محمد آيت لعميم
باحث وناقد مغربي
عرفت الممارسة النقديّة عبر صيرورتها لحظات قوية ومفصلية، تجلى فيها الإبداع النقدي، وذلك عبر تشييدها لنماذج نظرية متماسكة لديها الاقتدار الاستدلالي المتين، والتأويلي الكاشف. وإبرازها لطيات النّصوص وثنياتها، محاولة بذلك استغوار السراديب العميقة ووضع خرائط لمسالكها. هذه القوة النقدية سواء على المستوى التنظيري أو التطبيقي مردّها في الغالب الأعم إلى المرجعيّات الفكرية والفلسفية التي يتم الاستناد إليها والتحاور معها. إذ حين كان النقد يتّخذ خلفية له الأفكار الفلسفية الهادية ويستجلبها إلى فضائه ومعجمه ومصطلحاته، كانت لديه القوة التحليليّة والتأويلية والاقتراحية والاستشرافية.
لا يخفى على متتبع المسارات التي قطعها النقد، أن مراحله عرفت تمفصلات كان فيها التحاور بين النقد والفلسفة، وبين النقد وروح العصر حاسما، إذ كل مرحلة نقدية تفرز مفاهيم كلية تكون ناظمة للتوجهات المتنوعة في الممارسة النقدية، ومرد ذلك إلى أن النقد كان ينصت لأسئلة العصر وللمقترحات الفكرية التي تهدف إلى الإجابة عن هذه الأسئلة. إذ في غياب تحديد الأسئلة الراهنة وخفوت العدّة الفكرية المؤازرة للبناء النظري للنقد، يفقد هذا الأخير بوصلته الموجهة ويتيه في ما لا طائل من ورائه. هذه النقطة بالذات هي ما يجدر بنا التركيز عليها والتأكيد عليها بغية الإجابة عن سؤال النقد الحاضر والنقد الغائب، ولا ينبغي أن نساير الحديث عن أزمة النقد بلغةٍ انطباعيّةٍ وذاتيّةٍ وتعميميّة. فخطاب الأزمة يحجب الضوء الذي تبعثه نجومٌ نقدية لم تنطفئ، تمكنت من تأسيس خطابها النقديّ بعيدًا عن الاستهلاك الإعلامي والكتابات المتسرّعة. أقلام تمكنت من الإنصات الهادئ إلى النصوص المختلفة والمتنوعة وإلى المناهج الحديثة وخلفياتها الفكرية وإلى العلوم الإنسانية بمختلف فروعها. فاستطاعت أن تبصم مسار النقد بفتوحات وكشوفات جديدة.
ولم تتوقف عند هذه الجدة في تناول الموضوعات وإحداث منظورات جديدة للقبض على زوايا نظر مختلفة، بل تجاوزته إلى إحداث تأثير كبير في توجيه الكتاب والنقاد وفتح عيونهم على فضاءات جديدة في مألوفهم. إن هذه الاستراتيجية المعتمدة في النقد المؤسس على الحوارية بين مختلف الأسئلة الفكرية والفلسفية وارتياد مجهول الكتابة في نصوص مختلفة ومتنوعة في السرد أو الشعر هي التي ينبغي فحصها وإبراز العائلة النقدية التي تأسست انطلاقا من هذه المزاوجة بين التفكير والتنظير والتأصيل بغية الوصول إلى الجديد وفتح أعين القراء والكتاب على بواطن الأشياء.
وإذا كانت الكتابة في جوهرها تتأسس على المقروئية والموسوعية والتجربة، فإن النقد مطالب أن يكون أكثر من ذلك، أن يمتلك قدرة هائلة على تنويع المقروء حتى يتمكن من الإحاطة بعوالم الكتابة ويتجاوزها عبر إنضاج الفج فيها واستعمار بياضاتها والإقامة فيما لم تفصح عنه هذه النصوص، وإذاك سيصبح النقد كتابة في حد ذاته، ولا يكتفي بأن يبقى كتابة فوق كتابة. فهذا الوعي بضرورة كتابة نقدية تدرك جوهرها الإبداعي هو الكفيل بتأمين ممارسة نقدية تجمع بين المفيد والجميل وبين الاقتدار على التفسير والتأويل والإمتاع.
لقد انتبه الدارسون اليوم إلى هذا الملمح الإبداعي للنقد الذي يتحول بلغته الواصفة إلى كتابة، يتراكب فيها طبقات وتتداخل، الموضوع المنقود، والإجراءات النقدية والبصمة الذاتية. مما جعل الناقد فلوريان بينانيش Florien Pannanech يتناول هذه الظاهرة في دراسة صدرت حديثا عن دار سوي 2019 تحت عنوان “شعرية النقد، النقد باعتباره أدبا”. Poétique de la critique. De la critique comme littérature”، وقد سبقت دراسات أخرى في هذا المضمار، مثل “طروس” لجيرار جنيت، و”نقد النقد” لتودوروف، و”شيطان النظرية” لأنطوان كومبانيون. ولو أن هناك بعض الفروق بين هذه الأعمال، حيث إن كتاب تودوروف هو قبل كل شيء “كتاب في تاريخ الأفكار حيث عمل على استخراج رومانسية الشكلانيين الروس، وبارث، وسارتر، وبلانشو”.1
“فكتاب نقد النقد كتاب تاريخي وإبستمولوجي، أعلن فيه تودوروف عن وداعه للشعرية”.2 ومن هنا فطريقة بينانيش ترتبط قليلا بنفس الموضوع لكن المنهج والهدف مختلفان بطريقة جذرية. نفس الشيء بالنسبة إلى شيطان النظرية حيث الموضوع ليس النقد ولكن النظرية. وليس النصوص التي تتحدث عن نصوص أخرى، ولكن النصوص التي تتحدث عن الأدب بصفة عامة. فيتعلق الأمر هنا بالتقويم من زاوية إبستمولوجية. ويمكن القول إن كتاب “شيطان النظرية”3 هو نفسه كتاب في النظرية. فكل من الكتابين يتخذ موقفا من الشعرية الأول يتجاوزها والآخر يتجاهلها.
إن مشروع بينانيش، المتمثل في مقاربة النقد بوصفه أدبًا، بدت ملامحه منذ أطروحة الدكتوراه التي أشرف عليها الناقد أنطوان كومبانيون، والتي خصصها لبروست وعملية تلقيه من قبل نقاد أدباء، من أمثال بارت، وجيرار جنيت وسيرج دوبروفسكي. ويظهر أن اشتغاله على متن نقدي، لنقاد تمتزج لديهم الصياغة النقدية بالروح الأدبية، نبهه إلى إمكانية وضع شعرية للخطاب النقدي، أي إمكانية وضع قواعد عامة وكليّة لطرائق اشتغال الكتابة النقدية. على غرار شعريات الأجناس الأدبية الأخرى. هذا المنزع يهدف إلى إزالة الصورة الخطيّة حول النقد باعتباره كتابة ثانية، ومحاولة التأكيد على ضرورة التعامل مع النقد باعتباره إبداعًا.
إن النقد يتحول إلى الأدب حين يستمد ما به يكون الأدب أدبا، ليس على مستوى اللغة النقدية، ولكن على مستوى الفكر النقدي، بحيث يتم استخدام اللغة والفكر بطرائق غير مألوفة والمواظبة على افتراض أن “التغريب هو جوهر الأدبي. لذلك فالنقد مطالب بنزع الألفة عن المقروء، وتغريب النظرة العادية لقراءة العمل. هذه القراءة في نهاية المطاف هي في جوهرها “إعادة كتابة”. “فكل الأعمال الأدبية تعاد كتابتها، ولو بصورة غير واعية، من قبل المجتمعات التي تقرأها. كل قراءة لعمل ما هي في الحقيقة إلا إعادة كتابة. وما من عمل، وما من تقويم سائد له، يمكن أن يمتد إلى جماعات بشرية جديدة دون أن يتغير في سيرورة امتداده هذه، “(وهذا واحد من الأسباب التي تفسر أن ما يعتبر أدبًا هو أمر متقلب متبدل)4”.
