هذه أفكار دامعة أو دموع فكرية أذرفها استجابة لطوفان الدموع التي تفيض أمامنا كل يوم. في نشرات الأخبار وفي الصحف اليومية – من عيون الألوف المؤلفة من ضحايا العدوان الوحشي والقتل الجماعي وذبح النساء والعجائز والأطفال، ومن عيون الرضع والشيوخ والشباب، ومن فواجع اللاجئين والمشردين نتيجة الاضطراب الشامل على أعتاب ما يسمى بالنظام العا لمي الجديد… وهي تنبع من حيرة المتفلسف أو المشتغل بالفلسفة.
ولا أقول الفيلسوف، لأنه لم يزل غائبا عن ساحة الاضطراب العالمي والمحلي كما تعبر عن يأسه وغضبه من عجزه وعجز معرفته وفكره عن مواجهة البركان المتفجر في كل مكان بأدواته وامكاناته التقليدية، وعن خيبة "الحكمة الخالدة" إزاء الجنون الذي يوشك أن يغرق جنس "الحيوان العاقل" ويدمر وجوده، ويزري بكل ما يعتز به من تقدم وتطور واستنارة وحضارة وعلم وفن… الخ، كادت كلها -أمام أهوال الفظائع الفاجعة -أن تستحق الالقاء بها في أقرب صندوق للقمامة.. وهي تنطلق من فكرة توقفت عندها طويلا لفيلسوف الحياة والاجتماع جورج زيميل (1858 – 1918 ) عبر فيها عن دهشته من أن الفلسفة في تاريخها الطويل لم تكترث بعذاب الإنسان وتعذيبه عبر العصور (1) وقد التقط هذه الفكرة فيلسوف آخر معاصر – هو "أدورنو" (1903 – 1969 ) أحد أعضاء الجيل الأول البارزين للمدرسة النقدية الجدلية المعروفة باسم مدرسة فرانكفورت، فأقام عليها فلسفة متشائمة عن التاريخ الذي لم يكن في رأيه سوى تاريخ القمع والقهر والتسلط على الإنسان والطبيعة، كما اعتمد عليها في مراجعته النقدية لفكرة التنوير بوجه خاص بعد نكسته المروعة مع زحف جحافل النازية والفاشية، وبشاعة الكوارث التي تسببت فيها أسطورتها اللاعقلانية المدمرة..
من الصعب اذن أن أكون "عقلانيا" وأنا أرى العقل يتردى في ظلمات "اللاعقل" الارهابي الذي يجوس خلاك العالم كالكابوس، ويتربص بنا جميعا في حياتنا اليومية وفي كل الزوايا والأركان – على الرغم من اقتناعي الكامل بأن تحكيم العقل والاهابة به هو المطلب الأسمى في وجه الكوارث العاصفة.
ومن الصعب أن أكون نقديا وتحليليا لأضع عناصر الموقف الإنساني الراهن في ميزان النقد الموضوعي، بينما تختل كل الموازين وتهتز، على الرغم من اقتناعي أيضا بأن "النقد الفلسفي" مدعو في هذه اللحظة أكثر من أي لحظة أخرى الى القيام بدوره في تحليل الواقع بكل أبعاده، وتجاوز أوضاعه القائمة، ومراجعة قيمه ومعاييره السائدة بغية تغييره من جذوره – كما أنه مدعو كذلك أو ربما قبل ذلك الى ممارسة النقد على الفلسفة ذاتها: على مفهومها وطبيعتها ومناهجها والغاية منها، على نحو ما حدث على الدوام في أوقاف الأزمات والتحولات الكبرى، ومع ولادة كل فيلسوف عظيم وكل فلسفة أصيلة منذ القدم وحتى اليوم..
ومع اعترافي بعجزي تجاه المحن والمآسي المتلاحقة عن أن أكون عقلانيا ونقديا كما ينبغي لكل منتم الى الفكر الفلسفي، فسوف أجدني مضطرا – بحكم الطبع أو بحكم الضرورة التاريخية القاسية – الى اتخاذ موقف أقرب ما يكون الى مواقف فلاسفة الحياة الذين يلجأون الى الشعور والتعاطف والحب أكثر مما يلجأون للعقل الذي يحددون مجاله، ويقصرون استخدامه على ميادين العلم والعمل، كما يتبنون منهج الحدس الأقدر في رأيهم على سهم النفاذ الى صميم الحقيقة الحية والتغلغل في نهر الصيرورة والفعل المتدفق، هذا الفعل الذي بلغ – كما أشرت من قبل – حد التفجر والتدهور والجنون الوحشي المستعر.
لذلك لن أعد القارئ بأكثر من أفكار مؤقتة تحتاج الى جهد أكبر وقراءات وتأملات أعمق ربما تتيحها الأيام في وقت وتساعدها على النضوج. وسيكون حالي أشبه بمن يحاول رسم لوحة أو وضع لحن موسيقي في الوقت الذي تشتعل فيه نيران الحرب من حوله أو تنهال سياط الجلادين في معتقلات العقاب والتعذيب على جسده، أو يسقط سقف البيت فوق رأسه.
– 2 –
أمامنا المسرح العالمي المخيف تدور على خشبته الأحداث المخيفة : تطرف وتعصب وعنف وإرهاب،عصابات "مافيها" وشركا ت احتكار عابرة للقارات ومصاصة للدماء، شعوب كاملة مهددة بالإبادة والتشريد والأوبئة والمجاعات، حوالي بليون من البشر يعيشون تحت المستوى الأدنى للحياة الإنسانية، حكام بالاسم وحده وهم في حقيقتهم سفاحون بالجملة، كأنما انشقت عنها قبور الآشوريين أو الرومان أو المغول والتتار، تخريب للبيئة والأرض – مهد البشر ولحدهم – تحت ضغط الضرورات الاقتصادية أو التجارب النووية أو التقانة (التكنولوجيا)
الصناعية التي أفلتت من كل الحدود وأوشكت أن تغتال الخضرة في كل مكان، سخط وبطالة وجريمة وضجيج وفقدان للمعنى – لاسيما بين الشباب الثائر بلا ثورة في أرجاء العالم كله.. على الجملة : غياب الحكمة واغترابها عن الواقع اليومي للبشر العاديين الذين تزداد تعاستهم وشقاؤهم، واغتراب البشر العاديين والمتخصصين المحترفين على السواء عن الحكمة ومقاصدها العالمية والانسانية التي لم تغب عن ألباب الحكماء الحقيقيين في الشرق والغرب منذ آلاف السنين.
