هو ركن أساس من أركان الموقف الفلسفي. وإذا كان سقراط ومن بعده أفلاطون وأرسطو قد حاولوا قديمًا التمييز بين أنواع الخطاب المختلفة، كيما يحددوا أياً منها يهدف إلى الحقيقة أو إلى الزيف والتضليل، فإن المستقر الآن أن أشكال الخطاب نفسها قد تغيرت تغيرًا يجسده تساءل جورج شتانير «هل نحن بصدد الخروج من عصر تاريخي كانت الكلمة تحتل فيه المكانة الأولى، ومن فترة تاريخية كلاسيكية كانت تحفل بالتعبير الأدبي وصولاً إلى مرحلة تضمحل فيها اللغة وتظهر فيها أشكال «ما بعد اللغة»(12). هذا التغير ارتبط بتطورات تقنية هائلة، تجعل من الصورة عمومًا والسينما خصوصًا كما يقول جيمسون «الفاعل المركزي الحقيقي، وقد تكون الوحيد»(13). لذا فإن جزءا من مهمة الفلسفة الآن اكتشاف مواطن الزيف في الثقافة البصرية المعاصرة من أجل الحد من السيطرة والهيمنة التي تمارسها.
2- المقاربات الفلسفية للسينما
من الملفت للنظر أنه على الرغم مما أحدثته السينما من ثورة على المستوى الفني ألقت بظلالها على المستويين الثقافي والاجتماعي، فإن قلة من الفلاسفة هم الذين نظروا إليها بعين الاهتمام أو كانت مناط بحثهم. ربما يعزو البعض السبب إلى أن السينما كانت- وربما ما زالت- في بدايتها الأولى، ولم تكن معالمها قد اتضحت بعد، لذا لم تسترع انتباه الفلاسفة، لأنها لم تكن بعد قد تشكلت كفن له استقلاليته، بل كان ينظر إليها لفترة ليست بقصيرة على أنها فن دخيل أو مزج لمجموعة من الفنون في قالب واحد، وربما هذا قد كان أحد أهم أسباب الهجوم على السينما في بدايتها الأولى، لكن الواقع أن السينما قد حققت طفرات وخاصة في النصف الثانى من القرن العشرين بحيث أنها أصبحت فنًا يفرض نفسه بالفعل في ساحة الفنون، وليس هذا فقط بل أصبحت هي الفن الذي تتوق إليه باقى الفنون رغبة محاكاته والاستفادة من أدواته، ولا أدل على ذلك من استخدام بعض التقنيات السينمائية في صناعة الرواية وفن التصوير. ورغم هذا كله أيضًا لم يلتفت إليها سوى قلة من فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا أمر غريب على الفلسفة التي سعت عبر تاريخها إلى مقاربة الفنون قاطبة.
سنختار في هذه الدراسة ثلاث مقاربات رئيسية، سنتناولها بالتحليل والنقد: برجسون، مدرسة فرانكفورت، الفينومينولوجيا(14).
2.1- برجسون والوهم السينماتوجرافي
كان برجسون من أوائل الفلاسفة الذين اهتموا بفن السينما. وقد خصص برجسون فصلا في كتابه الشهير «التطور الخلاق» 1905 لمناقشة الآلية التي تعمل بها السينما، وقد كان هذا ضمن سياق اهتمام برجسون بموضوع الحركة.
يبدو ضروريا في البداية أن نعرض للآلية الرئيسة التي تعتمد عليها السينما، سواء أثناء التصوير أو عملية العرض ذاتها، فهي التي بدأ منها برجسون تحليله لما أطلق عليه «الوهم السينماتوجرافي»:
كانت البداية في تاريخ السينما هي النهاية لتاريخ شيء آخر. وكان هذا الشيء هو المراحل العديدة التي تعاقبت وشهدت تطورًا تقنيًا كبيرًا خلال القرن التاسع عشر، فأصبحت الأدوات البسيطة التي تعتمد على الاكتشافات العلمية في مجال العلوم البصرية تتحول من مجرد استخدامها لأغراض الترفيه، لتتطور وتصبح آلات معقدة لديها القدرة على تصوير الواقع الحي، وإعادة عرض هذه الصور بطريقة تبدو معها الأشياء متحركة، أي كما تتم رؤيتها في الواقع الخارجي.
كانت الألعاب البصرية البسيطة، والآلات التقنية المعقدة على السواء، تعتمدان على قاعدة علمية واحدة تتعلق بالإدراك الإنساني وإمكاناته وحدوده، بحيث يرى أحيانًا أشياء ليست موجودة كما هي في الواقع الحي. لقد كان ذلك نوعًا من «الإيهام البصرى» الذي يعتمد على ظاهرة «استمرار الرؤية» Persistence of Vision بالإضافة إلى ظاهرة أخرى تدعى «ظاهرة في» L,effet Phi.
كان بيتر مارك روجيه عام 1824 هو أول من قدم وصفًا علميًا لظاهرة استمرار الرؤية[، وهي أمر يتعلق بالإدراك البصري للأشياء، فعندما ترى العين صورة ما ثم تختفي هذه الصورة، فإن العقل يظل محتفظًا بالصورة- وكأن العين ما تزال تراها- مدة تتراوح بين 1/20 إلى 1/50 من الثانية، فصورة الشيء تظل مرئية حتى بعد اختفاء هذا الشيء نفسه من مجال الرؤية. أما ظاهرة فاي فقد تحدث عنها عالم النفس الشهير ماكس فرتهايمر M.Wertheimer سنة 1912 من خلال عدة تجارب أجراها. فعندما تدور المروحة الكهربائية لا يرى الناظر إليها الريشات التي تتكون منها، لكنه يدركها على أنها شكل دائري متصل، تمامًا مثلما يرى طيف الألوان السبعة المرسومة فوق دائرة وكأنها لون أبيض متجانس، عندما تدور تلك الدائرة بسرعة فوق عجلة متحركة.