إن النقد هو الآخر محكوم بسياقاته، وتاريخيته، وتتبدل أحواله، بتبدل النظريات والمذاهب التي يستمد منها أدواته وعدته القرائية، وإن الوعي النقدي بالخلفيات الثاوية وراء المناهج المعتمدة في القراءة هو الذي يؤمن الفعالية النقدية ويسهم في البناء المتين للمشروع النقدي لدى الناقد، إذ النقد ليس غاية تحليلية فقط بل هو رؤية شاملة، مسنودة بأسئلة مهيمنة في مرحلة معينة، يتم الجواب عنها من خلال مقاربات لنصوص أدبية هي الأخرى كانت محكومة بمنطق السؤال والجواب.
إن المشروع النقدي هو المعيار لتقويم الفعالية النقدية والمجال الذي يمكننا من قياس الحضور النقدي أو غيابه. إذ في غياب المشروع المتماسك الواضح المعالم والرؤى، لا نتمكن من معرفة مواطن القوة أو الضعف في الممارسة النقدية. فما نحتاج إليه اليوم، هو وضع خرائط للنقد العربي المعاصر، وتتبع المشروع النقديّ ورصد اللحظات المفصلية، والتطورات التي تعاقبت، في أفق بناء تصور شامل لحصيلة الممارسة النقدية؛ وهذا النوع من المراجعة والتصنيف والتاريخ سيمكننا من رسم أفق لمستقبل النقد ويجنبنا الأحكام العامة والمتسرعة. إذ في غياب مثل هذه المراجعات ذات الطبيعة التاريخية والإبستمولوجية تبقى الرؤية مغيبة وعليها غشاوة، وتوشك أن يتراءى لها الأفق النقدي مسدودا.
لقد عرفت التجارب النقدية العربية دينامية وحيوية عبر نماذج ومذاهب ومناهج، وعرفت لحظات توهّج وفترات خفوت. وقد كان للجامعة دور كبير في مراحل زمنية في نهضة النقد وتنوعه؛ إلا أنّه يُلاحظ في الآونة الأخيرة نوع من الركود والخفوت في الوهج النقدي والإتيان بالجديد، غير أن هذا الخفوت لم يحل دون ظهور مشاريع نقدية مازالت تحافظ على تماسكها وقوتها وتجددها وهي نماذج متعددة في ربوع الجغرافية العربية، ونذكر منها مثلا لا حصرًا تجارب كل من جابر عصفور، وعبد الفتاح كيليطو، وطارق النعمان، وحسن المودن، وخالد بلقاسم. وسأحاول التوقف عند تجربة الناقد خالد بلقاسم بغية الكشف على مكونات مشروعه النقدي من خلال تطوراته، وطبيعة المناطق التي يشتغل عليها، ولاسيما عمله الأخير الذي خصصه لصوتٍ نقديّ منفرد ومجدد، حيث مارس كتابة حوارية مع المشروع النقدي لعبد الفتاح كيليطو.
المشروع النقدي لخالد بلقاسم:
يشتغل الناقد المغربي خالد بلقاسم في مشروعه الكتابيّ على النصوص الكبرى في الثقافة العربية الإسلامية؛ وعلى شخصيات بصمت تاريخ القراءة واهتمت بهذه الفعالية، شخصيات تجاوزت المحلية لتعانق الكوني. أحدثت انعطافة كبرى في مجرى تاريخ القراءة والكتابة.
ظهرت ملامح هذا المشروع منذ البدايات الأولى من البحث الأكاديمي لديه، منذ اشتغاله بالخطاب الصوفي عند أدونيس الذي أعاد اكتشاف نص “المواقف والمخاطبات” للنفري. واتخذه خلفية للكتابة الحداثية المغايرة للمألوف، ليتعمق البحث فيما بعد في اللحظة المفصلية الكبرى في تاريخ التصوف، وهي لحظة الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي الذي خصه خالد بلقاسم بأطروحة دكتوراه تحت عنوان “الكتابة والتصوف عند ابن عربي”. وهو كتاب مهم جدًّا لأنه انشغل بمفهوم الكتابة وآلياتها، ثم بعد ذلك سيخصص دراسة رصينة للنفري، بذل فيها جهدا كبيرا، وعمقا في المقاربة والقراءة. حيث اهتم برصد تاريخية تلقي كتاب المواقف والمخاطبات تحت عنوان “الصوفية والفراغ”، وبذلك يكون هذا الكتاب، على قلة الدراسات حول النفري، مرجعا لدارس هذا الصوفي الغريب الأطوار.
نلاحظ أن وجه المشروع الذي يبنيه الناقد لبنة لبنة، قد انجلت حجبه في لحظات تأملية حول النص الصوفي المغربي الأندلسي والمشرقي في أقوى لحظاته الإبداعية. وذلك في أفق أحداث لغة نقدية تستمد معجمها من اللغة الصوفية. وقد تمكن خالد بلقاسم من أن يحدث لنفسه أسلوبا خاصا يميزه، بحيث سبر أغوار النصوص الصوفية، التي أحدثت تحولات كبرى في طبيعة اللغة وتوسيع آفاق التجارب الروحية ذات المقصديات الميتافيزيقية.
فمنذ عقدين، ظهر كتاب الناقد خالد بلقاسم الموسوم “أدونيس والخطاب الصوفي”، حيث تبدى انشغاله بالعلاقات النصية، وبعلاقة الصوفي بالشعري. وهو الاشتغال الذي جسده لاحقا مؤلفه عن ابن عربي من موقع أسئلة الكتابة، حيث توسعت، في هذا المؤلف، العلاقة بين المكون الصوفي والمكون الشعري لتدمج المكون الفكري، بما هو إمكان مفتوح على إمداد التأويل بما يغنيه ويشبعه، بصورة مكنت الناقد من الانخراط في تجديد الرؤية إلى التصوف، وتوسيع القراءة وفق مكاسب العلوم الإنسانية والتأويليات، وفي إقامة جسور بين الفكري والنقدي التي كلما ضعفت فقد النقد قيمَه. لقد كان بلقاسم، بهذا الانشغال يرسخ حيوية الفكري في إغناء النقدي، على نحو يضيء العمق الفكري للأدب وللتصوف، ويهيئ لإحداث وشائج تأويلية لا تقيم الحدود بين الحقول المعرفية، بل تحرص على التجسير وبناء العلاقات، استنادا إلى خلفية معرفية مكتسبة، بما يضمن للنقد أن يجدد مواقع الرؤية إلى النصوص، وأن يوسع أفق المعنى بتوسيع مفهومه هو نفسه.
لعل هذا الرهان في نسج الوشائج بين المكونات السابقة هو ما تبدى بعمق تأويلي لافت في كتابة “الصوفية والفراغ، الكتابة عند النفري”. فيه تبدت الممارسة النقدية بوصفها إنتاجا لمجاورة بين نصوص متباعدة زمنيا، بغاية تهيئ المجاورة لتصير محاورة فكرية. وبهذه المحاورة التي أقامها الناقد، بوجه خاص بين النفري وموريس بلانشو، ظهر أن النقد لديه يروم الانتساب إلى سؤال القراءة وهي تتأول النصوص، تسائل ممارستها وهويتها وتوسع أفق اشتغالها. وبذلك، يمكن القول، استنادا إلى موجهات كتاب “الصوفية والفراغ”، إن تجربة بلقاسم تخط مسارا من النقد إلى القراءة. فأعماله تسمح بأن نرصد هذا المنحى الساعي إلى الانتقال من النقد إلى القراءة بوصف الثانية تتجاوز حدود الأول. وقرأها بأفق مستقبلي مفتوح على فكر الاختلاف، فتمكن من أن يتخذ من الإلماعات والقبسات التي عثر عليها من خلال مقروئه في الموسوعة العرفانية لغة نقدية جديدة في المشهد النقدي العربي. وهنا تكمن فرادة خالد بلقاسم التي جعلت أدونيس يعترف بتميز هذا الناقد.