ونسأل السؤال الخالد الأليم : ماذا نفعل ؟ ماذا يفعل المتفلسف لانقاذ الفلسفة أو الحكمة من اغترابها عن الواقع وينقذ الواقع من اغترابه عنها؟ ماذا يفعل لإنقاذ الانسان من أهوال القوى الوحشية التي تشوه انسانيته وتمسخ حقيقته وتزيف معناه ورسالته على الأرض ؟ هل يبقى في مقاعد المتفرجين، مع العلم بأن النار التي تلتهم المسرح يمكن أن تمتد ألسنتها الى القاعة ؟ أم يمكن أن يشارك بجهده وشخصه وكتاباته مع زملائه في الاقتراب من الغايات الكبرى المنوطة بالعقل والفلسفة منذ أن وجد الإنسان وبدأ الوعي التأملي في حقائق الوجود والفعل والقيم والمصير؟
قبل محاولة الاجابة عن هذه الأسئلة لابد من تأكيد الاحترام والتقدير للمعرفة الفلسفية بأنظمتها وفروعها المختلفة. فهذه الأنظمة المتخصصة تتقدم وتمضي في طريقها المعرفي الدقيق، ولابد أن تتابع السير فيه، وأن يساهم كل قادر بجهده في هذه المسيرة. هذا شيء لا غنى عن تأكيده منذ البداية بكل ما نملك من قوة ومن احترام للمعرفة العلمية الدقيقة التي لا يشك أحد في كونها شعاع الأمل المضيء – وربما الوحيد – وسط الظلمات المدلهمة التي تزحف اليوم على وجود "الحيوان العاقل" وتحاصر حقه في الحياة والسعادة والأمن والسلام. والأسئلة التي طرحناها الآن قد لا تدخل بصورة مباشرة في الكثير من التخصصات الفلسفية الدقيقة التي أمعنت في التخصص استجابة لروح العصر العلمي والتقني، لأنها إما أن تقع وراءها أو فوقها – دون أن تكون لهذا السبب هامشية أومن قبيل التزيد والفضول. أضف الى هذا أن الاجابات الممكنة عنها والغايات المأمولة منها قد تنعكس عليها فتخرجها قليلا من أبراج تخصصها، أو تؤثر على اتجاهها، أو تقرب بينها وتساعد في النهاية على تحقيق الوحدة الكلية المنشودة، وهي وحدة المعرفة والانسانية، التي طالما تطلع اليها وفكر فيها الفلاسفة بأشكال مختلفة ومن بعض حكماء الشرق القديم الى بعض صغار السفسطائيين، الى افلاطون والرواقيين، وحتى ديكارت وليبنتز وهيجل وهسرل وياسبرز وراسل وتو ينبي وعدد من الماركسيين الجدد والوضعيين المناطقة..) ويزيد من ضرورة التفكير والعمل في سبيل هذه الوحدة الشاملة ما يتردد اليوم على كل لسان من أن الأرض قد أصبحت قرية عالمية صغيرة، وأنها مهددة بالفناء على يد أعظم وأتعس المخلوقات التي تدب عليها وأخطرهم على مصيرها وهو الإنسان.
-3-
إننا نلاحظ اليوم أن الحكمة قد خلعت عن عرشها، وأن الفلسفة قد اغتربت عن مجتمعاتها، كما اغتربت هذه المجتمعات عنها في الغرب والشرق على السواء. وطبيعي أن تختلف الأسباب هنا وهناك، وأن يبلغ الأمر حد تحريمها أو تشويه سمعتها والافتراء عليها عندنا أكثر مما هو الحال عند غيرنا واذا صبرت عليها "السلطة" هنا أو هناك فلأنها جزء من الترف الأكاديمي الذي يستكمل به "الديكور" الثقافي، أو لأنها ثرثرة محصورة بين الجدران الجامعية ولا خطر منها ولا أثر لها. ولعل السبب الأعمق هو فقدان الثقة في الفلسفة نفسها والاعتقاد بعجزها عن التأثير في مجرى الأحداث العامة والرأي العام، أو الحياة الخاصة للموا طنين المشغولين عنها بهمومهم الخاصة والعامة. وحتى اذا قلنا أن لكل انسان بالضرورة فلسفته، فلن تكون هذه في النهاية سوى فلسفة شعبية غامضة، تتكون في الغالب من أخلاط متناقضة يحملها الانسان العادي من التقاليد والآراء الشائعة والأفكار والعواطف المتدفقة ليل نهار من أجهزة الاعلام ووسائطه وأبواقه وأقماره الصناعية (التي حجبت ظلماتها المنهمرة وجه قمرنا القديم الحنون !…).
ان الأسباب الحقيقية لاغتراب الحكمة وعجزها يمكن أن تنحصر في نوعين : أسباب داخلية تتعلق بالمشهد الفلسفي المعاصر نفسه عند "الآخرين" وعندنا وأسباب خارجية عن الفلسفة نفسها أو خارجة عن ارادتها.. وسوف أناقش هذه الأسباب على ضوء الغايات والأهداف والمثل الإنسانية العامة التي يمكن أن تسعي الفلسفة لتحقيقها "هنا والآن"، أو بالأحرى التي ينبغي عليها أن تسعي لتحقيقها على نحو أكثر تصميما وعلى نطاق أوسع مما حدث حتى الآن.
أما فيما يتعلق بالأسباب الداخلية فأقصد بها فجوة الاختلافات والفروق الفنية والموضوعية الدقيقة التي تفصل بين الاتجاهات والتيارات الفلسفية المختلفة سواء بين القارة الأوروبية والأمريكية من ناحية، أو بينها وبين الاتجاهات والتيارات المتأثرة بها أو المنقولة عنها أو التي تحاول – مع افتراض حسن الظن الشديد – أن تتميز وتستقل عنها في عالمنا الثالث من ناحية أخرى.