إن هاتين الظاهرتين هما السبب في أن المشاهد يرى الصور الفوتوغرافية الثابتة الموجودة على شريط الفيلم وكأنها صورة واحدة تدب فيها الحركة المستمرة بلا انقطاع، عندما يدور هذا الشريط في آلة العرض، وهذا هو جوهر الإيهام بالحركة المتصلة في الصور الثابتة، وهو الإيهام الذي يتأسس عليه وجود فن السينما.
فعندما يمر الشريط في آلة العرض يتم عرض صورة ثابتة لفترة شديدة القصر، ثم تختفي الصورة للحظة قصيرة تكون فيها الصورة التالية قد وصلت أمام العدسة، وهكذا تستمر العملية بهذا الشكل حيث يحدث «تذويب» صورة من طرف أخرى، مما يخلق الإيهام بالحركة، وتلك هي ظاهرة استمرار الرؤية، التي تتمتع بها العين البشرية، والتي بدونها سوف يبدو شريط الفيلم المعروض على حقيقته وكأنه سلسلة مستمرة من الصور الثابتة تقع بينها فترات مظلمة قصيرة. من ناحية أخرى، فإن «ظاهرة فاي» هي المسؤولة عن خلق حركة متصلة بين كل صورة على الشريط السينمائي والصورة التالية، عند عرض هذه الصور بسرعة تتراوح بين 12 و24 صورة (كادرًا) كل ثانية، على الرغم من أن تلك الحركة المتصلة هي حركة ظاهرية وغير حقيقية ومستحيلة الوجود، لكنها على أية حال الطريقة التي يدرك بها العقل البشري وجود الحركة، يقول تالبوت(15) F.Talbot «إن خدعة الحركة تزداد تأثيرًا، لأن جميع الأشياء الثابتة تحافظ على وضعها النسبي داخل كل صورة موالية». ويضرب تالبوت مثالا على هذا فيقول: لنفترض مثلاً سلسلة من الوحدات الضوئية المعروضة على الشاشة وتظهر لنا رجلاً ماشيًا في زقاق. ففي الوحدة الضوئية الأولى المعروضة يظهر الرجل وقدمه اليسرى مرفوعة وتظل هذه الصورة مرئية مدة جزء من 32 جزءا من الثانية، ثم تختفي فجأة. ورغم اختفائها فإن الذهن يظل مصرًا على رؤية القدم وهي مرفوعة بعض الشيء. وبعد مدة جزء من 32 جزءا من الثانية، يظهر الرجل في الصورة الموالية وقد وضع قدمه على الأرض. هكذا فإن المنازل والأشياء الأخرى الثابتة، ستأخذ الوضع الذي كانت عليه في الصورة الأولى، وبالتالي فإن الانطباع الثباتى الذي تركته هذه الأشياء، سينتعش في الوقت الذي سيتكون لدى الذهن انطباع بأن الرجل قد غير وضعية قدمه بالنسبة للأشياء الثابتة، وأن قدمه اليسرى التي رفعت من قبل قد انصهرت في الرجل اليسرى الموضوعة فوق الأرض». نخلص من هذا إذن إلى القول بأن الحركة المستمرة التي نراها على الشاشة والتي هي جوهر فن السينما لا وجود لها إلا في عقولنا فقط. تلك هي القضية التي توقف عندها برجسون والتي أثارت اهتمامه تجاه فن السينما وجعلته يخصص الفصل الأخير من كتابه «التطور الخلاق» لمناقشتها.
اتخذ برجسون من السينما موقفًا سلبيًا ورأى فيها نموذجًا للطريقة الكمية التي يتعامل بها العلم مع مفهومي الحركة والزمن، فالسينما شأنها في ذلك شأن العلم، لا تقدم لنا حركة حقيقية إنما تقدم لنا صور ثابتة تضاف إليها الحركة، ومن ثم فإنها توهمنا بالحركة دون أن تقدمها لنا «إنها المثال النموذجي للحركة الكاذبة»(16). فضلاً عن أنها تتعامل مع الزمن بطريقة كمية إحصائية، وهي في هذا تنطلق من نفس المنطلقات الإيلية (نسبة إلى زينون الإيلي) في تعاملها مع مفهومي الزمان والمكان.