إن انتساب خالد بلقاسم إلى كوكبة القراء والكتاب المتميزين عبر تاريخ الفعاليتين، كان أيضا موجها له في اختياراته الترجمية، بحيث أعاد ترجمة بعض أعمال الروائي ميلان كونديرا سواء النظرية أو الإبداعية، على اعتبار أن كونديرا هو الآخر ينتسب إلى هذه “القلة الهائلة” -على حد تعبير أوكتافيو باث- الذين جاؤوا بشيء جديد وأضافوه لنهر القراءة الجاري.
مرايا القراءة: قراءة بلقاسم لمشروع كيليطو
وفي السياق ذاته، سيهتم بلقاسم، بعبد الفتاح كيليطو، ويخصص له دراسة عميقة ورصينة، بذل فيها مجهودا كبيرًا، للإحاطة بالمشروع القرائي المتفرد لكيليطو. وهي عملية شاقة لا تستوي إلا لمن انشغل بعمق بالفعل القرائي واتخذه وردا يعكف عليه بكرة وأصيلا، لأن عمل كيليطو نفسه له ظاهر وباطن، ظاهره المتعة والتلذذ والخفة، وباطنه مرجعيات قرائية مختارة بعناية فائقة. تلتئم فيها نصوص لكبار المبدعين والمفكرين والكتاب، من أمثال كافكا، شيورون، باشلار، بورخيس وبارت، والجاحظ، والحريري، وآخرين.
إن هذا المنهج الملحّ المزدوج للظاهر والباطن، نجده مكثفا ومضغوطا في عنوان الكتاب “مرايا القراءة، الحكي والتأويل عند كيليطو”. فدوال العنوان تحيل إلى مدلولين جوهريين، هما المتاهة واللانهائي. إذ المرايا بصيغة الجمع تستضمر المتاهة. والقراءة تنتسب إلى اللانهائي. “هذا النسب يجعل كل تحقق للقراءة مجرد قبس ينضاف إلى تاريخها الطويل أي لا نهائية ممكن القراءة5. ومن ثم ضرورة الحديث عن القراء، بدل الحديث عن القراءة بصورة تجريدية. إذ المرايا بصيغة الجمع تستضمر المتاهة. والقراءة تنتسب إلى اللانهائي. والتجريد بما هو نزوع تنظيري مهدد بطمس الفرادات ومحو الاختلافات التي هي أسس اللانهائي الباني لفعل القراءة” 6 . لأنه فعل يظل دوما متملصا من كل استنفاد نظري، فهو رافد لا ينتهي، وبه تكون النظريات مدعوة إلى مراجعة أسسها ونتائجها.
إن تحقق القراءة الذي ليس سوى تجل من ممكناتها اللانهائية، معناه كما يقول بلقاسم: ” بزوغ قارئ خليق بهذه الصفة، إنه بزوغ قلّما يستوي وعبد الفتاح كيليطو من هذا النادر الخليق بصفة القارئ. ينضاف إلى القراء الذين تجلى فيهم قبس من لانهاية القراءة من أمثال ابن عربي وبورخيس وبارت. ” 7 الذين عثرت فيهم القراءة على بعض تجلياتها.
استحق كيليطو هذه الصفة لأنه استطاع أن يؤمن فرادته وبصمته الذاتية. عبر تحويله لمعرفة واسعة إلى منطقة تسهر دوما على إنتاج المعنى. وعلى الانتقال من التجريد النظري إلى التجسد الفعلي الذي لا يتنكر للنظرية. “فهو كان على وعي تام بحدود النظريات وضرورة تطويعها دوما لاحتمالات المقروء. بما يحرر التأويل من أي توهم بإمكانه تطويق القراءة وحصرها. “إذ مجهول القراءة ينفلت من كل تنظير” 8. فما يميز كيليطو بين القراء هو ” تحويله المقروء إلى عمل أدبي” 9. من هذه النقطة بالذات تجدر الإشارة إلى فصل عقدة تودوروف في كتابه ” نقد النقد” بعنوان ” النقاد- الكتاب، سارتر، بلانشو، بارت”، يقول في مفتتحه: ” النقاد- الكتاب وليس الكتاب- النقاد: سأتساءل هذه المرة، ليس حول النقد الذي يمارسه الكتاب، ولكن حول النقد الذي يتحول هو ذاته إلى شكل أدبي، أو كما نقول اليوم بمصطلح لم يعد له أي معنى من كثرة استعماله، الكتابة؛ أو في جميع الحالات حيث المظهر الأدبي يكتسب نفسا جديدا.”10. وقد كان تودوروف معجبا بكيليطو فهو الذي شجعه على نشر كتابه «L’auteur et son double» الذي ترجم تحت عنوان “الكتابة والتناسخ”. ونشر له مقالة مهمة في مجلة Poétique بعنوان Le métalangage métaphorique chez les poéticiens Arabes، وسبق أن ترجمتها عام 1988 تحت عنوان “اللغة الواصفة المجازية عند النقاد العرب”. (نشرتها في مجلة ” فكر ونقد “).
إن القراءة عند كيليطو كتابة أدبية، أي متولدة من الأدب ومنتجة له في الآن نفسه. ففعل القراءة لديه ينهض بمهمة إنتاج الأدب، أي “إبداع نصوص أدبية قائمة على لعب قرائي خلاق.” 11. ففي قراءته تتحول المفاهيم إلى حكايات. ” وتتلاشى لديه الحدود بين الآليات التأويلية والبناء الحكائي.”12
من هذه اللعبة التحويلية يتضاعف مجهول القراءة وترتسم متاهاتها. فكيليطو “يضمر الأساس المعرفي والنظري ويمحوهما معا، ليتجاوزهما”.13
يؤكد بلقاسم على مفهوم اللبس في كتابة كيليطو، هذا اللبس ينتج عن التداخل بين الحدود الكتابية عنده، وأيضا إلى انتساب كتابته إلى التفكيك، وإلى المعرفة المرحة (ديريدا، نيتشه). فأعمال كيليطو التي تتلبس ملامح أدبية تنهض بالأساس على خلخلة المعنى الجاهز، وإبعاد المفاهيم عن حمولتها المعتادة، بهدوء متخفف من التجريد. لذلك اختارت أعماله “الارتياب مكانا لإنتاج المعنى” (الأدب والارتياب أحد عناوين كتبه) “فالألفة تضمر غرابة تنتظر عينا خاصة لإيقاظها، ويكف الوضوح الذي يحجب الأشياء عن أن يكون واضحا لما ينطوي عليه من غموض لا يرى”14. إن كيليطو شغوف بالعمق والأغوار، هذا العمق ” يقود إلى المتاهات والمهاوي ويلزم بالإقامة على حدود الخطر”.15 هذا الخطر يستدعي ظلال الموت. وهذه الظلال في معظم ما كتبه كيليطو. هذا العمق في أعمال كيليطو “ليس معطى متخفيا يمكن العثور عليه، بل آليات ومواقع وشبكة من الحيل”16 (ص15). يذهب بلقاسم إلى أن “البحث عن العمق مسكون بالتوجس، وهو لا يتطلب يقظة وتوغلا في أعمال كيليطو وحسب، بل يتطلب أساسا إقامة في السطح. العميق لا يقابل السطح، بل فيه يقيم، على نحو يجعل السطح هو ذاته العمق”.17
لقد سعى بلقاسم -كما صرح بذلك- إلى أنه: “حرص في مصاحبة أعمال كيليطو على التحرر من وهم استجلاء شيء خفي فيها، كما لو أن ثمة معطى تاما ومكتملا تتستر عليه، بل سعى إلى الانخراط، بتوجس المنصت للعمق في لعب كيليطو العميق وتمديد المضمر في اللبس… فكانت الدراسة في أكثر من طور، شبيهة بالتجرؤ على مشاركة كيليطو لعبة الخلاق”18 (ص 15). لعب مفتوح على متاهات القول.