والسبيل الى التقريب بين هذه الاتجاهات والتيارات وتحقيق نوع من التقارب في الأهداف والغايات والمثل المشتركة ليس مستحيلا، كما يبدو لأول وهلة – لاسيما اذا تذكرنا أن هذا التقارب والتفاعل قد تم على سبيل المثال في الفلسفة الأمريكية التي تأثرت في العقود الأخيرة، وقيما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، بفلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة التفسير (الهيرمينويطيقا) خصوصا في الدراسات المتصلة بفلسفة الفن والجمال وبالنقد الأدبي، كما أن التقارب والتفاعل قد تحقق أيضا في الفلسفة الأوروبية المعاصرة التي أدمج بعض اعلامها عناصر هامة من العقلانية العلمية والفلسفة التحليلية وفلسفة اللفة التي ازدهرت جمعيها في العالم الأنجلو -أمريكي، وذلك مثل الألماني "هابرماس" الماركي الجديد في فلسفته النقدية. وسبل التقارب والتفاعل الذي تم وينبغي التوسع فيه هي من الوضوح بحيث يمكن الاستغناء، عن ذكرها: تعميق الحوار بين الأطراف المختلفة في المؤتمرات واللقاءات المحلية والعالمية، والتقريب بين الاتجاهات والمدارس المتعددة بتمثيلها وافساح المجال لسماع أصواتها في أقسام الفلسفة ومعاهدها في الجانبين. ولاشك أن التوسع في الحوار ليشمل الأقسام التي تدرس الفلسفة الغربية خارج نطاق العالم الغربي كله سيساعد على تنمية بذور الاتجاهات المستقلة داخل العالم الثالث نفسه، بشرط أن يعتمد في كل الأحوال على المعايير والأسس التي تضمن تحقيق الحوار الحر القائم على الاحترام والتفاهم المتبادل والمعرفة الكافية من الأطراف كافة بالخصوصيات الثقافية المتميزة والعموميات والقيم المشتركة في وقت واحد. واذا كان المفكرون والعلماء وأساتذة الفلسفة من أبناء حضارة "اللوجوس" الغربية لا يكفون عن اللقاء والتعاون في مشروعات مشتركة، فما أحرانا نحن أبناء العالم الثالث بالسعي الى التواصل فيما بيننا من ناحية، وقيما بيننا وبين أبناء الغرب من ناحية أخرى، بغية التعرف على العوامل المشتركة ومحاولة تجاوز الحدود المصطنعة بين شرق وغرب، كما سيأتي بعد قليل. ستبقى الفروق النوعية في أساليب البحث والتفكير قائمة بغير شك ولكن ربما يتم قدر كبير من التقارب والتلاقي اذا تواصل الحوار حول موضوعات واشكالات تهم البشرية العاقلة بأسرها.وقد يتم هذا التقارب اذا تصورنا أن موضوع الحوار هو على سبيل المثال : غياب الحكمة والعقل في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الذي استشرت فيه مختلف ظواهر الجنون الجماعي، بحيث لم يعد يكفي أن نسميه عصر القلق،ومشكلة السلام العالمي التي تركت حتى الآن للساسة والقادة العسكريين، وقضية الحكومة العالمية التي تجسد الضمير العالمي وتردع الحكومات الفردية المعتدية (كما تصورها،كانط، مثلا في مشروعه المشهور عن السلام الدائم ) وتغير النظم التربوية على أساس الاحترام المتبادل بين شتى الثقافات وتنمية هذا الاحترام عند أبناء الغد، والعمل على زيادة التواصل «والتثاقف» بينها للتخلص تدريجيا من أشكال التعصب العرقي والقومي والتطرف الديني والمذهبي، والتفكير المشترك – بصوت مسموع يصل الى آذان الساسة والعامة – في مستقبل البشرية والعوائق التي تسد الطريق الى وحدة الحيوانات التي نسيت أو كادت أنها حيوانات عاقلة، وآن أوان إعادة الذاكرة اليها، وباختصار : تشكيل محكمة ضمير عالمي دائمة تمارس الادانة والضغط المعنوي على كل معتد على الضمير العام، وكل آثم في حق الإنسان وحريته وكرامته وحرمة حياته وجسده وشخصيته وحقوقه الأولية… والمهم أن نتذكر على الدوام أن «السعي الى الحكمة» لم تكن الحاجة اليه أشد إلحاحا منه في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين، قرن العنف والتدمير والضوضاء، وسعار الانتحار الجماعي المجنون..
غير أن أخطر الأسباب الداخلية يأتي من الفلسفة نفسها، فعليها أن تراجع طبيعتها ومفهومها وتعريفاتها التقليدية ومناهجها وأساليب رؤيتها اذا شاءت أن تصبح «حكمة عالمية» كما سماها كانط، أو «حكمة خالدة» كما وصفها ليبنتز وياسبرز وهكسلي وغيرهم.
ولا يقتصر الأمر على تغيير الوصف والتسمية، وانما يتعداه الى المهام الجديدة التي تلزمها اليوم أكثر من أي يوم مضى بأن تكون عالمية وانسانية، وأن تتحول – على الأقل في المجالات المختصة بالقيم والغايات الأخلاقية والمثل والأحلام والأهداف المستقبلية التي يمكن الاجماع عليها – الى حكمة مناضلة، تتسلح بأسلحة النقد والمقارنة لكل ما يعطل العقل ويغيب الوعي ويشوه الإنسانية ويطمس البديهيات الأولية التي انكفأت اليوم على وجهها في بحور الدم المراق وطوفان الكذب والتزييف المنهمر من أجهزة البث المرئي والمسموع، ووسائل غسل المخ وأبواقه ليل نهار.. وعليها أخيرا أن تحافظ على حريتها لكي تستطيع الدفاع عن الحرية والا سقطت في الهاوية التي سقطت فيها فلسفات سيئة الحظ تبنتها سلطات ارهابية (كما حدث أخيراللماركسية وللصحوة الإسلامية في ظل النظم الأيديولوجية المتحجرة والنظم الطاغية المتخلفة)..
– 4 –
قلت إن غياب الحكمة من أبرز سمات العقود الأخيرة للقرن العشرين، سواء أخذناها بالمعنى المألوف أو بمعناها في التراث السقراطي والأفلاطوني والأرسطي.
والحكمة بأوسع معانيها تدل على الحكم الصائب الرزين على الأمور المتعلقة بالحياة والسلوك، وتقترن باتساع المعرفة وحدة الذكاء وعمق التأمل. لكن هذه ليست شروطا ضرورية لوجودها، إذ يمكن أن تستغنى عنها بالفطنة والبصيرة.
انها(كما يقول الفيلسوف المثالي بلا نشار (2)) – لا تعني بتأكيد حقائق أو تكوين نظريات، بقدر ما تعني بوسائل الحياة العملية وغاياتها. وربما أضفنا الى هذا أنها تتضمن نوعا من السعي الى تحقيق الحياة الطيبة المتجانسة، كما تكشف عن بصيرة بالنفس في علاقتها بالعالم والمجتمع المحيط بها.
أما في التراث السقراطي فيقصد بالحكمة معرفة «الأمور القصوى» أو الحقائق النهائية وطبيعي أننا لا نطالب الإنسان العادي أن يسعى «للحقيقة النهائية» سواء كانت هي معرفة الله أو المثل الافلاطونية أو أي حقيقة أخرى. فحكمة الحكيم تتجل في معرفته بنفسه وبغيره، وفي نفاذ بصيرته الى الطبيعة الإنسانية والحياة بوجه عام، بحيث يكون قادرا على الرؤية الكلية لهذه الحياة في وحدتها وشمولها، كما يكون أقدر من كثيرين غيره على أن يهتدي بالعقل في أفعاله، ويدرك الأهداف الصحيحة إدراكا واضحاء ويحسن اختيار الوسائل المؤدية الى بلوغها. ولا حاجة للقول بأن من مقومات حكمته أن يرى الأشياء رؤية نزيهة ومن مسافة بعد كافية، وأن يتحكم في عواطفه وانفعالاته ليحتفظ بهدوئه واتزانه العقلي في الأوقات العصيبة، والظروف التي تفرض عليه اتخاذ القرارات والمواقف من الأشخاص والأشياء قبل الاقدام على الفعل. وكلها ألوان من الحكمة التي يمكن أن نجدها عند فلاح بسيط ولا نجدها عند أغلب من نسميهم «أساتذة» الفلسفة.. ويكفي «محب الحكمة» بهذا المعنى القريب المألوف أن يسعى لفهم «الموقف» او «الشرط» أو الوضع الإنساني ورؤيته رؤية كلية من خلال مظاهره وتجلياته وتعبيراته المختلفة في خضم التاريخ البشري. ولاشك أن هذه الرؤية ستنطوي على التأمل في فناء الإنسان أو تناهيه، وفي دلالة هذا الفناء والتناهي على مقومات وجوده التي أفاض في شرحها الوجوديون – وسينعكس هذا أيضا على موقفه من الزمان، اذ لن يكون حكيما من لا يتأمل ماضي الإنسان وحاضره لكي يكون أقدر على التبصر بمستقبله والاعداد له والاستجابة لمطالبه، واستشراف آفاقه وممكناته والتأهب لمواجهته بالمعرفة والإرادة.
