إن الفن في أي مجتمع إنساني ما هو إلا افراز اجتماعي لرغبات ومتطلبات الانسان، أي أنه محصلة لمكونات وتركيبات اجتماعية تلقى بتأثيراتها على كل ما يقع داخل إطارها وهذا بدوره لا يتناقض مع كون الفن موهبة خاصة، أو تعبيرا فرديا، ولها خاصية التفكير الفردي.
كثير منا يظن بأن الفن ما هو إلا تعبير عن الجمال أو هو الحاجة الملحة لاشباع هذه الرغبة للجمال، ولكن هل يقتصر بهذا الفن على التعبير فقط عن الجمال البحت والبحث الخالص عنه ؟
إن تاريخ الفن القديم والمعاصر يثبت العكس إذ أن التعبير عن الجمال لم يكن الا حاجة ضرورية واحدة من بين احتياجات الانسان الروحية والمادية.
ولذا فإن الابداع في الفن التشكيلي ليس بالأمر الذي يتأتى للفنان منذ البداية أو هو من السهولة بحيث يحقق وظائفه الابداعية والاجتماعية. واذن فإن الفنان التشكيلي يحمل على عاتقه مسؤولية تقصير المسافة بين هذه المتطلبات الفنية والانسانية وبين صورته وعلاقته بالوسط الذي يحيط به.. ولكن هذه الرغبة في تحقيق الذات كثيرا بل غالبا ما تصطدم بعوائق سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهذه الظروف بالذات هي المنهل الذي يغرف منه الفنان أو يفرق فيه، فلفهم العمل الفني في مجتمع ما، لابد من فهم جميع ظروفه وتراكم خبراته المعرفية والتاريخية.
وهنا إذا تحدثنا عن الفن التشكيلي في الوطن العربي فلابد من التعرض للأوضاع السائدة في البلاد العربية، والى التفاعلات التاريخية للامة، والى التراث الحضاري له وما تمخض عن هذه المؤثرات على واقع الفنان وابداعه.
ويرى الدكتور محمود عبد العاطي (مدرس التصوير بجامعة السلطان قابوس) في حديث معا حول الفن التشكيلي في الوطن العربي وعمان، أن الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي ظهر نتيجة التقاء الثقافة العربية بالثقافة الغربية، حيث تشكلت الحداثة التشكيلية العربية انطلاقا من ثلاثة عوامل رئيسية:
أولها: الجمالية العربية التقليدية والتي تمثلت في التراث الفني الاسلامي في الأقطار العربية. وثانيها: الجمالية الغربية التقليدية والتي تمثلت في الاتجاه الأكاديمي، والعامل الثالث تمثل في الحداثة التشكيلية الغربية التي ظهرت بوادرها في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا.
أما في الخليج فقد جاء الفن التشكيلي انعكاسا للواقع العربي، فالاساليب والمذاقات الفنية في الخليج هي نفسها الموجودة في كل الدول العربية، فمن السهل معرفة ما إذا كان الفنان الخليجي قد تأثر أو درس في القاهرة أو بغداد أو في الشام. فالخليج منطقة جامعة مع وجود بعض التميز والاختلاف.
ويؤكد الدكتور محمود عبد العاطي أن التجربة التشكيلية في عمان هي تجربة في حالة الابتداء، وفي مثل هذه الحالات يكون الميدان مفتوحا للفنانين وأنصاف الفنانين، فالساحة هنا مختلطة. وعدم وجود حركة نقدية واضحة يجعل عملية الفرز بطيئة الايقاع.
ويقسم الدكتور محمود عبد العاطي الفنانين التشكيليين في السلطنة الى فئتين أساسيتين وهما:
– الفئة الأول: فئة الرواد والذين يتبعونهم، والذين يمارسون الفن كنوع من الجهد الذاتي، وبناء شخصية الفنان التشكيلي من خلال الممارسة والتعلم، والذين أوجدوا لهم مجتمعاتهم (كمرسم الشباب) و (جمعية الفنون التشكيلية).
– أما الفئة الأخرى فهي فئة الأكاديميين، وهم فئة ليس لها صوت، ولا تنتمي الى أي تركيبة مستقرة، وليسوا عناصر في أي تجمع حتى الآن. وليس لهم أي اتصال وثيق بالمجتمع وذلك لكونهم طلبة محدودي الحركة، وقادمين من أماكن متفرقة وسيعودون اليها بعد التخرج، هذا يجعل علاقاتهم محدودة وقصيرة، بالاضافة الى التردد في اقتحام الساحة والدخول في المجتمعات الفنية ولعل ذلك يرجع لشعور الأكاديمي بأنه لا يزال طالبا يتعلم والآخرون أكثر خبرة وتجربة، رغم أن أعماله قد تكون جيدة، ولذلك فالأكاديمي دوره ضعيف حتى الآن.