الفضاء النقدي عند كيليطو:
يتشكل الفضاء النقدي عند كيليطو من خلال مجموعة من الأسئلة، ما يفتأ يعود إليها باستمرار، وينوع النصوص التي يشتغل عليها، محاولا بذلك إحداث شبكة علائق بين هذه النصوص بمختلف أجناسها. نصوص تنتمي للتراث العربي، بحيث إن أعمال كيليطو انصبت على قراءة التراث من أجل إعادة النظر إليه من زاوية مغايرة للمألوف، ولم يتأت له ذلك إلا بتجديد الأسئلة التي توقظ ما كان نائما وتجذب ما كان مهمشا إلى دائرة الضوء. فالمنهجية التي اتبعها كيليطو، تمتح أصولها من الاستراتيجية الفلسفية التي هي بالأساس استراتيجية لتقويض الأزواج الميتافيزيقية. “فاستراتيجية الفلسفة مراوغة للغة وتقويض للميتافيزيقا وتفكيك لأزواجها وتشريح لنسيجها، هذا التحول الذي عرفته الفلسفة يذكرنا بطبيعة الحال، بتحول مشابه عرفه الأدب نفسه الذي أصبح هو أيضا استراتيجية لمراوغة اللغة وخيانتها”19. إن هذه النزعة التفكيكية هي ما يرمي إليها عبد الفتاح كيليطو “راصدا المنطق الذي يحكم نصوصا طالما ألفنا حفظها دون أن نعمل على إذكاء حدة التوتر بيننا وبينها”20. لقد كان اللقاء مع رولان بارت حاسما في توجيه كيليطو، بحيث إنه صدم صدمة كبرى وهو يستمع لبارت عام 1966 في يوم دراسي أقامه في أحد المراكز الثقافية بالرباط، وقد ألقى فيه بارت محاضرة “مدخل إلى التحليل البنيوي للسرد”. فعلق كيليطو على هذا اللقاء بقوله: “كان الجمهور يتكون مما يقرب من عشرين مستمعا، كانوا مطأطئي الرؤوس، يدونون ما يقوله بعناية كبيرة. كان يتكلم ببطء كي يمكنهم من تدوين النقاط، في ذلك اليوم لم يكن معي قلم ولا أوراق، مما كان يجعلني في وضع غير مريح خصوصا وأنني لم أكن أفهم شيئا مما يقوله”21.
هذا اللقاء فتح أعين كيليطو على عوالم جديدة في مقاربة الأدب، وقد دفعته هذه التجربة التي أبرزت عجزه عن فهم ما ورد في محاضرة رولان بارت أن يقرأ المتن البارتي كله، فهو قد سبق وأن أرشدهم أستاذهم عام 1965 لكتاب “درجة الصفر للكتابة” الذي لم يفهمه هو الآخر. “ورغم أن كتاب درجة الصفر للكتابة قد ظل منغلقا على فهمي، فإنني عاهدت نفسي أن أقرأ كل المتن البارتي، والقلم في يدي، استغرقت بعض الوقت كي أتأكد أن الصعوبة التي كنت ألاقيها في البداية كانت ناتجة عن الإحساس البليد أنني لست أهلا لذلك”22 فالدرس البارتي كان حاسما في توجيه مسار القراءة عند كيليطو، يقول: “لقد خلف لدي اللقاء مع أعماله صدمة كبيرة، فقد تبينت مدى جهالتي عندما رأيته ينتقل من التحليل النفسي إلى النظرية الماركسية، فالبنيوية والأنثروبولوجيا، وهي آفاق لم تكن معهودة لدي. حتى ذلك الوقت. لم أكن أقرأ إلا نصوصا أدبية، وبفضله تعلمت أن الأدب الخالص لا وجود له. وأن تحليل نص أدبي يقتضي معرفة الأبحاث الحديثة في مجالات أخرى. الأدب ملتقى مجموع المعارف، وينبغي الابتعاد عنه للتقرب منه تقربا فعليا. هذه الأمور التي اطلع عليها كيليطو لدى بارت، أبرزت لديه ما كان يشوش تكوينه من نقص وانتبه إلى ذلك، “عند نهاية الستينيات، سارعت الخطى لألحق بالباحثين ذوي المنحى البنيوي. فكنت أقرأ تزفيتان تودوروف وجيرار جنيت23. هذه الرجة البارتية أفادت كيليطو في أشياء كثيرة، وقد تكون من وراء اهتمام كيليطو بالنصوص القديمة، فقد ألفنا بارت قارئا مختلفا للنصوص الكلاسيكية. فالأدب الحديث لم يكن داخلا في دائرة اهتمام كيليطو، بحيث ولى وجهته بعيدا ورجع إلى الأصول والمنابع. وفي هذه النقطة يلتقي مع كاتب آخر كان له تأثير قوي عليه، وتقاسم معه مجموعة من السمات، فهو يلتقي مع بورخيس في نقاط عديدة، إلى درجة أننا نعتقد أن كيليطو كان بورخيسيا قبل أن يقرأ بورخيس. فكلاهما يعتقد أن الكتاب المعاصرين لا يعلموننا أشياء لم نكن نعرفها أو بعبارة أخرى “يعلموننا مع ذلك، بكيفية غير مباشرة، أن نعيد قراءة الأقدمين، وننظر إليهم بعيون مغايرة، والعكس صحيح”24.
إن الأدب القديم كان مصدر إلهام له، وأنه هو الذي أهدى له كتبه. إنه حين اكتشف القدماء كان تقريبا مثل طفل أمام صندوق مليء بالكنوز التي لا تقدر بثمن، “كنت أمام أدب جديد، غريب، إن لم أقل أجنبيا، لأنه ينتمي إلى زمان آخر، ومكان آخر”.25
إن كيليطو في عودته إلى الماضي كان يبحث عن أجوبة لأسئلة راهنة، وكان يجدد النظر للنصوص التراثية، وإزالة غبار الألفة عنها، ويحينها بالأسئلة المعاصرة وبالنظرة المنهجية الحديثة، مما جعله يتميز في هذه العودة التي اكتشف فيها التراث وكأننا نقرأه لأول مرة، فالأسئلة التي طرحت على كيليطو، هي أسئلة معاصرة بالأساس مرتبطة بقضايا أثيرت من خلال النظرة الجديدة للأدب. هذه الأسئلة متشابكة مع الأسئلة الفلسفية المعاصرة التي اقتربت من الأدب بشكل كبير.
فالأسئلة التي افتتح بها كيليطو مشروعه النقدي، كانت مرتبطة أساسا بأسئلة المفاهيم وقد خصصها بكتابه الدال “الأدب والغرابة”. الذي اهتم فيه بالأدب والمفاهيم النقدية، ثم جاء دور سؤال المؤلف في الثقافة العربية القديمة، وهو سؤال مرتبط أساسا بالنظرة البنيوية التي جعلت هذا العنصر موضع تساؤل “فالكتابة والتناسخ، أو المؤلف وقرينه. هي وقفة عميقة حول سؤال المؤلف والانتحال والنسخ والكتابة.
إنه في كتابه “الأدب والغرابة” سيطرح سؤالا مهما، هو كيف نخرج عن المألوف، كيف نصبح على هامش الألفة ؟ وكيف نخلق عالما ينبض بالحياة والجدة”26 . فالتجدد مرتبط لديه بالتغرب، وتبديل المقام، والغروب كما تفعل الشمس التي تتجدد بهذه العملية، و”الغرابة لديه لا تبعدنا عن همومنا ومشاكلنا الحالية بل هي طريقنا إلى الألفة الحق. فهو قد وسع مجال الغرابة ليشمل نصوصا عديدة من أجناس متفرقة، حكايات، نصوص نقدية، وخطاب شعري، نوادر، كتب المناقب، والرحلات، ونصوص ذات طابع فلسفي، نصوص مهمشة، أو هي التي لم تنسب لمؤلفين أو هوية مؤلفيها مشكوك فيها أو بدون توقيع من مؤلف”27، “فكيليطو يحاور مجموعة من النصوص الكلاسيكية من أجل تملكها”28 من أجل أن تصبح أليفة “حق الألفة” إلا أنه يعتقد أنها لا يمكن أن “تقترب منا إلا إذا بدأنا بإبعادها عنا”29.