ان الإنسان في هذا القرن يفتقر الى الحكمة لأسباب يصعب حصرها وتحديد أنواعها. ربما يكفي القول بأنه في لهفته على معرفة الطبيعة والسيطرة عليها بعلمه ووسائله التقنية قد أهمل السعي الذي لا يقل عنه أهمية لمعرفة نفسه ورعاية باطنه وضميره وقيمه.
وكانت النتيجة – كما يقول أينشتين في عبارة معروفة – أن اكتملت وسائله واضطربت غاياته. وظهر عجزه عن مواجهة حقيقة نفسه وعالمه الذي صنعه ثم أخذ يدمره بأشكال مختلفة : في خداعه لنفسه أو استسلامه لمختلف الأساطير والأوهام والخرافات التي خدعته بها قوى نسجت شباكها حوله (كالقوى والمصالح الموجهة للسوق الاستهلاكية والاتجاهات العنصرية والطائفية والمذهبية المتعصبة التي تصورت أنها استأثرت بالحقيقة المطلقة، مما جعله في النهاية أداة لأعمالها الإرهابية أو ضحية لها). ولا شك أن من أخطر مظاهر الافتقار الى الحكمة هذا الانفلات الصاخب من كل الحدود والمعايير على كل المستويات باسم التجديد والتجريب تارة، وباسم الحياة أو الثورة على كل الأنظمة المتسلطة أو الحب تارة أخرى.
وليس من قبيل المصادفة أن تكثر الطقوس العجيبة وممارسات الجماعات الشاذة والجرائم البشعة كثرة هائلة في أقوى الدول وأعظمها سيطرة على العلم والتقنية..
كان من نتائج هذا أيضا أن اتسم عصرنا – كما قلت – بالانفلات من كل الحدود. وما نسميه عادة بإيقاع العصر المتسارع ليس الا تعبيرا عن التطرف والشطط والاندفاع الجنوني الذي انجرف اليه الأفراد والشعوب بدرجات وصور مختلفة. ولقد ظهر هذا التطرف وما يزال يظهر في أشكال وأفعال متباينة في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والعسكرية والثقافية، تاركا وراءه الموت والخراب والاضطراب والفوضى، وشاهدا على تدمير العقل والمعقول والضمير والحكمه ..(3)
– 5 –
نعود الى السؤال : ما العمل لإنقاذ الإنسان من نفسه ؟
ما العمل لايقاف اندفاعه الى اللا عقل والجنون المدمر؟
وبماذا يمكن أن يساعد «الفلاسفة» في هذا الإنقاذ؟
ان هذه الأسئلة تقع بالضرورة في التبسيط والتعميم والمشكلات التي يدعى الفيلسوف لمواجهتها شديدة التشابك والتعقيد، والدور الذي يمكن أن يقوم به مشكوك فيه منذ البداية بسبب الشك أصلا في قدرة الفكر على التأثير والتغيير.
ومع ذلك فان المتفلسف لا يمكنه – كما سبق القول – أن يقف موقف العاجز المتفرج، في الوقت الذي يدمر فيه العقل وتهدد فيه «القرية الأرضية» بأسوأ مصير. وأول ما يخطر على البال هو دعوته للقيام مرة أخرى بدوره السقراطي، (3) حتى ولو بدا أن هذا الدور قد أصبح مستحيلا أو باعثا على السخرية ! صحيح أن دور «لغز» الفلسفة ونموذجها الحي كان محدودا بحدود «دولة – المدينة» كما كان في صميمه دورا عقليا وجدليا يتوسل بالاستقرار والتوليد للو صول الى الحد والماهية (اللهم الا اذا صدقنا كيركجارد وجعلناه – أي سقراط أول الوجوديين والذاتيين في تاريخ الغرب، أو حملناه من ناحية أخرى مسؤولية تحلل الغرب وانهياره – كما زعم نيتشه في هجومه الغاضب عليه – عندما بدأت معه مسيرة العقلانية والجدلية المسرفة على حساب إرادة الحياة وقواها الأصيلة..) ولكننا لو تذكرنا وصف سقراط لنفسه – منذ أن بدأ تساؤله وحواره مع الناس العاديين في شوارع أثينا ومجالسها حتى خطبته الطويلة في محاكمته الأخيرة – لو تذكرنا وصفه لنفسه بأنه «الذبابة» التي تلسع ظهر الحصان الأثيني كلما أخلد للنعاس وغاب عن الوعي بحقيقة نفسه ومجتمعه وعالمه، لاستطعنا القول بأن دور المتفلسف المعاصر سيكون أشمل ومهمته أصعب وأخطر. فهو مطالب بإيقاظ الحصان العالمي المندفع اندفاع المجنون الأعمى على أرض «القرية» العالمية الصغيرة.. ومعنى هذا.بعيدا عن لغة المجاز – أن يكون حارس هذه القرية الضئيلة البائسة، كما كان سقراط وكل «الموقظين» العظام في الشرق والغرب حراس مدن العقل والقيم والاستنارة والحرية والوعي، هذه الكلمة الأخيرة تنبهنا على الفور لدور المتفلسف في الدعوة الى الوعي العالمي والانساني الذي كان وما يزال غائبا عن كثير جدا من كبار المفكرين في الغرب بوجه خاص (من أرسطو الى هيجل وحتى يا سبرز وفلاسفة مدرسة فرانكفورت ) دع عنك غيابه عن كثير جدا من أساتذة الفلسفة في نفس البلاد والمناطق التي تتم فيها، في هذه الأيام واللحظات – أبشع مذابح الابادة والتطهير العرقي والتعصب الديني والاضطهاد العنصري وسجن شعوب بأكملها ومحاصرتها من قبل بعض الدول الارهابية، بجانب الألوف المؤلفة من الجرائم التي تنفذ في غياهب السجون والمعتقلات وزنازين التعذيب، فضلا عن المقابر الجماعية التي لا يسمع الناس عنها الا عن طريق بعض الصحفيين والمتطوعين الشجعان أو مؤسسة العفو الدولية، واذا سمعوا عنها أصلا فبعد فوات الأوان..