وفقًا لبرجسون فإن السينما لا تفعل أكثر مما يفعله الإدراك الحسي الطبيعي في تعامله مع الأشياء، وفي هذا يختلف برجسون عن الفينومينولوجيا التي أكدت أن السينما قد أحدثت قطيعة مع شروط الإدراك الحسي الطبيعي، أو على وجود اختلاف في الطبيعة بين الإدراك الطبيعي والإدراك السينمائي. فثمة ما يدعوه برجسون بـ«المنهج السينماتوجرافي للتفكير»، وهو خاصية في رأيه تميز العقل الإنساني في تعامله مع المدركات الخارجية، فلما كانت الأشياء في حالة من التغير المستمر والصيرورة الدائمة، فإن العقل لابد أن يخلع على الأشياء الثبات حتى يستطيع التعامل معها أو إدراكها «إن نشاطنا، يقول برجسون، محصور في نطاق العالم المادي، ولو بدت لنا المادة على أنها سريان مستمر، لما استطعنا أن نحدد هدفًا لأي فعل من أفعالنا، ولأحسسنا أن كل فعل منها ينحل بمجرد تمامه بالفعل، ولما تكهنا بمستقبل يفر من أمامنا دائمًا» (17)، والعقل لا ينسب صفة التغير للأشياء، إلا إذا كان هذا التغير كبيرًا، غير أن الحقيقة هي أن صورة الجسم تتغير في كل لحظة، وهذا، وفقا لبرجسون، لا يدرك إلا بالحدس. أما العقل فإنه يميل إلى التقاط صور ثابتة ونمطية للأشياء، ويقوم بجمعها وتصنيفها، غير أنها تفتقد في هذا عنصرًا حميمًا هو من طبيعتها، إنه الحركة. يقول برجسون «ليست الصورة إلا لحظة تلتقط من انتقال مستمر، وإذن فإدراكنا الحسي يعمل هنا أيضًا على تجميد التيار المستمر للحقيقة الواقعية في هيئة صور منفصلة»(18). إن الإدراك الحسي في تعامله مع الأشياء يجردها من حركتها، حتى الأشياء التي هي في الواقع ذات حركة وتغير كبيرين (على سبيل المثال غروب الشمس وشروقها) فإنه يميل إلى تنميطها ويتجاهل حركتها «وسواء أكان الأمر خاصًا بالحركة الكيفية (الانتقال من حالة لأخرى)، أم بالحركة التطورية (التقدم مع الاحتفاظ بنفس الصورة)، أم الامتدادية، فإن العقل يعمل على التقاط مناظر ثابتة من الوجود غير الثابت»(19).
تفسير ما سبق أن برجسون يرى أن المنهج السينماتوجرافي للتفكير ضد فكرة الصيرورة التي هي مبدأ الحياة، فالعقل البشري ينتقل من حالة إلى أخرى، وتنتقل فيه الصور كما تنتقل في الشريط السينمائي، وهو يمنح هذه الصور الحركة كما تمنحها آلة العرض للشريط السينمائي، لكن هذه الحركة كاذبة لأنها ليست من صميم الأشياء كما أن الحركة في الشريط السينمائي وهمية لأنها ليست نابعة من داخله، بل هي مفروضة عليه من قبل آلة العرض. أما صيرورة الأشياء الفعلية، فالعقل لا يدركها لأنها تتجاوز حدوده وهي من صميم عمل الحدس.
2.2- مقاربة مدرسة فرانكفورت:
جاء اهتمام فلاسفة مدرسة فرانكفورت- بنيامين وأدورنو على وجه التحديد- انطلاقًا من اهتمام أكبر بما أطلقوا عليه «صناعة الثقافة» Der industrie kultur والتي مفادها أن للعوامل الاقتصادية تأثيرها المفرط والخبيث في المجال الثقافي، وأن الثقافة تحولت من كونها مظهرا من مظاهر انتشار الوعي إلى مجرد سلعة تصنع من أجل أهداف محددة تصب في النهاية لخدمة الرأسمالية المعاصرة «فالربح لم يعد عنصرًا غير مباشر في إبداع العمل الثقافي؟ لقد غدا كل شيء»(20). ولأن السينما في الأساس صناعة رأسمالية تتوجه للجمهور من أجل الربح، بشكل يفوق الفنون الأخرى، فقد كان من الطبيعي أن تمثل نموذجًا جيدًا للتطبيق كما ظهر ذلك في أعمال أدورنو وبينامين.
لم يكن هدف أدورنو في كتابته عن السينما وضع نظرية للفيلم أو حتى مناقشة الأبعاد الفلسفية للسينما، إنما تناولها كظاهرة ثقافية تمتلك القدرة على تزييف وعي المتلقي لخدمة مصالح الرأسمالية، لذا يمكن تلخيص موقف أدورنو في الإجابة على التساؤل الآتي: كيف تساهم السينما في اغتراب الإنسان المعاصر وتشيئه؟ لقد رأى أدورنو أن أخطر سمة تنفرد بها السينما قدرتها الفائقة على تقليص دور المشاهد في إنتاج المعنى وتحويله بالتالي إلى متلق سلبي لسيل الصور المتدفق على الشاشة. فالعمل السينمائي يقلص حجم المشاركة، فهو يملي على المشاهد ما يريد أن يقوله ويحصره في الإطار الضيق الذي تمثله شاشة العرض. يكون المتلقي همه الأول، أثناء متابعته للعمل السينمائي متابعة ذلك السيل المتدفق للصور المتحركة دون إعطائه الفرصة للتفكير والتدبر. وتستخدم السينما من أجل ممارسة تأثيرها المنوم أو المخدر كل الوسائل الحسية التي تثير غرائز ورغبات المشاهد، فينصرف عن الدلالة والمعنى ويركز كل اهتمامه على الجانب الحسي الذي تفجره السينما بقوة «فليس من المطلوب أن يكون هنالك أي تركيز فعلي لامتصاص المنتج، حيث يكون الجمهور قد استوعب مسبقًا ما سيلي حين يسمعون النغمات الافتتاحية من أغنية بوب، أو حين يعرضون النجم أو نوع الفيلم السينمائي. وبذلك يكون بمقدور المرء أن يسمع أو يشاهد بطريقة ذاهلة إلى هذا الحد أو ذاك، بل إن قيامه بغير ذلك مستحيل لأنه ما من شيء هناك كي يتحداه ويدفعه إلى التفكير»(21). وبالطبع فإن المؤثرات التي تقدمها السينما، سواء بصرية أو سمعية أو ما يتعلق منها بشخصية النجم، حاضرة ومستعدة لأن تستحوذ على الجمهور وتحوله إلى «مشاهد ناكص» بتعبير أدورنو.