مداخل القراءة عند بلقاسم حول أعمال كيليطو:
لقد أنصت الناقد بلقاسم إلى أعمال كيليطو، وحاول فك نسيجها، والوقوف على الأنوية المولدة لفعل القراءة لديه، ولم يركن إلى الوصف أو استعراض العالم النقدي لكيليطو، بل مارس هو الآخر فعلا قرائيا على طبيعة الكتابة النقدية كما ترسخت عند عبدالفتاح كيليطو وانبنت بشكل تدريجي في أعماله. ولم يكن هذا التحري والتنقيب في غابة الكتابة، ينهج مسارا خطيا، بل كانت الالتقاطات تعمد إلى متابعة الفكرة في سياقات مختلفة. وبذلك تمكنت قراءته من تسوير الفكر النقدي عند كيليطو وآليات إشغال هذا الفكر.
الحلم بلغتين:
يرد الحلم واللغة في مواقع عديدة في الكتابة النقدية عند كيليطو “فالمصاحب لأعمال كيليطو، يعرف أن السارد في العديد منها يحمل ملامح الكاتب، وانشغاله وقلقه، وشغفه المكين بالقراءة، وحلمه الدائم بلغتين مضطرا لإدارة الصراع بينهما”.30 إن التفكير في اللغة يعد من أهم مشاغل عبد الفتاح كيليطو، فقد تهمم بمشكلة الازدواجية اللغوية، وبالترجمة، وباللسان الأول. هذا الانشغال انعكس في مقالاته النقدية ومحاولاته وفي محكياته. ففي “شرفة ابن رشد” هناك الحديث عن المسكن المكترى، وما هو إلا رمزية للغة باعتبارها مسكنا غيريا. فالسارد ” أقام في مسكن غيري وشدد عن قصد، أنه لا يعرف مالكه، وهو ما يترتب عليه، ونحن نفكر باللغة، أننا نسكن بيتا ليس لنا”.31 إنها إقامة في مسكن نستفيد منه ولا نمتلكه، ودائما في العلاقة باللغة، هناك تنويع آخر، إذ الإقامة فيما لا نملكه يفضي إلى الغربة، وكأننا عابرو سبيل نحتاج إلى من يضيفنا، وكم كان كيليطو يود لو كان هو صاحب هذه الجملة (نحن ضيوف اللغة).
إن حلم امتلاك اللغة أو اللغتين يعد هاجسا كتابيا في أعمال كيليطو، يطرحها بأشكال متنوعة فهو في كتابه “الكتابة والتناسخ” يتساءل: هل يمكن لمؤلف أن ينبغ في لغتين. وقد أعاد نفس السؤال في مقاله “الترجمان” في كتابه “لن تتكلم لغتي”، وقد تنوع هذا الطرح في العديد من محاولاته ومحكياته، فعلى سبيل المثال ما طرحه في “الترجمان”، أعاده في حكاية “من شرفة ابن رشد”. فهذه “الحكاية ليست سوى إعادة كتابة إبداعية لقضايا المقال، انسجاما مع حرص كيليطو، وفق آلية التناسخ الموجهة لشكل الكتابة عنده، على عرض الموضوع الواحد على مرايا عديدة”.32
العلم الغيري والظفر على الأعداء:
ما يمارسه كيليطو على التراث، بحيث يولد منه المعنى الخفي والغائر، هو ما يمارسه بلقاسم على أعمال كيليطو، فهو الآخر يقبس التماعات من التراث ليقرأ بها العمل ويولد منه معنى خبيئا، وهنا تصبح العلاقة بين القارئ والمقروء علاقة ندية وتزاحم بالأكتاف للظفر بمعنى جديد. وهذا هو حلم النقد الإبداعي. فلبسط طي الكتابة عند كيليطو، يستفيد بلقاسم من تعبير الأحلام عند الصوفي عبد الغني النابلسي، وهذه العودة إلى الموروث هي عودة إلى التقاليد التي تسعف على توليد المعنى، وانتزاع مثل هذه اللمع والإضاءات، تصبح آلية من آليات القراءة، فالحلم بامتلاك لسانين أوله وعبره النابلسي بقوله: “من رأى أن له لسانين فإنه يرزق علما غير علمه وحجة غير حجته، وقوة وظفرا على أعدائه”.33
من خلال هذا النص المكثف للتعبير الحلمي، ينتقي بلقاسم عنصرين أساسيين ويتخذهما عمدة في تفكيك مجموعة من أعمال كيليطو ظهرت فيها بجلاء اشتغال هذين المكونين. فالعلم الغيري له ارتباط قوي بمفهوم الغريب في كتابة كيليطو وقراءته. “فاستراتيجية القراءة عند كيليطو المستندة على العلم الغيري تعمل في -جل أعماله- على انتزاع نصوص الثقافة العربية القديمة من طول مقامها المخلق لديباجتها، فيسافر بها كي تتغرب لتجدد. وذلك عبر الانتقال بها إلى لغة أخرى، فكل أعمال كيليطو وهي تفصل القديم عن لغته فإنها تمكنه، استنادا إلى العلم الغيري الذي عليه تقوم القراءة، من أن ينخرط في زمن معرفي جديد”34، لأن دراسة القديم لا تستقيم إلا بالإلمام بالثقافة الحديثة. فالعلم الغيري هو الذي جعل الثقافة العربية القديمة تتكلم لغة جديدة. لقد كان العلم الغيري إنتاجيا عند كيليطو لأنه كان يستدرجه إلى منطقة العثور على الغرابة. إن من “مهام القراءة لديه إنتاج الغرابة”35. والغرابة في قراءة كيليطو ليست معطى جاهزا يعثر عليه القارئ في النص المقروء بل هي بناء يتم عبر فصل القديم عن مقامه الأول، والعبور به من لغة عربية إلى لغة عربية أخرى تتأسس على الغريب، وكأن صنع هذه الغرابة هو عبارة عن ترجمة داخل اللغة الواحدة.