– 6 –
إن الفلسفة في مجموع تراثها العريق وفي شتى الحضارات – أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي العالمي والإنساني وتأكيد «وحدة البشر» على كوكبنا الضئيل أو قريتنا الصغيرة، والذين يحملون على أكتافهم أمانة تعليم الفلسفة يمكنهم – اذا استقام فهمهم لرسالتها وتجردوا من تميزاتهم وتطلعاتهم وصراعاتهم الصغيرة – أن يلقوا الضوء على المسلمات والافتراضات، والقيم وأساليب الحياة، والاتجاهات والنزاعات الخفية والتميزات المفرضة العميقة الجذور في عقول الناس في كل مكان. وربما استطاعوا كذلك بأساليب تحليلهم ونقدهم «العلاجية» أن يشفوا أصحاب السلطة من أفراد ومؤسسات سياسية واجتماعية وعلمية ودينية من نزعاتهم اللاعقلانية واللاإنسانية، ويقربوهم من آفاق الوعي العالمي والإنساني الشامل الذي يتخذ فيه «الأنا مع الأنت» بل يصبح هو «الأنت».. وفي استطاعتهم أخيرا أن يفيدوا من تخصصاتهم المحددة في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي.. الخ في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تصبح أمراضا مزمنة : كالعنق وتغييب الوعي بالمخدرات والشعارات والتهالك على اللذات، والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والاحباط واللامبالاة، خصوصا في المدن المكدسة بملايين البشر المقضي عليهم بالعذاب اليومي في جحورها وأوكارها ومكاتبها ومصانعها وسجونها وأماكن لهوها، وكأنهم جيوش فئران شرسة تعسة.. ناهيك عن المشكلات الطاحنة التي تستحق الا يشيح المتفلسف «البرجوازي» ببصره واهتمامه عنها بينما هي تصدمه كلما فتح جريدة الصباح أو أدار مفتاح التلفاز: مشكلات الطفولة والشيخوخة وصراع الأجيال وجرائم الشباب، وضياع ملايين اللاجئين المشردين الجائعين من ضحايا صراعات القوة والسيطرة بين النظم والحكام والأفراد وركام التخلف والاستبداد والعجز والحرمان.. الخ الذي ما فتي، ينهال على رؤوس التعساء في الشرق التعس منذ الألف الثالث قبل الميلاد…
لن يستغنى النقد والفحص والتحليل العلاجي الذي أشرت اليه عن التعاون والتفاعل مع بقية العلوم الإنسانية والافادة من نتائج بحوثها النظرية والميدانية – كالاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا واللغة والتاريخ والقانون والاقتصاد السياسي – وربما انعكس على مناهج النظر والبحث في هذه العلوم نفسها كما سينعكس بالضرورة على التخصصات النوعية الدقيقة في مباحث الأخلاق والقيم وتأريخ الفلسفة والعلم..الخ فيخلصها من العناصر الذاتية والاهتمامات المحلية والتمركز الشعوبي والاجتماعي والحضاري بحيث يوسع من آفاق عالميتها وإنسانيتها وتجردها وتسامحها. بل إن المتفلسف لن يستطيع أن يغفل دور العلم والتقنية في خلق الوعي العالمي من الناحية العقلية وتوحيد أساليب الحياة ونماذج السلوك لاعداد متزايدة من البشر في كل القارات – بصرف النظر عن الآثار المدمرة للتقنية، والاضرار الفادحة الناجمة عن التهاون في الاهتمام بأخلاقيات العلم وعدم ربط نتائجه بالقيم الإنسانية – وأخيرا فان المتفلسف لن يستغني عن النظر بقدر الطاقة في الأعمال الأدبية والفنية المعبرة عن معاناة البشر ومشقاتهم وآمالهم وآلامهم في مختلف الآداب والفنون المعاصرة – لأن قدرة الأدب والفن على توحيد الوجدان الإنساني بغض النظر عن اللون والجنس والقومية والعقيدة – ومد جسور التفاهم والتجانس والاحترام المتبادل بين الشعور والحضارات – أمر معروف ومشهود منذ أن وجد الأدب والفن وتبقى المهمة الهرقلية – كما يقول أستاذ الفلسفة الأمريكي الأرمني الأصل «هيج خاتشا دوريان» في مقال أخير له بمجله «الفلسفه البعديه» (4) – تبقى هذه المهمة ملقاة من الناحية العقلية البحتة على أكتاف الفلاسفة أو بالأحرى على ضمائرهم ومدى قدرتهم على استشراف المستقبل.
– 7 –
والأمر الثاني الذي يخطر كذلك على البال مباشرة بما ذكرته عن دور الفلسفة في التعجيل «بالوعي العالمي والإنساني» هو مساهمة المشتغلين بها في الجهود العالمية والاقليمية الموجهة لإيجاد عالم يسوده السلام والتضامن والأمن، وتسترد فيه القيم الأخلاقية والدينية والجمالية قيمتها بعد طول ضلال وضياع – عالم لا يروعه الارهاب «المنظم» من بعض الحكومات والمنظمات والعصابات، ولا تهدده الانقلابات العسكرية المفاجئة وأشكال العنف والاضطهاد السياسي والتعذيب والأحكام الجائرة بالسجن والاعدام على أصحاب الرأي الآخر.. وكفى البشر ما يلقونه من الأعاصير والزلازل وانفجارات البراكين والفيضانات، وما يعانونه من الأورام والآلام النفسية والجسدية بسبب تدخل الإنسان في الدورة الطبيعية واخلال ساعتها الحيوية وتخريب البيئة بغير وازع أخلاقي، ويستطيع أصحاب الفلسفة أن يشاركوا في الجمعيات والمنظمات والهيئات العالمية والمحلية المعنية بالسلام العالمي ورعاية البيئة والطفولة والشيخوخة والدفاع عن حقوق الإنسان (مثل منظمة العفو الدولية وحركة السلام العالمي واليونيسيف وأ حزاب الخضر..) وذلك عن طريق التعليم والبحث والكتابة والقدوة والشخصية وإقامة الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، أو بالتعاون على تأسيس اتحادات فلسفية تختص بدراسة الموضوعات والمشكلات التي تهم البشر كافة ولم تعد مقصورة على شعب دون شعب أو مكان دون مكان. (5) والمهم بعد كل شيء أن يخرجوا أحيانا من ثياب وظائفهم التي تفرضها لقمة العيش وتأدية الدور الاجتماعي، ويتشجعوا – كما يقول كانط في مقاله المشهور عن التنوير- على الاستخدام العلني العام لعقولهم، ويستمعوا للنداء الذي أطلقه ماركس وزميله انجلز ذات يوم في بيانهما المعروف بعد تعديله على هذه الصورة : يا فلاسفة العالم اتحدوا في سبيل انقاذ العقل والإنسان !..