وفيما يلي نسوق شهادات لتجارب الفنانات التشكيليات في عمان.
رحيمة سالم البوصافي:
الرسم بالنسبة لي هو الديوان الذي أرى فيه كياني المتشكل في كيان الانسان الذي يفرض نفسه على الفرشاة، متحايلا على شعيراتها الناثرة عبق الألوان الطافحة بجرأة وحرقة الروح الشرقية.. لماذا أرسم وأرسم لطالما وجدت دماء تنثرها ريشة أسطورية، أرسم لأني معاقة بلغة قومي، أنا عاجزة وهم عاجزون، بالرسم أسقط خطوطي في جرأة لا أحد يمانع لا أحد يعترض ولا ينتقد إلا بما تسقطه نفسه.. تجربتي الفنية الأكاديمية ناجحة، عرفت ما الذي تعنيه (التربية عن طريق الفن) بكل ما تحمله من هضبات وشهاب تضيق أحيانا وتتسع أحيانا أخرى.. أكاديميا تعلمت ما الذي يعنيه أن أعلم طفلا، أن أفهم خطوطا منظمة أو عشوائية.. تعلمت كيف أجعل لوحتي تنشر شعرا.. وحقق لي الفن لغة تربوية أكاديمية مصدرها حبي الكامن خلف تلك الألوان والطلاسم.. إني متفائلة للروح الكامنة في الخطوط الساكنة حينا والمتحركة أحيانا، معلنة سخطا على من لا يدركون.. لكني أحاول أن أزيل بأناملي غبارا يفشى الطريق عن رؤية الخطوط بانكساراتها وتموجاتها.
خديجة عبدالله المقبالي:
أرسم لأني أبحث عن شيء ما -أبحث عن عالم جديد..عن جمال أو حب أو خير – الفن هو الهبة الخالدة.. بالفن تتسع المدارك.. ويتعلم الانسان كل يوم قيمة جديدة. تخصصي في قسم علمي فني أضاف لي الكثير.. في بناء شخصيتي الفنية والاجتماعية.. أنا أميل لرسم الشخوص والى التصوير ولهذا فأنا أبحث دائما في الوجوه – فيما توحيه – تقوله – او تخفيه أتمنى أن أبني داخلي الفنانة الحقيقية وأن أسير في درب الفن التشكيلي باطراد وتقدم حقيقي.
بدور عبدالله الريامي:
الرسم هو لغتي.. وسيلة التعبير والاتصال بيني وبين الآخرين.. أرسم لأني استمتع وأنا امسك الفرشاة،، وأشعر ببهجة خاصة ولذة عميقة عند كل عمل فني اقوم به.. حبي للفن التشكيلي وعلى أساس من العلوم النظرية والتجارب الفنية العديدة التي مررت عليها خلال دراستي المتخصصة زادني شغفا واهتماما، فالفن يحقق لي التميز والتواصل مع الأخرين.الفن هو خصوصية يشعر بها كل فنان.. والفن يشحذ سلوك صاحبه ليكون شخصية مميزة.
فخرية اليحيائي:
"كل فنان عندما يبدأ الرسم يكون له هدف قد يكون رفضا للواقع أو الرغبة في تحقيق الذات، وقد يكون تطلعا لمستقبل أفضل. عندما أرسم أحقق كل ذلك لكن الأهم أن الفن التشكيلي هو تخصص ووظيفتي مما يحتم علي أن أرسم باستمرار.. ومن حسن الطالع أن اجتمعت لي الموهبة والدراسة الأكاديمية وهذا الذي خلق مني فنانة أكاديمية أستطيع أن أدرس الفن وأدرسه.
أنا أعتبر الفنان أقدر البشر على تحقيق رغباته المكبوتة التي يرفضها الواقع وهو أقدرهم على تعريف المجتمع بما يود تحقيقه وما ينشده مستقبلا.. أنا أرسم في كل الاتجاهات.. لأن الفكرة التي تدور في ذهن الفنان هي التي تحدد الأسلوب والطريقة والخامة التي ينفذ بها الفكرة.. والفنان هو من ينجح في تنفيذ الفكرة التي تدور في ذهنه بالشكل المناسب لها ولا يكون رهينا لنوع أو اتجاه فني واحد".