أما الظفر على الأعداء، فنجد هذه النقطة عند كيليطو مما استلهمه من الجاحظ الذي يتحدث عن القارئ باعتباره عدوا للكاتب. ” فعداوة القارئ ليست فكرة مفترضة، بل هي ضالعة الحضور في كتب القدماء، إذ تردد عندهم أن من وضع كتابا صار هدفا للخصوم والألسن”36. فالكتابة ما يقلقها هو أن تنهزم أمام القارئ ولذلك فإن كيليطو انتبه إلى هذه المسألة من خلال بنية السرد العربي القديم. حيث إن الحكاية لا تبدأ إلا بطلب مضمر لرغبة في الإنصات ولا تحيا إلا بالفضول. وحياة الكتابة وبقاء الكاتب منتصرا يكمن في إبقاء هذه الرغبة والفضول متقدين إذ انطفاء الرغبة في متابعة المكتوب هو هزيمة للكاتب وظفر للقارئ عليه. هذه الفكرة طورها كيليطو إلى أبعد حدود، بحيث إن الكاتب وهو يحقق انتصارات على القراء فإن هذه الغبطة التي يستشعرها سرعان ما تتلامح أمامها أشباح الموت، “فإقناع القارئ ممكن، غير أن استمرار الإقناع مع كل إصدار ليس مضمونا. عندما يرسي الكاتب تحاليل مدهشة ومفاجئة ومجددة لحيويتها، فإن قارئه يغدو مع كل إصدار متطلبا على نحو يجعل ظل الموت ساريا في علاقة الكاتب بقارئه”.37
فالحلم بلسانين يؤمن الظفر على القراء وليس عداوتهم، لكن ليس دائما هذا الحلم يضمن الظفر على الأعداء. فلابد من تلك الكيمياء الخاصة والأسلوب الذاتي وبصمة الشخص، وذلك يتحقق من طبيعة البناء للعلاقة بين اللسانين. فلعل ما يميز كيليطو في مشروعه وحلمه باللسانين منذ مؤلفه الأول “الأدب والغرابة” الذي لم يبحث فيه موضوع الغرابة فقط، بل سعى إلى إنتاجها. فكان وهو ينتجها يحصن نفسه من أن يصبح مألوفا … وقد نجح في مؤلفاته اللاحقة من ترسيخ دمغته الخاصة”.38 وبذلك ترسمت لدى القراء أن لدى كيليطو أسرارًا تؤمن هذه الغرابة باستمرار وبذلك تمكن “من تبديد رغبة القتل لدى القارئ وتأسيس علاقة متجددة على تعاقد، وهو تعاقد انتظار القارئ دوما للغريب”.39 هذا الرهان صعب جدا لأنه يضاعف من مشقة الكتابة حتى يتم الحفاظ على سر الكتابة لدى كيليطو المنبنية بالأساس على الإدهاش. فقد “قاومت كتابة كيليطو الموت بقدرتها الدائمة على إنتاج المعرفة والإمتاع، وبطاقتها التفكيكية الهادئة التي تغير باستمرار مواقعها”.40
الأديب قارئا:
ينجز كيليطو القراءة من موقع الأديب وينتج الأدب من موقع القراءة. فهو ينتج الأدب من خلال محاورة النصوص، وحتى شكل الكتابة الذي أنتجه وهو شكل المحاولة، يلتبس فيه النقدي بالمحكي، ولا نتبين أين ينتهي السرد ليبدأ النقد، والعكس صحيح، هذا الأمر يقرب كيليطو من بورخيس الذي تعرف عليه القراء من خلال القصة المقال، وإشاعة هذا النوع من اللبس، وأيضا من خلال تمجيد القراءة وأن الأدب ينتج عن القراءة وإعادة الكتابة. هكذا فكتابة كيليطو انتسبت إلى “الأعمال التي أنتجت الأدب بما هو قراءة وأنجزت القراءة بما هي أدب”41. فكيليطو يقرأ الأدب بالأدب، ولذلك ما يفتأ يعيد كتابة نصوص أسيرة لديه يعود إليها باستمرار، ألف ليلة وليلة والمقامات، وكتابات الجاحظ والمعري وأبي تمام. ففعل القراءة لديه يتوجه لإنتاج الأدب “انطلاقا من العثور على بذور نسج خيوط هذه الحكايات وصوغها وتمديدها” 42. والتأويل لديه لا ينتج المعنى وحسب، ولكنه أساس لإنتاج الأدب. هذا النهج القرائي “جعل القراءة لدى كيليطو تصاب بعدوى الحكاية. فتوجهه إلى كتاب ما، أيا كان حقل هذا الكتاب، يتم بدافع البحث فيه عن حكاية” هذا الملمح غدا منطلقا للقراءة، بحيث ينفذ من خلاله إلى طيات المقروء والانتباه للتفاصيل المضمرة للأثر “أثر حكايات قد لا ترتبط ضرورة بالنص المقروء في ذاته، بل بمتخيل سحيق، قادم من أساطير بعيدة. وبمضمرات الدوال اللغوية، وبظلال الثقافة الأدبية لمستنبت الحكاية وبنزوعه نحو الحفر في الأنساق، القائم على خلق الترابطات”.43
ففي كتابه “المقامات، السرد والأنساق الثقافية” اشتغل على مفهوم النسق ودراسته في ضوء علاقته بالأشكال والأنواع الأخرى. والنصوص القريبة منه. فمفهوم النص الثقافي يبرز انفتاحية النصوص وتحاور الأشكال، وقد كان تأثير بارت واضحا في هذه المرحلة، غير أن كيليطو لم يتخذ النسق مفهوما تجريديا صوريا بل كان لصيقا بالنصوص مختبرا بذلك تحقق النسق الثقافي من خلال التماثلات والاختلافات. وبذلك ترسخت في كتابة كيليطو كيفية قرائية ترصد التماثلات وتبني الترابطات وتصوغ الوشائج.
وفي “الكتابة والتناسخ” سيهتم بصورة المؤلف في الثقافة العربية القديمة والانشغال بموضوع الانتحال “وذلك بحكم القرابة الشديدة التي تصل موضوع الانتحال، بلعبة المعنى في المقامة”. فالتلونات اللصيقة 44 بالموضوع سارية أيضا في التلونات التي لا تكف المقامة من توليدها، فهناك قرابة بين “المتحول في حكاية المستنبح وبطل المقامة، الذي لا يكف عن التلون والتحول حتى لقد أدرجه الصوفية ضمن ما يعرف لديهم بالثبوت على التلون”45. كما أن فكرة المستنبح مستمدة أساسا من المقامة الكوفية الخامسة التي خصها كيليطو بكتاب “الغائب”.
فالنفاذ إلى قواعد الالتباس وحيل الانتحال وأساليب التزييف، وارتجاج نسبة النصوص، وسلسلة التلونات، هذه العناصر كلها جعلت كيليطو يفترض احتمالات ويولدها ويصنع متاهات، ويوسع من مفهوم الليل في القراءة، التي تسمح للأطياف والأشباح أن تصير جزءا من رهانات القراءة. فهناك ليل المستنبح، وليلة المقامة الكوفية، وألف ليلة وليلة. وبذلك صارت القراءة عند كيليطو هي “تعقب أشباح الليل وسماع الهمس المتسترة في النصوص”. “فالليل متجدد في الفعل القرائي، بوصفه نقيضا للوضوح واليقين والثبات والبداهة. في هذا الليل، تترسخ لعبة القراءة بما هي انتساب إلى التلون والارتياب والاحتمال والتجدد”. 47
هنا ميسم بارز في عملية القراءة عند كيليطو، هو الإبطاء والتفتيت، وإعادة التركيب، أو بعبارة أخرى مستعارة من عالم الحياكة، هو الفتق والرتق. فالناقد كيليطو نساج وحائك، يفك خيوط نسيج النص ويعيد خياطتها لتصير ثوبا جديدا. فحين حديثه في كتاب الغائب عن المقامة الخامسة يشير إلى أنها “نسيج محكم يتعين علينا أن نفتق خيوطه ونفكها خيطا خيطا، ثم يتعين علينا أن نعيد تركيبه من جديد. ولا محالة أن النسيج الجديد سيكون موافقا للنسيج القديم ومخالفا في آن”.48
الكتابة عند كيليطو..
النسخ والنسج:
هناك أكثر من علامة بين دالي النسخ والنسج، فعلاوة على الجناس بين الكلمتين فهناك علامات دلالية متشابهة توسع من مجال انشغالهما في كل أعمال كيليطو. فموضوعة النسخ تتواتر بشكل كبير في أعمال كيليطو: القرد الخطاط، بوفار وبيكوشي. البطل في رواية “أليس في بلاد العجائب”. ويصرح كيليطو في مواقع عديدة قائلا: ” قبل أن أكون قارئا، كنت ناسخا”49 ، ويضيف “كانت إنشاءاتي تلقى صدى طيبا عند المدرسين وبما أن الحسنات تنال دائما جزاءها، وبما أنني كنت أحرص على الاستنساخ بعناية، فإنني تقدمت في إتقان الفرنسية” 50 وهذا المفهوم سيصبح نواة أساسية في مقاربة كيليطو للأعمال وأيضا لشكل الكتابة لديه. فكتابة كيليطو ” تنبني فوق نصوص لا فوق وقائع”51. فالعمل فوق النصوص المنسوخة لا يستثني أدق التفاصيل، ينسخ الدوال موقظا ذاكرتها السحيقة. “فمن نسخ النصوص تتخلق النواة الأولى التي بها تبدأ الكتابة، فينتقل النسخ من علاقة الكتابة بالنصوص، التي لها وضع الطروس، إلى النواة الكتابية نفسها، التي منها تبدأ ملامح الشكل في الظهور”.52 فقد يبدأ النص عنده دراسة نقدية قبل أن تنسخه اللعبة السردية، وقد يبدأ النص سرديا قبل أن يتوارى إلى ظل مفهومات فكرية ونظرية تتجلى في التأويل من غير تجريد.