وطبيعي أنهم لن يتمكنوا من الاقتراب خطوة واحدة من الوعي العالمي والإنساني أو من التضامن والسلام بين البشر حتى يبدأوا بتحقيق هذا السلام بينهم كأشخاص واتجاهات وتيارات، ويراجعوا مفاهيمهم التقليدية عن الفلسفة وفاعليتها ووظيفتها وغايتها، ويتذكروا المهام والآمال المعقودة عليها، لا كمعرفة موضوعية دقيقة وحسب بل كأداة تحرير بطيء ولكنه أكيد للإنسان العادي أو «الرجل الصغير» الذي طالما تجاهلته وأهملته، مع أنه هو الضحية الأولى والأخيرة لما يحدث اليوم من ماس وفواجع، ترتبت – في جزء منها على الأقل – على بعض أنظمتهم وأيديولوجياتهم وشطحاتهم..
– 8 –
لا شك أن تعريف أرسطو للإنسان بأنه الحيوان الناطق أو العاقل قد يبدو لنا اليوم خطأ لا يغتفر، اللهم إلا إذا وضعناه في إطار فلسفته النسقية المحكمة، ومنطقه الصوري منطق الثبات والتحدد. فلم يزل العقل يصارع خلال التاريخ لاثبات جدا رته وإبداعه وحيويته، ولم يزل يتصادم مع القوى العميا، للشر والجنون واللاعقل واللامنطق (وهي القوى التي لم تغب عن بال أرسطو نفسه، وان لم يتصور أحد أنها يمكن أن تبلغ ما بلغته اليوم وفي أوقات المحن والكوارث الكبرى من تدمير للعقل والعنى) نعم ! ليس الإنسان مجرد حيوان ناطق، وانما هو قيمة مجسدة وشخص حي حر مريد، يغير الواقع ويتمرد على المألوف، وينزع للامحدود، ويصنع الحضارات، ويبدع الفنون والآداب، ويعقل اللامعقول، وينظم الفوضى، ويقفز فوق ظلال جسده وبيئته وجنسه ولونه ومعتقده، بل يتخطى حدود عالمه وكل ما هو في العالم لعله أن يعرف نفسه التي لا تنفك تعذبه وتفلت من كل تحديد حتى يدرك وحدتها الجوهرية مع كل ما ينبض بالحياة أو يسمو على الحياة. وهنا أيضا يثبت سقراط أنه الحكيم الذي لم يزل واقفا على عتبة باب الغرب المتسلط المغرور بمنجزات عقله وعلمه وصناعته، ولم يزل هو اللغز الساخر والسؤال المحير الذي يلح عليه أن يعرف نفسه، كما يلح علينا أيضا أن نعرف أنفسنا!.
– 9 –
إن الأدب القومي لم يعد له اليوم من معنى لقد آن أوان الأدب العالمي وعلى كل امريء أن يشارك بجهده في التعجيل به هذه العبارة الشهيرة التي قالها «جوته» (1749 – 1832) قبل وفاته بسنوات قليلة في أحد أحاديثه العذبة مع صديقه وتلميذه الوفي الأمين «أكرمان» (6) ، يمكن التنويع عليها فيما نحن بصدده فنقول (ربما بثقة أكبر مما يفعل ناقد الأدب ومؤرخه.. لأن عالمية الفكر الفلسفي وعموميته تطفى على خصوصيته وقوميته التي لا تكاد تظهر الا في ملامح شخصية المفكر وبيئته وعصره ولغته وتراثه، دون أن تؤثر تأثيرا جوهريا على شمولية مشكلاته وتساؤلا ته وإجاباته..) لقد آن أوان الوعي العالمي الذي طالما حاولت الفلسفة تحقيقه، لاسيما في العصور والمذاهب والحركات العقلية والروحية التي أكدت انسانية الإنسان، ودعت الى احترام طبيعته وعقله وشخصه وحرمة حياته وكرامته وحريته ولا يتعارض هذا بحال – كما قد يتصور البعض – مع تأكيد الوعي الذاتي للشعوب والثقافات والمجتمعات و«البنى» السياسية والأخلاقية والقانونية والفكرية والفنية.. الخ، ولا مع ضرورة استمرار الكفاح المتصل للتعرف على الهوية أو على الأصح ايجادها وتجديدها وابداعها، لأنه (أي الوعي الإنساني العالمي) سيكون بمثابة الوحدة الكلية التي تؤلف بين الأفراد والذوات المتنوعة، وستكون اداته هي الحوار الحر الذي تنخرط فيه الأطراف الحرة. واذا كان الأمر يقتضي – في تقديري المتواضع عل الأقل – تجاوز مشكلة الشرق والغرب – (التي اشتعلت في السنوات الأخيرة واحتدم حولها اللجج واللغط، وارتفعت الأصوات المتشنجة والمشوشة !) الى مشكلة القرية البشرية المهددة بالدمار والتلوث بكل أشكاله، فان هذا يزيد من ضرورة تكاتف كل العقلاء لإطفاء الحريق الجنوني الذي يلتهم كل القيم التي صارع «تراث الحكمة المشترك لاقرارها ووضعها في مرتبة البداهات الواضحة المتميزة. وعندما تصل المأساة الى حد تصليب الطفل الرضيع أمام عيني أمه، واغتصاب العجوز ذات الثمانين عاما أمام أبنائها وأحفادها.كما حدث ويحدث اليوم على يد «أبطال» الصرب – وعندما يحاصر الارهاب المنظم شعوبا بأكملها على مرأى ومسمع من العالم المتواطيء أو غير المكترث – كما يجري الآن لأبناء أمتنا في الأرض المحتلة أو للسود في جنوب افريقيا – فلابد أن يصحو الوعي العالمي والضمير الإنساني ويرتفع فوق المصالح والتميزات والتمييزات والخلافات -والا فمتى يصحو؟ وكيف تستحيل الحياة الى كابوس مرعب ولا يتحرك ؟!