ولأن السينما، وفقًا لأدورنو، تعمل من خلال إثارة الغرائز والرغبات المتخيلة، كان لابد من وقوعها في «الكليشيه»، أو الصورة النمطية المتكررة، وهو نفس ما أشار إليه جيل دولوز أيضًا في «الصورة- الزمن» عندما وصف الحضارة المعاصرة بـ«حضارة الكليشيه»[ civilisation du cliché، والكليشيه في السينما هو تكرار للتيمات والمشاهد بحيث تتحول جميعها إلى أحداث وصور نمطية تدور في فلك إعادة الإنتاج «إننا نعلم ما سوف يحدث في فيلم سينمائي ما إن تمضي الدقائق الخمس الأولى على مشاهدتنا إياه، كما أننا نستطيع أن نتنبأ بقدر كبير من مضمونه لمجرد أن نعلم من الذي يلعب دور البطولة فيه»(22). تحولت السينما وفقًا لأدورنو من الاهتمام بالمادة الإبداعية التي تقدمها إلى التركيز على قوة الفيلم وقدرته، عن طريق النجم، على الاستحواذ على جمهوره طوال الوقت. وهنا يشير أدورنو إلى ظاهرة أخرى ارتبطت بظهور السينما ثم أخذت طريقها إلى باقي الفنون، وهي الاستحواذ، فالسينما تقلص أي فاعلية نقدية للمتلقي، وتتركه في حالة من الاستلاب أو الذهول أمام ما يعرض أمامه. وإذا كان الموقف التأملي للعمل الفني الذي يقوم على استغراق المتلقي وتركيزه على العمل الفني، هو السائد قبل ارتباط الفن بالتكنولوجيا، فإن الأمر الآن قد اختلف، وأصبحت السيادة والسلطة للعمل الفني الذي غدا مُستغرقًا ومُستلبًا للجماهير عن طريق الصدمة التي يحدثها لديهم. ومفهوم «الصدمة» هذا أصبح هدفًا الآن للكثير من الفنون، وهو يختلف عن مفهوم الدهشة الكلاسيكي الذي تحدث عنه هيدجر وميرلوبونتي كسمة تميز علاقة الفنان بالطبيعة أو المتلقي بالعمل الفني، وهي سمة إيجابية وخطوة أولى نحو تكشف الموضوع سواء لدى المبدع أو المتلقي. لكن مفهوم الصدمة الذي تعمد إليه الفنون حاليًا يختلف تمامًا، إذ الصدمة تعمد إلى محاولة تشتيت المتلقي وتقليص خياله وقدراته النقدية وتأمله العقلي من خلال حشد كل ما هو غرائبي وغير ممكن تصوره وإدخال المتلقي في «جو نفسي» humeur بإثارة مشاعر وغرائز متباينة، بحيث تحد هذه المشاعر من قدرة العقل التأملية وفاعليته النقدية. وكل من شاهد فيلمًا من أفلام «الانتقام» أو «الرعب» التي أنتجتها السينما بغزارة وشعر بتلك اللذة التي لا تقاوم إزاء نهايتها الدموية سوف يعلم ما الذي يقصده أدورنو. والأمر نفسه ينطبق على الأفلام الأسطورية وأفلام الخيال العلمي والتي تنقل المتلقي إلى عالم غرائبي شديد الإبهار.
على الرغم من تشابه المقدمات النظرية التي ينطلق منه أدورنو مع نظيرتها لدى فالتر بنيامين، إلا أن النتيجة التي يستخلصها بنيامين من تحليله لفن السينما تختلف عن نظيرتها لدى أدورنو. فبنيامين يتفق مع أدورنو في أن السينما تخلق نوعا من التزييف لدى المتلقي، بحيث تحد من قدراته النقدية «إذا ما عقدنا مقارنة بين الشاشة التي تتواتر على سطحها صور الشريط السينمائي وبين لوحة فنية نجد أن الأخيرة تدعو المشاهد إلي التأمل. فيمكن للمشاهد أن يترك نفسة أمامها لتداعيات أفكاره في حين أنه لا مجال لذلك أمام شاشة السينما. فما إن تتوقف عيناه عند مشهد ما حتى يتغير إلى مشهد تال، لا سبيل إلى اللحاق به. وقد عبر دوهاميل عن هذا قائلا «لم أعد أستطيع أن أفكر كما أشاء. حلت الصورة المتحركة محل أفكاري». وعملية تداعي أفكار المشاهد أمام هذة الصور يقطعها التغير المفاجىء والمستمر لها على الشاشة, مما يشكل صدمة تحتاج كغيرها من الصدمات إلى حضور ذهني عال لكي يزول أثرها»(23). وعلى الرغم من هذا فقد رأى بنيامين أن السينما تمتلك سمة تحررية يمكن التعويل عليها لإحراز التقدم «فاستخدام الصور المقربة أو صور الحركة البطيئة في السينما، على سبيل المثال، يعيد إنتاج الأشياء التي لا تقوى العين المجردة على رؤيتها، وقدرة السينما