فالكتابة عند كيليطو تتشكل من العثور على جزئية منسية، وعلى افتراض، حكاية متوارية في مكان ما، تصبح هي الضوء الهادي في ليل النص. وأيضا تتأسس على جمل منتقاة بعناية من المقروء، حيث تصير التصديرات والاستهلالات حاسمة في توجيه القراءة لديه. يصرح كيليطو في أحد حواراته: “لن أتردد في القول إن زبدة كتبي توجد مكثفة في استهلالاتي”53.
تأتي عملية النسج بعد النسخ إذ “لا يستوي النسج إلا بتفكيك علاقات سابقة، أي بنسخها. النصوص المفككة تتخلى عن الخيوط التي كانت تجمع عناصرها، ثم يشرع النسج… تراهن هذه الوشائج، لدى كيليطو، على الربط بين أطراف متباعدة بل متنافرة، أي على خياطة ما يبدو للعيون المحجوبة غير قابل للالتحام، بهذه الخياطة تتولد القرابة”.54 وبذلك يكون النسج لديه بناء لعلاقات، وليس عثورا على علاقات متضمنة في النصوص المنسوخة. وهذه العملية النسجية تتخذ عند كيليطو طرائق متعددة، فأحيانا تنطلق من تفصيل صغير لم يؤبه به، ومرات ينطلق من حكاية مبعثرة أو غير تامة، فيعيد صياغة نسجها وإبراز المضمر فيها والمخفي. فيلحم عرى الحكاية الناقصة المبددة لتصير ذات دلالة ومفتوحة على تأويلات لا نهائية. ويتم نسج علاقات بين العناصر التي تفككت أواصرها السابقة عبر تداخل مع حبك علامات بين أجناس كتابية، وذلك ما يجعل كتابة كيليطو تنمحي فيها الحدود بين هذه الأجناس فيصبح المقال سردا والسرد مقالة. إن طاقة الحكي عند كيليطو على التفكيك تجعل الكتابة لديه تنمو عبر: “استنبات حكمة اللايقين التي تفكك الثنائيات ليصبح المعنى محتملا من داخل التضاد أي من داخل الالتباس. كشف المحجوب: وذلك بإظهار أن الأشياء البسيطة ليست بسيطة. والأشياء التي تبدو واضحة ليست واضحة. ربط كل ما يحكى بأصول سحيقة. هذا الأمر يمكن ربط السرد من تأمين روح الاستمرارية، ضدا على روح الآني الطاغي على الزمن الحديث. تخويل الأدب مهمة التفكير في موضوعات نظرية وفكرية، فلا يظل الأدب موضوعا لتأملات نظرية بل يغدو موقعا لإنتاج تأويل عنها”.55
أهل الكتاب:
يمكن التمييز بين صنفين من الكُتَّاب، كتاب خرجوا من بطن الكتب، وآخرين من رحم التجربة والمعيش أي تولدوا من واقع الحياة. ينتمي كيليطو للصنف الأول الذي جعل من الكتاب والمكتبة ملاذا له؛ يبحر في بحره الذي بلا ساحل؛ فيه يعيش ويحلم ويصنع ذاته؛ وحتى إذا احتاج أن يطل على العالم وقضاياه يلتمس له أجوبة من داخل الكتب. وعوالمها المتاهية.
ونلاحظ أن في اللغة العربية نجد عبارة بطن الكتاب دلالة على أن الكتاب يلد ونجد أيضا في القرآن آيات تشير إلى أم الكتاب -فتداعيات هذه المصاحبات اللفظية تشير إلى عملية التولد من داخل الكتب- فهذه السلالة المتولدة من بطون الكتب نمت وترعرعت وسط الأوراق والكتب والمخطوطات والمكتبات، وتصورت العالم كتابا والماوراء مكتبة. وبما أن هذا الصنف تحول إلى نموذج فلابد وأن يكون وراءه أساس معرفي تحكم في إنتاجه. إن صورة الكتاب المحيطة بالعالم هي المدخل لتفسير هذا الارتباط الشعوف بالكتب. يذكر ابن عربي في فتوحاته أن “الوجود فيه رق مستور، والعالم فيه كتاب مسطور”56. إن هذا التصور لرمزية الكتاب المحيط بالعالم، وإن العالم كتاب، والكتاب عالم لا نهائي هو المحور الذي يتحرك عليه هذا النزوع نحو الكتب ونحو المكتبات. ولقد تحول هذا التصور للعالم باعتباره كتابا أو مكتبة لا نهائية، إلى أن صار الكتاب لوحده موضوعا إبداعيا. وتحولت أسئلة الكتاب إلى موضوع فكري وأدبي. ولقد تولدت هذه الأسئلة حول الكتب، مجموعة من القضايا تهم القراءة والكتابة والمكتبة واللانهائي. ففي العصر الحديث لا يمكننا إلا أن نتوقف عند لحظة بورخيس الذي بنى مجده الأدبي حول الكتب والمكتبات، وأصبح نقطة مفصلية في هذا الموضوع. نقول نقطة مفصلية لأن الأدب بعده تغيرت النظرة إليه. فهناك ما قبل بورخيس وما بعد بورخيس. وفي هذا السياق يمكن الحديث عن كيليطو وعلاقته بالكتب. فقد كان “رهان كيليطو على جعل الكتب لا الأحداث، موضوع حكايات وهو ما حول مفهوم الكتاب لديه إلى انشغال تماهى بالحياة لديه. فهو “ينتسب إلى تلك السلالة من الكتّاب الذين تماهت الحياة لديهم بالكتاب، بل لم يعيشوا الحياة إلا من أجل الكتاب، فطيف الكتاب يسري في كل أعماله حتى أن مفهوم الموت لا يتحدد في كتب كيليطو “إلا انطلاقا من العلاقة بالقراءة… فكما أن الحياة لا تتحدد إلا في علاقتها بالقراءة، فإن الموت يكتسي حمولته من داخل هذه العلاقة. من هنا كانت البنية القائمة بين الحياة والموت مكانا رئيسا عنده لتأويل الكتاب وتأويل القراءة”.57
مجموعة من النعوت السارية في “ألف ليلة وليلة” جعلها كيليطو مواقع لتأمل مفهوم الكتاب، ففي لسان آدم، والعين والإبرة، كان الحديث عن أنماط متنوعة من الكتب: الكتاب السحري، والكتاب الغريق، والكتاب القاتل، والكتاب المحرم، والكتاب المزعج. والكتاب القاتل الملعون، والكتاب المسموم، والكتاب المحبوس، والكتاب الأعلى، والكتاب المنتحل. إن هذه المواقع التي يتأمل من خلالها كيليطو الكتاب تتسم بملمحين “الملمح البيني المؤسس للالتباس… التباس يعتبر أساسا تأويليا هيأ لكيليطو العثور على الشيء في غير الأمكنة المألوفة لوجوده، وإرجاعه إلى أصله البعيد قبل مصاحبة تنسل صوره… والملمح الثاني هو اجتذاب موضوعات الدراسة جهة ما يسميه بارت مكان المتعة”.58
لقد أتاح الكتاب لكيليطو أن يتناول مجموعة من القضايا التي تترتب عن تصوره، فعلى سبيل المثال، أثار اهتمام كيليطو بالكتاب المنتحل، قضايا دقيقة لها صلة بالانتحال ودوافعه وما يترتب عنه، فإسناد الكتاب الشخصي إلى الغير يترتب عنه: أن المؤلف يصير مزدوج الرأس، والاحتماء بالاسم القديم والتضحية بالاسم الشخصي. فكيليطو وهو يتأمل في ظاهرة الانتحال يقف على أن الحسد غالبا ما يكون وراء هذه الظاهرة.