وتسألني : ما الموضوعات التي يمكن أن تناقشها محاكم الضمير والعقل المحلية والعالمية التي حان الوقت للم شملها من العقلاء في كل مكان، سواء أعانوا علماء أو أدباء أو فلاسفة أو مشتغلين بالفلسفة، أم كانوا من الشباب العالمي الضائع المضيع وبسطاء الناس الماديين الذين كانوا على الدوام ضحايا كل عدوان على العقل والضمير ؟ وأرد على سؤالك بقولي : ان الموضوعات لا حمو لها، والاضافة اليها أو التعديل فيها أمر ممكن، وما يحضرني منها يمكن أن يفتح آفاقا للنظر والعمل ظلت مغلقة أو مهملة حتى الآن – ومن يدري؟ فربما تصل الى جمهور الرأي العام فتساهم في التغيير الحقيقي من أسفل الى أعلى، وربما تفلح في إقناع المتشككين بقدرة الفكر على التأثير على الواقع : إعادة التفكير في حقيقة الإنسان وتأسيس "ماهيات" وجوده،وقيمه الباقية في مواجهة احتمالات الفناء والدمار الشامل (على ضوء مكابداته التاريخية وانجازاته الفنية والعلمية والتقنية وامكاناته المستقبلية، وعلى ضوء الدراسات المتنامية "للانثروبولوجيا الفلسفية" بشتي فروعها التي أهملناها في عالمنا العربي اعمالا شبه كامل) استكناه أبعاد انسانيته واطلاق طاقاته الخلاقة – وفق برنامج عالمي – لا كحيوان ناطق وحسب، بل كحيوان مبدع ولاعب ومصور وفاعل وصانع لحضارة وسائر على الطريق الى المستقبل الإنساني الحق – السلام العالمي والأمن من الخوف والقلق والفقر والجوع والمهانة والحرمان والعدوان، الحب والتعاطف والأمل والتواصل والحوار، الحرية والمسؤولية والضمير، والخير والحق والعدل والجمال وغيرها عن القيم المادية (على حد تعبير ماكس شيلر) المغروسة في طبيعته، في إطار نظام أو ميثاق أخلاقي عالمي، وحدة البشر المشتركة التي لا تتعارض – كما سبق القول – مع فروقهم الفردية و خصوصيتها الثقافية والحضارية، تكامل الجهود العلمية والفلسفية والقانونية…الخ المشتركة في مركب جديد لمجتمع عالمي مفتوح، مراجعة التراث الفلسفي في الشرق والغرب والقديم والحديث من منظور وحدة البشر وصحبتهم الشاملة وتضافرهم الممكن وطبيعتهم الأصلية الخيرة لمقاومة العوامل التي أدت الى تشويهها والانحراف بها، لاسيما من قبل بعض الفلاسفة والفلسفات والأيديولوجيات المتعصبة، ومن جانب صغار الطغاة وكبارهم في كل العصور وعلى كل المستويات، أولئك المتلذذين بالنظر في مرأياهم، المصابين بنزعات التدمير الفردية والجماعية أو بعشق الموت – النيكروفيليا على حد تعبير أريك فروم – نتيجة نرجسيتهم المرضيه المستفحله (7) _، الاهتمام بظواهر التعذيب عبر التاريخ حتى بلوغها ذروة التفنن التقني في عصر التقنية لاسيما في أكثر البلاد تخلفا في العلم والتقنية – بحيث باتت أرض البشر جحيما يمكن بالقياس اليه أن يعد جحيم دانتي أو المعري روضة من رياض الجنة.. تأسيس "فلسفة بعدية" تحلل وتراجع الفلسفات المتباينة من منظور الوعي العالمي والإنساني الشامل وتجدد مسيرة الحركة الإنسانية التي طالما انتكست قديما وحديثا، وتؤكد قيمها الأساسية في التنوير والتحرير والتقدم والتسامح بين الأديان والمذاهب، والتفاؤل بمستقبل العربة البشرية الواحدة التي يقودها العلم والعقل والإخاء محاولا انتشالها من مستنقع تاريخها المعاصر الملطخ بالأوحال والدهاء والدموع..
-10-
ربما تقول : إن هي إلا آمال "يوتوبية" عريضة، غارقة في ضباب الشك والقلق والقنوط مما يجري اليوم وفي هذه اللحظات التي تقرأ فيها هذه السطور. لكن الإنسان هو "كائن الأمل والمستقبل" وعليه أن يرفع راية الأمل حتى لو امتلأت الأرض من حوله وتحت قدميه بالأنقاض والأشلاء، بل من واجبه أن يرفعها في هذه الأرض بالذات هذه الأرض التي لم تعترف حتى الآن بقيمة الإنسان كإنسان..
ومع أن هذه الآمال تبدو "يوتوبية" حالمة فان أحلامها ليست مستحيلة كأحلام اليوتوبيين على اختلاف العصور والثقافات والحضارات، وعند مختلف الأدباء والمفكرين الذين طالما رسموا لنا جزرا ومشروعات ومدنا سعيدة أو شقية، ونظما إيجابية أو سلبية، ومجتمعات مثالية كأنها الفردوس الأرضي أو مجتمعات ضدية وعدمية كأنها الجحيم البشري.. والدليل على هذا أن بشائر الأمل تلوح في الأفق وان كانت أضواؤها ما تزال شحيحة خافتة. ألم تتحرك ضمائر الناس وقلوبهم فى كل شبر من قويتنا العالمية الصغيرة تعاطفا مع ضحايا الفظائع الوحشية في البوسنة، وضحايا المجاعة المخجلة في الصومال وجنوب السودان (8) وضحايا الحرب الأهليه في لبنان وأفغانستان، وضحايا الصراعات الطائفية والمذهبية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وضحايا العدوان العراقي على الكويت وكردستان؟ ألم يتحرك قبل ذلك لضحايا الزلازل والبراكين والفيضانات وكوارث الطيران : ألم يتكون حزب للخضر في معظم بلدان العالم يقاوم بوسائله المحدودة تلويث البيئة ومخاطر التجارب والنفايات النووية؟ ألم تتحرك الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها – على الرغم من ترددها وعجزها وسيطرة القوى الكبرى عليها، وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن تمثيل الحكومة العالمية المأمولة أو تجسيد الضمير العالمي الرادع؟ وأخيرا فلنسأل أنفسنا: ألم يتحرك ضمير الجنس البشري لانقاذ "شركائه" على الأرض من الحيوانات والحيتان والأسماك المهددة بالإنقراض ؟
إن العقبات أكبر من كل التوقعات. والسلام والسعادة والأمن والتضامن والتراحم والأخوة !لبشرية ما فتئت تضرب رؤوسها على جدران المستحيل.. لكن الفلسفة تعمل على الدوام في دائرة الممكن الذي يبدو أحيانا على صورة المستحيل. وفلسفة المستقبل العالمية والإنسانية هي أخطر تحد يواجه المشتغلين بها والمنتمين اليها. إنها من قبيل المستحيل الممكن. أو من قبيل الممكن الذي يبدو اليوم كالمستحيل.