على أن تجمع معًا صورًا متباينة إلى أبعد الحدود هي قدرة تمارس تأثيرًا محررًا جوهريًا»(24). ويمكن للسينما- وفقًا لبنيامين- أن تمارس هذا الدور إذا ارتبطت بمشروع ثقافي إيجابي، يجعلها مستقلة عن رأس المال الاحتكاري الذي لا يهدف إلا إلى الربح.. ولذلك يمكن للفنان المبدع أن يقدم لنا تفاصيل خفية للأشياء التي قد تبدو لنا اعتيادية وللأماكن التي تبدو لنا عادية، وتخرجنا إلى عالم جديد بفضل التصوير عن قرب، الذي يتيح لنا إدراك تمدد المكان، والتصوير البطيء الذي يقدم لنا تمدد الزمان، في تكوينات بنائية جديدة، لا تكشف عن تشكيلات الحركة المألوفة فحسب، إنما تمنح المشاهد انطباعًا بحركات انسيابية، وخارقة، ومحلقة.. ولذلك يمكن القول «لقد أدخلتنا الكاميرا عالم البصريات اللاواعية، كما أدخلنا التحليل النفسي عالم الدوافع اللاواعية.. ذلك لأن الطبيعة التي تبدو أمام الكاميرا تختلف عن تلك التي تظهر للعين المجردة»(25). تفتح السينما أمام المشاهد- وفقًا لبنيامين- عوالم جديدة وتكسر حدة وروتينية العالم الذي يعيشه، فهو يرى على الشاشة عالمًا مكونًا- في الأغلب- من نفس مكونات عالمه، لكنه متحرر من كل القيود التي تحكم عالمه، سواء على مستوى الحركة أو الزمن يقول بنيامين «نجحت منازلنا وشوارعنا ومكاتبنا وحجراتنا ومصانعنا في جعلنا سجناء. وجاء الفيلم ليحول هذا كله إلى شظايا وركام ويدخلنا في مغامرة تحررنا مما نحن فيه … إن تكبير الصورة الصغيرة لا يقوم فقط بتقديم صورة أوضح وأدق لمحتواها بل كذلك يكشف عن تشكيلات بنيوية جديدة تمامًا للموضوع الذي تحتويه الصورة. وكذلك فإن الحركة البطيئة للصورة لا تقدم فقط مزايا حركية بل تكشف أيضًا عن حركات غير مألوفة تتكشف من خلالها أبعاد جديدة»(26). وإذا كان أدورنو قد رأى في ذهول الجماهير وعدم انتباههم حيال الأشياء «نكوصًا» وسلبًا لفاعليتهم؟ فإن بنيامين قد رأى في ذلك فرصة لهم للخلاص من الربقة اللاعقلانية التي تفرضها هالة العمل الفني وفضاء يمكن فيه لملكات هذا الجمهور النقدية أن تتحرر من الجو الشعائري المقدس الذي كان يفرضه العمل الفني».
تكمن نقطة الضعف الحقيقية في مقاربة النظرية النقدية للسينما، في أنها لم تقدم أدوات إجرائية يمكن استخدامها في تحليل الصورة السينمائية. وسواء سلمنا مع أدورنو بسلطوية السينما أو مع بنيامين بتقدمُيتها، فإن السؤال يظل هو كيف نتعامل معها؟ وكيف تمارس عملها؟ اكتفت النظرية النقدية بتقديم تحليلات وافية للأثر الاجتماعي الذي تمارسه الصورة، دون أن تتجاوز ذلك إلى محاولة تقديم منهجًا يُمَكِن المتلقي من مقاومة هذا الأثر وفقًا لأدورنو أو لتحفيزه وفقًا لبنيامين.
2.3- المقاربة الفينومينولوجية
كان الفيلسوف الفرنسى موريس ميرلوبونتي (1908- 1961) أول الفينومينولوجيين الذين تنبهوا إلى أهمية الفيلم السينمائي وتبعه في ذلك إميديه آيفر Amedée Ayfre وهنرى أجيل Henri Agel. كان مدخل ميرلوبونتي لدراسة الفيلم هو مفهوم السلوك comportement الذي هو التجلي الرئيسي للوجود في العالم، وكما يقول دولوز «إن الصورة- الفعل شكلت ملهمًا للسينما السلوكية cinema du behaviorisme، ما دام السلوك هو فعل انتقال من وضع إلى آخر… لقد رأى ميرلوبونتي في هذا التصاعد في الاهتمام بالسلوك أحد المعالم العامة في الرواية الحديثة، وفي علم النفس الحديث، وفي روح السينما»(27). يعود اهتمام ميرلوبونتي بالسينما إلى العام (1945) وهو الذي نشر فيه مقالته «السينما وعلم النفس الحديث» Le Cinéma et la nouvelle psychologie، وجاء تحليله للفيلم تطبيقًا لنظريته العامة في الإدراك الحسي ومحاولته الدؤوبة لرأب صدع ثنائية الذات- والموضوع، تلك الثنائية الشهيرة في تاريخ الفلسفة، والتي احتل تجاوزها مكانًا بارزًا في