حليمة البلوشي:
" ببساطة أرسم لأني أريد أن أرسم.. والرسم عندي هو شيء مختلف. أن أرسم معناه أني أريد ساعتها أن أتنفس وأصل الى حديث تلك الأعماق التي أعجز عن الوصول اليها وفهم حديثها من غير اللون والريشة.. هناك داخل كل فنان أشياء أحيانا تختنق.. لا تهدأ تطل تلح عليه لابد أن تخرج. في داخلي أشياء تختنق تنشد الخلاص والنفاذ الى عالم لا نهائي.. فلحظات الاختناق تلك هي التي تدفعني لتشكيل خطوط ورموز تحرر الأشياء وتمنح السكينة لتلك اللحظات حينها أشعر أني دخلت أجواء عالم آخر أجواء خاصة.. أبحث فيها عن معان جديدة للأشياء.. لكي الأشياء معان تزيل غبار الزيف والوهم عن كل شيء ليظهر لنا حقيقة نقية. يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور: إن الفن يتفق مع الفلسفة ويتحدان فهما يسعيان لابراز الحقيقة وكشف الحياة والوجود وعن طريقهما يمكنني أن أعرف اجابة السؤال ما الحياة ؟
ولكن برغم الحقيقة التي نسعي وراءها من خلال الفن والرسم إلا أنني عندما اتطلع الى العالم أجد الغموض يكنفه من كل جانب وأن تلك المعاني والحقائق التي أحاول الوصول اليها من خلال لوحاتي تتحول بسبب هذا الغموض الى مجرد أكاذيب.. فأشعر بأني أسعي وراء لا شيء.. وأتذكر قور بيكاسو "بأن الفن ليسر حقيقة.. الفن كذبة وعلى الفنان إقناع الناس بأن أكاذيبه حقائق" إلا أنني لا أزال أسعي من خلال لوحاتي الى رؤية اللامألوف ".
ياسمين:
"في بداية الأمر كان الرسم بالنسبة لي موهبة وهواية لقضاء وقت الفراغ، ثم أصبحت أرسم لأنفس عما يجول بخاطري وأقوم بإبرازه في لوحات فنية معبرة من واقع البيئة والتراث العماني.. ممارسة الفن التشكيلي حققت لي ذلك الشعور الدائم بالسعادة والمتعة عند الانتهاء من عمل لوحة.. وأنا غير مرتبطة بمدرسة فنية محددة وانما أقوم بالرسم تأثرا بالفن المعاصر والواقع ولوحاتي هي أفكاري تخرج كيفما أشعر. على الفنان أن يواصل الاطلاع والتدريب وزيارة المعارض ليحافظ على نموه الفني".
سهير فودة
"أنا فنانة منذ خلقت.. منذ الأزل وأنا أرسم.. لا أتذكر نفسي وأنا لا أرسم.. تجربتي الفنية بدأت منذ وجودي وعلاقتي بالفن هي علاقة وجود وحياة.. فتعلمت الفن منذ الصغر.. فانتسابي للإدارة العامة للفنون الجميلة كان انتسابا حرا لصغر سني – ثم واصلت صقل موهبتي بالدراسة في معهد ليوناردودفنشى وفي الجامعة الأمريكية بالقاهرة.. وكانت دائما شخصيتي التي أعرف بها أني فنانة.. والفن بحد ذاته إضافة.. فالفن هو الحساسية والشاعرية والتذوق هو التعامل الراقي والاختيارات المنتقدة.. وهذا يحقق لي السعادة.
تركيبة الفنان الفطري تختلف عن متعلم الفن.. فيمكن التقاط الفنان من خلال أسلوبه وتعامله.. وما يحتاجه الفنان هو تفهم دوره في المجتمع بمعنى لابد أن يكون سلوكه سلوك فنان. والا يمل الفنان من الدراسة والتلقي ويكون على اطلاع بالحركة الفنية في العالم ولا يبقى فقط على القديم أو يلجأ للتقليد.
الفنانة التشكيلية العمانية مقبلة على التعلم بشغف، وتوجد في السلطنة قاعدة من الفتيات الطموحات.. لكن الطموح بلا دراسة أكاديمية لا يكفي.. إنما الذي يجمع المواهب المبعثرة في منهج تأسيسي هو كلية للفنون الجميلة.. وهذا ما سيخلق قاعدة من الفنانين نواجه بها التقدم الفني والتكنولوجي في العالم.. ويجب على الفنان الا يقف عند مستوى ثابت.. فيجب أن يكون تواجد الفنان في كل مكان.. ويجب أن يكون الفنان مؤسسا ليعمل بشكل واع ومنظم ".