هوامش وملاحظات :
1- قد لا تكون هذه العبارة صحيحة كل الصحة. فلم تغب الفلسفة في كل الظروف والأحوال عن الواقع بكل أبعاده ولا عن آلام الناس وآمالهم، وان كانت بحكم معرفتها النظرية ومناهجها القائمة على التحليل والنقد والتفسير والتعميم وتكثيف أفكار عصرها في نظم عقلية موحدة ومتماسكة – أقل قدرة من الأدب والفن والتاريخ على التعبير عن تلك الآلام والآمال في صور حية مؤثرة. ومع علوها فوق الجزئي العارض والتجريبي الحادث والزمني العابر- مع ارتباطها به وبدئها في نفس الوقت بوصفها مشروعا بشريا مؤقتا رغم طموحها المستمر للخلود والثبات (وتلك هي مفارقتها الأزلية!) فان معاناة البشر قد انعكست بوضوح على مرآتها في عصور وأحوال كثيرة : عند الشكاك القدماء والرواقيين والكلبيين، وفي مواجد المتصوفين العظام من كل العصور والحضارات، ولدى الأخلاقيين والمعلمين والحكماء الكبار في الشرق والغرب، وفي الفلسفات الوجودية في عصرنا الحاضر، فضلا عن الفلسفات التي كتبها أصحابها بدعاء القلب مثل كيركجور ونيتشه وأونا مرنو وكامي وغيرهم.. والعبارة التي قالها "أدورنو" أيضا وصرح فيها بأن التاريخ الطويل لثقافة العقل والروح والتقدم…الخ قد أصبح مجرد "قمامة" بعد "أوشفيتس" (وهو معتقل التعذيب النازي الرهيب) يتجلي صدقها اليوم أكثر مما كان الحال على أيامه، اذ يمكن أن تجرفنا الى القول – في مواجهة أهوال القتل والتدمير والتعذيب التي تجري في البوسنة وعلى أيدي اليهود أنفسهم من أبناء ملته وجلدته في الأراضي العربية المحتلة – القول بأن كل القيم التي اعتز بها الإنسان تستحق أن تلقى في أقرب مزبلة.. زير أن الأجدى والأجدر بالعقل هو الاصرار على انقاذ هذه القيم من نيران المحنة المشتعلة، ان كان الإنسان ما يزال حريصا على أن يكون انسانا..
2 – الموسوعة الفلسفية، باشراف الأستاذ باول ادواردز، المجلد الثاني، ص322.
3- انظر إن شئت مقالا لكاتب هذه السطور عن التواضع والاعتدال بعنوان : "أيها الإنسان لست إلها" في كتابه مدرسة الحكمة، القاهرة، دار الكاتب العربي 1967، ص 133 – 150 -وكذلك كتابه "لم الفلسفة ؟" الفصل الثالث بعنوان "لنكتشف سقراط من جديد – الإسكندرية، منشأة المعارف، 1981.
4- المقال بعنوان "مستقبل الفلسفة في سياق عالمي"، الفلسفة البعدية المجلد 23، العددان الأول والثاني، يناير-ابريل سنة 6992، من ص 125-133.
وقد تم بالفعل تأسيس الجمعية الاولية للنزعة العالمية، أو الـ ISU في شهر نوفمبر سنة 1989 في مدينة وارسو عاصمة بولندا، وانعقد مؤتمرها العالمي الثالث في جامعة وارسو في شهر أغسطس 1993. وشارك فيه مفكرون وأدبا، وأساتذة فلسفة من 20 دولة والهدف الأساسي من إنشاء الجمعية هو تحقيق التضامن بين البشر كافة، والقضاء على الحروب والآلام التي يسببونها لبعضهم، ومناقشة مباديء نظام عالمي يقوم على السلام والتضامن ومقاومة الحرب والعدوان بكل أشكالهما، والوقوف في وجه الإضطهاد لأي شعب من الشعوب أو لميراثه الثقافي الخاص. وهي في النهاية جمعية تركز اهتمامها – كما يقول الاعلان الناطق باسمها ومجلة "الحوار والإنسانية" التي تصدرها – على القيم والأفكار والاتجاهات العقلية التي تشترك فيها جميع الثقافات الإنسانية، كما تقوم على الإيمان بأن بناء المستقبل الأفضل للجنس البشري لابد أن يبدأ بالعمليات العقلية التعميمية، أي يبدأ بالفلسفة… ويؤسفني القول بأنني حضرت مؤتمرها الأخير فلم أسمع فيه صوتا واحدا يعبر عن وجهة النظر الإسلامية والعربية، كما لاحظت مدى تغلغل الأساتذة اليهود فيها وتعبير عدد منهم عن المصالح والأطماع الصهيونية من وراء السلام القلق الذي تغزل اليوم خيوط شبكته العنكبوتية المريبة..
5- راجع دلالات هذه العبارة في سياق اهتمام جوته بالأدب العالمي والأدبي والأدبين العربي والفارسي في كتابي : "النور والفراشة، زهرات من بستان الديوان الشرقي. القاهرة دار المعارف، سلسلة اقرأ، فبراير 1979، ص 19 وما بعدها.
6- علمتني تجربتي المحدودة مع الحياة والأدب والفلسفة أن "المعذبين في الأرض" المنشغلين بتعذيب أنفسهم وتدمير غيرهم (وهم المصابون بالنرجسية الفردية والجماعية المريضة أو بعشق الموت ) مشغولون كذلك بالضرورة عن حب غيرهم والتعاطف معهم ناهيك عن عجزهم المطلق حتى عن رؤية وجه "الآخر" أو النظر في عينيا والحوار الحقيقي معه، وعن فشلهم كذلك في تقدير الواقع وإدراك العالم إدراكا موضوعيا، لأنهم قد استبدلوا به واقعا وعالما آخر تحصنت فيه الأنا المتضخمة لتنسج خيوط أوهامها وتنفث سمومها المهلكة.. وحسبي الله من العناكب والأفاعي والحيات والذئاب والكلاب والجراء النرجسية التي طالما جربت في السنتها وأسنانها وأظافرها وأنيابها، فهو وحده الذي يهب القدرة على الصفح والغفران.
7- لابد أن القراء "الكهول" من جيلي قد بهرتهم وحركت كواهن إنسانيتهم كما أخجلت عجزهم وضعف حيلتهم، رؤية النجمة السينمائية "أودري هيبورن" وهي تحتضن أطفال الصومال الجياع على صدرها وتطعمهم بيديها الصغيرتين المرتعشتين، بعد أن ذوي جمالها البريء الطاهر الذي فتن أحلام شبابنا، وعشش كابوس السرطان في صدرها وجسدها الضئيل، دون أن يمنعها أبدا من تحمل مشاق السفر والمرض الذي صرعها بعد هذه الزيارة بأسابيع قليلة.. وباستثناء بعض الجمعيات الخيرية الإسلامية في منطقة الخليج، لم يبلغ الى علمي أن أحد الاتحادات الأدبية أو الصحفية أو العلمية في بلادنا العربية قد كلف خاطره بارسال واحد من أعضائه الى البوسنة أو الصومال أو غزة والضفة الغربية أو جنوب السودان أو أنجولا أو موزمبيق أو سواها من بؤر الجحيم التي يحترق فيها البشر بأيدي البشر، في الوقت الذي قدمت فيه منظمات الغرب وأفرادها وما زالت تقدم تضحيات ومعونات لا يستهان بها ولا يصح التشكيك، في بواعثها وأهدافها على طريقتنا المعهودة في "لعن" الغرب ليل نهار، واتهامه بالتآمر علينا بدلا من تحمل مسؤولية أخطائنا وذنوبنا التي لا تغتفر في حق ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.
عبدالغفار مكاوي
كاتب ومترجم من مصر، أستاذ تاريخ الفلسفة بجامعة القاهرة