أعماله[. الفيلم يكشف عن عالم له وجود مفارق ومتجاوز لعالمنا، لكنه في النهاية عالم له استقلال ذاتي غير تابع للعالم الواقعي، وليس نسخًا له، وإذا كان الفيلم يستمد مفرداته من عالمنا الذي نحياه، فإن هذا هذا ليس مبررًا لتطبيق قوانين هذا العالم على الفيلم أو محاكمته من خلالها «فليست غاية الفيلم أن ترينا وتسمعنا ما قد نراه ونسمعه لو عايشنا في حياتنا القصة التي يحكيها هذا الفيلم, وليست غايته هي إعطاء تصور عن الحياة من خلال قصة معبرة»(28). يكشف الفيلم إذن عن عالم.. عن وجود هناك، ليس على المستوى الفعلي فقط، بل هو وجود يمتلك أبعاد محسوسة، وجود مدرك حسيًا. وبالتالي يمتلك الفيلم خاصية فريدة تميزه عن باقى الفنون وهي الجمع بين الدلالة والإحساس، المدلول والمحسوس. ولكن المحسوس الفيلمي له بعد مكاني وزماني..محسوس متحرك في الزمان، وتلك هي خاصية الفيلم الفريدة، يقول ميرلوبونتي «لا يمكن فهم دلالة السينما إلا عبر الإدراك، فالفيلم لا يفكر فيه بل يدرك… والسينما لا تقدم لنا أفكار الإنسان، كما فعلت الرواية منذ مدة طويلة، بل تقدم لنا تصرفه وسلوكه، وتمنحنا هذه الطريقة الخاصة للوجود في العالم…»(29). وأخيرًا فإن اهتمام ميرلوبونتي بالسينما لم يتجاوز حدود تلك المقالة التي أشرنا إليها، وربما يعود هذا إلى أنه تناوله كمثال يوضح من خلاله كيف يتضمن المدرك أو المحسوس المعنى أو الدلالة، ولم يكن اهتمامه منصبًا على الفيلم في ذاته، وذلك على العكس من هنرى آجل.
رفض آجل التحليل السيموطيقي للفيلم لأنه يحصر الفيلم داخل الإطار اللغوي فقط، ويتجاهل الإمكانيات العديدة للصورة المتحركة. فالإحساس الفيلمي تمامًا كالموسيقى يتجاوز نطاق اللغة والعلامات، إنه يخاطب جزءا من مشاعرنا مباشرة دون المرور بمصفاة اللغة، وهذا ما حدا بآجل للحديث عن «شاعرية السينما» poétique du cinéma أي «الوصول إلى الشعور وحده عبر عملية تناسق البنى البصرية»، وهذا ما نجحت السينما في خلقه «إن المزج الكبير بين الحياة والحلم، بين المدرك واللامدرك يتحقق عن طريق السينما»(30). وتبدو هذه الفكرة متناصة إلى درجة كبيرة مع أفكار ميرلوبونتي حول البنية الماورائية للعمل الفني، والجدل القائم بين المرئي واللامرئي، وهي فكرة فينومينولوجية أصيلة. لكن في الوقت الذي يظل المعنى أو اللامرئي، مباطنًا للمحسوس غير مفارقًا له عند ميرلوبونتي، نجد آجل ينحو نحوًا مفارقًا من «التجربة المحسوسة للوصول إلى واقع متعال»(31) réalité transcendente. فالأفلام العظيمة عن الحياة، فقط هي التي يمكنها أن تقدم لنا قبسًا من القوانين المفارقة التي تنظم في هدوء رؤيتنا اليومية وخبرتنا الحياتية، وكما يقول دادلي أندرو «لم يثق آجل أنه يمكن للسينما في بعض لحظاتها المتميزة أن تقودنا إلى مجال المطلق فحسب، لكن عنده ثقة أيضًا كمسيحي في قيمة هذا المطلق وفي صلاحه وأهميته لنا»(32).
على العكس من هنرى آجل ركز أميديه آيفر في تحليله للسينما على البعد الإنساني الذي تقدمه الأفلام.. جدل الإنسان مع الواقع والطبيعة، وهو ما نجحت في تجسيده الواقعية الجديدة إذ هي «واقعية إنسانية تعتمد في تقنيتها على حوار الإنسان الذي لا ينقطع مع الواقع المادي»(33). اتخذ آيفر من الحوار مدخلاً لتحليله السينمائي، وقال إنه يمكن تناول السينما عبر ثلاث طرق: الأولى من خلال وسائل صناعتها وتقنيات الإنتاج والقائمين على العمل (الاستوديو، الكاميرا، المؤلف والمخرج)، والثانية عبر مناقشة التأثيرات والتغيرات العملية التي تحدثها السينما في الإنسان وفي ثقافته، وأخيرًا عبر ملاحظة العالم الذي يكشف عنه الفيلم السينمائي، الواقع الإنساني النابض بالحياة، وهذا عكس التناول السيموطيقي الذي يتعامل مع الفيلم وكأنه شيء في الطبيعة، مثل باقي الأشياء.