منى البيتي:
" بدأت الفن أثناء دراستي في جامعة السلطان قابوس حيث إني ومجموعة من زملائي الفنانين كنا من أوائل مؤسسي هذه الجماعة وشاركت في جميع المعارض المقامة عن طريق جماعة الفنون التشكيلية داخل الجامعة وخارجها وفي دول عربية مختلفة ثم التحقت بالجمعية العمانية للفنون التشكيلية.. لماذا أرسم: هذا التساؤل يقلب داخلي معاني ومفاهيم كثيرة.. الرسم هو التعبير الصادق الحر اللامحدود.. وأنا أمام لوحتي أشقر أنها مرآتي التي تنعكس عليها ذاتي ويراني الآخرون من خلالها بكل ما تحويه هذه الذات من فكر وانفعال.. يحقق لي الفن الدرجة القصوى من المصداقية مع النفس.. أشعر بالحرية والطمأنينة. أشعر بقوة شخصية تحتلها المتعة بشكل خاص.. من خلال الفن توصلت الى نفسي.. ومن خلال المعارض تعرفت على فنانين وهذا أضاف الى خبرتي الكثير.. عندما بدأت الرسم توجهت الى الواقعي والبورتريه لكني لم أجد نفسي فيه، فانتقلت الى الفن التجريدي واستهواني كثيرا.. أتمنى أن أصنع لنفسي خطا مختلفا دون التقيد بأي مدرسة أو خامات مستخدمة في اللوحة وهو ما يسمى بالفن الحديث فالفنان له أن يجرب ويحاول ويبتكر.
الفنانة التشكيلية في عمان تحتاج الى التعليم على أساس تخصصي سليم وتحتاج الى دورات متخصصة ودراسة أكاديمية والاطلاع المستمر وزيارة المعارض.. تجاهل المحبطات والثقة بالنفس – المثابرة والصبر.. وبشكل عام فإن الموهبة هي نعمة من الله تجب المحافظة عليها وصونها والنهوض بها وحمايتها من الضغوط المادية والمعنوية. وما علينا سوى الاستمرار لأن أساس تقدم أي مجتمع هو الحركة الثقافية وهذا ما نطمح اليه".
رابحة محصود:
" كثير من الأسئلة يلح على الفنان.. ما اللوحة ؟ مل هي واقع أم خيال ؟ لماذا نرسم ؟ هل للفن دور في بناء الحضارة الاسلامية ؟ ما هو الفن ؟ وما مي الصلة بين الفنان والجمهور: كيف نقرأ اللوحة ؟ هل يتوصل الجمهور الى رؤية الفنان ؟
للفنان مفرداته الخاصة في الحديث مع اللوحة.. وله قاموسه الذي لا يمكن أن يشرح اللوحة بالكلمة.. أداة الفنان هي اللون. الرسم هو فن جميل.. تبدأ الموهبة ثم تتبلور وتنمو. ثم تصبح بحثا يتركز على القيم الجمالية الفلسفية.
ما الذي يمكن رؤيته في اللوحة لون وضوء وحركة !
فالمدرسة التعبيرية الألمانية هي رمز المعاناة.. وكانت تترجم مشاعر الفنان الى وجوه كئيبة تعبر عن معاناة ما بعد الحرب فإذن المدرسة تنبع من الواقع.
الانطباعية شكل اللوحة وحده هو متعة العين.. متعة اللون والضوء والحركة.
فالفنان يمكن أن يعبر من أحلام وخيالات كالانطباعية التجريدية والمدرسة الأمريكية البصرية التي تنفذ الى المناطق الداخلية للأشياء.
لا توجد لوحة واقعية.. أنا أرسم خيال الشيء.. خيال يعبر عن الواقع والتجريد هو أكثر واقعية.. هو التصوير المستوحى من الواقع.. استخراج اللون لذاته.. لا أقصد شيئا سوى أنه لون حديث.. الفن لمجرد الجمال.. الفن لذاته وهذا ما تتبعه المدارس الحديثة. ما يهمني هو الجمال.. التنظيم في الوجوه والترتيب في الملابس.. كن جميلا ترى الوجود جميلا.. فن ما بعد الحداثة يركز على شكل الشيء، استخدام اللغة لا يعني بالضرورة أن يكون معنى ما ".
اعداد: رفيعة الطالعي