“فالكتاب المنتحل يحكي قصة لا يظهر إلا ظلها، إنها قصة عماء الحسد الساري في الوسط الثقافي الذي يظهر فيه الكتاب المنتحل، ولهذا الحسد متخصصون يغذونه، ويحرسونه. هم الساهرون على حياة هذه الرذيلة”. 59 فهؤلاء الحسدة المدلسون العاجزون عن التأليف يلتجئون إلى المكر إذ “اهتمامهم موجه أساسا إلى حجب كتب المؤلف الحقيقي. يلجأ المؤلف المزيف إلى الطعن في أصالة كتب المؤلف الحقيقي قبل أن يسطو على ما قام بالطعن فيه”.60
فالذي يزعج الحاسد “ليس الكتاب، بل نسبته إلى المؤلف”61. والحسد “تلهف على امتلاك ما لا يدخل في ممكن الحاسد”62، إذ الحسد من أحد معانيه سرقة. فالكتاب المنتحل يكشف عن الحسد الموازي للتأليف. ولكي يتجنب المؤلف سهام الحسد كان يعمد إلى التضحية باسمه لصالح اسم قديم في أفق استعادة اسمه الحقيقي، فكل هذه الحيل لاتقاء الحسد، فالمؤلف يختار الاختفاء وراء اسم آخر ليصون حياة الكتابة. فالحسد رغبة من قبل المؤلف الحقيقي حتى يعي المؤلف ذلك يضحي بالاسم الشخصي ويقدمه قربانا لأجل الكتابة. فهناك تضحية حقيقية حين يتخلى المؤلف الفعلي عن اسمه الشخصي لصالح اسم قديم كي تنجو الكتابة. إن الاحتماء بالاسم القديم يعرض المؤلف الفعلي “لشره الأموات”63، ولذلك فإن المؤلف يعي هذا الفخ فيقرر بعد حين استعادة نسبة الكتاب له.
إن الكتاب المنتحل كما تناوله كيليطو في كتابه “الكتابة والتناسخ”، يندرج ضمن انشغاله بالعناصر النموذجية المتحكمة في صورة المؤلف الحجة قديما، وإن دواعي استعادة الاسم الشخصي يشير إليها كيليطو في استعادة الملكية التي توفر للمؤلف مجددا وينتسب إلى الكتابة ويكسب بها حياته.
هذه الدواعي تختلف من مؤلف وآخر، حاول خالد بلقاسم أن يستثمر تخصصه في الكتابة الصوفية ويستشهد بقولة لمحي الدين بن عربي تعطينا تصورا آخر لم يذكره كيليطو يحاول فيه ابن عربي أن يقدم مبررا آخر لاستعادة الكتاب المنتحل: يقول ابن عربي: “ألفت في حقائق النصح أمورا كلية يعم نفعها، ويأخذ كل قائل قسطه منها. ثم أظهرتها ولم أظهر اسمي عليها، وقلت إنما المقصود انتفاع الناس سواء عرفوا المتكلم أو لم يعرفوا، فلما انتشر ذلك، نسب الكلام للغزالي رحمه الله، وصار يلعنه الناس بسببها، فلما بلغني في ذلك قلت: الآن تعين إظهار اسمي عليها لأكون وقاية لرجل مسلم يظلم بسببي، فأظهرت اسمي عليها بعد ذلك، فاستقبلني الناس بسهام أغراضهم، وظنوا في الظنون وأنا صابر عليهم”64.
إذ ثمة “اختلاف مركزي بين الوضعية التي أشار إليها كيليطو والوضعية التي يكشف عنها قول ابن عربي. في الأولى تم التأليف لاتقاء الأذى، أما في الثانية، فتم بدافع تعميم النفع وتجنب الظهور. والأهم في هذا الاختلاف أن الاستعادة، في الوضعية الثانية، تمت بدافع تحمل الأذى وإبعاده عن الأموات”65. وهناك أيضا، موضوعة المخطوط الذي يعثر عليه في صندوق قديم التي هي من الموضوعات الشائعة في السرد القديم. وقد استثمرت في السرود الحديثة، ووظفها كيليطو في روايته “أنبئوني بالرؤيا” متنًا، ولا زالت مفاهيم ما تفتأ تتكرر في أعماله، حول الانتحال، وإعادة الكتابة، والحلم بالكتاب الآتي.
خــاتــمـــة
تأسيسا على ما سبق بسطه، فإن حيوية النقد ما زالت تتجلى في أعمال لديها من الوعي بالمسؤولية الكبرى للناقد تجاه تراثه وإعادة قراءته بطريقة تحرره وتكشف فيه عن المعنى الذي يبنى ولا يعطى، وقد اخترت نموذجا لناقد مارس قراءته حول أعمال كيليطو التي تعتبر اليوم أعمالا لها قيمتها الكبرى في المشهد النقدي العربي والغربي.
فكيليطو أدهش العرب والغرب في آن واحد بفتوحاته، وبعودته إلى الإرث المؤسس للكتابة في أصولها وتقاليدها، وقد فتح فيها آفاقا جديدة، حتى أضحت أعماله أيضا نصوصا تخفي أشياء كثيرة، لابد من تسليط الضوء عليها واكتشاف خفاياها واستراتيجياتها، وهذا ما قام به الناقد خالد بلقاسم الذي قرأ كيليطو من خلال تتبع أعماله واكتشاف شبكة العلاقات المستنسجة بينهما، وقد تم البحث من خلال قراءة كيليطو بأفكار فلسفية وأدبية وصوفية، مما جلى هذه العوالم وفتحها على آفاق جديدة.
1 Poétique de la critique littéraire, De la critique comme littérature, Florian Pennanech, Editions du Seuil, 2019, p 20
2 Ibid p 20
3Ibid p 21
4Ibid p 24
5– مرايا القراءة، خالد بلقاسم، ص: 5.
6– مرايا القراءة، ص: 5.
7– نفسه، ص: 6.
8– نفسه، ص: 7.
9– نفسه، ص: 7.
10– Critique de la critique, Todorov, p : 55.
11 – مرايا القراءة، ص 9.
12– نفسه، ص 11
13– نفسه، ص 12
14– نفسه، ص 12
15– نفسه، ص 14
16– نفسه، ص 15
17– نفسه، ص: 14
18– مرايا القراءة، خالد بلقاسم، ص 15
19 – الأدب والميتافيزيقا، دراسات في أعمال كيليطو، عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، ط 1، ص 9، 2009.
20 – نفسه، ص 10.
21 – كيليطو، موضع أسئلة، حوارات، أمينة عاشور، ص: 31، دار توبقال، 2016.
22 – نفسه، ص: 32.
23 – نفسه، ص: 32.
24 – نفسه، ص: 43.
25– نفسه: ص 43.
26 – الأدب والميتافيزيقا، عبد السلام بن عبد العالي، ص: 13.
27– أدب الميتافيزيقا، عبد السلام بن عبد العالي، ص 12
28– نفسه، ص 13
29– نفسه، ص 14
30– نفسه، ص: 87.
31 – نفسه، ص: 89.
32– نفسه، ص: 91.
33 – تعطير الأنام في تعبير الأحلام، عبد الغني النابلسي، ص: 372.
34 – مرايا القراءة، ص: 93.
35 – نفسه، ص: 94.
36 – نفسه، ص: 96.
37– نفسه، ص: 98.
38– نفسه، ص: 99.
39– نفسه، ص: 99.
40– نفسه، ص: 118.
41 – نفسه، ص: 118.
42 – نفسه، ص: 121.
43– نفسه، ص: 121.
44 – نفسه، ص: 137.
45 – نفسه، ص: 137.
46 – نفسه، ص: 138.
47 – نفسه، ص: 143.
48 – عبد الفتاح كيليطو، “الغائب”، ص: 28.
49– أمينة عاشور، “كيليطو موضع أسئلة حوارات”، ص: 19.
50– نفسه، ص: 19.
51 – مرايا القراءة، ص: 102.
52 – أمينة عاشور، ص: 111.
53 – نفسه، ص: 111.
54 – مرايا القراءة، ص: 202.
55 – نفسه، ص: 217.
56 – الفتوحات المكية، ابن عربي، ج 1، ص 366 .
57 – مرايا القراءة، ص: 224.
58 – نفسه، ص: 225.
59 – نفسه، ص: 230.
60 – نفسه، ص: 231.
61 – الكتابة والتناسخ، ص: 77.
62– نفسه، ص 77
63– نفسه، ص 77
64 – شرح رسالة روح القدس في محاسنة النفس، نقلا عن كتاب مرايا القراءة، ص: 235.
65 – مرايا القراءة، ص: 238.