في أواسط الخمسينيات كتب آيفر عن وظيفة الزمان في السينما وعن الحضور المادي لجسم الإنسان في علاقته مع الأشياء الأخرى التي على الشاشة، وفي هذا يقترب من أستاذه ميرلوبونتي، لكنه أضاف بعدًا جديدًا عندما خصص بعض مقالاته عن التأثيرات الاجتماعية التي تمارسها السينما على جمهور المشاهدين، مقتربًا بذلك من التحليل الناقد لمدرسة فرانكفورت «إن معظم الأفلام في النهاية إما «دعائية» بمعنى أنها تضع صانع الفيلم في مركز قوة وتحث المشاهد أن يرضخ له أو «إباحية» بمعنى أن حاجة المشاهد الغرائزية تصبح هي الهدف من تجربة المشاهدة، ولا يلبث صانع الفيلم إلا أن يشبع تلك الحاجة.. في كلتا الحالتين، لا يمكن للسينما أن تثرى حياتنا في الدنيا؛ لا يمكن للفيلم في أي من الحالتين أن يتهرب من مكانته كأداة أو لعبة تخدم الأفكار المصاغة مٌقدمًا (دعاية) أو الحاجات الشهوانية (إباحية)»(34). كان آيفر مؤمنًا بأن السينما الجادة قادرة على تغيير العالم من حولنا، فقط إذا تركنا الصورة تعمل بداخلنا، وإذا رأينا العالم بعيون السينما، وربما هذا الإيمان هو الذي دفع آيفر إلى دراسة الفيلم عبر جوانبه العديدة. كان يمتلك مشروعًا طموحًا لدراسة الفيلم، حالت وفاته المبكرة دون إتمامه.
وإجمالاً يمكن القول إن الفينومينولوجيا شأنها شأن النظرية النقدية لم تقدم منهجًا في تناول الفيلم ولا حتى نظرية تستهدف بيان الصلة أو الأرضية المشتركة بين الفلسفة والسينما، كان اهتمامها بالسينما جزء من اهتمام أكبر بقضايا المعرفة والوجود، لذا لم ترى في الفيلم السينمائي إلا ما يخدم تلك القضايا.
الهوامش
[ المقارنة بين كهف أفلاطون والسينما سبق الإشارة إليها كثيرا من قبل وليست من ابتكار المؤلف، انظر على سبيل المثال:
– Falzon, Christopher. Philosophy Goes to the Movies : An Introduction to Philosophy (USA: Routledge, 2002) p 17.
– Cubitt, Sean, The Cinema Effect (Cambridge: The MIT Press, 2004) p 35- 43.
(1) أشرف منصور، صنمية الصورة: نظريةبودريار في الواقع الفائق، مجلة فصول العدد 62، 2003، ص 226.
(2) السابق، نفس الموضع.
(3) Redner, Gregg Pierce. Deleuze and Film Music: Building a Methodological Bridge between Film Theory and Music. University of Exeter as a thesis for the degree of Doctor of Philosophy in Film Studies, 16 January 2009.p 14.
(4) عز الدين الخطابي، حوار الفلسفة والسينما (الدار البيضاء: منشورات عالم التربية، 2006) ص 47.
(5) السابق، ص 169.
(6) Deleuze, Deleuze, Gilles, Cinema 2: The Time-Image. Trans Hugh Tomlinson and Robert Galeta. (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1989). p 280.
[ يمكن الاستشهاد في هذا السياق بمثال يضربه لنا ميرلوبونتى وهو بصدد الحديث عن علاقة الفلسفة بالسينما، المثال يتعلق بـأستروك Astruc الذي قدم قراءة سارترية لفيلم Defunt recalcitrant كما يلى: «هذا الميت الذى سيحيا من جديد بعد فناء جسده، والمطالب بالسكن في جسد آخر، يظل هو نفسه من أجل ذاته Pour soi، ولكنه آخر بالنسبة للغير. ولن يتمكن من البقاء ساكنًا إلا بفضل حب فتاة ستتعرف عليه في هيئته الجديدة، وبالتالي سيتحقق التوافق بين ماهو من أجل ذاته وما هو من أجل الغير. سيثير هذا التحليل حفيظة المعلق بجريدة Le canard enchaîné الذى سيدعو أستروك، الذي هو مخرج بالأساس، إلى الاقتصار على أبحاثة الفلسفية بديلا عن السينما.
– Merleau- Ponty, Maurice. Sense and non- Sense, trans Hubert& Patricia Dreyfus (Northwestern Univ Press, 1992) p 58.
(7 هنري آجل، علم جمال السينما، ترجمة إبراهيم العريس (دمشق: منشورات وزار الثقافة، 2005) ص 158.
(8 عز الدين الخطابي، حوار الفلسفة والسينما، ص 15.
(9) عز الدين الخطابي، حوار الفلسفة والسينما، ص 16 .
10) Deleuze, Negotiations 1972-1990 (New York: Columbia University Press, 1995) by Martin Joughin, p 57.
[ لعل هذا هو الدافع الحقيقي لأن تطرح الفلسفة سؤال نفسها باستمرار «ما هى الفلسفة» سؤال طرحه جاسيت وهيدجر ودولوز وكل فيلسوف يطرحه على طريقته، ويمكن القول إن سؤال الفلسفة عن نفسها هو وعي منها بتطورها في الزمان وقدرتها على استيعاب المستجدات، لذا فهذا السؤال سواء كان معلنًا أو مضمرًا هو البداية لكل تفلسف.
11) Deleuze, Negotiations, p 57.
(12) روي آرمز، لغة الصورة في السينما المعاصرة، ترجمة سعيد عبد المحسن (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992) ص 306.
(13) فريدريك جيمسون، التحول الثقافي، ترجمة محمد الجندي ( القاهرة: أكاديمية الفنون، 1997).
ص 69 .
14 هناك أيضا الإتجاه السيميوطيقي في دراسة الفيلم، وهناك الدراسة الهامة التي قام بها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن السينما، لكن ربما تحتاج هاتين المقاربتين إلى دراستين منفصلتين.
[ تجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف العربي ابن سينا في كتابه «الشفاء» قد قدم وصفًا مشابهًا لهذه العملية لكنه- بطبيعة الحال- لم يمنحها الاسم ذاته، يقول ابن سينا «إن بقاء صورة الشمس في العين مدة طويلة إذا نظرت إليها ثم أعرضت عنها يدلك على قبول العين للشبح وكذلك تخيل القطرة النازلة خطًا والنقطة المتحركة على الاستدارة بالعجلة الدائرة… إلخ» وهو يفسر ذلك بأنه لابد للإنسان من قوة نفسية تتخيل وجود القطرة النازلة في مكانين، وامتدادها ما بين النقطتين، وأن تلك المسافة المتصورة هى إثبات لوجود شبح أو صورة النقطة في الوضع الأول ثم بقاء ذلك حتى تصل النقطة إلى الوضع الثاني». فاضل الأسود. السرد السينمائي (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 2007) ص 59.
(15) عز الدين الخطابي، الفلسفة والسينما، ص 74، 75. وأيضا Deleuze, The Movement- Image, p 3.-
(16) Deleuze, Ibid, p 5.
(17) برجسون، التطور الخالق، ترجمة محمود قاسم (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984).
ص 226 .
(18) برجسون، التطور الخالق، ص 268 .
(19) برجسون، السابق، ص 268 .
([) مثال الحركة الكيفية (الانتقال من الصفرة إلى الخضرة أو الزرقة).
مثال الحركة التطورية (الانتقال من اليرقة إلى الفراشة إلى الحشرة).
مثال الحركة الامتدادية (فعل الأكل والشرب والعراك).
(20) آلن هاو، النظرية النقدية عند مدرسة فرانفورت، ترجمة ثائر ديب (دمشق: وزارة الثقافة، 2005).
ص 117 .
(21) آلن هاو، السابق، ص 128 .
[ ربما تجدر الإشارة هنا إلى أن هناك اختلاف جلي بين ما يقصده أدورنو ودولوز بالكليشية, ففي حين أن أدورنو يشير إلى أن صناع الصور يلجئون إلى الصورة النمطية, سواء على مستوى الشكل أو الحبكة, من أجل إثارة مشاعر معينة لدى المتلقي-وعلى سبيل المثال فإن «المطاردات» و«المشاهد الجنسية» و«القتال الحر» وإطلاق النار» والتفجيرات, قد غدت جميعا ضروبا من الكليشيهات الثابتة في السينما التجارية الحديثة؛ فإن دولوز يشير إلى أن كل صورة وأي حبكة يوجد بها ما هو نمطي, كما تمتلك أيضا ما هو متفرد. إذ لا يوجد ما هو تكرار صرف فكل تكرار يحوي ما هو مختلف. ويعود الأمر هنا، وفقا لدولوز، إلى المتلقي الذي يميل عادة إلى إدراك ماهو متشابه أو ما هو نمطي فيما يراه, وهي مسألة إدراكية تحدث عنها برجسون, وكما يقول دولوز «نحن لا ندرك في العادة إلا كليشيهات, ندرك ما يهمنا إدراكه او بالأحرى ما لنا منفعة بإدراكه وفقا لمصالحنا البرجماتية و لمعتقادتنا الأيديولوجية ولحاجتنا النفسية» ويغدو الأمر عند دولوز هو «كيف ننتزع من الكليشيهات صورة حقيقية». راجع:
– Nesbitt, Nick, Deleuze, Adorno, and the Composition of Musical Multiplicity, In Buchanan, Ian & Swiboda, Marcel (eds) Deleuze and Music (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2004 ) 55.
(22) آلن هاو، النظرية النقدية، ص 22 .
(23) Ashton, Dyrk. Using Deleuze: The Cinema Books, Film Studies and Effect, p 56.
(24) آلن هاو، النظرية النقدية، ص 133 . وأيضا Deleueze, Time- Image, p 166.
(25) Ashton, Dyrk. Ibid, p 21.
(26) Benjamin, W. The Work of Art in the Age of its Technological Reproducibility, and Other Writings on Media, p 37.
وقد طبق بنيامين رؤيته هذه على بعض الأفلام السوفيتية وعلى أفلام عديدة لشارلي شابلن C. Chaplin، وبعض أفلام الرسوم المتحركة كميكي ماوس. راجع السابق، ص 323- 353.
(27) Delueze, Cinema 1: The Movement-Image (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1986) by Hugh Tomlinson and Barbara Habberjam., p 155.
[ وقد كان هذا أيضا نفس مدخل المنظر والمخرج الروسي سيرجي آيزنشتين S. Eisenstein في دراسته النظرية للسينما، ولعل هذه العبارة له توضح هذا المعنى، يقول «لقد كنا نشكو من ازدواجية رهيبة بين الفكر أو التأمل الفلسفي المحض والشعور والعاطفة وأني أعتقد أن السينما هي الوحيدة القادرة على تحقيق تلك التركيبة الفريدة القائمة على إعادة تلك الجذور الحيوية والملموسة والعاطفية إلى عنصرها الذهني» عن هنري آجل, السابق، ص 128.
(28) Merleau- Ponty, Sense and Non Sense, p 57.
(29) Merleau- Ponty, Ibid, p 59.
(30) هنري آجل، علم جمال السينما، ص 47.
(31) دادلي أندرو، نظريات الفيلم الكبرى، ترجمة جرجس فؤاد (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987) ص232.
(32) دادلي أندرو، السابق، ص 233.
(33) دادلي أندرو، السابق، ص 235.
(34) دادلي أندرو، نظريات الفيلم الكبرى، ص 237 .